قصّة المرأة في المجتمع والتاريخ – الدكتور عارف القراغولي

337

قصّة المرأة في المجتمع والتاريخ
بقلم : الدكتور عارف القراغولي

من دراسة الفروق الأساسية بين الرجل والمرأة ؛ يتّضح لنا أنّ العلم أقرّها من غير أن يكون للعاطفة أو الهوى دخل في إقرارها ، وأنّها كانت منذ وجد النوع البشري على هذا الكوكب ، وأنّها فرّقت بينهما ، وستبقى في الوجود ما داما .
إنّ المرأة روح وجسد كما دعاها بعض المؤلّفين ( المتحرّرين ) وليست لغزاً عسير الحل ، وإنّ جسدها يتغذّى وينمو ، ولروحها رغبات وأحاسيس ؛ وإنّ الكلام عنها هو الكلام عن نصف النوع البشري في العالم ، وذكرنا أنّ الناس إزاءها على ثلاثة أقسام :
قسم دعاها إلى الثورة والتحرّر واللجوء إلى العنف ، ورأى أنّها صنو الرجل وعليها أن تنتزع حريّتها بنفسها ، وأن لا تنتظر من الرجل أن ينصفها ، وأنّ الحجاب قد عزلها عن المجتمع وعن الثقافة وعن التمتّع بمباهج الحياة .
وقسم نظر إليها على أنّها شريكة الرجل وأنّها يجب أن تحظى بقسط وافر من العلم والمعرفة ، وليس لها أن تشاركه في كل الميادين . ويكفيها أن تضطلع بواجبات الأُمومة وما يترتّب عليها من مهام وتبعات .
وقسم تطرّف فنظر إليها على أنّها عورة (1) ؛ فهوى موتها وودّ لو أنّها وُضعت في لحد قبر (2) ، وأنّ الموت أكرم نزال على الحرم (3) ، وأنّ غاية المجد في بقاء البنين وموت البنات (4) .
إنّ الذين يدفعون المرأة إلى التحرّر المطلق ومساواة الرجل في كل شيء ، يدفعونها إلى الخروج على النواميس الطبيعية للمرأة والتمرد على تعاليم الدين الكريم والأخلاق الكريمة .
وإنّـما الأُمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإنّ الذين يرون في المرأة عورة وفي موتها رحمة وفي زفّ الكريمة إلى القبر بلوغ الأُمنية في الصهر ، قد تطرّقوا كثيراً وما زالت العقائد الفاسدة مترسّبة في أذهانهم ، تلك العقائد التي حاربها الإسلام وندّد بها القرآن الكريم ؛ فقال تعالى في سورة النحل : ( وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى‏ ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى‏ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى‏ هُونٍ أَمْ يَدُسّهُ فِي التّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) .
لا شكّ في أنّ المرأة تشارك الرجل في حياته ، وأنّها تبعاً لهذه المشاركة لها حقوق وواجبات ، كما أنّ للرجل تجاهها حقوقاً وواجبات ، وأنّ الشركة لا تكون ناجحة إلاّ إذا كان الشريكان متكافلين متضامنين .
ولكنّ الذين تأثّروا ببهارج المدنيّة الحديثة الكاذبة وسحرهم بريقها الزائف الخلاّب ، نصبوا أنفسهم أنصاراً للمرأة ، فأخرجوها من بيتها وأقحموها في المجتمعات متبذّلة متهتّكة مستهترة ، وأغرقوا الشبّان في طوفان من الشهوات العارمة وجعلوهم هائمين مسعورين ، يلتهمون بأعينهم الجائعة الأجساد العارية في الأسواق والشوارع ، وما دروا أنّ الحكمة تقضي أن نأخذ من المدنية ما ينفع المرأة وينفعنا ويرفع مستواها ومستوانا ، وانّ العقل يوجب أن لا نحاكي الغربيين في كل شيء ؛ لأنّنا أُمّة مسلمة عريقة لها دينها وأخلاقها ومثلها .
لقد تعاون أنصار المرأة على إذلالها بواسطة الصحف والإذاعات والمحافل والأندية ، وجعلوها بضاعة رخيصة وزوّقوا لها طرق الغواية والانزلاق .
