جدلية العلاقة بين مبدأ العلم والاستخلاف

1٬039

 

جدلية العلاقة بين مبدأ العلم والاستخلاف

 

 محمود محمد حسين

 

 

المقدمة

 

 هذا البحث هو محاولة متواضعة لإعادة قراءة النصوص القرآنية التي تربط بين قضية الاستخلاف من جهة والعلم كمقدمة لازمة لها كما هو مفاد القاعدة الأصولية التي تقول:  إنّ وجوب المقدمة من وجوب ذيّها. وسيتضح لنا من خلال التوفر على تحليل الآية :(30-33/124)  من سورة البقرة أن هناك سنخ علاقة موضوعية بين مبدأ العلم والاستخلاف. والآيات موضوعة البحث تبين أهمية الدور الذي تراد أناطته بآدم (ع), لا بلحاظ كونه فردا, بل باعتباره يمثل النوع الإنساني, والذي يشكل بامتداداته الوراثية عبر أجيال وأجيال تعبيرا عن المحاولات المستمرة والدؤوبة للخروج من عنق الزجاجة لعقدة الاستخلاف, والتي كانت ولم تزل هاجس البشرية قديما وحديثا. وهذا ما سنتوفر على بيانه في مقاربة موجزة لرأي اثنين من أهم الفلاسفة وهما: (أفلاطون والفارابي) لإبراز البعد الوجداني والعقلي, والذي يؤسس لجدليّة العلاقة بين مبدأ العلم والاستخلاف من منحى فلسفي من جهة, و ما تذهب إليه مدرسة أهل البيت (ع) بناء على قاعدة اللطف بلحاظ وجوبها عقلا من جهة أخرى. كذلك الاتجاه الآخر والذي يقول بوجوبه عن طريق السمع, حيث عالج الاتجاه الفلسفي عند أفلاطون نظرية الحاكم وأهم الصفات التي ينبغي تمتعه بها, وأما الثاني فقد عالجها تحت مبحث النبوة والشروط اللازم توفرها فيه من منظور فلسفي اصطبغ بمسحة دينية ظاهرة, وكذلك موقف أئمة أهل البيت (ع) من الإمامة أيضا.  

ويلاحظ أن الآيات من قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال أني أعلم ما لا تعلمون(30) وعلم اّدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء أن كنتم صادقين(31) قالوا سبحانك لاعلم لنا إلا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم (32) قال يا ادم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون-33 ). قد تجنبت الطابع السردي للموضوع, وهي (إنما سيقت لبيان كيفية خلافة الإنسان وموقعه, وكيفية نزوله إلى الدنيا وما يؤل إليه أمره من سعادة وشقاء)(1). وهو الأسلوب ذاته الذي نجده في الآية (124), وهو ما يشكل القاسم المشترك بينها جميعا على مستوى السياق والمضمون معا.

وهذا الترابط من خلال هذين المستويين يؤكد الصلة الموضوعية والوشيجة الراسخة بينهما. وهو ما يطلق عليه بوحدة الأسلوب ووحدة المضمون.

وسنقوم قدر الإمكان ببسط مضامين هذه الآيات وبيان ما يتمخض عنها من نتائج من خلال المطالب التالية:

الأول:- ويشتمل على بيان المراد من الجعل واللوازم التي تترشح عنه من حيث دلالته النحوية واللغوية.

الثاني:- الحجج التي ساقتها الملائكة, وطبيعة اعتراضها ومدى واقعية ومشروعية هذا الاعتراض.

الثالث:- معالجة الإشكالات والشبه التي يمكن أن تثار على سنخية العلاقة بين مبدأ العلم وكونه ضروريا من جهة, والاستخلاف من جهة أخرى عبر تحليل النصوص الخمس.

الرابع :- ويشتمل على :

  • ما هي حقيقة الأسماء التي تعلمها ادم (ع) وصلتها بالتي أنبأها الملائكة؟

1-الميزان في تفسير القران.ج1.ص123

  • أهمية هذه الأسماء وأثرها في استحقاق الخلافة.
  • الإشارة إلى نظرية الحاكم عند أفلاطون والفارابي وشروط أهليته.
  • نظرية الإمامة عند أهل البيت (ع) وشرائطها.
  • المراتب الثلاث للإمامة.
  • آدم واحد أم اثنان؟

 

الخاتمة:- وذكرت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها. ولعله من المفيد هنا أن أضع أمام القارئ قائمة بعدد السور التي جاء فيها ذكر ادم عليه السلام. ولأهمية قصة ادم فقد تكرر ذكرها في أكثر من سورة كما جاء في كتاب (دراسات عن سور القران)(1) وهي :-

1- سورة البقرة من الآية (30) إلى الآية (38).

2- سورة الأعراف وتبدأ من الآية (11) والى الآية (27).

3- سورة الحجر من الآية (26) إلى الآية (44).

4- سورة الإسراء وتبدأ من (61) إلى الآية (65).

5- سورة الكهف الآية (50). 

6- سورة طه من الآية (115) والى الآية (124).

  • سورة (ص) وتبدأ من الآية (71) إلى الآية (85).

وقبل عرض المطالب لا بد من الإشارة إلى بيان الوجه في تسمية البحث, وهو أن التأمل في سياق الآيات يبرز جليّا الطابع الجدلي القائم على الحوار بين طرفين. والذي يكشف عن الترابط الخفي بين ظوهر النصوص موضوعة البحث. ومن المعلوم أن مصطلح الجدلية هو فن تبادل الحجج والدفاع عن وجهة نظر معينة, أو هو منهج في البحث المنطقي يعتمد على طرح السؤال والإجابة عنه. وهذا ما يتجلى بوضوح في المحاورة التي يعتمد أداؤها الفني على المزاوجة بين صيغ الأفعال الثلاثة في أكثر من موضع. مثل؛ (قال, علّم, عرضهم, أنبئهم, كنتم, تجعل, يفسد, نسبح, نقدس, أعلم, تعلمون, أنبأهم, تبدون, تكتمون ). أي بما مجموعه (27) فعلا  ما بين صريح ومؤول. وهذا الكم الكبير قياسا الى عدد الآيات الـ (4) والتي يبلغ عدد كلماتها قريبا من (70) ونيّف. أي بواقع ما مقداره (7) أفعال تقريبا لكل آية مؤشر على ديناميكية الحوار وقوة زخمه بكثافة لا تجد فيها أي تراخي من أطراف الحوار, مما يجعل الصورة الفنية للمحاورة حاضرة بقوة في ذهن المتلقي و تملك عليه حواسه وتجعله غير قادر على التقاط أنفاسه, بل تدفعه بتلهف إلى المتابعة حيث يتصاعد الخط البياني للحوار ويبلغ ذروته إلى آخر آية منتظرا بفارغ الصبر النتيجة التي ستؤول إليها المحاورة. كل ذلك  بقصد تقرير المطلب في ذهن المتلقي واعتباره أمرا مفروغا منه بلحاظ  اسم الفاعل (جاعل) الذي يعمل عمل فعله (جعل). حيث جيء به للدلالة على الفراغ من الأمر, ومن ثم استمرارية هذا الجعل ودوامه  دون الإخلال بحق الطرف الآخر في معرفة الأسباب والدواعي من إناطة الخلافة بموجود أرضي ليس من سنخ الملائكة.

المطلب الأول

 في قوله تعالى:( إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة………. الآية). وهو إخبار منه تعالى عن إرادته الحكيمة في جعل من يناط به أعمار الأرض والقيام فيها بأمور الدين والدنيا على طبق السنن الإلهية, وما يترتب على ذلك من آثار وضعية. وقد أورد الخبر على نحو التخصيص والتوكيد لبيان مدى الاعتناء بهذا الجعل أولا, ومن ثم التعريف به ثانيا بلحاظ أقامة الصفة مقام الموصوف, والإشارة إلى علة الجعل والغاية من ورائه لما يمثله من ارتباط نيابي.

  • دراسات عن سور القران. ج1. ص241

 إن تلبس الإنسان بهذا الدور والنهوض به يقتضي بدءا توفر مقدمات تصحح هذه الإناطة, وهي معلومة بالوجدان بما لها من ارتكاز فطري في النفس يمكن الألتفات إليها بأدنى تأمل. لذلك فأن هذه المقدمة وجدانية فطرية وعقلية لا تحتاج بذاتها إلى دليل يدل عليها, وإلا لتسلسلت العلل فيها وانتهى بها إلى البطلان. وهو ما نجده قائما في نفس الإنسان مهما تنزّلت مرتبة إدراكه وبلغت درجات معرفته. مما يدل على أن الخطاب كاشف عن الدليل لا مؤسسا له. وهي وان جاءت في صورة تشريع لكنها لا تخرج من حيث المبدأ عن إطارها الوجداني والعقلي, لأن التشريع في جوهره ( فطرة الله التي فطر الناس عليها) وأنه (ذلك الدين القيم). ونلاحظ أن الآية لم تنصرف دلالتها إلى بيان الموصوف والذي هو الإنسان, بل إلى بيان الوظيفة التي هي مدار الجعل ومتعلّقه. لاحظ كيف أن لفظة (جاعل) جاءت في قبال (خليفة). والذين ذهبوا إلى التفسير اللغوي في المقابلة بين (جعل) و (خلق) من أنّهما في عرض واحد من حيث الدلالة على الإيجاد لا يتناسب وسياق الآية إلا على رأي من قال بالترادف في مفردات القران وتوظيفه لها. ولكن التأمل في الاستعمال القرآني للألفاظ والتمعن في دلالة كل مفردة في سياقها الخاص بها لا يتفق و دعوى الترادف.ونحن لسنا مع القائلين بوجود الترادف في القرآن. لأن النصوص القرآنية لها هندستها البيانية الخاصة, والتي تقوم مادتها على انتقائية محسوبة للحروف التي تتشكل منها الكلمات التي هي بمثابة اللبنة في الصرح الفني للنصوص. (إنّ مقولة عدم الفرق بين هذه اللفظة وتلك مقولة سطحية, فالترادف الكامل إن كان موجودا في اللغة العربية فهو غير موجود في ألفاظ القرآن)(1). وعودا على بدء فإنّ الفعل (جعل) قد يطلق ويراد منه إيجاد شيء من شيء. أي من مادة وأصل أو من دونه. فيقال مثلا : جعلت الماء ثلجا. ولا يقال: خلقت الماء ثلجا. هذا ونحوه. فالجعل أعم والخلق أخص. ولا قرينة في سياق الآية على إرادة الجعل بمعنى الخلق. ومن بديهيات مسائل النحو أن المصدر(جاعل) يعمل عمل فعله. فهو ينصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر.ولا يرادف الفعل (خلق) في المعنى الا إذا اكتفى بمعمول واحد, لأنّ اسم الفاعل (خالق) وإن كان يعمل عمل فعله إلا أنّه يتعدى إلى مفعول واحد.. وهذا هو الذي يناسب الغرض والغاية من الجعل, لا الإنسان بلحاظ كونه مخلوقا, وإلا لناسبه أن يكون(خالق) في قبال (إنسان). وبهذا نكون أمام ملاحظة مهمة تمثلت في المعادلة التالية:

  • جاعل= خليفة
  • خالق= إنسان

لكون الاستخلاف هو متعلق الجعل, وهو متأخر رتبة عن الخلق. لدلالته على الوظيفة. أما الخلق فهو متعلق بأصل النشأة الوجودية للإنسان, وهذا فرق مهم ..

 أما ما يخص لفظة جاعل فنجد ما يلي:

  • أن الجعل مستمر من حيث الجري العملي وغير منقطع. وهو من حيث صيغته دال على الاستمرار, مما يدل على أنه بعنوانه ثابت في حق من تناط به مهمة الاستخلاف. فحيثما توفرت المقدمة وما يقترن بها من لوازم فأنها تخرج من دائرة الثبوت إلى دائرة الإثبات, ومن كونها قضية حقيقية إلى خارجية, وأن وجود المانع لا يخرجها عن صدقية اعتبارها في من تناط به, وذلك لتحقق المقتضي لها كما في قول النبي (صلى الله عليه واله وسلم) (ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا)(1) في إشارة منه إلى الحسن والحسين عليهما السلام. أي أنّ حقهما في الإمامة محفوظ وثابت لا يتغير حتى وإن صرفت عنهما عن طريق القهر والغلبة. وهو ما عبر عنه على لسان أحد الأئمة (ع) في كيف أنّ هذا الأمر صار إلى بني أميّة فقال: ذلك ثوب غصبناه. ومن المعلوم فقهيا أن الغصب ليس من الموارد المشروعة للملكية. وعلى ذلك أيضا جرت الأعراف والقوانين الوضعية كذلك. وفي الحديث الآنف الذكر مطلب دقيق جدا وإشارة قوية إلى أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قطع الطريق ابتداء على كل من يدعي شرعية خلافة الأمويين بدء من معاوية ويزيد ونازلا. إذ أن وجود الأمام الحسن (ع) في حال حياة معاوية مبطل لحكمه ومسقط لشرعيته المزيفة. وكذلك الحال بالنسبة للحسين (ع) ويزيد. وبذلك تتهافت دعاوى وعاظ السلاطين المروجين لحكم بني أميّة ممن قٌالوا بأن الحسين (ع) خرج على إمام زمانه وأنه قتل بسيف جده.

