الإمام الصادق بين عهدين- الشيخ محمد رضا الشبيبي

الإمام الصادق بين عهدين

كلمة سماحة العلاّمة الكبير

الشيخ محمد رضا الشبيبي

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم

ولِد الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) سنة (83) للهجرة ـ على أصح الروايات ـ في المدينة، وسلخ شبابه حتى بداية كهولته في عصر الدولة الأموية وهذا يعني أنه ولد ولم يمض على وقعة الطف إلاّ نيف وعشرون سنة، أما وقعة الكنّاسة التي استشهد فيها عمه زيد بن علي بن الحسين فقد وقعت بعد ذلك في الكوفة، وفي هاتين الوقعتين ـ كما لا يخفى ـ استشهد عدد غير قليل من العلويين، ومعنى هذا أنّ الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمد وأهل بيته كانوا موتورين بمقتل من قتل من أهل بيتهم في الطف والكوفة ومنهم الوجوه ومنهم الأئمة ولذلك لا نجد فيما نعرفه من كتب السير والتاريخ ما يدل على أنّ الإمام الصادق اتصل بأمراء الدولة الأموية، وقد حاول ساسة الأمويين أن يبذروا بذور الشقاق بين زعماء البيت العلوي فاجتذبوا إلى الشام بعض بني الحسن دون بني الحسين الذي هاله الانحراف عن مبادئ الإسلام وحرماته وصمّم على أن يبذل نفسه وأهل بيته في سبيل إعلاء كلمة الله ورفع راية الحق والعدالة.

لم يناوئ عبد الله بن الحسن وفريق من ذويه وأبنائه حكم الأمويين مناوئة أبناء عمومتهم من بني سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وغيره من أهل بيته الذين ثاروا على تعسّف بني أمية وجورهم أما بنو الإمام الحسن (عليه السلام) ثاروا بعد ذلك على بني العباس دون بني أمية.

لم يقل لنا أحد من المؤرخين أنّ جعفر بن محمد (عليه السلام) حُبس أو أُوذي في محنة العلويين بالمدينة في العصر العباسي كما حُبس أو ضُرب غيره من بني الحسن بأمر من المنصور أو من عامله، وليس معنى هذا السكوت سكوت المؤرخين في الغالب أنّ الإمام سلم من المحنة مطلقاً، والحق أنّ موقفه كان غاية في الدقة بين العلويين الذين يطالبون بحق لهم ويحاولون درء الظلم عنهم وبين العباسيين الذين انقادت لهم الأمور في العراق وخراسان، أي أنّ محنة الإمام كانت من نوع خاص. فإنّه عاش في كثير من الأحيان عيشة مشوبة بالكدر منغّصة بالوعيد والتهديد في عصر أبي العباس السفاح وعصر أخيه أبي جعفر المنصور ويستفاد مما ورد في التاريخ الكامل لابن الأثير عن الخلاف بين بني الحسن عبد الله بن الحسن وولديه محمد المعروف بالنفس الزكية وأخيه إبراهيم من جهة، والعباسيين من جهة أخرى أنّ للإمام الصادق رأياً في الخلاف المشهور صرّح به عندما سُئل عنه فقال: ((فتنة يُقتل فيها محمد ويُقتل أخوه لأبيه وأمه بالعراق وحوافر فرسه في ماء)) فلما قُتل محمد النفس الزكية ـ وما ألطفه من اسم ينطبق على المسمى ـ قبض الأمير العباسي عيسى بن موسى قائد جيش المنصور أموال بني الحسن كلها وأموال جعفر، فلقي جعفر بن محمد المنصور قائلاً: ((ردّ علي قطيعتي، قال: إياي تكلم بهذا والله لأزهقنّ نفسك، قال: فلا تعجل قد بلغت ثلاثاً وستين وفيها مات أبي وجدي وعلي بن أبي طالب وعلي كذا وكذا إن ربتك بشيء، وإن بقيت بعدك إن ربت الذي يقوم بعدك)) ومع صدور هذا العهد من الإمام الصادق للمنصور فإنّه ـ أعني المنصور ـ لم يرد على الإمام قطيعته فردّها المهدي على ولده بعد ذلك.

