كلمة المجاهد الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء في تأبين الميرزا النائيني
- كلمة المجاهد الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء في تأبين الميرزا النائيني
كلمة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء قدس سره في تأبين الميرزا النائيني قدس سره والتي نُشرت في جريدة الكرخ سنة ١٣٥٥ هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
عرفتُ تلك النفس التي هي إلى صقع عالم الملكوت أقرب منها إلى صقع عالم الملك، وبأفق عالم الأرواح المجردة ألصق منها بعالم الأرواح المتعلقة بالمادة.
نعم، عرفته وتعرفت به قبل خمس وأربعين سنة تحقيقاً أي في السنة العاشرة هجرية بعد الألف والثلاثمائة، وكانت أول زيارتي إلى (سامراء) في حياة الآية الميرزا الكبير السيد الشيرازي رضوان الله عليه وكانت تلك البلدة يومئذ مكتظة بأعاظم الروحانيين وأكابر المجتهدين، والحوزة العلمية في كنف أستاذهم الأعظم ـ السيد الشيرازي – وحسن رعايته وكفايته وكفالته بالغةً أوج رفعتها وسنام ابهتها.
نعم دخلتها وأنا جذع السن فتي الشبيبة، ولكنّي قارح الرأي بازل الفكر أعاشر الكبراء وأمارس الشيوخ والأعاظم فأستفيد من درس أطوارهم وأخلاقهم أكثر مما يستفيد تلامذتهم من تدريسهم ودروسهم، أقحمت نفسي الضئيلة في تلك الشخصيات الجليلة، وعرفت الميرزا النائيني وهو يومئذ يناهز الأربعين(۲) من العمر ولكنه مطمح الأنظار ومسرح الأفكار وموضع إشارة الأنامل، وكان يمتاز عن سائر تلك الشخصيات الممتازة بحسن الهندام وجميل البزة، فيلبس من الملابس التي تليق بأهل العلم أجلّها وأجملها وأنظقها وألطفها وهكذا سائر مرافق حياته من طعامه وشرابه ومسكنه وسكناه وعاداته غير مراء ولا مصانع ولا متخوّف ولا متكتم، لأنه كان من أرباب الثروة والنعمة في بلاده، وكانت له المنزلة التي يُغبط عليها عند المرجع الأعلى إذ كان يعدّه من ذوي الرأي والمشورة ويحضره في المهمات التي يحضرها أهل الحل والعقد، وكانت روح سياسة إيران يومئذ منوطة بالروحانيين، ومن بعض شواهد ذلك قضية التنباك الشهيرة.
عرفته وعرفتُ فيه الأخلاق الفاضلة والهمة العالية والنفس الكبيرة، واتصلت به بضعة أيام ثم فارقته قافلاً إلى النجف، وبعد ذلك التاريخ بأقل من سنتين إنتقل الى دار القرار ذلك الناموس الأوحد وفُجع الإسلام بإمام ذلك العصر، وانقطع السلك، فانحل ذلك النظام وتفرّقت تلك الحوزة، وهاجر الأكثر من أولئك الأساطين إلى مختلف الأقطار من إيران والهند والعراق (الكاظمية فكربلاء فالنجف)، فكان فقيدنا اليوم ممن هاجر إلى النجف في حدود الخامسة عشرة بعد الألف والثلاثمائه، ونزل بجوارنا في بعض الدور الأنيقة في ذلك الوقت، واتصلنا به (رضوان الله عليه) أشدّ الاتصال، فكنتُ مع أخي المرحوم حجة الإسلام الشيخ أحمد (رحمة الله عليه) لا يمضي يوم إلا ونجتمع للمذاكرة العلمية إما في دارنا أو داره، وامتدّ جُلّ هذا الاتصال إلى أن ثارت عاصفة الإنقلاب الدستوري في إيران وتأثرتها الدولة العثمانية، فانشقت الحوزة العلمية في النجف إلى فريقين: فريق يرى عدم تدخل أهل العلم في هذه القضية، وأنها مجهولة العاقبة، ولا ثقة بحصول النتيجة الصحيحة، ولا يليق بالروحانيين التقدّم في أمورٍ مجهولة سيما إذا استلزمت إراقة الدماء وتلف الأموال، وخوف إمتداد يد الأجنبي، والفريق الآخر يرى ضرورة تدخل العلماء لإصلاح الحال ونظم المملكة على قوانين عادلة شرعية تناسب عادات البلاد وتقاليدها، ولا بدّ من إغتنام هذه الفرصة.