والسؤال الذي يرد هنا: ما هو الفرق بين اعتراض الملائكة واعتراض إبليس (لع)؟. الذي يترشح عندي جوابا على ذلك أن هناك  فرقا بين الاعتراضين لاختلاف منشأ الاعتراض, مما رتّب عقابا في حق الثاني دون الطرف الأول. ذلك أن اعتراض الملائكة لم يكن منصبا على أصل وجود هذا المخلوق الذي لم تألفه العوالم الملكوتية بدليل(أتجعل) وهذا الفعل واضح في أنه لا يتعلق بأصل الخلق, والذي على ضوئه جرت مقايسة إبليس الباطلة ومكابرته على حكمة الله تعالى فاستحق الطرد والإبعاد.

 فإبليس اعتبر وجود هذا المخلوق مزاحما له (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)(2).(أما إبليس فتعصب على ادم لأصله, وطعن عليه في خلقته, فقال: أنا ناري وأنت طيني)(3) أما الملائكة فإنها لم تعتبره كذلك. كما أن إبليس بهذا الاعتراض كشف عن جهله وزيف عبادته فأخذته العزة بالإثم. وبذلك فقد زاحم ربه في علمه ومعرفته بالحكمة من خلقه , فسقط عن مرتبته وتبين حاله للملائكة التي كانت تحسبه منها , وهي على طول قربها منه خفي حاله عليها, فكيف لها أن تعرف حال من لا عهد لها به  ولم تقع عيناها على مثال له من قبل؟. وبهذا فقد بان الفرق بين الاعتراضين: اعتراض تعلق بالأصل وآخر تعلق بالغاية من الجعل وعلى نحو الاستفهام المشفوع بالحرص والإشفاق, وهو ما اتضح في الأخير من إقرارها واعترافها, وسجودها امتثالا لأمره بخلاف إبليس الذي رفض السجود. وسنبين في الفقرة (6) من المطلب الرابع أننا أمام حدثين منفصلين لا علاقة لأحدهما بالآخر. حدث متعلق بالجعل الإلهي القاضي باختيار موجود أرضي  لخلافة الأرض. وحدث متعلق بخلق بشر من طين, وأن على الملائكة بما فيهم إبليس السجود له كونه يعد سجودا له تعالى لأنه بأمر منه. وكيف أن هذا الاختبار كشف عن هوية ابليس وحقيقته التي كانت خفية على الملائكة. والأهم من ذلك هو أن متعلق الجعل (آدم) غير متعلق الخلق (آدم) والذي ذكرته النصوص القرآنية في أكثر من موضع, وأنه أبو البشر على ما دلّت عليه الروايات. كما أن الحوار الذي دار حول موضوع الجعل لم يكن ابليس حاضرا فيه. كل ذلك سيؤدي بنا إلى القول بأننا أمام آدم ينتمي أحدهما إلى عالم الملك وآخر ينتمي إلى عالم الملكوت.

  • إن صيغة (فاعل) تدل بهيئتها على تضمّنها فعلا. فـ (جاعل) اسم فاعل يعمل عمل فعله. وهو ينصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر كما بينا. وقد حذف معموله الأول (إنسان), لأنه معلوم وجدانا.هذا أولا, ولأن

الملائكة هم المقصودون بالخطاب ثانيا, وهم يعلمون أنه غيرهم, كما أن أهل النظر والحكمة يعرفون أن الخطاب أنما يجري على وفق ما ألفوه من أساليب البيان (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم)(4). فعلم أن المقصود هو آدم دون غيره. وينبغي الالتفات إلى أنّ تلبس الذات بمبدأ الاستخلاف لا يمكن جريانه وتحققه بأي نحو كان, فالآية في بدئها قد تشعر في القراءة الأولى نحوا من ذلك,  وذلك لما قد يعتري ذهن المخاطب من شبهة تنأى به عن إدراك القصد فتترجح عنده أمكانية تحققه حتى وإن تجرد الجعل من لوازمه. ولعل منشأ هذا التصور ورسوخه هو هذه الشبهات وأمثالها التي استندت إلى قراءة غير واعية وغير قائمة على التدبر. وهي التي دفعت البشرية إلى مصيرها المجهول, وأسلمتها ليد الأهواء تتنازعها كيف شاء, مما جعلها تمر بمخاضات عسيرة أنهكتها وجعلتها تدفع الكثير من إنسانيتها على مذبح الشهوات والرغبات, والتي تلفعت برداء القهر والغلبة من خلال سلطة تمحورت على ذاتها ,متخذة من نفسها إلها يعبد, وهي ترفع بلسان الحال تارة وبلسان المقال أخرى شعار( أنا ربكم الأعلى). من هنا فأن التأكيد على التلازم بين المقدمة وذيّها؛(العلم والاستخلاف) ضروري كما يقال. فهي بهذا الاعتبار المجعول لها تستبطن بالضرورة الحاجة إلى ما يرتقي بها إلى المقام الذي يليق بها, وان تعددت مراتبها وصورها في واقع الحياة..

  • اثبات الهداة. ج5.ص129
  • الأعراف/12
  • نهج البلاغة. خ192.ص295
  • إبراهيم/4

 

 

 وخلاصة القول: إن الإنسان بما هو مخلوق لله تعالى ليس هدفا بحد ذاته وغاية مطلقة, بل إنما هو الدور الذي يضطلع به, والمسؤولية التي كلف بها لإقامة العدل جريا على الفطرة السليمة, وكأن هذه الفطرة التي

بينها القران الكريم في سورة الروم (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(1) هي البؤرة التي تختزن وتجسد طبيعة العلاقة التوحيدية بين الإنسان وخالقه من جهة , وأهلية هذا الإنسان لأداء دوره والقيام به على أتم وجه. ولتأتي بعدها الشريعة بأحكامها التفصيلية مكونة حلقة الوصل والجسر الرابط  بين الفطرة التي تتحرك وفق بوصلتها من داخل الذات وبين العقل الذي يتحرك وفق مسارات الشرع باحثا عن المسوغات للأدلة هنا وهناك سعيا منه إلى تقنين هذه الأحكام عبر التنسيق بين مداركها واستنباط ما هو في حاجة إليه, ومن ثم تركت للإنسان حرية الاختيار وملء الفراغ حيث تستدعي الحاجة إلى ذلك , دونما تصادم بين الفطرة والشرع, مما يجعل مسار العلاقة بينهما في اطّراد ونمو إلى حيث تتحقق الغاية من استخلافه عمليا…

 

المطلب الثاني

يتعلق المطلب الثاني بالحجة التي ساقتها الملائكة في كون هذا الذي يراد له أن يكون خليفة الله في أرضه يتميز بخاصة الفساد وسفك الدماء, ونحو ذلك مما قد يفهم من القراءة البدوية للنص, عبر ممارسة عملية إسقاط غير مبررة لتجارب سابقة, مبررة ذلك بأن هذا المخلوق لن يختلف عن سابقه من حيث نزوعه إلى الشر كما تشير بعض الروايات. إنّ الاستناد إلى معطيات مفترضة في هذا السياق كبرهان على معرفة الملائكة بوجود تجارب سابقة أنما يعزى إلى روايات لم ينعقد الإجماع عليها, وهي وان سلمنا بها جدلا فهي لا تلغي النتيجة التي قدمناها جوابا على وجه الاعتراض المقدم من قبل الملائكة. فقد وردت روايات في هذا السياق تشير إلى علم الملائكة بإفساد الجن في الأرض باعتبارهم مخلوقين قبل البشر كما تشير الآية من سورة الحجر: (والجان خلقنه من قبل من نار السموم)(2). حيث طهّرت الملائكة الأرض منهم وأسرت كبيرهم وهو إبليس فصار واحدا منهم. (إنّ الجن كانوا يفسدون في الأرض, فبعث الله إليهم الملائكة, فقتلوهم وأسروا إبليس من بينهم وكان حاكما فيهم)(3). على أن هذه الرواية يوجد ما يعارضها من أنّ إبليس كان يعبد الله مع الملائكة, وكانت تعدّه واحدا منها إلى أن أمر بالسجود وكان امتناعه سببا في كشف طبيعته التي خفيت على الملائكة (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه…………. الآية)(4) . لذا لا يمكن الجمع بين الأمرين وهي من باب مانعة الخلوّ كما يقال. (فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد, وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة لا يدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة)(5). فإذا أخذنا بالروايات التي تقول بأنه كان حاكما على الجن فهو غير مجهول الحال عند الملائكة. إذ كيف تحارب الملائكة عدوا لا تعرفه بناء على الرواية التي تقول أنه كان حاكما على الجن؟. وإن أخذنا بغيرها من الروايات التي تذهب إلى أنّه منها فهو لم يكن حاكما على الجن ولم تأسره الملائكة, فضلا عن الروايات التي تذهب إلى أنه أول من سنّ الكفر عندما امتنع عن السجود, وهو ما يتوافق والمعطيات القرآنية التي ترسم لنا صورة عن طبيعة إبليس الذي كان مفتونا ومدلّا على ربه بعبادته. فعن ابن عباس قال: (أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة. فقتلهم ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال)(6).

  • الروم/30
  • الحجر/27
  • الاصفى. ج1. ص24
  • الكهف/50
  • نهج البلاغة. خ192. ص287
  • تفسير الطبري. ج1. الرقم 601

 

 

مع أن الروايات القائلة بأسره تبين أن إبليس كان كافرا ابتداء, ولذلك حاربته الملائكة وقتلت قومه ومن ثم أسرته. وهذا الخلط في الروايات لا يفضي إلى نتيجة يمكن القطع بها في ماضي ابليس وعلاقته بالملائكة. وأن قصة أسره من الموضوعات لأنها تنافي الإجماع من أن ابليس هو الأصل وله الحاكمية المطلقة على عالم الجن والشياطين الذين هم ذريته على ما يحكيه القران. غاية ما في الأمر أن علم الملائكة كان قاصرا عن معرفة هويته لأمر يخص طبيعة كل صنف منها من حيث دورها والشأن المناط بها كما هو مفاد الآيات القرآنية وما ورد في نهج البلاغة أيضا. وهو ما سنذكر طرفا منه. وأنت ترى أنّ جلّ هذه الروايات ما بين مرسلة ومقطوعة فضلا عن تعارضها وعدم اتساقها مع النصوص القرآنية مما يسقطها عن الاعتبار وينزع عنها صفة الحجية.

 ومن المعلوم أن الجن مخلوقات نارية (والجان خلقناه من قبل من نار السموم)(1) (وخلق الجان من مارج من نار)(2). ولكن شاءت حكمته تعالى أن يكشف حقيقة إبليس للملائكة أولا ولآدم ثانيا (فقلنا يا ادم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى)(3). وهذه الطبيعة النارية التي خلق منها الجان لا تتفق مع دعوى الملائكة بأن النتيجة التي تترتب على خلق هذا المخلوق سيؤدي إلى سفك الدماء استنادا منها إلى تجربة الصراع بينها وبين الجن حسب الرواية, لأن سفك الدماء إنما هي للطبيعة الحيوانية التي هي إحدى خواص الجبلّة البشرية أيضا.

 ثم إنّ الوضع اللغوي لا يساعد على هذا الإطلاق ومن ثم شموله للطبيعة الخاصة للجان والتي هي مخلوقات نارية. ويذكر الطبري في تفسيره جامع البيان تحت الرقم (604) قائلا: (حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد: قال الله تعالى ذكره للملائكة: إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة. وليس لله يومئذ خلق إلاّ الملائكة. والأرض ليس فيها خلق)(1). وبالتأمل في سياق الآية (32). فإنّ الملائكة قد حصرت مطلق علمها عن الله بدلالة أداة الحصر(لا علم لنا إلا ما علمتنا). و(لا) هنا نافية للجنس. فقولها بأنّ هذا المخلوق سيفسد ويسفك الدماء إنما عرفته بإخبار الله تعالى لها, ومن المعلوم أنّ المورد لا يخصص الوارد. وأنّ هذا الإفساد وسفك الدماء سيجري على يد ذريته من البشر دون الأنبياء والمعصومين من ذريته كما أشار إلى ذلك صاحب مجمع البيان. (إنّ الله تعالى أخبر الملائكة بأنه سيكون من ذرية هذا الخليفة من يعصي ويسفك الدماء على ما روي عن ابن عباس وابن مسعود)(2). (وإنما أرادت الملائكة بقولهم (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) ولد ادم الذين ليسوا بأنبياء ولا معصومين لا آدم نفسه ومن يجري مجراه من الأنبياء والمعصومين)(3). وفي السياق نفسه يستعرض السيد الشهيد آية الله محمد باقر الحكيم (قدس) أربعة أراء في كيف أنّ الملائكة عرفت صفة الإفساد وسفك الدماء في هذا الخليفة في كتابه (المجتمع الإنساني في القران الكريم) نذكرها بتلخيص:

  • إنّ الله أعلمهم بذلك.
  • إنهم قاسوا ذلك على المخلوقات التي سبقت هذا الخليفة.
  • إنّ طبيعة الخلافة تقتضي الفصل والحكم فيما يقع فيه الخلاف والنزاع, وهذا لازمه الفساد في الأرض وسفك الدماء.
  • الحجر/27
  • الرحمن/15
  • طه/117
  • جامع البيان. الطبري. الرقم 604
  • مجمع البيان. ج1. ص140
  • م. ن. ج1. ص141

 

 

 

 

  • إنّ طبيعة الخليفة نفسه إما من حيث المزاج المادي والروحي والأساس الاجتماعي للعلاقات الأرضية التي سوف تحصل بين أبناء هذه المخلوقات, وإما الإرادة الإنسانية بما أعطيت من اختيار يتحكم في توجيهه العقل بمعلوماته الناقصة والتي تؤدي إلى الإفساد في الأرض وسفك الدماء)(1).