والواقع أنّ المنصور اطمأنّ لهذا العهد المقطوع له من الإمام وكان صاحبه وفياً كل الوفاء به فلم تأخذ المنصور فيه ريبة على كثرة الوشايات والسعايات، وأكثرها يدور على اتصال أنصاره وأوليائه في الحجاز والعراق وخراسان به وإنهم كانوا يحملون زكاة أموالهم إليه، وقد وضعت على لسانه كتب إلى هؤلاء الأنصار يدعوهم فيها إلى خلع الخلفاء العباسيين بيد أنّ المنصور لم يعبأ بكثير من هذه السعايات لأنّ الإمام إذا وعد وفى، وهكذا سلم أبو عبد الله من القتل ونجا من الحبس، ولم يرتكب معه ما ارتكب مع بعض أعلام أهل المدينة والعراق من أهل البيت وغيرهم في عصر المنصور.

هذا، ومردّ سلامة الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) فيما نرى إلى منهجه البعيد عن العنف في معارضة بني العباس الشبيهة بالموادعة والمهادنة، وإلى أخذ نفسه بالقصد والاحتياط التام يدل على ذلك ردّه للأموال ورفضه للرسائل التي أمر المنصور بكتابتها إليه وإلى غيره من العلويين على لسان أنصارهم وأوليائهم لتكون حجة له عليهم، فالإمام من هذه الناحية منقطع النظير بين العلويين وقد يتوهم متوهم أنّ منهج الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمد والحالة هذه كان منهجاً سلبياً بالنسبة إلى منهج بني عمه الإمام الحسن وذلك في هذه المحنة والواقع غير ذلك، ومن يستبطن أسرار التاريخ ويقف على روح ذلك العصر يتضح له أنّ الإمام كان من رأيه عقم تلك الثورة على الدولة العباسية في مرحلة شبابها وعنفوان قوتها وغلبتها هذا مضافاً إلى ضعف العلويين وإنّ ثورتهم كانت ثورة محلية في الحجاز وفي البصرة بعد ذلك وإن أيّدها أهل العلم والفتوى في العراق والحجاز.

وقد ناقش المنصور العباسي آراء الثائرين عليه من العلويين المذكورين في الحجاز وحاول إبطال حجة الثوار وأراد أن يسوّغ إقدامه على ما أقدم عليه من إراقة دمائهم على تلك الصورة الفظيعة تقول: حاول أن يناقش ثورة العلويين قائلاً: أنّه هو ومن قبله أخوه أبو العباس السفاح وعمه عبد الله بن علي هم الذين شفوا الصدور بأخذ ثار العلويين واستئصال قتلتهم من بني أمية في كل مكان.

هذا وبالإضافة إلى ما تقدم من توضيح موقف الإمام وشرح منهجه وأنه لم يكن منهجاً سلبياً انقطاع الإمام الصادق لبث العلم والأثر النبوي وتأسيس مدرسة العترة في هذا الشأن.

هذا ويميل بعضهم إلى تعليل تلك البادرة، بادرة المحاسنة من قبل المنصور للإمام وقلّة اكتراثه بتلك السعايات بعلل لا يخلو بعضها من المبالغة، وقد يستند بعض الرواة في ذلك إلى روايات ضعيفة لا يصبر أكثرها على النقد والتمحيص.

كان الخطر محدقاً بالإمام الصادق، ما في ذلك شك، ولكنه سلم على كل حال، وكانت سلامته وسلامة كثير من أهل بيته وأصحابه أُعجوبة في الواقع على أنّه لم يسلم إلاّ بشق النفس وتوطينها على كثير من التحرز والتوقي، يدل على ذلك حديثه المشهور بل كلمته البليغة الحكيمة التي قال فيها: ((عزت السلامة حتى لقد خفي مطلبها فإن تكن في شيء فيوشك أن تكون في الخمول، فإن طُلبت في الخمول فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت، والسعيد مَن وجد في نفسه خلوة يشتغل بها)).

ولمّا قُبض الإمام ابنه المنصور قائلاً لبعض أهله وقد دخل عليه: أما علمت بما نزل بأهلك؟: فقلت وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: إنّ سيدهم وعالمهم وبقية الأخيار منهم توفاه الله، فقلت: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: جعفر بن محمد، إنّ جعفراً كان ممن قال الله فيه: (ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) وكان ممن اصطفى الله وكان من السابقين للخيرات.

بغداد

محمد رضا الشبيبي