للإذاعة اليوم أثر كبير في المجتمع وبإمكانها أن تدخل كل بيت ، مهما كانت أبوابه مغلقة ونوافذه موصدة ، ورسالتها الاجتماعية تقضي أن تكون محتشمة في برامجها متمشّية مع قواعد الأخلاق والآداب ، وأن تكون مدرسة صالحة لتنشئة جيل جديد وثيق الصلة بالعفّة والنزاهة وحسن السلوك ، وكذلك القول على التلفزيون ، ولعلّ هذا الأخير أخطر من الإذاعة ؛ لتقريبه المعاني إلى الأذهان بما يعرضه من الصور المتحركة التي يشترك في تحسّسها السمع والبصر . فالبرامج حول المرأة تؤدّى بأُسلوب داعر وألفاظ صريحة ، والتمثيليات لا تخرج عن موضوع الحب والخطبة والزواج ، والأفلام مشحونة بكل ما يُثير الغريزة ويستفزّ النزوات ويهدم السدود ويلهب العواطف .
لقد علّموا المرأة كيف تحب بعفّة أو بتهتّك ، باحتشام أو بتبذّل ، وكيف يقتتل الرجال عليها ، وعلّموا الزوجة كيف تحب غير زوجها ، والزوج كيف يحب غير زوجته .
أمّا الصحف فلا تنشر إلاّ الصور العارية الخليعة ، والقصص الغراميّة السخيفة ، والخيانات الزوجيّة المشينة ، والمقالات الجنسيّة التي تلهب العواطف وتثير موات الغريزة .
لقد تعاونت وسائل النشر على دعوة المرأة إلى الغواية والانحراف والخلاعة والتفسّخ ، ولم تتعاون لتجعل منها أُمّاً مثاليّة محتشمة وربّة بيت صالحة .
والخلاصة : إنّنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنّ سعير التمدّن قد عرّى المرأة من حياتها ، ومرّغها في أوحال الرذيلة والهوان .
المرأة في التاريخ
من البديهي أنّ النساء يشكّلن نصف النوع البشري في كل العصور ، إلاّ أنّ تاريخهنّ بقى مغموراً خاملاً ، ما خلا القليلات منهنّ اللاتي ورد ذكرهنّ بفضل ما كنّ يتمتّعن به من سلطان سياسي أو ديني ، أو بسبب ما كنّ يتمتّعن به من جمال باهر وحسن فتّان ؛ فتكلّم لنا التاريخ عن الملكات والقدّيسات والبغايا ، وذكر لنا طائفة من أخبارهنّ .
والحقيقة التي لا تقبل الشك هي أنّ ما لدينا من معلومات عن حياة المرأة في العصور الخالية ، مقدار قليل جدّاً يكاد يكون تافهاً بمقايسته بما لدينا من معلومات تأريخية ضخمة عن الرجل . وما ذلك إلاّ بسبب تبعيّة المرأة للرجل منذ أقدم العصور ، أمّا مصدر هذا المقدار الضئيل من المعلومات عنها فهو الاستنباط .
لا شكّ في أنّ المرأة شاطرت الرجل حياته ، وقاست معه كل شيء قاساه لارتباطهما معاً بمصالح واحدة مشتركة . فهي قد عاشت في نفس البيئة التي عاش فيها ، فكانت معه على الأشجار وفي الكهوف وفي الأكواخ ، وذاقت معه عذاب الجوع والحر والبرد ، وصارعت وإيّاه الوحوش في الغابات والصحارى .
ويدلّنا الاستنباط على أنّ المرأة لم تختلف عن الرجل ، إلاّ حينما انتظم الإنسان في حياته ضمن الجماعة وخضع للدين . ويضع المؤرّخون أربعة عوامل ، يقولون إنّها هي التي قرّرت التفاوت الموجود بين حياة المرأة وبين حياة الرجل ، هي :
1 ـ الفروق الجنسيّة : ويقصدون بها الفروق الجسمية بين الرجل والمرأة ، ووفقاً لهذه الفروق يقرّرون أنّ المرأة أضعف من الرجل ، وأنّها مهيّأة للقيام بواجب الأُمومة . ولولا هذه الفروق لما كان طرز معيشتنا كما هو عليه الآن .
وهناك مَن يقول بأنّ الرجل هو الذي أجبر المرأة على الضعف بإخضاعها له ويجعلها تابعة غير مستقلّة في آرائها وتصرّفاتها . وسنناقش هذا الرأي في مكانه من هذا البحث .
2 ـ الحركات العسكرية : فقد سادت العصور التاريخية المختلفة معارك طاحنة أضرّت بالنساء كثيراً وأذاقتهن مرارة الثكل وجعلتهن غنيمة للمنتصرين . ولم تظهر للمرأة قيمة عسكرية تُذكر ، إلاّ في الحربين العالميّتين الأُولى والثانية ؛ فقد شاركت فيهما الرجل في المصانع وفي فرق الإسعاف وفي الجاسوسيّة ، وقامت بخدمات عسكرية كثيرة .