وبعد هذا العرض يذهب السيد الشهيد إلى ترجيح الرأي الأول بقوله: ( ويبدو أن الرأي الأول هو الصحيح. حيث أنّه تعالى لا بد وأنّه قد أعلم الملائكة بذلك. ولو عن طريق إعلامهم بحال وطبيعة هذا المخلوق الذي ينتهي به الحال إلى هذه النتائج)(2).

 وقد ذكرنا منشأ الاختلاف بين ما هو اعتراض من قبل الملائكة بحسب الظاهر وبين اعتراض إبليس الذي كشف عن سوء طويّته, مما أثبت أنّ اعتراضه مما يستحق عليه الإبعاد والطرد عن مظلة الرحمة الإلهية وعنايته الربانية بعباده من خلال الآيات القرآنية التي تعرض لأوصاف الملائكة إذ نجدها أبعد ما تكون عن  ساحة الاعتراض والرفض لما يصدر عن المولى. فالآيات تجمل صفات الملائكة على النحو التالي:-

  • أنهم عباد مكرمون- وهذه مزية تشريفية خصهم الله تعالى بها, فهم مخصوصون بالكرامة وخلوص العبودية لله تعالى.
  • لا يسبقونه بالقول- إذ ليس في طبعهم العجلة واستباق الأمور. فهم لا يتقدمون بين يدي خالقهم بما يتنزهون به عن الحط من مقامهم والتجاوز على ساحة قدسه جل شأنه.

 لأن مثل هذا السلوك لو فرض صدوره من إنسان ما في حضرة من له الأمر والنهي لاستحق على مثله اللوم والتقريع أو ما هو أشد ليكون في تأديبه زجرا لأمثاله.

  • يفعلون ما يؤمرون- فهم على أهبة الاستعداد لكل ما يصدر عن المولى, لا يتخلفون عن طاعته, ولا يبدون أي تذمر, لأنهم يرون في امتثال أوامره زيادة في قربهم منه تعالى, ورضا عنهم. وقد أشار أمير المؤمنين علي (ع) إلى شيء من مقاماتهم ومراتبهم وما أنيط بهم من أدوار كل حسب مقامه كما في قوله تعالى (وما منا إلا له مقام معلوم)(3). (ثم اختبر بذلك ملائكته المقربين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين)(4). وهذه أشارة من الأمام إلى إبليس الذي استكبر فتميز بذلك عن صنف الملائكة, فلا يتصور المرء إن في الملائكة من هو على الحال التي ذكرها الإمام (ع), وذلك للأسباب التي ذكرناها في النقاط الثلاث والتي ستليها, لكون ذلك منافيا لما جاء في القران, فضلا عن الأوصاف التي ذكرها الإمام (ع) في مواضع أخرى من النهج , وهو ما ينبغي الالتفات إليه. ومن ذلك (ثم فتق ما بين السموات العلا, فملأهن أطوارا من ملائكته, منهم سجود لا يركعون, وركوع لا ينتصرون, وصافون لا يتزايلون……… )(5) إلى آخر كلامه (ع).
  • يسبحون الليل والنهار لا يفترون- قد واصلوا الليل بالنهار لا يعتريهم وهن أو كلل.

 ومما تقدم  يتضح لنا إن اعتراض الملائكة ليس ناتجا عن جهل بحكمة المولى, وإلا لزم من مخالفتهم واعتراضهم ما يستحقون عليه العقاب. (وهذا الكلام من الملائكة في مقام تعرّف ما جهلوه واستيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة, وليس من الاعتراض والخصومة في شيء. والدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم: انك أنت العليم الحكيم حيث صدّر الجملة بان التعليليّة المشعرة بتسلّم مدخولها فافهم)(6).

  • المجتمع الإنساني في القران الكريم. ص42-43
  • م. ن. ص44
  • الصافات/164
  • نهج البلاغة. خ192. ص286
  • م. ن. خ1. ص41
  • الميزان. ج1. ص116

 

 إذن؛ يمكن القول والله أعلم إنّ هذا الاعتراض أنما يساق مساق الجدل الافتراضي توطئة لبيان غاية لا يتم تأكيدها إلا من هذا الوجه, كما نراه عند أهل العلم وهم يسوقون الاعتراض لا عن شبهة واردة, ولكن لنفي ما قد يتوهم حصوله من شبهة تعلق في الذهن من جهة, وتوكيد الحجة والدليل من جهة أخرى في إثبات المطلب أو نفيه. فهي لولا علمها بجليل حكمته لما أقرّت بالسجود وامتثلت. ويشير الفيض الكاشاني في تفسيره الآصفى إلى ما محصله مبينا عدم معرفة الملائكة حقائق الأشياء كلها, لاختلافها وتباينها (وكونهم وحدانية الصفة ليس في جبلتهم خلط ولا تركيب, ولهذا لايفعل كل صنف منهم إلا فعلا واحدا, فالراكع منهم راكع أبدا والساجد منهم ساجد أبدا والقائم منهم قائم أبدا ولها ليس لهم تنافس وتباغض, بل مثالهم مثال الحواس لا يزاحم بعضها بعضا فهم مجبولون على الطاعة)(1). وكذا ما جاء في نهج البلاغة عن علي (ع) قوله: (يزدادون على طول الطاعة بربهم علما, وتزداد عزة ربهم في قلوبهم عظما)(2). أي أن محصل الطاعة على طول المدة ينتج زيادة في علمهم, مما يزيد بدوره من عزة ربهم في قلوبهم, وهي الغاية المرجوة من عبادتهم لله لأنها تديم حالة العبودية فيهم , فلا شيء يرونه أعظم شانا من الخالق بدلالة توسط العلم الذي يرسخ فيهم هذا الأيمان , وهو ما ينبغي توفره في العبد من باب أولى. والإمام (ع) يقدم لنا نموذجا لما ينبغي أن تكون عليه العبادة بالنسبة للإنسان. وهو ما تشير إليه الآية الكريمة (واتقوا الله ويعلمكم الله)(3). ذلك أن التقوى هنا هي جوهر العبادة التي تؤدي إلى الزيادة في العلم..هذه هي الإشارة الأولى , والإشارة الثانية هي أن الازدياد أنما يكون بالنظر إلى خصوص مقاماتهم , وهو ازدياد طولي يمتد إلى نفس الشأن الذي تعلقت به وظيفتهم ومقاماتهم, ولا يتسع لأمر آخر لفقدان خاصة الأتساع, وعدم قابلية المحل من حيث انتفاء خاصة التركيب في الجبلة والتي إنما تتعدد بتعدد لحاظاتها من الوظائف, ومثال ذلك ما نراه في الإنسان حيث يتعمق في علم من العلوم ويزداد فيه رسوخا حتى يكون علما فيه, ويكون كل منهما قائما مقام الإشارة إلى صاحبه ,دالا عليه لا ينصرف إلى غيره, فله في هذا الأمر مقام محمود وشأن معلوم لا يتعداه ولولاه لزال عنه..

وقد أطلنا الكلام هنا لأن الكثير من الناس يملكون فهما قاصرا عن طبيعة الملائكة ومقاماتهم,  بسبب روايات اختلط فيها الحابل بالنابل, لهذا أؤكد هنا على أهمية التعرف على القيمة المعرفية لنهج البلاغة. هذا السفر الذي ينبغي أن تمنهج مباحثه في المدارس والمعاهد العلمية والجامعات, ويقدم إلى الشبيبة زادا روحيا تتقوم به ألسنتهم وثقافتهم وتتحصن به نفوسهم فتكون لهم وقاء من الشبهات والتيه في مزالق التيارات الفكرية التي تسوّق بعناوين براقة ظاهرها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب.. والأمر الآخر أن المحاورة  قد أبانت عن نتائج مهمة وهي :

  • أنّ إقراره تعالى للملائكة بالتسبيح والتقديس من جهة, وانقيادهم المطلق لأرادته تعالى من جهة أخرى بلحاظ ما ذكر من أوصافهم في القران قد أثبت العصمة للملائكة.
  • مع هذه العصمة وأهميتها فان الملائكة لم تستحق أن تكون محل عنايته تعالى باختصاص هذا الموجود الأرضي الذي تبدأ مسيرته التكاملية في الأرض بمزيّة الخلافة الإلهية, وذلك لعظيم خطرها وشرف مرتبتها, وقدسية شأنها, والتي تقتضي بماهيتها توفر ملكات على درجة عالية من الترقي ليكون بذلك أهلا لهذه الخلافة ومن أهمها وأولاها هو العلم بحقائق الأشياء لا العلم بنحو الحكاية عنها كالإنباء مثلا.
  • أن هذه المحاورة قد كشفت أيضا عن أنّ هذا الاستخلاف الإلهي هو نحو استخلاف لا يتأتّى لكل أحد كيفما أراد. وليس هو سنخ استخلاف بشري يتمحّض لصالح هذا الطرف أو ذاك, سواء بالقهر والغلبة أم بغيره مما يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها, وهو ما عانت منه البشرية قديما وحديثا, (ولو أن أهل القرى امنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا به يكسبون)(4).
  • الاصفى. ج1. ص27
  • نهج البلاغة. خ91. ص131
  • البقرة/282
  • الأعراف/96

 

 

المطلب الثالث

في قوله تعالى (وعلم اّدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين…) فنحن إزاء أمرين هما:

 

  • تعليم اّدم الأسماء كلها.

 طلب معرفة أسماء من تقدمت الإشارة إليهم بـ (هؤلاء) من دون الإفصاح عنهم. فالآية انفة الذكر وضعت الملائكة أمام تحد واختبار لأمر سيتضح  لاحقا من خلال قوله تعالى (ثم عرضهم) وما هو المراد من العرض ؟ والذي جاء محصلة طبيعية لمعرفة اّدم بهم وبأسمائهم بلحاظ شرط العلم الذي تقدم ذكره في صدر الآية, مما جعله أهلا للتكليف, وكشف عن عجز الملائكة وعدم قدرتها على معرفة أسماء المقصودين في ضمير الجمع المتصل (عرضهم)  لأنها لم يتحصل لديها سابق علم بمعرفة الذوات التي كانت أسماؤهم من جملة ما علمه أدم, كونها داخلة تحت عموم الأسماء. (فتحصل أنّ هؤلاء الذين عرضهم الله تعالى على الملائكة موجودات عالية محفوظة عند الله تعالى, محجوبة بحجب الغيب, أنزل الله سبحانه كل اسم في العالم بخيرها وبركتها واشتق كل ما في السموات والأرض من نورها وبهائها, وأنهم على كثرتهم وتعددهم لا يتعددون تعدد الأفراد, ولا يتفاوتون تفاوت الأشخاص, وإنما يدور الأمر هناك مدار المراتب والدرجات ونزول الاسم من عند هؤلاء إنما هو بهذا القسم من النزول)(1). وألفت النظر هنا إلى أن الاختبار هنا منحصر في معرفة خصوص من تعلق العرض بهم , لارتباط ذلك بما تقدم في الآية (30) حول خصوص الجعل الإلهي والذي سيتجلى من خلال الآية (124) وسيأتي الحديث عن ذلك.