وكنا نحن من الفريق الأول وهو (قدس الله سره) من الفريق الثاني، حتى ألف كتابه المنشور (تنزيه الملة) الذي أحدث ضجّةً في الأوساط العلمية، فحصل بيننا من ذلك اختلاف في الرأي وتباين في النظر.
وبعد سنواتٍ قليلة جاءت الطامة الكبرى وهي الحرب العامة، فعلت الويلات وتقطعت الأوصال والصلات إلى حدود الأربعين – هجرية ـ ، كل تلك البرهة الطويلة كان الفقيد (رضوان الله عليه) منعزلاً عن الأمور العامة، منقطعاً إلى التدريس والعبادة، وكان قد فُقد المرجعان الأعظمان الحجّتان الخراساني واليزدي، وانتهت النوبة إلى الحجّة الشيرازي الميرزا محمد تقي، وبعد أقل من سنتين فُقد الأخير أيضاً، فكان الميرزا النائيني أشهر المراجع وأظهر الحجج، ولم يمض غير يسير إلا وهو شيخ العلماء وأكبر المجتهدين.
وفي هذه البرهة التي كانت له الزعامة الروحانية عادت مياه الصفاء والمودة بيننا إلى مجاريها، وكان يطفح عليه من الحنان والبشر عند ملاقاته ما ينبئ عن علاقة صميمة ورعاية عهودٍ قديمة. ولما بلغتني الدعوة للحضور في المؤتمر الإسلامي(٣)، ما عوّلتُ إلا على مشورته في الأمر، فاجتمعت معه في مجلس خصوصي، وبعد أن أطلعته على جلية الحال ونشرت لديه كتب الدعوة محضني النُصح وأصاب شاكلة الصواب بلزوم الإجابة، وشجعني على السفر وتفأل لي بالخير، وما اكتفى حتى خرج بنفسه الشريفة لمشايعتي إلى خارج البلد يوم سفري وجلس في السرادق والخيام التي نصبت للمشيعين في ضاحية النجف، وودّعني وداعاً مؤثراً، ودعا دعوات من الصميم، وهكذا خرج للاستقبال عند عودتي من ذلك السفر ، ولم يزل يتلطف بزيارة بيوتنا في البرهة بعد البرهة رعاية للولاء القديم والعهود السالفة.
وكانت كل أحواله وأعماله وعلومه تدلّ على نفس كبيرة ذات قدسية كريمة قليلة النظير أو معدومة المثيل، رفع الله درجته في الفردوس الأعلى، وجبر في مصيبته المسلمين بحفظ الباقين من العلماء الصالحين والمصلحين.
الهوامش
(۱) جريدة الكرخ البغدادية، العدد ٣٦١ ، الخاص بتأبين حجة الاسلام الإمام النائيني) الصادرة بتاريخ يوم الثلاثاء ١٧ جمادى الثانية ١٣٥٥ هـ.ق، المصادف: ۱ أيلول ١٩٣٦ م، في الصفحة الأولى.
(۲) كان عمره (قدس سره) في ذلك العام أربعاً وثلاثين سنة.
(۳) وهو المؤتمر الإسلامي في فلسطين (سنة ١٣٥٠هـ) الذي انعقد ليلة المبعث النبوي الشريف وحضره كبار علماء المذاهب الإسلامية من أغلب الأقطار، واجتمع ما يقارب خمسين ألفاً من المسلمين، فخطب فيهم الإمام محمد حسين كاشف الغطاء خطبة بليغة، ولما نزل من المنبر ائتم به في الصلاة جميع علماء المذاهب الأربعة وغيرهم حتى علماء الوهابية والخوارج، حيث طلبوا منه بأن يكون هو الإمام لهم في جميع الفرائض الخمس مدة بقائهم بالقدس.