صدر حديثا كتاب ” المشروع التجديدي المعاصر في مدرسة النجف الأشرف وآثاره “.. للكاتب علاء الحلي عن دار الرافدين
تنصرف مشكلة البحث إلى دراسة مفهوم التجديد، ومدى تطوع ومواكبة هذا المفهوم للمتغيرات الحاصلة في شتى ضروب الحياة، الدينية والسياسية والفكرية والاجتماعية، وذلك من خلال ما بذلته مدرسة النجف الأشرف متمثلة بالسيد محمد باقر الصدر من جهود في سبيل ترسيخ هذا المفهوم. ولذا تنبثق عن هذه المشكلة تساؤلات عديدة سوف تحاول هذه الدراسة، أن تجيب عنها خلال البحث. / تهدف الدراسة إلى تسليط الضوء على مرحلة مهمة مر بها الفكر الإسلامي المعاصر، إذ إن الطريق الأمثل لمعرفة وإدراك جوانب أي فكر لابد أن يمر عبر الشخصيات المؤثرة والفاعلة فيه.
لا شك أن موضوع التجديد في الفكر الإسلامي من المواضيع الدقيقة والشائكة، ويتطلّب التمسك بضوابط صارمة، وقواعد صلبة ليطمئن القائم بعملية التجديد على سلامة نهجه، وليتيقن من صحة نتائجه، إذ تستهدف عملية التجديد المقصودة، الفكر الإسلامي الذي هو فكر يحمل بين طياته كوامن التجديد، والذي لا يطال العقيدة، إذ إن العقيدة لا يجوز فيها الزيادة ولا النقصان ولا التغيير أو التبديل، كما لا يجوز فيها النسخ والتعطيل.
ويعرف التجديد في الفكر الإسلامي: إنه القدرة على التطبيق والقابلية على التنفيذ والمرونة في التعاطي مع الأحداث والوقائع واستيعاب المتغيرات، والحيوية والانبساط و التجدد وليس الانغلاق والانطواء.
وبناءً عليه، فالتجديد في الفكر الإسلامي، هو الامتداد حيث تمتد الحياة والإنسان زماناً ومكاناً وحاجات واهتمامات. كما يُعرّف: إنه تکوین ظروف الاستمرارية . ويعني أيضا: استمرارية الإيمان بصلاحية ذلك الفكر لكي يكون أداة لتوجيه الإنسان وهدايته(1).
من هذا المنطلق، نجد أن مدرسة النجف الأشرف اهتمت بنجديد الفكر الإسلامي، ولم تعتمد على قراءة هذه الظاهرة بشكل سطحي، بل حرصت في تكريسها على أرض الواقع بشكل يتماشى وتطلعات الأوساط المتدينة التوّاقة دوماً إلى الابتعاد عن كل ما يجعل من المعتقد معتقداً كلاسيكياً أو تقليدياً.
ولذا، برزت في مدينة النجف الأشرف مرجعيات دينية تجديدية، تمتعت وما زالت بموقع ديني و اجتماعي وسياسي، إذ مارست أدواراً خطيرة في حركة الأمة وصناعة الأحداث والمواقف، فعلى مستوى السياسة مثلا، شهدت تحولات كبيرة على مستوى الأمة، وذلك عبر توجيهاتها وفتاواها التي أصدرتها في أوقات حساسة فكان لها القول الفصل والحكم القاطع في مجريات الأحداث، وهذا ما يتضح عملياً في المواقف الكبيرة التي تحدد فيها المرجعيات الدينية الموقف الجماهيري المطلوب عبر الفتوى أو الحكم؛ كما حدث مثلا في فتوى الجهاد التي صدرت عن مراجع الدين في العراق عام 1914م، وكذلك في عام 1920، إذ شملت هذه الفتاوی كل المناطق التي تدخل ضمن دائرة محاربة الإنجليز، وحرّمت التعاون معهم.
ووفقا لهذه المعطيات، برزت في مدرسة النجف الأشرف مرجعية السيد محمد باقر الصدر، التي تُعدّ واحدة من المرجعيات الدينية التي ركزت في منهاج عملها على تفعيل حركة التجديد في الفكر الإسلامي وعلى كافة المستويات، إذ ساعدت المواقف والظروف التي عاشتها مرجعية الصدر على إيلاء هذه الظاهرة اهتماماً كبيراً، ابتداء من تجديده في الفقه والأصول إلى التجديد في الخطاب السياسي الإسلامي، والتجديد في إعادة بناء هيكلية الحوزة العلمية، إلى إعادة طرح وتجديد فكرة قيادة الإسلام للحياة من خلال تأكيد الدستور الإسلامي وطرحه مفهوم الدولة الإسلامية عبر مبدأ استخلاف الإنسان في الأرض، إلى نظرية الاقتصاد الإسلامي التي تناولها بدقة، مروراً بتجديده للتّصور الإسلامي في الفلسفة وطريقة طرحه لنظرية المعرفة، إلى تجديد الأسس العقائدية لعلم الكلام والتاريخ….إلخ.