3 ـ القوى الاقتصادية : ولهذه القوى أثر عميق في تحرير المرأة وإخراجها من البيت ، فقد ساهمت المرأة بقسط كبير من الأعمال الزراعية ، وصنعت الخيام ونسجت الملابس في حين كان الرجل صيّاداً وراعياً ، ثمّ انخرطت في المصانع في الدول الصناعية الحديثة ، وشاركت الرجل بأكثر أعباءه .
4 ـ القوانين والأنظمة : فقد فرض على المرأة في مختلف العصور أنظمة خاصّة ؛ حدّدت واجباتها وتصرّفت بموجبها .
ولعلّ العامل الرابع يحتاج إلى دراسة تفوق ما يبذل في درس بقيّة العوامل ؛ لأنّه يرسم لنا حياة المرأة الحقيقية منذ العصور البدائية حتى يومنا هذا ، ويُعدّ تأريخ الأديان والآداب والقوانين لمختلف الشعوب مصادر خصبة لموضوعنا هذا .
فذلكة تاريخيّة
لقد عبد الإنسان القديم الطبيعة ، ورمز إليها بصورة امرأة ، ولعلّ ذلك يدلّ على مبلغ تقديسه لها أو احترامه إيّاها ، أو أنّه كان يختار قسماً من النساء الجميلات اللواتي كنّ يحظين بالتجلّة والاحترام ، بخلاف بقيّة النساء ، وكان يطلق عليهنّ بغايا المعبد ، وكان من واجباتهن الترفيه عن رجال الدين . ولعلّ نظام الراهبات الموجود في عصرنا الحاضر هو من ترسّبات ذلك النظام القديم ، إلاّ أنّه تطوّر مع الزمن إلى الشكل الذي هو عليه اليوم .
أمّا سائر النساء فكنّ وصيفات للرجل في المجتمعات البدائية ؛ يقمن بخدمته ويقضين كافّة لوازمه ويأكلن فضلاته . وكان الرجل ينظر إليها نظرة مقت وازدراء واحتقار ، وكان لا ينام مع امرأته في فراش واحد وإنّما كان عليها أن تنام في حظيرة الحيوان ؛ لئلاّ يفسد وجودها معه هواء الحجرة أو البيت .
وقد انتهت إلينا جملة من المعتقدات المتعلّقة بالمرأة من كل عصر من عصور التاريخ ، تروي لنا ما كان للمرأة من واجبات وفضائل وخطايا ، وما كان يترتّب عليها حيال الرجل ، وما هو مفهوم الزواج في تلك العصور وما كانت تعلّقه من الأهمّية على فضيلة المرأة وعلى تمسّكها بأهدابها . فقد كانت المرأة مشاعة بين رجال القبيلة الواحدة ولم يكن للأُسرة بمفهومها الحاضر وجود ، وكان نظام سيطرة الأُم هو السائد ، ثمّ تطوّر إلى نظام تعدّد الزوجات .
ويقول بعض المؤرّخين إنّنا هكذا وجدنا تأريخ المرأة ذلك التأريخ الذي كتبه الرجل بيده ، وفرض ما فيه بنفسه أيضاً على المرأة . أمّا ما هو رأي المرأة في تلك الأنظمة والآداب الجنسيّة ، وما مبلغ رضاها عنها أو سخطها لها فذلك ما نجهله تماماً ؛ لأنّ المرأة لم تكتب تاريخها بنفسها ، ولم يسمح لها بالتعبير عن آرائها بحرّية كافية ، فهل كانت راضية عن نظام الزواج الجماعي الذي يُعطى بموجبه للرجل حق التمتّع بكل امرأة في الجماعة ، ولكل امرأة حق التمتّع بكل رجل ؟ وما هو رأيها بنظام تعدّد الأزواج ، وبنظام تعدّد الزوجات عند الذين مارسوا هذين النظامين ، وأي النظامين كان أثيراً لديها ؟
وكذلك فإنّنا نجهل السبب الذي جعل بعض الشعوب يأخذ بنظام تعدّد الأزواج ، في حين أخذ غيرها بنظام تعدّد الزوجات ، أهو قلّة عدد أحد الجنسين أم هناك سبب آخر ؟
كل تلك الأسئلة لا يجيب عنها التاريخ ، ويقف أمامها المؤرّخ حيران مطرقاً ، وليس لنا إلاّ الحدس والتخمين والاستنباط في معرفة العلل والأسباب . وكل ما تدلّ عليه الآثار والشواهد هو أنّ مركز المرأة كان تعيساً ومنحطّاً ، وأنّها كانت مقيّدة بأنظمة ليس لها أن تخرج عليها .