 ونود التوكيد هنا أن القضية برمتها لم يكن المقصود منها الملائكة, لأنها ليست محط تكليف.   إنما هي طريقة لبيان الغرض من خلق أدم في أطار من الحوار والجدل والمناظرة يراد به الفات النظر إلى خطورة الدور الذي سيقوم به ادم (ع) لا من حيث هو كفرد فقط, ولكن باعتباره النوع الإنساني الذي تتجسد فيه القدرات والقابلية على الأخذ بأسباب الارتقاء من خلال العلم الذي يحقق له الهيمنة على كل ما سوى الله , ذلك أن مسيرة البشرية نحو تحقيق الغرض من وجودها تبدأ من عند اّدم كنقطة شروع. وقد ذهب بعض المفسرين إلى غير ذلك. وهو ما سنعرض له لاحقا. والملاحظ أنّ الحوار على قصره قد اختزل جملة من الأمور وهي:

  • تكرار لفظة العلم واشتق منه (8) مرات, وهو ضعف عدد الآيات التي وردت فيها اللفظة, وهذا ما يوحي بالتوكيد على أهمية العلم.
  • تكرار الفعل (نبأ) بصيغة الأمر مرتين, وهو أيضا يفيد معنى العلم, لتضمنه معنى الصدق بخلاف الفعل (أخبر) أو ما في نحوه, لأن الخبر كما هو معلوم يحتمل الصدق والكذب لذاته, فهو أعم دلالة من النبأ. فالنبأ هو (خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الاشياء الثلاثة)(2). وتأمّل أيضا الانتقال في صيغة الخطاب من التعليم إلى الإنباء, فالفرق بينهما أن (العلم هو إدراك حقيقة الشيء)(3). (إذ الملاحظ في المشهد القرآني أنه استبدل التعبير من التعليم الذي استخدمه مع الخليفة الأرضي إلى الإنباء الذي استعمله مع الملائكة. وتغيّر التعبير لم يأت لجهة الفن الأدبي وتعدد الصياغة مثلا, فنحن بإزاء كلام الله, وعندئذ فان هذا التغيّر في صيغة التعبير يحمل من ورائه مغزى, يتمثل في أنّ ما حصل لآدم هو تعليم,وأنه له من الاستعداد ما يمكّنه من حمل هذا العلم)(4).
  • الميزان. ج1. ص119
  • مفردات الفاظ القران. ص500
  • م. ن. ص355
  • التوحيد. ج2. ص405

 

ويفهم من ذلك أن التعليم في سياق الآية كشف عن تحقق العلم بحقيقة الأسماء, بخلاف الإنباء والذي هو حكاية عن حقائق الأسماء.  ومن طريف ما يمكن ذكره هنا انك لو أجملت عدد حروف (نبأ) = 53 ,ثم جمعت العددين بطريقة الأعداد المطلقة هكذا:3+5= (8), وهو مساو لعدد مرات لفظة العلم. ثم إذا جمعت عدد الآيات الأربع وأضفتها إلى العدد ثمانية كان الناتج اثني عشر. وهو عدد الأئمة ألاثني عشر(ع) والذين هم جماع علم الله تعالى والذي أودعه الله في ادم , ولو مضينا ابعد من ذلك قليلا لوجدنا أن ضمير الجمع المتصل (هم) =45 وهو مجموع لفظة ادم, فكأن الآية توحي بدلالتها ضمنا أن (هم) كمجموع = ادم كفرد.

  • وان القضية هي عملية تجل لهذه الذوات القدسية كما هو الحال بين ضوء الشمس وألوان طيفها, وبعبارة أخرى أن ادم كشف عن سر خلق الله له من خلال من لأجلهم خلقت الدنيا. وهذا بعد سيميائي يؤكد ما قلناه من أن الصرح البياني للنصوص القرآنية قائم على هندسة خاصة لمادته التي يتشكل منها. والأدلة على ذلك من الروايات كثيرة في هذا الباب. وما أوردناه من مقاربة عددية هو من باب الاستئناس ليس ألا..

ولذا فإننّا نجد أنّ الملائكة أقرّت وسجدت ولم يتملّكها الحسد الذي استولى على إبليس فكان من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم. ويقول صاحب الأصفى في تفسيره لقوله تعالى (ثم عرضهم على الملائكة) قائلا: (عرض أشباح المخلوقات جميعا المدلول عليها بالأسماء كلها)(1) ثم ينقل رواية عن تفسير الإمام العسكري (ع) (انه عرض أشباحهم حين كونهم أنوارا في الأظلّة)(2), أي إنّ العرض شامل لجميع الأسماء, مستدلا على ذلك بتقدير محذوف (أشباح) من جهة وبالرواية عن الإمام (ع), مع أن سياق الرواية لا يتوافق والتأويل الذي ذهب إليه. بدليل أن لسان الرواية صريح في الإشارة إلى ذوات خاصة, وأنّ هذه الذوات عرضت أشباحها بما لها من خاصية نورانية تميزها عن باقي الموجودات. وإلا لناسب أن يقول أشباحها. لأن وظيفة الرواية هي التفسير ورفع الغموض أو الإشكال الناتج عن فهم المراد من النص القرآني. كما أنّ سياق الرواية يتوافق تماما وسياق الآية (فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء), حيث جاء اسم الإشارة قيدا للمعروض ومخصصا له. ولو كان شاملا لانتفت الفائدة من التقييد.

  • أن تكرار لفظة العلم (8) مرات في الآيات الأربع يفصح عن دلالة بلاغية من حيث الأسلوب, والذي عادة ما يشوبه رتابة الأداء, ومع ذلك فأننا نجد أن هذا التكرار جاء للتأكيد على أهمية العلم ودوره من جهة, وأيضا يكشف عن القيمة الموضوعية للعلم. وينبغي التأكيد على أن القرآن لا يتعامل مع المفردات على أساس الترادف كما يتبادر إلى الذهن. إذ أنّ لكل كلمة وقعها الدلالي وجرسها الصوتي اللذين يتناغمان حسب موقعها من الآية مع نظائرها لتكوّن بناء فريدا من السياق. إلى ذلك فأن هذه النصوص تنطوي على نمط من الحوار كالذي نلحظه في الأعمال الدرامية, وقد تكاملت فيها كل العناصر الفنية المطلوبة مع قياس الفارق, وهو حوار ساخن كما يقال بين الباري عز وجل وبين الملائكة, مما يعد مثالا يعبر عن منتهى التقدير لوجهة نظر الطرف الآخر. فهو حوار يعلمنا ويقدم لنا درسا أخلاقيا في فن الجدل والمناظرة والاستماع إلى الرأي الآخر, أيا كان, ومن ثم تفنيد حجته وعدم الوقوف عند هذا الحد, بل تقديم وجهة النظر المؤيدة بالحجة والبرهان. وفي النهاية فإنّ هذا الحوار يقدم لنا نموذجا في ديمقراطية المناظرة إذا جاز التعبير, والتي تنتهي بإقرار الطرف الآخر بعد وضوح الدليل.
  • إنّ دور اّدم (ع) في الحوار الدائر بين الله والملائكة جاء انعكاسا للحوار بين طرفي المعادلة في النص الأول, وامتدادا طبيعيا ونتيجة تمحضت لصالح الطرف الأول. فاّدم (ع) لم يكن طرفا في الحوار, ولا في معرض الرفض أو الموافقة, كي يكون طرفا في النزاع كما يقال, بل كان دوره دور المنفذ والعنصر الكاشف الذي قدم الدليل والبرهان على الغاية من الجعل, فكان دوره يمثل إضاءة مهمة للنص السابق وما تلاه ومن ثم الربط بين المقدمات والنتائج التي انتهت إليها الآية (33). وبيان ذلك يتضح من سياق المقطع الأول من الآية (31) وهي قوله تعالى :(وعلم اّدم الأسماء كلها), والمقطع الثاني من نفس الآية (ثم عرضهم……….. الآية) كالآتي:
  • الأصفى. ج1. ص26
  • المصدر نفسه. ص26

 

 

آ- إنّ التعليم والعرض أمران متغايران حكما وموضوعا, فالثاني منهما متوقف على الأول. إذ لا معنى للعرض ما لم تكن معرفة.

 

ب-  اختلاف المتعلق. فمتعلق العلم هو الأسماء. ومتعلق العرض هو الذوات بلحاظ ضمير الجمع المتصل(هم). وبديهي أن العرض يقتضي معروضا بقطع النظر عن ماهيته. وهو إما أمر وجودي أو اعتباري مجعول.

  • إنّ المعروض في نفسه وبقطع النظر عن السياق يدل على ما هو سابق في وجوده على آدم كما يشير حديث النور (كنت نورا وادم بين الماء والطين)(1).
  • إنّ العرض ما كان ليتحقق لولا شرط العلم, وإلا لانتقض الغرض منه.

هـ إنّ الآيات الأربع وإن مهدت ابتداء لقضية الجعل, إلا أن مصبّ هذا الجعل في واقعه ناظر إلى قوله تعالى (ثم عرضهم على الملائكة), فهو محور المناظرة الدائرة بين طرفي القضية. وهذا التغاير بين الفعل(علم) ومتعلقه (الأسماء كلها) وبين الفعل (عرض) ومتعلقه (هم) ومن ثم توكيده باسم الإشارة (هؤلاء), والذي يفيد القرب والتخصيص والتعيين أيضا يدل على خصوصية وشأنية متعلق الفعل (عرض) ولولا ذلك لكان إقرار الملائكة سالبا بانتفاء الموضوع..

  • غياب دور إبليس في هذه المحاورة. ومرد ذلك إلى أن إبليس لم يكن متميزا عن الملائكة في بادئ الأمر, ولم يتبين حاله لهم لأنه بحسب الظاهر كان منهم. ولكنه بعد أن امتنع عن السجود كما تشير الآيات إلى ذلك بان لهم ما كان مخفيا من أمره. وهو ما أسميه بـ (يوم التمايز). ولعله من هنا يتبين معنى قوله تعالى (قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)(2), والذي من مصاديقه الكشف عن حال إبليس وما هو عليه من الكفر حيث أبى السجود واستكبر وكان من الكافرين. أي أنّ كفره سابق على أمره والملائكة بالسجود. والسؤال الذي يرد هنا لماذا لم يكن له دور في المناظرة؟ والجواب على ذلك يحتمل أمرين:
  • إما أنّ الخطاب كان متوجها إلى صنف لهم من الشأن وهو ما أهلهم للدخول في هذه المناظرة, كما نراه في الأمور الهامة والبالغة الأهمية, حيث يدعى لها نخبة من أهل الحكمة والنظر ومن يعتمد عليهم في الرأي والمشورة, وهو ما يطلق عليهم بأهل الحل والعقد مع قياس الفارق هنا طبعا. وإنما سقنا هذا المثال لتقريب وجهة النظر ليس ألا. وقد يعترض هنا بالقول إنّ السياق يشعر بشمولية الخطاب لجميع الملائكة. ولكن التأمل في الآيات لا يوحي جزما بهذه الشمولية. فالفعل (قالوا) والذي تكرر مرتين لا يلزم بالضرورة دلالته على شمول الخطاب لمطلق الملائكة على الأقل في مرحلة الخطاب بالجعل الإلهي للخلافة البشرية. ولكن يمكن اعتباره كذلك بالتوسط ابتداء لمن كان له الأهلية لتلقي هذا الخطاب ومن ثم إقرار الجميع بعد الأمر بالسجود في مرحلة لاحقة. ويذكر صاحب الميزان في تفسيره نقلا عن ( تفسير العياشي عن علي بن الحسين عليه السلام ما في معناه فيه فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش, وأنها كانت عصابة من الملائكة وهم الذين كانوا حول العرش ولم يكن جميع الملائكة إلى أن قال: فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة)(3). ومحل الشاهد هنا على ما تفيده الرواية هو أنّ جمعا من الملائكة كانوا مخاطبين أولا.

 

 

  • مسند أحمد. ج4. ص66
  • البقرة/33
  • الميزان. ج1. ص125

 

 

 

  • وهذه الخصوصية في الخطاب لا تتنافي وشمول جميع الملائكة بالسجود بدلالة قوله تعالى: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون- إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين)(1). وهي مرحلة ما بعد الخلق والإيجاد..

وقد بينا فيما سبق أنّ الملائكة تختلف مراتبهم (وما منا إلا له مقام معلوم)(2) وهذا ما يوجب اختلاف المراتب. وتأسيسا على ذلك فأنّ إبليس لم تكن له تلك المزيّة التي تؤهله للمشاركة في هذا الحوار المهم. وقد ظهرت حقيقته عند امتناعه عن السجود ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا )(3) فكان ذلك كاشفا عن عدم أهليته.

  • قوله تعالى (واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون). وهي وإن كانت لبيان علمه تعالى بعدم خفاء أمر الملائكة في حال السر والعلن, فهي أيضا بيان لكون حال إبليس معلوما له تعالى جل شأنه. من هنا لم يكن موضع اعتنائه, فإنّ إحدى ثمرات هذا الاختبار هو كشف القناع عن حقيقة العبودية لإبليس والتي كانت خافية على الملائكة, فضلا عن جهلها بأصل الغرض من خلق آدم وامتلاكه للأهلية المنتفية عنهم.

ولكن ثمة أسئلة تبحث عن جواب. وهي: ما هي هذه الأسماء التي تم التأكيد عليها ؟ وما صلة أسماء هؤلاء الذين طلب من الملائكة أن يخبروا عنها والتي اختص بعلمها آدم دونهم من جهة, والعدول عن العام إلى الخاص من جهة أخرى, واقتصار الإنباء على أسماء ذوات معينة؟. وهل القضية برمتها متعلقة بمعرفة الأسماء ليس إلا؟. ثم ما جدوى اطلاع الملائكة على الأسماء ومعرفتها, وأي ثمرة تنتجها هذه المعرفة؟ كل هذه الأسئلة سنعرج على بيان أجوبتها والرد عليها ليتبين بعد ذلك أن علاقة العلم بالاستخلاف هي من الضرورة بمكان. ولا يمكن التفكيك بينهما. وأن القضية في مغزاها أعمق وأخطر شأنا مما يتبادر إلى الأذهان.