ومن هنا جاءت ريادة باقر الصدر في الفكر الإسلامي المعاصر، فهو صاحب مدرسة تخرج منها علماء و مفکرون و قادة، ولازال الفكر التجديدي الذي بلوره يشكّل جزءا من المادة المعرفية والفكرية الإسلامية، فهو من المجددين والموصلين في الفكر الإسلامي الأصيل، إذ غرف منه كثيرون في أكثر من دولة إسلامية. وربما عُرف الصدر بهذا الجانب أكثر من غيره من الجوانب الأخرى، وهو من الرواد المنفردين فيه.
كما كان له أسلوبه الخاص في النظر إلى الأحكام الشرعية، إذ كان يتناولها ويطرحها بعلاج ذهني منفتح، ويتعامل مع النص وإيحاءاته من غير تحميل أو تطويع، فكان كثيراً ما يلجأ إلى التبسيط والحركية التي تستند إلى الإسلام، فيدفع بأطروحاته إلى المواكبة .
كما يرى أن الظاهرة الإسلامية يجب أن تنطلق إلى مستقبل إسلامي يتحرك فيه المسلم من أجل أن يحقق للحياة مسارها الطبيعي لكي تتقدم مسيرة الإسلام الظافرة، لاسيما إذا ما فعل الاهتمام بالفكر الإسلامي الذي لا يكتفي بالتحليل والنظر للمفاهیم فحسب، بل يحاول أن يعيش في قلب الواقع العملي الذي تندفع فيه الخطوات السائرة على الطريق ليرصدها بدقة وعمق على أساس الواقع وأيجابياته كأسلوب من أساليب تصحيح المسيرة وتعميق التجربة.
تنصرف مشكلة البحث إلى دراسة مفهوم التجديد، ومدى تطوع ومواكبة هذا المفهوم للمتغيرات الحاصلة في شتى ضروب الحياة، الدينية والسياسية والفكرية والاجتماعية، وذلك من خلال ما بذلته مدرسة النجف الأشرف متمثلة بالسيد محمد باقر الصدر من جهود في سبيل ترسيخ هذا المفهوم. ولذا تنبثق عن هذه المشكلة تساؤلات عديدة سوف تحاول هذه الدراسة، أن تجيب عنها خلال البحث.
و هذه التساؤلات تتلخص بـ:
ما هو مفهوم التجديد؟ وإلى أي مدى تعامل محمد باقر الصدر مع هذا المفهوم؟ وبماذا جدّد؟
إلى أي مدى ساهمت هذه الجهود في إخراج المؤسسة الدينية من حالة الجمود والركود الفكري، التي دبت إلى أوصالها في تلك الفترة؟ وما مدى الإفادة من تلك الجهود في الوقت الحاضر؟
ومن هي المرجعيات الدينية في مدرسة النجف الأشرف التي تأثرت بفكر محمد باقر الصدر؟ وكيف ساهمت هذه المرجعيات في ترسيخ مبادئ هذا المفهوم؟
إن الهدف من دراسة المشروع التجديدي في مدرسة النجف الأشرف، هو بیان الجهود الكبيرة التي بذلتها هذه المدرسة العريقة في هذا الإطار، إذ حظيت هذه الجهود بتفاعل المفكرين والمثقفين على أوسع نطاق.
كما تهدف الدراسة، إلى تسليط الضوء على مرحلة مهمة مر بها الفكر الإسلامي المعاصر، إذ إن الطريق الأمثل لمعرفة وإدراك جوانب أي فكر لابد أن يمر عبر الشخصيات المؤثرة والفاعلة فيه.
من هذا المنطلق، ورغبة في المعرفة الدقيقة والتفصيلية لأهم المنعطفات التي مر بها الفكر الإسلامي المعاصر في العراق كان الهدف من دراسة مشروع التجديد المعاصر في مدرسة النجف الأشرف من خلال السيد محمد باقر الصدر، والذي برزت مرجعيته في التاريخ الحديث والمعاصر لهذه المدرسة، لاسيما أن الساحة الإسلامية في العراق كانت بحاجة إلى قيادة دينية، كقيادة محمد باقر الصدر، مما جعل الأنظار تتوجه إليه.
ومما تهدف إليه الدراسة أيضا، هو إثراء المكتبة الإسلامية بصورة عامة، والعراقية على وجه التحديد، خاصة أن هذه الظاهرة لم يدرسها الباحثون بشكل خاص لمعرفة أثر مدرسة النجف الأشرف العريقة من خلال السيد محمد باقر الصدر في التجديد.
تتجلى أهمية الدراسة في المشروع التجديدي لمدرسة النجف الأشرف عبر السيد الصدر، والذي لم يكن محصوراً داخل العراق، بل فُتحت له نوافذ في العالم الإسلامي، وبالتالي، فإنّ هذا المشروع لم ينته باستشهاده، بل استمر بتسديد من الله سبحانه وتعالى وبجهود المرجعيات التي سارت على خطاه.