ويحدّثنا التاريخ في معرض حديثه عن الحضارة الآشورية والبابلية والفرعونية ، عن مكانة المرأة ؛ فيروي أنّها كان بوسعها أن تملك سواءٌ كانت متزوّجة أم لم تكن ، وكان بوسعها أن تتعاقد وتؤدّي الشهادة ، وتضطلع بالتجارة ، وتتقلّد الوظائف وتتولّى مناصب الحكم والقضاء ، وكان بمقدورها أن تتعلّم القراءة وتحترف الكتابة كمهنة وتخدم الآلهة في المعابد . وكان للكاهنات في المجتمع احترام عظيم مصحوب بالتقديس، وكانت الأمهات قيمات على أولادهن وكان حظ الاناث في الميراث كحظ الذكور . ويقول أكثر المؤرخين إن المرأة العراقية القديمة ( الآشورية والبابلية ) بلغت درجة من التقدّم تعادل ما نراه في العصور الحديثة .
العلاقة بين الجنسين وتكوين الأُسرة
هنالك فرق كبير بين مدلول التنظيم الاجتماعي وبين مدلول النظام الاجتماعي ، ولا يصح الخلط بينهما ، ويقول العلماء : إنّ تأمين الموارد الاقتصادية وحفظ النوع البشري هما السببان الأساسيّان في التنظيم الاجتماعي . ولأجل أن ينجح التنظيم الاجتماعي سعى الإنسان في وضع الأنظمة الاجتماعية التي تؤمّن الموارد الاقتصادية ، وتؤمّن بقاء النوع الإنساني . وكان أول شيء حاول الإنسان أن ينظمه هو العلاقة بين الجنسين وكانت الأسرة ثمرة هذه العلاقة .
كان الإنسان الأوّل صيّاداً ، وكان في صراع دائم مع الطبيعة ومع الوحوش ؛ فدعاه ذلك أن ينظمّ إلى أفراد من نوعه يتعاونون جميعاً على البقاء تربطهم علاقات اقتصادية وسياسية ؛ فتكوّنت القبيلة أوّلاً ، ثمّ حلت الأُسرة محلّها .
وكانت الأُمّ تضطلع برعاية الأبناء وتربيتهم ، ولذلك كانت صاحبة الكلمة في الأُسرة بينما كان الرجل شيئاً ثانوياً ولعلّه كان تافهاً ، فلم يكن دوره يتعدّى الوظيفة الفيزولوجية في التناسل . وهناك قبائل كثيرة لا تدرك مدى أهمّية الوظيفة الفيزيولوجية الأساسية في التناسل وفي حفظ النوع ؛ فنساؤهم يعزين الحمل إلى شبح يدخل جوف المرأة وهي تستحمّ ، وكنّ إذا أردن أن لا يحملن لا يستحممن في النهر أو في البحر على أن لا يتّصلن بالرجال ، وكانت الفتاة إذا حملت تقول لقد عضّتني سمكة ، أو أكلت الطعام الفلاني ؛ لاعتقادها أنّ الحمل قد تسبّب عن تناول لون معيّن من ألوان الطعام .
وبسبب هذا النظام الفوضوي ، كان من العسير على المجتمعات البدائية أن تحدّد لكل طفل أباه ، ومن العسير على الأُمّ أن تعرف لها زوجاً خاصّاً بها ، وإنّما كانت الأُمّ تنتمي إلى قبيلتها ، وأفراد القبيلة هم ذوو قرباها وذوو قربى أطفالها . وكانت الروابط وثيقة بين الأُمّ والأخ والأُخت والأبناء والقبيلة ، وتتكوّن الأُسرة من الأُمّ والأبناء والإخوة والأخوات . أمّا الزوج فكان يقيم مع أُسرة أُمّه ولا يرى زوجته إلا متستّراً ، ومن ثمّ تطوّر هذا النظام قليلاً ، فصار الزوج يهجر قبيلته وأُسرته ؛ ليعيش مع قبيلة زوجته وأُسرتها .