 وفي ضوء هذه الأسئلة سنشير إلى جملة من النقاط نعرض لها في المطلب الرابع لتكتمل الصورة وتتسق النتائج على المستوى التطبيقي بما لا يدع مجالا للشك في القيمة الموضوعية للعلاقة الوشيجة بين تحمل العلم وأدائه عبر إناطة التكليف بمن يملك أهلية القيام بمهمة الاستخلاف باعتباره الواسطة في الأداء لتوفر خصائص الأهلية والاستعداد كما أشارت الآية ( ألله أعلم حيث يجعل رسالته)(4).

 

المطلب الرابع:

  • حقيقة الأسماء التي تعلمها آدم (ع):

وقع خلاف بين جملة من المفسرين حول حقيقة الأسماء وماهيتها وما هو المراد من المعروض منها, وهل ثمة صلة بين كليهما؟. الملاحظ أن البعض ذهب في تأويله الآية بناء على ما يلي:

أولا: إنّ الأسماء هي (أسماء المخلوقات من الجبال والبحار والأودية والنبات والحيوان وغيرها وفي رواية أسماء أنبياء الله وأوليائه وعتاة أعدائه)(5).

 

 

  • الحجر/30-31
  • الصافات/164
  • الكهف/50
  • الأنعام/124
  • الأصفى. ج1. ص25

 

 

 

 

 

ويخلص صاحب الأصفى في تفسيره إلى (أنّ المراد بالأسماء, أسماء الله الحسنى التي بها خلقت المخلوقات)(1) مستدلا بما ورد في أدعية أهل البيت (ع) (وبالاسم الذي خلقت به العرش, وبالاسم الذي خلقت به الكرسي, وبالاسم الذي خلقت به الأرواح: الى غير ذلك)(2).

 معللا ذلك بقوله: (وإنما اختص كل مخلوق باسم, بسبب غلبة ظهور الصفة التي دل عليها ذلك الاسم فيه, كما أشير إليه في الحديث القدسي: يا ادم هذا محمد وأنا المحمود في فعالي, شققت له أسما من أسمي, وهذا علي وأنا العلي العظيم, شققت له اسما من اسمي.) وأن ّ (المراد بتعليمها ادم كلها, خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة, حتى استعد لإدراك أنواع المدركات, من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات, وإلهامه معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأصول العلم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها والتمييز بين أولياء الله وأعدائه, فتأتى له بمعرفة ذلك كله مظهريته لأسماء الله الحسنى, وجامعيته جميع كمالات الوجود اللائقة به, حتى صار منتخبا لكتاب الله الكبير الذي هو العالم الأكبر, كما قال أمير المؤمنين (ع): وفيك انطوى العالم الأكبر)(3).

ثانيا: إنّ قوله تعالى (ثم عرضهم) يراد منه (أشباح المخلوقات جميعا المدلول عليها بالأسماء كلها)(4).

ثالثا: إنّ المراد من (الأسماء كلها) (أراه الأجناس التي خلقها. وعلمه أن هذا اسمه فرس, وهذا اسمه بعير, وهذا اسمه كذا, وهذا اسمه كذا, وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية (ثم عرضهم) أي عرض المسميات, وإنما ذكّر لأنّ في المسميات العقلاء فغلبهم) (الكشاف)(5).

رابعا: وهناك من ذهب إلى أنّ المراد بالأسماء هي خصوص الأسماء الحسنى.(عند القول إنّ هذا الخليفة مظهر لجميع أسماء الله وصفاته فلا نقصد بذلك كل الأسماء والصفات حتى المستأثرة وإنما المقصود تلك الأسماء والصفات التي يمكن أن يظهر لها مظهر وتجلّ, ويمكن أن يخلف الله فيها)(6). (أسألك بكل اسم سمّيت به نفسك, أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تصلي على محمد وال محمد…….)(7).

 وقد ورد في أدعية أهل البيت نظير ذلك في أكثر من موضع, مما يدل على أن هناك أسماء استأثر الله بها. وأن دلالة الشمول والعموم للأسماء هي ما يمكن تسميتها بالأسماء الجزئية الواقعة تحت الأسماء الكلية دون عباده المخصوصين بكرامة الإطلاع على ما سواها. وهذه الأسماء التي تجلت من خلال التعليم تكوينا, أو ما يسمى بالعلم الحضوري لآدم (ع) ومن ثم عرضها على الملائكة وإنبائهم بها دلّ على سمو مقام هذا الموجود الأرضي بما تحمّله من علم, بحيث استحق أن يكون منشأ لسجود الملائكة كلهم أجمعين. وأن العدول إلى ضمير الجمع المذكر في (عرضهم) هو تعبير عن هذا التجلي للأسماء تكوينيا في ضمير الجمع العاقل.

  • أهمية الأسماء وأثرها في استحقاق الخلافة :

أولا: أنه (مادام هذا الخليفة والموجود الأرضي هو مظهر للاسم الإلهي الأعظم بقرينة أنه تعلم الأسماء كلها , وبقرينة أنه صار مسجودا للملائكة أجمعين, فستكون الحصيلة إذا أنه يقع تحت تدبيره جميع تدبيرات الملائكة ليس على مستوى البعد العملي وحسب بل على مستوى البعد العلمي أيضا)(8)

 

1و2و3و4- الأصفى.ج1. ص26

5-الكشاف. الزمخشري

  • هامش التوحيد.ص403-404
  • القمي. مفاتيح الجنان. ص430
  • التوحيد. ج2. ص411

 

 

وبتعبير آخر (هذا الخليفة هو منشأ تدبير الملائكة, وهو الواسطة بين الله جل جلاله وبينهم, وهم خاضعون لهذا الموجود الأرضي منقادون وساجدون له)(1).

ثانيا: قد يشكل أنّ الاستئثار بالأسماء ينافي عموم الأسماء التي تعلمها آدم, الجواب هو أنّه يمكن توجيه المسألة بلحاظ  كون المستأثر خارج عن العموم تخصصا.

   ثالثا: أنّ هذا الموجود هو الواسطة بين الله وبين الملائكة وهم خاضعون ومنقادون له.

(والخليفة يجب أن يكون على صفات المستخلف عنه وفي حكمه, وبخلافه فإنه ليس بخليفة, لذا قال تعالى: ‹وعلم آدم الأسماء كلها› حيث استخدم الجمع المحلّى بالألف واللام المؤكدة بـ كل وقدم كل ذلك على الخليفة لأهميته. قال الامام الصادق عليه السلام: الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق. إذن؛ فإن الآية في دلالتها على لزوم وجود الخليفة من الأمهات والمحكمات, وكما أن ذلك يدل على المعنى المذكور فإنه يدل أيضا على أن تعيين الخليفة ليس من مسؤولية الامة فافهم)(2).

 رابعا: لا تنافي بين إقرارها بالقول (لا علم لنا إلا ما علمتنا) وبين إنبائها عن طريق آدم,  لأن حكمته تعالى لما اقتضت أن يكون ادم (ع) خليفته في عالم التكوين فيكون علمها وتدبيرها لعالم الممكنات بتوسط آدم هو في عين تعلمها من الله تعالى لأن مصدر وأصل العلم والتدبير ينتهي إلى الله. نظير ذلك

   ما نجده عند نسبة التعلم من حيث تسلسله من خلال أفراد, فهو وإن تعددت وسائطه لكنه في واقع الأمر ينتهي إلى من كان سببا في صدوره عنه ابتداء.

  • نظرية الحاكم عند أفلاطون والفارابي

لا بد قبل البدء بعرض نظرية الحاكم عند أفلاطون والفارابي الإشارة هنا إلى أن الامامية الأثني عشرية عندما قالوا بوجوب نصب النبي أو الأمام على الله عقلا ونقلا حسب قاعدة اللطف إنما يبرهنون بذلك على أنّ هذا الوجوب له ارتكاز عقلائي يتناغم والفطرة السليمة بعيدا عن الانتماء المذهبي والعقائدي , بل تعبيرا عن حاجة البشرية في كل زمان ومكان إلى مثل هذا الوجوب. وأن القول بثبوته سمعا كما تذهب إليه مدرسة الصحابة ليس بالدليل الناهض. لأن القطع بصحة ثبوت النقل متوقف على مقدمات لا بد للعقل أن يقطع بها أولا ويقر بصحتها فضلا عن الاتفاق عليها. فهي إن صحت إنما تكون كاشفة عن الدليل العقلي والارتكاز الفطري السليم الذي يدرك لزوم الحاجة إلى مثل هذا الوجوب. وإلا من أين عرف أفلاطون وغيره من الحكماء الذين لا يدينون بشرع الإسلام الحاجة إلى أهمية نصب الحاكم وطبيعة الشروط اللازم توفرها فيه بغض النظر عن الاتفاق عليها تفصيلا؟. اللهم إلا أن يقال أن أفلاطون كان من الامامية الأثني عشرية..!.

ويبين أفلاطون الحكيم في كتاب الجمهورية, الكتاب السادس أهمية تمتع الحاكم بصفات تتوافق مع ما ذهب إليه الامامية في جملة من النقاط إلا ما يخص العصمة ومصادر المعرفة لدى الإمام. فهو يرى:

  • أن الحاكم يجب أن يكون فيلسوفا يحكم بالعقل والعدل.
  • أن يكون محبا للحقيقة.
  • ذا رغبة وقادة في معرفة كل الموجودات.
  • مبغضا للكذب, محبا للصدق.
  • ميّالا إلى احتقار اللذات الجنسية
  • غير مكترث بالمال, شديد القناعة. زاهدا في الجاه.
  • نابذا للشقاء, شجاعا أمام الموت.

1-الاسم الأعظم. حقيقته ومظاهره. ص83

2-الانسان الكامل في نهج البلاغة. ص75

 

 

 

  • بعيدا عن الفساد والعجرفة والكبرياء.
  • سامي المدارك والفكر, قوي الحدس. سريع الخاطر والذاكرة.
  • عادلا, دمث الطباع.
  • محبا للجمال, ذا فطرة موسيقية متّسقة.

 

 وسنشير إلى نقاط الالتقاء بين ما ذكره أفلاطون والامامية وكذلك الفارابي لإبراز البعد العقلي والارتكاز الفطري الذي يكشف عمق الرؤية وأصالة النظرة إلى مقام الإمامة وأهميتها لدى الامامية. في حين أن الاتجاه الذي ذهب إلى عكس ما تبنته الامامية إنما انطلق من بعد تبريري لنظرية الاستخلاف التي استمدت مشروعيتها من حادثة السقيفة. لأن القول بالوجوب العقلي يفضي بالضرورة إلى وجود النص. ونفي أحدهما يؤدي إلى نفي الآخر. يقول الغزالي: (إنّ الوجوب غير مأخوذ من العقل, بل من الشرع وذلك أن نظام الدين والدنيا لا يحصل إلا بإمام أو سلطان مطاع)(1). علما أنّ القول بالوجوب العقلي ناظر إلى أصل الوجوب باعتباره كلية موجبة,

دون النظر إلى كونه ذات طبيعة شرعية سماوية أو وضعية عقلية. فأن حصره في دائرة الشريعة  تضييق لا مسوّغ له. وفي التجارب البشرية على اختلاف مشاربها وأذواقها ما يثبت أنها أقامت حدود شريعتها ونظام ملتها على أساس عقلي فطري ألزمها نصب من يقوم بشؤونها وتدبير مصالحها دينية أو دنيوية عبر ما يسمى بالأديان الوضعية في قبال الشرائع السماوية. فهي لم تستند إلى الوجوب السمعي نظير الحديث (من مات بغير إمام  مات ميتة جاهلية)(2). و (إنّ الأرض لا تخلو من حجة)(3) وغيرها من الأحاديث.. والغريب أنهم قالوا بالوجوب من جهة واختلفوا في الطريق إليه من حيث كونه بالعقل أو السمع. وهذا خلط عجيب بين المقدمة وذيّها. ونحن نسأل من أين ثبت لديكم القول بالوجوب؟ قالوا : بالسمع. قلنا: أنتم جعلتم السمع طريقا اليه. ولكن ما الدليل على اعتبار السمع دليلا وطريقا لإثبات هذا الوجوب؟ سيقولون : إنّ الدليل عليه هو السمع, وهذا هو التسلسل بعينه . وهو واضح البطلان. بخلاف الوجوب العقلي. لأنه من مصاديق حجية العقل وهي ذاتية. لذا فهو لا يفتقر في إثبات هذا الوجوب إلى دليل خارجي, لكونه من الأمور التي يستقل العقل بإثباتها. نعم لو كانت من سنخ الأحكام الجعلية كما تذهب إليه مدرسة الصحابة لصح القول بتوقف وجوبه على السمع. فالدليل السمعي يكون كاشفا عن حجيته لا مؤسسا له. 

      أما الفارابي فانه في حديثه عن المدينة الفاضلة على غرار ما ذهب إليه أفلاطون ذكر صفات معينة لرئيس المدينة الفاضلة باعتباره (الشخص الذي لا يرأسه إنسان آخر, وهو الإمام, وهو الرئيس الأول للمدينة الفاضلة, والأمة الفاضلة, والمعمورة الفاضلة)(4).