إن شخصية رسالية كبری؛ كشخصية العالم والمفكر الشهيد محمد باقر الصدر جديرة أن يعكف الباحثون على دراستها؛ ليسلطوا الضوء على مواطن إبداعاته الفكرية والثقافية؛ وليستلهموا سيرته المشرقة وفتوحاته الجهادية وعطاءاته الروحية والعقائدية التي استطاع معها أن يكسر كل الحواجز؛ ويحتل موقعه المتميز في وجدان الأمة كأروع ما يكون عليه الرائد الرسالي مكانة وشموخاً ونفاذاً إلى العقول والقلوب.
كما كان للتراث الفكري الثرّ الذي أغنى به المكتبة الإسلامية أهمية كبرى، إذ أغدق عليها مؤلفات رائعة فتحت آفاقاً واسعة في المعرفة الإسلامية اتّسمت بالأسلوب الرصين والتجديد والأصالة، فجاءت كتاباته في هذا السياق ممنهجة ومؤصلة، تنم عن رؤية ثاقبة وقدرة فائقة في تناول الموضوعات، فضلا عن اتسامها بالطابع الشمولي؛ فكان مؤسساً ومؤصّلاً للخطاب الإسلامي الجديد، إذ لم يقتصر على النقد المنهجي للفكر الغربي وإسقاطه في الفكر الإسلامي فحسب؛ وإنما تجاوز ذلك إلى العمل على إعادة الثقة بالعناصر والمقومات الذاتية الكامنة في تراثه وماضيه. كما جمع إلى جانب المكانة العلمية، خصال الفضل ومكارم الأخلاق، فكان مثالا رائعاً للورع والزهد والتواضع.
من هذا المنطلق وجدنا، أن موضوع: المشروع التجديدي المعاصر في مدرسة النجف الأشرف وآثاره (السيد محمد باقر الصدر رائداً)، من المحاور المهمة التي ركزت عليها دراستنا، لاسيما أن هذا المشروع قد أثر في مرجعيات دينية عديدة، ولذا، يأتي هذا البحث المتواضع، الأول من نوعه في دراسة ظاهرة التجديد في مدرسة النجف الأشرف بشكل عام، وعند السيد محمد باقر الصدر، والأثر المستقبلي لهذا المشروع على وجه الخصوص.
لقد أكتسب السيد محمد باقر الصدر دلائل شاخصة ورمزية مكثفة، تتصل بجوهر المبادئ الإسلامية الداعية إلى الحق والعدالة والحرية، وذلك من ستينيات القرن العشرين، فمنذُ ذلك التاريخ عُرف هذا الرجل بامتلاكه الأهلية العلمية والإيمانية ضمن بنية القيادات المرجعية والفكرية الإسلامية التي ألقت بظلالها على مشرق العالم الإسلامي ومغربه، ليخلف أثاراً مهمة عملت على تطبيقها مرجعيات دينية أخرى فيما بعد، إذ تمثلت هذه المرجعيات بمرجعية السيد محمد محمد صادق الصدر على وجه الخصوص، التي تعتبر الامتداد الحقيقي لمرجعية السيد محمد باقر الصدر في الشمولية والتجديد، والتي انتفت ذات الأثر.
وعليه ستكون حدود دراستنا بدءا من تلك الفترة التي أشرنا إليها، على اعتبار أن تلك الفترة هي التي سطع فيها نجم الصدر، إلى فترة بداية
الثمانينيات من القرن المنصرم، تلك الفترة التي أقل فيها نجم الصدر، ليأتي بعدها محمد صادق الصدر ليكمل الدور حيث انتهى أستاذه، وإلى نهاية القرن العشرين وبالتحديد عام 1999م، إذ يأفل هو الآخر مضرجاً بدم الشهادة.
اعتمدت هذه الدراسة على منهجين أساسيين للتثبت من صحة ما يردُ في البحث، وهي: المنهج التاريخي الوصفي، والمنهج التحليلي
فالمنهج التاريخي الوصفي، تم اعتماده لمعرفة الجذور التاريخية لأفكار مدرسة النجف عبر العصور، ومعرفة الأطروحات الإسلامية الأخرى.
أما المنهج التحليلي، فكان الغرض منه التوصّل إلى جذور التصورات والأطروحات الإسلامية حول مفهوم التجديد بصورة عامة، ولدي مدرسة النجف الأشرف بصورة أخص، إذ إن هذه المناهج تتلاءم وطبيعة الدراسة التي مهمتها قراءة التجديد تاريخياً، ومن ثم تحليل ما يرد من أفكار وأطروحات تحتاج لذلك، ولا يمكن – بحال من الأحوال – أن يُستغني عن هذه المناهج في مثل هذه الدراسة.