كان للمرأة أثر اقتصادي كبير في المجتمعات البدائية ، وإن لم يكن لها نفوذ اجتماعي كبير ، وكانت حالة الغالبية العظمى من النساء تدنو من الرقّ ؛ لعجزهنّ الذي يعاودهنّ مع الحيض ، ولعدم تدرّبهن على حمل السلاح ، ولاستنفاذ قواهنّ بالحمل والرضاعة وتربية الأطفال ، ما خلا القليلات من النساء اللواتي كنّ حاكمات أو مستشارات ، أو كنّ في بعض القبائل يتمتّعن بحق إبداء الرأي والتصويت في مجلس القبيلة .
كان الرجل مستمتعاً بالراحة والسكينة مزهوّاً بصيده وطرده ، بينما كانت المرأة تؤدّي جميع الأعمال المنزلية فكانت تنجب الأطفال ، وتحفظ الكوخ وتجمع الطعام وتنظّف الثياب وتصنع الأحذية وتغزل الخيوط وتنسج القطن وتعمل السلال والخزف وتمارس البناء وتجمع الغلال وتبيع الفائض من مزروعاتها . ولعلّ في احتياج الرجل إليها وقدرتها على رفضه ، وفي انتقال الأنساب والمواريث عن طريقها مظهراً من مظاهر النفوذ الاجتماعي للمرأة .
يرد علماء الاجتماع تقدّم الحياة الاقتصادية إلى المرأة ، ويقولون إنّ الرجل بقي قروناً صيّاداً ، وراعياً بينما مارست المرأة الزراعة بالقرب من منزلها ، وعملت على تطويرها ومارست الفنون المنزلية ، وساعدت الرجل في الذبّ عن أبنائها وعشيرتها وتحمّلت الشيء الكثير من المشاق ، ممّا يدعو إلى الاعتقاد بأنّ الزعامة الاقتصادية كانت بيد المرأة ، وأنّها انتقلت شيئاً فشيئاً إلى الرجل الذي تحوّل من الصيد إلى تربية المواشي والانتفاع من الزراعة .
وبتحوّل الرجل من حياة الصيد والرعي إلى الحياة الزراعية ؛ تحوّلت السلطة إلى الرجل ، فاستولى على الموارد الاقتصادية وأخضع المرأة إليه جنسيّاً ، وأخذ يورّث ثروته إلى أبنائه ، وحلّت سلطة الأب محل سيطرة الأُم ، واندحر حق الأُمومة أمام حق الأُبوّة ، وأصبحت الأُسرة الأبويّة الوحدة الاقتصادية والشرعية والسياسية والخلقية في المجتمع .
أصبحت المرأة ملكاً لزوجها ، وصارت تُشرى في الزواج كما يُشرى العبد في الأسواق ، وتورث مع الملك عند وفاة الزوج ، وتشنق أو تدفن مع زوجها المتوفّى ؛ لتقوم على خدمته في الحياة الأُخرى . وللوالد الحق في أن يهب أو يبيع أو يعير زوجاته وبناته كما يشاء ويهوى . واحتفظ الرجل بحقّه في الاتصال الجنسي خارج داره ، وطالب المرأة بالعفّة التامّة قبل الزواج وبالإخلاص التام بعده .
ومجمل القول : إنّ المرأة خضعت للرجل عندما تمّت له السيطرة على الموارد الاقتصادية ، فأخذ يعاملها بشدّة وغلظة ، وحياتها لديه بخسة رخيصة . وكانت الأُمهّات في الغالب يقتلن بناتهنّ الوليدات ؛ لينقذنهنّ من الشقاء المنتظر . وقد بلغ امتهان الرجل للمرأة درجة يرى في وجودها معه ، في مكان واحد ، سبباً لإفساد هواء ذلك المكان ؛ فكانت تنام مع الحيوان في الحظيرة ، وكان محظوراً عليها دخول المعابد . وتُستخدم في حمل الأثقال للتخفيف عن البغال ، وكثيراً ما كانت تُترك على قارعة الطريق فريسة للضواري لاستغناء الرجل عنها ؛ فكانت المرأة أكثر تعاسة من الرقيق ، إلاّ في شيء واحد فقط هو كونها مصدراً للمتعة الجنسيّة .
النجف الدكتور / عارف القراغولي
ـــــــــــ
(1) إشارة إلى قول الشاعر :
ولم أر نعمةً شملت كريماً كنعمة عورةٍ سُترت بقبرِ
(2) إشارة إلى قول الشاعر :
وددت بنيّتي ووددت أنّي وضعت بنيّتي في لحد قبرِ
(3) إشارة إلى قول الشاعر :
تهوى حياتي وأهوى موتها أبداً والموت أكرم نزّال على الحرمِ
(4) إشارة إلى قول الشاعر :
ومن غاية المجد والمكرمات بقاء البنين وموت البنات