ويبين الفارابي الخصال التي يجب توفرها في رئيس المدينة الفاضلة وهي اثنتا عشرة خصلة:

  • أن يكون تام الأعضاء.
  • أن يكون بالطبع جيد الفهم والتصور لكل ما يقال له.
  • أن يكون جيد الحفظ لما يفهمه, ولما يراه ويسمعه ويدركه.
  • أن يكون جيد الفطرة ذكيا, إذا رأى الشيء بأدنى دليل, فطن له على الجهة التي دل عليها.
  • أن يكون حسن العبارة, يؤاتيه لسانه على إبانة كل ما يضمره, إبانة تامة.
  • موسوعة الفرق الإسلامية. ص125
  • علل الشرائع. ج1. ص195
  • أصول الكافي. ج1. ح9. ص104
  • تاريخ الفلسفة العربية. ص172

 

 

  • أن يكون محبا للتعليم والاستفادة, منقادا له, سهل القبول لا يؤلمه تعب العلم, ولا يؤذيه الكد الذي يناله منه.
  • أن يكون غير شره على المأكول والمشروب والمنكوح, متجنبا بالطبع للعب, مبغضا للذات التي تكون عن هذه.
  • أن يكون محبا للصدق وأهله, مبغضا للكذب وأهله.
  • أن يكون كبير النفس محبا للكرامة.
  • أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هينة عنده.
  • أن يكون بالطبع محبا للعدل وأهله, مبغضا للجور والظلم وأهلهما, وأن يكون عدلا غير صعب القياد, لا جموحا, ولا لجوجا إذا دعي إلى العدل, بل صعب القياد إذا دعي إلى الجور.
  • أن يكون قوي العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل, جسورا عليه, مقداما, غير خائف ولا ضعيف النفس)(1).

لا شك أن تأثر الفارابي بآراء الفيلسوف أفلاطون وأرسطو واضح, لكنه بنى نظريته بالدرجة الأولى استنادا إلى فلسفته في تفسير الكون وصدور الموجودات عن السبب الأول وعلاقة الأكوان بعضها

ببعض. ولسنا في معرض التعليق على واقعيتها من عدمها بل نريد إبراز البعد العقلي في علاقة العلم والخصائص النفسية بمبدأ الاستخلاف. فسعة دائرة العلم هي التي تبرز حدود هذا الاستخلاف من حيث السعة والضيق وفق المنظور القرآني.

ويلاحظ وجه الشبه في كثير من الصفات والخصائص التي عرض لها كل من أفلاطون والفارابي. وان بدا تأثر الثاني بالمعطيات الدينية والكلامية لدى الأمامية والمعتزلة. وهذه المشتركات يمكن ملاحظتها من خلال المقارنة. وهو ما سنجد له نظيرا في جوانب مما روي عن أهل البيت (ع).

  • نظرية الإمامة عند أهل البيت (ع) وشرائطها:

أما الإمامية فهي تشترط وجوب العصمة وأن يكون أفضل أهل زمانه وأعلم الأمة. وبالتأمل في الشرائط المتقدمة نجدها جامعة مانعة لكل ما تقدم ذكره من الصفات التي اشترطها سواء أفلاطون أم الفارابي. ولو لم يكن من شرط سوى القول بالعصمة لكفى بذلك جامعيته لكل تلك الصفات وزيادة. خاصة إذا لاحظنا أن ما من فرقة قالت بوجوب العصمة لأئمتها سوى الأمامية. من هنا لا نرى حاجة إلى الدخول في جزئيات المصاديق لوضوحها بمكان. بيد أننا سنذكر طرفا مما ورد عن أهل البيت (ع) في مقامات الإمام وما يتمتع به من خصائص تربو على ما أتى به الحكماء من أمثال أفلاطون والفارابي وسواهما. فأفلاطون والفارابي انطلقا من تجربة ذاتية وخبرة مكتسبة في عالم البحث والتفكير. وجمعا من شتات المعرفة وأوزاعها ما هو بين المعقول واللامعقول, وبين المقبول واللامقبول. فالأول أخفق في مثاليته التي رسمها لجمهوريته عندما دعي إلى تطبيقها من قبل حاكم سيراكوزة ديونيسيوس عام 387 قبل الميلاد. وجرى بينهما نزاع مرير.( والقصة تقول أن أفلاطون بعد هذا النزاع بيع قي سوق العبيد, حيث قام بشرائه وتحريره من العبودية تلميذه وصديقه الأثيني انسيريس)(2).

وأما الثاني فقد ترك أطروحته مجرد نظرية وانعكاسا لنظرية الفيض وارتباطها بالعقل الفعال. فهي (مدينة الأخيار الصالحين, الذين يحكمهم فلاسفة حكماء. أو أنبياء منذرون, يستمدون مبادئ علمهم وقواعد عملهم مما يفيضه العقل الفعال عليهم من الصور الروحانية, وهي مدينة خيالية بعيدة عن الحياة والتجربة)(3).

 

  • تاريخ الفلسفة العربية.ص173-174
  • قصة الفلسفة.ص65
  • تاريخ الفلسفة العربية.ص179

 

 

 

 

أما نظرية الإمامة لدى أهل البيت (ع) فهي مشروع الهي متكامل يستمد دستوره وواقعيته من الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وهم المخصوصون بترجمة مفاهيمه واستنباط قواعد أحكامه, وصياغة بياناته التكليفية فيما يستجد من وقائع وتتطلبه الظروف من معالجات. حيث تتناغم الأحكام في نسق لا يشوبه الاضطراب ولا يعتوره الخلل هنا أو هناك..

ففي رواية عن الإمام الرضا (ع) يبين أهمية الإمامة ودورها, ويكشف عن خصائص الإمام في حديث طويل نقتصر منه على مورد الحاجة. (إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء, وارث الأوصياء, إنّ الإمامة خلافة الله وخلافة رسول الله (ص) واله وسلم). (الإمام يحل حلال الله, ويحرم حرام الله, ويقيم حدود الله, ويذب عن دين الله, ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة, والحجة البالغة…….)(1) (الإمام المطهر من الذنوب والمبرّأ من العيوب, المخصوص بالعلم, الموسوم بالحلم, نظام الدين, وعز المسلمين وغيظ المنافقين, وبوار الكافرين)(2).

و الحديث الوارد عن الإمام الرضا (ع) يكشف عن أمور ثلاثة يرتبط بعضها بالآخر ارتباط النتيجة بالسبب. وهي:

أولا: خصائص الإمامة. وتتمثل في:

  • إنها منزلة الأنبياء.
  • وهي إرث الأوصياء.
  • وهي بالتالي خلافة الله وخلافة رسوله. وفي ذلك إشارة إلى ما جاء في الآية (55) من سورة المائدة, وهي آية الولاية.

ثانيا: وظيفة الإمام:

  • الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله.
  • يقيم حدود الله ويذبّ عن دين الله. أي أنه يعمل على تطبيقها ووضعها موضع التنفيذ.
  • يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة. وهذا هو الدور التبليغي والإرشادي القائم على التوجيه ووضع الخطوط العريضة لآليات الإرشاد والتبليغ بما يسهم في إثراء المعرفة الدينية لدى الفرد بشكل صحيح بعيدا عن التلبيس والانحراف.

ثالثا: صفات الإمام المعنوية:

  • المطهر من الذنوب. أي أن يكون معصوما. والمبرأ من العيوب. أي لا شائبة تعيب خلقته الجسدية مما يجعله محط نفور الغير.
  • المخصوص بالعلم. والمراد بذلك أن له مرتبة علم يحتاج فيها اليه ولا يحتاج إلى أحد. وعلى حد قول الفراهيدي والذي أصاب كبد الحقيقة عندما سئل ما الدليل على إمامة علي (ع) أجاب: استغناؤه عن الناس واحتياج الكل اليه دليل إمامته.
  • الموسوم بالحلم
  • نظام الدين وعز المسلمين وغيظ المنافقين وبوار الكافرين.

وبالتأمل في النعوت التي بينها الإمام (ع) ومقارنتها بما ذكره كل من أفلاطون والفارابي,

 

  • أصول الكافي. ج1. 118
  • م. ن. ج1. ص119

 

 

 

 نجد تأكيدا واضحا فيما يختص بأهمية العلم بقطع النظر عن ماهيته ودرجاته وخصائصه,

 فضلا عن الصفات الأخرى. ولا حاجة للخوض في تفصيل أوجه التطابق والتباين هنا, لأن ذلك سيخرجنا عن الغاية من البحث. وإنما قدمنا هذه الإلمامة للتأكيد على المبدأ العقلي في ثبوت وجوب الإمامة, وهذه النتيجة تفضي إلى القول بأن الإمامة من أصول الدين. وليست من الفروع بناء على الرأي الذي ذهب إلى ثبوتها بالسمع..

  • المراتب الثلاث للإمامة عند الشهيد المطهري:

من المهم أن نشير إلى الجانب التطبيقي من وجهة نظر آية الله الشهيد مطهري في تقسيمه لدور الإمامة  إلى ثلاثة مراتب من حيث بعدها الوظيفي وصلته بالبعد العلمي بنحو مقتضب. وهذه المراتب:

أولا: الإمامة هي قيادة المجتمع: ويقصد بها أنّ المجتمع بحاجة إلى قائد وهذه القيادة ضرورة لا بد منها. وعند هذه النقطة يتفق الفريقان (شيعة وسنة) على أصل هذه المسألة, لكن الخلاف في هل أنها بالنص والتعيين أم هي مسؤولية المسلمين في انتخاب القائد الذي يخلف النبي (ص) وآله وسلم.

ثانيا: المرجعية الدينية: (الإمامة في هذا المعنى, هي في الواقع نوع من التخصص في الإسلام والبصيرة فيه. بيد أنه تخصص أرفع كثيرا من تخصص المجتهد. هو تخصص من لدن الله. والأئمة من هذا المنطلق هم أشخاص متخصصون في الإسلام. بيد أن تخصصهم ومعرفتهم في الإسلام لم تكن انطلاقا من عقلهم واعتمادا على فكرهم: لأن معرفة مثل هذه واختصاصا من هذا القبيل يداخله الخطأ بالضرورة. بل إن الأئمة أخذوا علوم الإسلام من النبي (ص) وآله وسلم بطريق غيبي نجهله.

ثالثا: الولاية: ويقصد بها (أن يكون الولي- حجة الزمان, بحيث لا يكون ثمة زمان خال من الحجة أبدا       (ولو بقيت الأرض بغير إمام لساخت)(1). ومؤداه أن الأرض لم تخل ولن تخلو من الإنسان الكامل أبدا. ويعتقد الشيعة أنّ هذا الإنسان الكامل ينطوي على مقامات ودرجات كثيرة. ونحن في أغلب التحيات والزيارات التي نقرؤها, نقرّ بمثل هذه الولاية ونعترف بهذه الإمامة: أي أننا نعتقد أنّ للإمام مثل هذه الروح الكلية)(2).

ولعل خير ما أختم به بحثي هذا هو ما أشار إليه العلامة السيد كمال الحيدري مبينا مقام الإمامة رفعا للالتباس الذي يقع فيه الكثير فيما يخص العلاقة بين النبوة والإمامة, وما هو المقصود من أنّ الإمامة أرفع من مقام النبوة. ولأهمية هذه المسألة رأيت من المناسب ذكرها زيادة في الفائدة ومن الله التوفيق. يقول في معرض تعليقه على الآية (124) من سورة البقرة: (إنّ مقام الإمامة فوق مقام النبوة والرسالة, لكن لا على الوجه الذي يكون فيه مطلق الإمام فوق مطلق الرسول والنبي, إنما المقصود لو اجتمعت في إنسان مقامات النبوة والرسالة والإمامة فإنّ أشرفها مقام إمامته, وهي أعظم وأشرف وأقرب إلى الله من مقام نبوته ورسالته كما هو الحال في المثال الإبراهيمي. لهذا من الخطأ الفاحش أن يزعم أنّ كل إمام فهو أفضل من كل نبي ورسول, إنما المقصود أنّ إمامة الشخص حين ينالها هي أفضل من نبوته ورسالته كما هو حاصل لنبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه واله حيث تعد إمامته أعم من نبوته ورسالته, وأهل بيته ورثوه في إمامته دون نبوته ورسالته, إذ لا رسول بعده وهو خاتم النبيين صلى الله عليه واله)(3).

  • آدم واحد أم إثنان؟

قد يبدو السؤال غريبا بعض الشيء بالنسبة لما هو مألوف في أذهان الكثيرين,

  • أصول الكافي.ج1.ح10. ص104
  • بتلخيص عن مقدمة كتاب الإمامة. تقديم. جواد علي كسار.ص12-15
  • الأسم الأعظم.ص93-94

 

 

 

 

 بله عامة الناس من أكاديميين وغيرهم ممن ألفت أذهانهم واعتادت على اعتبار أن آدم الذي أمر الله بالسجود له هو ذاته الذي تحدثت عنه الآيات الأربع (30-33) من سورة البقرة. ولكن إذا أعدنا قراءة النصوص القرآنية التي تتحدث عن آدم في ضوء الروايات التي لا شائبة في صريح دلالاتها المعضدة لما نحن بصدد إثباته, سيزول ذلك الالتباس الذي علق بالأذهان حتى أصبح من بديهيات التصور الإسلامي عن شخصية آدم وجزء من الموروث المعرفي الذي يستند على التلقين والتلقي أكثر من التمحيص والتدقيق على ضوء القراءة الموضوعية وقراءة ما وراء النص دون الوقوف عند ظاهره..

ونحن إذ نضع الملاحظات التالية بين يدي القارئ فإننا نريده أن يعيد النظر في فهمه الموروث الذي تشكل لديه فيما يخص الحقيقة الملكوتية لآدم الذي علمه الله الأسماء كلها, ولآدم المخلوق من طين, والذي أخرجه الله وزوجه من الجنة بعد أن أكلا من الشجرة وبدت سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.

إنّ الذي نريد بيانه هنا هو أن النبي محمدا صلى الله عليه وآله مسلم هو الموجود الأول في سلسلة عالم الإيجاد, وهو آدم الذي كان موضوع المحاورة التي دارت حول موضوع الجعل بلحاظ ما ورد من روايات من جهة وما دل عليه الدليل العقلي الذي يستند إلى مبدأ الأولوية في التفاضل والمقارنة, والتي منشؤها طبيعة طرفي التفاضل وما يضطمّ عليه كل طرف من ملكات وخصائص من جهة أخرى. وهو مبدأ لا يختلف عليه اثنان في مقام الموازنة والترجيح..

أولا: آدم في بعده الملكوتي:

  • إنه واسطة الفيض بين عالم الملك والملكوت. وأنّ وجوده سابق على وجود آدم المخلوق من طين كما ورد في الروايات: (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين)(1). أي أنّ محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان نبيا قبل أن يتم آدم خلقا سويّا ينفخ فيه الروح. فالرواية صريحة في أسبقية الوجود. وكما في الرواية عن جابر الأنصاري حيث أجابه الرسول (ص) وآله وسلم بأنّ أول شيء خلقه الله هو نوره, ومنه خلق كل خير. فوجود هذا العالم إنما هو قائم بنورية النبي صلى الله عليه واله وسلم. وأن كل خير في هذا الوجود نابع من كونه واسطة الفيض. مضافا إلى ذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (كنت أنا و علي نورا بين يدي الرحمن قبل أن يخلق عرشه بأربعة عشر ألف عام)(2) وأنّ ذلك كان وهو في عالم الأظلّة. وكذا في كتاب الخصال للشيخ الصدوق. وزاد فيه: (فلما خلق الله آدم سلك ذلك النور في صلبه.. إلى آخر الحديث)(3). وفي هامش كتاب مشارق الأمان من كتاب دلائل النبوة لأبي نعيم ما نصه: (كنت أول الناس في الخلق وأخرهم في البعث)(4). وفي مجمع الزوائد ممن حديث الإسراء: (إنك عبدي ورسولي, وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا)(5). كما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (خلق الله نوري ونور علي وسبّحنا فسبّحت الملائكة, وهلّلنا فهلّلت الملائكة وكبّرنا فكبّرت الملائكة)(6).

 

 

  • مسند أحمد. 4, 66
  • مشارق الأمان في لباب حقائق الإيمان.ص40
  • الخصال.ج2. ص640
  • مشارق الأمان. الهامش. 1/6
  • مجمع الزوائد. ج1.ص71

  6- الاسم الأعظم.ص65

 

 

 

 

 

ويستفاد من هذه الرواية أنّ الملائكة إنما عرفت التسبيح والتهليل والتكبير بتوسط النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأمّا ما ذكر من أنّ آدم الذي كان بين الماء والطين هو الذي علّمه الله الأسماء ثم أمره بعرضها على الملائكة فهو محل نظر. أللهم إلا أن يقال أنّ ذلك قد تحقق بلحاظ النورانية التي أودعها الله في آدم والمتمثلة بأنوار الأئمة الذين كانوا أشباحا في عالم الأظلة فكانوا بذلك واسطة في الكشف عنهم وتجليّا للبعد الملكوتي لهم, فكان هذا الإنباء والعرض  سنخ تعليم على نحو الإراءة للشيء على حقيقته تكوينا, باعتبار أنهم هم المخصوصون بالعرض كما تقدم ذكره سابقا. من هنا فإنّه لا تنافي بين استقلاليته (ص) وآله وسلم بالعرض وبين توسط آدم. لأنّ النتيجة تؤول إليه على كلا التقديرين والله أعلم..

  • إنّ كونه صلى الله عليه واله وسلم نبيا في بعده الملكوتي لا معنى له من غير الإقرار بأنّ له وظيفة تتمثل في كونه منشأ تدبير الملائكة والواسطة في تلقي العلم. وإلا لزم نسبة العبث إلى فعله تعالى, إذ ما من موجود إلاّ وتتعلق به وظيفة وجوده بنحو المصاحبة لنشأته بقطع النظر عن ماهية هذا الموجود. وبخلاف ذلك يلزم القول بانتفاء الغاية من الإيجاد. ولازم ذلك كما أنّ النبي له دوره في هذه النشأة كذلك كان له دور في تلك النشأة. اللهم إلا أن يقال إنه نبي مع وقف التنفيذ. كما أنّ دوره الوظيفي هذا لا ينقطع بموته, لأنّ أفضليته ليست منوطة بحياته المادية, بل هي مستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, وإلا لزم أن يكون في زمان من يأتي بعهد  من هو أفضل منه.
  • إنّ هذا الدور محفوظ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في النشآت الوجودية التي مرّ بها. كونها تمثل سلسلة الخلق الطبيعية لعالم الإمكان الذي من مقتضياته التلبس بما يسانخه, وأن ذلك يعمّ الملائكة أيضا كما لو فرض أن دورها هو القيام بأعباء الرسالة وهداية الناس, والتي من لوازمها أن يكون الرسول من ذات الجبلة البشرية التي هم عليها. وهو ما أشارت إليه الآية (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون)(1).

إذن؛ مقتضى الحكمة أن يكون الرسول من سنخ هذا العالم ليقوم بوظيفته. ولعل آية الميثاق الذي أخذه الله من الأنبياء كما في سورة آل عمران (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين)(2). شاهد على ذلك. فإقرار السابقين من الأنبياء بأخذ الميثاق منهم على الإيمان به وبنصرته بالتبشير به وتبليغ كل نبي أمته بذلك, تنجيزا للعهد وخروجا من عهدة التكليف يؤكد ما ذكرنا في النقطة السابقة من كون هذا الدور محفوظا بنحو من الأنحاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ثانيا: آدم (الموجود الأرضي):

  • إنّ آدم الذي ذكر في القران عدا الآيات الأربع من (30- 33) من سورة البقرة لا يتمتع بتلك الخصائص التي هي لذلك الموجود الملكوتي, والذي هو منشأ تدبير الملائكة وواسطة الفيض. والذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين,

 

 

  • الأنعام/9
  • آل عمران/81

 

 

وأنّ نوره أول ما خلق, ومنه خلق كل خير, إلى غير ذلك من الفيوضات التي ترشحت عن هذا النور.

  • إنّ آدم هذا ليس من أولي العزم (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما)(1).

فكيف يكون له التقدم الرتبي والزماني في عالم الخلق والإيجاد بنحو يكون واسطة الفيض ويتلقى العلم بلا واسطة في مقام الإنباء فضلا عن كونه منشأ تدبير الملائكة؟. ومعنى الآية هو:( وأقسم لقد وصينا آدم من قبل فترك الوصية ولم نجد له قصدا جازما إلى حفظها أو صبرا عليها. والعهد المذكور- على ما يظهر من قصته عليه  السلام في مواضع من كلامه تعالى- هو النهي عن أكل الشجرة)(2). وقد ذكر الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي(3) نحوا من ذلك فضلا عن إيراده جملة من الروايات تنص على غير ذلك, يمكن الوقوف عليها لمن أراد.

  • ليس في ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما ينطبق على آدم المذكور في القرآن لا من قريب ولا من بعيد. وأن آدم أبا البشر قد أهبط الى الأرض مع حواء ثم تلقى التوبة من الله كما في الآية (37) من سورة البقرة, والتي توسل بما فيها من اسم النبي وأهل بيته عليهم السلام بقبول توبته كما في الروايات التي تشير الى أنهم الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه. فإذا كان هو المعني بما ورد في الحوار وأنه هو واسطة الفيض في تعليم الملائكة وإخبارها وكونه منشأ تدبيرها للعوالم  فكيف يتوسل بمن هو أدنى منه رتبة؟. وقد تقدم الكلام في أنه قد حصل منه النسيان ولم يكن له عزم. فأين ذلك كله من صاحب المقام المحمود وعلة الإيجاد؟. ولله درّ الأزري حيث يقول:

 

                لا تجل في صفات أحمد فكرا     فهي الصورة التي لن تراها

                أيّ خـــــلق لله أعظــــــم منه     وهــو الغاية التي استقصاها

  • إنّ آدم هذا هو المعني بقوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون – فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين- فسجد الملائكة كلهم أجمعون- إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين. الحجر)(4). وهذه مرحلة متأخرة عن تلك التي كان الكلام فيها على الجعل الإلهي وتعليم الأسماء وعرضها, واعتراض الملائكة ومن ثم إقرارها بعد ذلك. في حين نجد أن الملائكة هنا سجدت لهذا الموجود الأرضي دون اعتراض منها لما تحصل لديها من علم بأن هذا الموجود الأرضي قد أودع الله فيه ذلك النور الذي خلق منه كل خير فسجدت له. وهنا نجد ظهورا لإبليس الذي امتنع من السجود ولم يكن له حضور في الحوار الذي دار حول مسألة الجعل الإلهي. والحمد لله أولا وآخرا, وصلى الله على رسوله والأئمة الميامين من آله وسلم تسليما كثيرا..

 

 

 

 

 

 

  • طه/115
  • الميزان.ج14.ص219
  • الصافي.ج3.ص323
  • الحجر/28-32

 

 

 

نتائج البحث:

 

 يمكننا تلخيص النتائج فيما يلي:

 

1- إن القران الكريم هو الخطاب الإلهي للبشر. فهو حينما يعرض المفهوم في سياقه القرآني إنما يقدم المصداق الذي يؤشر صواب المنهج, و يضع الإنسان أمام المسؤولية أولا, والنأي به عن الدوران في حلقة مفرغة من التفلسف والتنظير اللامجدي ثانيا.

    وبناء على هاتين الملاحظتين يمكن القول إن الآية (124) قد شخصت المصداق الذي عرضت له الآية  (30) على نحو العموم المجموعي, وهم الأئمة (ع), كما جاء في بعض الروايات. فمفهوم قوله تعالى (جاعل في الأرض خليفة) مصداقه (إني جاعلك للناس إماما) إشارة إلى إبراهيم (ع), حيث أقام الصفة وحذف الموصوف في الآية (30) وأظهره في الآية (124) بلحاظ ضمير المخاطب في (جاعلك). وتأمل بدقة تكرار اسم الفاعل (إنّي) للدلالة على اختصاص الجعل في الآيتين:  ( لاحظ العلاقة المنطقية بينهما فيما يلي):

2- (جاعل في الأرض خليفة) كلية موجبة =(جاعلك للناس إماما) جزئية موجبة. وهذه العلاقة تستبطن ما يلي:

اّ- مرحلة الكمون / تقديره إنسان (توافق) مع   ب- مرحلة الظهور في  الضمير العائد (ك).

3-  إنّ كلمة (إماما) في الآية (124) تعد وظيفيا المعادل الموضوعي لكلمة (خليفة)  في الآية (30).

4-  وكما مثلت التجربة الأولى في عالم النشأة السابقة أهلية آدم بلحاظ ما تحقق فيه من شرط  العلم, وكونه واسطة في الإنباء, كذلك نجد أن إبراهيم (ع) أثبت باجتيازه الاختبار أنّ العلم من المقدمات الضرورية لتحقق أهليته لمرتبة الإمامة عبر الابتلاءات التي مر بها. فهو سنخ علم كاشف عن العصمة أيضا, العلم الذي تترسخ فيه العلاقة بين العبد وربه على نحو يصبح فيه هذا العلم حضوريا لا يحتاج إلى مؤثر من الخارج لإدراك المعلوم.  

 5- إنّ الآيات الأربع اشتملت على بيان أهم قضية شغلت بال الإنسان عموما, والفرد خصوصا, ألا وهي قضية الاستخلاف والتي اصطلح عليها بـ (الإمامة).

   6- إنها ربطت بين العلم والاستخلاف كمقدمة لازمة واعتبرته شرطا ضروريا لمن تناط   به هذه المهمة, وكذلك العصمة التي مع توفرها دون العلم مما حجب استحقاق الملائكة للخلافة مع تحقق ملاك العصمة فيها. فهي بطريق أولى توفرها في من شاءت حكمته تعالى أن يقوم بهذا الدور ولكن بضميمة العلم إلى العصمة والتي هي متحققة في آدم بالأولوية القطعية وإن لم يصرّح بها في الآيات موضوعة البحث.    

  • إنّ اعتراض الملائكة لم يكن مساوقا في حيثيته لاعتراض إبليس, لا من حيث المبدأ ولا من حيث النتيجة المترتبة على كلا الاعتراضين.
  • إنّ ثمة فارقا زمنيا على نحو التراتبية بين قضية تعلم الأسماء من قبل اّدم (ع), وبين عرضها على الملائكة وهو ما تدل عليه أداة العطف (ثم) والذي يفيد التراخي في الزمن. وأن العملية تمت على مرحلتين؛ مرحلة تعليم آدم أولا, ومن ثم مرحلة الاختبار عبر العرض والإنباء ثانيا, حيث تبين للملائكة الحكمة من وراء هذا الجعل..
  • إنّ قضية العرض في الآية (31) هي من أهم محاور الآيات الأربع. ولشدة اعتناء الخطاب الإلهي بها فأن لفظة (عرض) جاءت لتحقق هذه الوظيفة الدلالية في ذهن المتلقي, حيث شخصت بإعجاز ما اعتبر في عرف أهل الصنعة اليوم واصطلح عليه فنيا بـ (العرض).

وهذه اللفظة هي حقيقة للمراد فيه سواء ما كان متشخصا للعيان بحسب التبادر, أو مجازا بدلالة التوسع في الاستعمال بالعنوان الثانوي ثم صار حقيقة في كليهما معا. والظهور القرآني بحسب الإطلاق كما يقتضيه السياق ينصرف إلى أن المراد هنا بالمعروض هو خصوص الوجود العيني  الخارجي, والذي تعين بقرينة اسم الإشارة الجمعي(هؤلاء), والذي يؤتى به للقريب. مما يدلك على حقيقة مهمة وهي النسبة الوجودية الخاصة لأعيان بذاتها. وهو(مشعر بأن هذه الأسماء أو أن مسمياتها كانوا موجودات أحياء عقلاء, محجوبين تحت حجاب الغيب). و(أن العلم بأسماء هؤلاء المسميات يجب أن يكون بحيث يكشف عن حقائقهم وأعيان وجوداتهم, دون ما يتكلفه الوضع اللغوي من أعطاء المفهوم, فهؤلاء المسميات المعلومة حقائق خارجية, ووجودات عينية وهي مع ذلك مستورة تحت ستر الغيب غيب السموات والأرض, والعلم بها على ما هي عليها كان أولا ميسورا ممكنا لموجود أرضي لا ملك سماوي, وثانيا؛ دخيلا في الخلافة الإلهية)(1).

 والمراد من قول صاحب الميزان (دون ما يتكلفه من الوضع اللغوي من أعطاء المفهوم) هو توسط الأمر التكويني في بيان المراد. وان شئت فقل أن ذلك من قبيل الإشارة أو الرمز  الدال على المرموز, والكاشف عنه بنحو يستدل به على المقصود.

10-  اختلاف متعلق الفعلين حكما وموضوعا كما أسلفنا. وإذا.أمكن التوفيق بينهما فيمكن أن يقال أن معرفة الأسماء من حيث هي ليست مطلوبة لذاتها, بل المراد هنا المسميات , حيث إن معرفة الاسم لا تغني دون معرفة المسمى في مقام الثبوت,  نعم معرفة الاسم تكشف عن تعيين المسمى باعتباره عنوانا له ولكنه غيره, فبدون الإحاطة بحقيقة المسمى ولو بالقدر الذي ترتفع به الجهالة لا قيمة لمعرفة الاسم, ونظير ذلك إنّ الناس جميعا على درجة واحدة من العلم باسم الذات الإلهية (الله), ولكن المعرفة التي توصل إلى الله وتجعل العبد يعرف ربه بما يعد بمثله عارفا وموحدا غير متحصلة لدى الكل وهي المعرفة القلبية التي أشار إليها سيد الموحدين علي بن أبي طالب (ع) عندما سئل هل رأيت ربك. فأجاب الإمام (ع) السائل بقوله: (ويحك كيف أعبد ربا لا أراه…)(2) إلى آخر كلامه (ع) وبعبارة أخرى معرفته بما عرف به نفسه لعباده من خلال صفاته الذاتية والفعلية ولو بأدنى التفات إلى ذلك لكي يخرج الإنسان من دائرة الجهل به إلى دائرة العلم به. وحيث إن ادم (ع) تحصل عنده العلم بهذه المسميات التي من جملتها ما عرضهم على الملائكة, فلا يبقى تغاير في الخارج بين الأمرين. فهما في حق ادم على حد سواء بخلاف من صدر منهم الاعتراض

      11- وحدة الأسلوب والمضمون في الآيات الخمسة.

  • إنّ سبب سجود الملائكة لآدم (ع) هو أنه جسد في شخصه كفرد مجموع ما عرضه كنوع وقام مقام الإشارة إليهم والذين هم أهل البيت (ع), والذين لاحت أنوارهم للملائكة فعلموا عندها الغاية من الجعل فاقروا بالسجود, وهو ما حمل إبليس في الوقت ذاته على الحسد فأورثه ذريته ومن سار على نهجه من الناس (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم واّل داود زبورا…)(3) ففي تفسير عن الإمام الصادق: (يا أبا الصباح نحن والله المحسودون)(4). بدلالة انه لا يمكن إن يكون المراد هنا عموم الناس وإلا لكانوا ارفع شأنا ومقاما ممن ذكرتهم الآية من الأنبياء.

 

 

  • الميزان.ج1.ص118
  • نهج البلاغة.خ179.ص258
  • النساء/54 4
  • – البرهان.ج5.ص241

 

 

  • وهذا ما لا يقره عاقل. لأن مقتضى السياق المتضمن معنى الشرط لوقوع الفاء بين المقدم والتالي أنّ الناس هنا من هم في عرض من أشارت الآية إلى أسمائهم من الأنبياء.

13- إنّ دور الإنسان هذا سيتجلى فيما هو ابعد من مجرد صدور ما اعتبرته الملائكة إفسادا وسفكا للدماء,  فأن ذلك وان يكن حاصلا بحكم قانون التنازع وما جبل عليه الإنسان من نزوع إلى التملك والحرص في ذريته, وهو ما يؤدي إلى تصادم المصالح والغايات وبالتالي إلى وقوع ما لا تحمد عقباه, فإنّ تعلق الإرادة الإلهية بالغاية من الجعل هي التي بينت أن التزاحم في ملاك الوظيفة متى ما انتهى لصالح خيريته إذا ما أدرك حقيقة وجوده وقيمة دوره عندها سيكون جديرا بإعمار الأرض والاستخلاف فيها…

14- إنّ آدم (ع) كان مظهرا وتجلّيا لأسماء الله الحسنى, والتي استحق بها الخلافة الإلهية وبهذا دخلت الملائكة في تدبيرها لعالم التكوين تحت سلطة علمه وتدبيره واستمرار هذه التخويل الإلهي لتلك الأشباح التي كانت أنوارا في الأظلة . مع التأكيد هنا على أن المقصود من آدم هنا الموجود الأول والذي عبر عنه حديث الأنوار الذي ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري عندما سأل النبي (ص) أول شيء خلقه الله فقال النبي (ص) : يا جابر: أول شيء خلقه الله نوري ثم خلق منه كل خير. وليس آدم الذي ذكر القرآن خلقه من طين في أكثر من آية. فالنبي (ص) أول موجود في عالم الإمكان. ومحور تجلي الاسماء الحسنى. فلا يعقل أن يكون آدم المذكور في القران له الأسبقية في الخلق. نعم وجوده في عالم النشأة المادية كان من مقتضيات الحكمة أن يمر بالنشآت الوجودية في عالم الخلق والإيجاد عبر التقلب في أصلاب الرجال وأرحام النساء كما في دعاء الزيارة (أشهد أنكم كنتم نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة, لم تنجسكم الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسكم من مدلهمّات ثيابها)(1).  ثم أين مقام آدم (ع) من مقام خاتم الأنبياء حتى يتقدم عليه بمزية أسبقية الإيجاد وبث سر العلم؟.

15- إنّ العلم الذي حصل لآدم (ع) هو معرفة بحقائق الأسماء من دون توسط, أما معرفة الملائكة بها فقد تحقق بالإنباء عن هذه الحقائق بتوسط ادم (ع).

16- إنّ الرواية التي تتحدث  عن أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان نبيا وآدم بين الماء والطين, وتلك التي تتحدث عن البعد الملكوتي لكينونته النورانية وانّه أول الموجودات خلقا إذا ما ضممنا بعضها إلى البعض الآخر فإنّها تقوي وجهة النظر التي عرضناها, كون أحدها يجبر الآخر, والتي بينا فيها أنّ آدم الذي هو موضوع المحاورة إنّما هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. هذا إذا ما علمنا أنّ المحاورة لم تصرح عن هويّة آدم بما يقطع الاحتمال أو الترجيح.

17- إن آدم الذي كان مدار الحوار في الآيات (30-33) من سورة البقرة هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وهو آدم الأول, وهو الذي تعلّم الأسماء كلها, ومن ثم تمّت عملية العرض والإنباء في مرحلة لاحقة من خلال آدم المذكور في ما ورد من الآيات القرآنية بخصوص خلقه من طين وخروجه من الجنة ونحو ذلك من الأحوال المتعلقة بنِشأته. فكان تجليّا للأول ومظهرا له. وعلى هذا التقدير لا تنافي بين استقلالية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التعليم وبين توسط آدم لأنّ النتيجة على كلا التقديرين تؤول إليه. تماما كما هو الحال في مسألة إقرار الملائكة بأنّ علمها من الله في حين أنّ ذلك جرى على يد آدم. لأن نسبة الفعل إلى الفاعل القريب لا يمنع من نسبته إلى فاعله البعيد لأن الثاني هو مفعول للأول, فتكون النسبة بينهما طولية من حيث التأثير والإيجاد والله أعلم.

 

 

 

  • مفاتيح الجنان.ص429

 

 

 

 

مصادر البحث

 

 

  • القران الكريم
  • البحراني. البرهان في تفسير القران. ج5.
  • د. جميل صليبا. تاريخ الفلسفة العربية. ط2. دار الكتاب اللبناني. بيروت. 1973
  • الزمخشري. الكشاف. موقع التفاسير. http://www.altafsir.com
  • الهيثمي. مجمع الزوائد. مكتبة القدسي.1994
  • ول ديورانت. قصة الفلسفة. منشورات مكتبة المعارف. بيروت. ط3. 1975
  • أحمد بن حنبل. مسند أحمد بن حنبل. ج4. مؤسسة قرطبة. القاهرة.
  • الحر العاملي. أثبات الهداة بالنصوص والمعجزات – ج5.
  • حسن حسن زاده آملي. الانسان الكامل في نهج البلاغة. دار روافد. ط1. بيروت. لبنان. 2015
  • الحافظ رجب البرسي. مشارق الأمان ولباب حقائق الايمان.
  • الطبري. جامع البيان في تأويل القران. تح. أحمد محمد شاكر. مؤسسة الرسالة- 2000
  • الطبرسي. مجمع البيان.http://www.ahl_ulbayt.org/Final_lib/index-arabic.ht
  • الطبطبائي. تفسير الميزان. ج1. دار الكتب الإسلامية. ط4. طهران.
  • الكليني. أصول الكافي. ج1. ط1. منشورات الفجر. بيروت- 2007
  • كمال الحيدري. التوحيد. ج2. ط4. دار فرقد للطباعة والنشر. 2004
  • كمال الحيدري. الاسم الأعظم حقيقته ومظاهره. مكتبة فاران. بغداد
  • مرتضى المطهري. الامامة. ط4. مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر. 2007
  • د. محمد جواد مشكور. موسوعة الفرق الإسلامية. ط1. مجمع البحوث الإسلامية. بيروت. 1995
  • محمد جواد المحتصر. دراسات عن سور القران الكريم. ج1. مطبعة الآداب. النجف- 1982
  • محمد باقر الحكيم. المجتمع الإنساني في القران الكريم. مؤسسة تراث الشهيد الحكيم. ط2. العترة الطاهرة. النجف. 2006
  • محمد الغروي. الاسم الأعظم. مؤسسة الاعلمي للمطبوعات. بيروت. لبنان. 1982
  • عباس القمي. مفاتيح الجنان. ط2. مؤسسة التاريخ العربي. 2008
  • عباس القمي. مفاتيح الجنان. ط6. دار التعارف للمطبوعات. 2007
  • الفيض الكاشاني. الآصفى- ج1
  • الفيض الكاشاني. الصافي.ج3.
  • الأصفهاني. معجم مفردات ألفاظ القران. تح. نديم مرعشلي. دار الكاتب العربي. 1972
  • د. صبحي الصالح. نهج البلاغة- ط1- بيروت.1967
  • الصدوق. علل الشرائع. تح. محمد صادق بحر العلوم. 1966
  • الصدوق. الخصال. علي أكبر غفاري. مؤسسة النشر الإسلامي. قم المقدسة- 1430

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                                                                                                                                            

                                                                            أربيل- العراق/ 14 ذي القعدة

                                                       30-8-2015