استعمال التراكيب ذات الدلالة المضاعفة في أدعية نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام

استعمال التراكيب ذات الدلالة المضاعفة في أدعية نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام

الشيخ علي العبادي

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

    تزخر لغتنا العربية الجميلة بخصائص رائعة كثيرة منها خاصية التنوع التعبيري للمتحدث والذي يؤدي بدوره إلى إبراز معاني جديدة متنوعة ومتكثرة يبتغي من ورائها إظهار معان لايمكن حصولها لولا هذا الاستعمال الذي لجأ إليه.

    والقرآن الكريم زاخر بمثل هذه الخصائص الغنية التي تناولتها سوره المباركة وآياته الكريمة.وقد تكون أدعية نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام واحدة من أهم مواطن ذلك الإبداع اللغوي والبلاغي التعبيري. وليس ذلك بغريب بعد أن نعلم أن الأنبياء عليهم السلام هم سادة البشر وأقدرهم على استعمال اللغة بأروع صيغة للتعبير عن مكنون خواطرهم وأهدافهم وغاياتهم.  

    وقد ذكرنا في أبحاث سابقة بعضا” من تلك الخصائص. وفي هذا البحث نذكر خاصية أخرى وهي استعمال التراكيب ذات الدلالة المضاعفة في أدعية نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام في موضعين اثنين:

الأول: ما جاء في دعائه عليه السلام حيث قال :

{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } إبراهيم37.

ففي وصفه عليه السلام للوادي بأنه (غير ذي زرع) واستعماله هذا التركيب مع انه من الممكن أن يقول: (غير مزروع) فيه دلالة أوكد على ما أراد بيانه من حال الوادي الذي أسكنه أهله. وقد بين السيد محمد حسين الطبأطبائي ذلك المراد في قوله:

( والمراد بغير ذي زرع غير المزروع، وهو أوكد لأنه يدل على ماقيل عدم صلاحيته لأن يزرع لكونه أرضا” حجرية رملية خالية عن المواد الصالحة للزرع. وهذا كقوله: { قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } الزمر28) (1)

 حيث يمكن أن يرى المتأمل الفرق الكبير والواضح بين الاستعمالين، ففي الاستعمال الثاني (غير مزروع) فيه دلالة واحدة بسيطة وهي كون الوادي ليس فيه زرع ليس إلا. أما استعمال النبي الخليل عليه السلام فيدل بالإضافة إلى كون الوادي خالي من الزرع على عدم صلاحية ذلك الوادي للزراعة أصلا”.

فمثلما أن القرآن الكريم ليس فيه اعوجاج بل لايمكن أن يكون فيه اعوجاج ،كذلك هذه الأرض ليس فيها زرع ،بل ولايمكن أن تكون صالحة للزراعة.

    وعلى هذا يكون استعمال النبي الخليل عليه السلام للصيغة الجديدة أراد منه إظهار دلالة تعبيرية لم تكن الصيغة الأولى قادرة على إبرازها.

الثاني:  وهناك صيغة أخرى استعملها النبي الخليل عليه السلام ولها معنى تعبيري مميز وهي في قوله تبارك وتعالى:

 { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } البقرة127 . حيث جاء طلب القبول بصيغة (التفعل) . فلم يقل عليه السلام( ربنا أقبل منا) بل قال : (ربنا تقبل منا) .

وقد أشار الرازي في تفسيره إلى ذلك بقوله: ( وقال العارفون فرق بين القبول والتقبل. فإن التقبل عبارة عن أن يتكلف الإنسان في قبوله. وذلك إنما يكون حيث يكون العمل ناقصا” لايستحق أن يقبل. فهذا اعتراف منهما بالتقصير، والاعتراف بالعجز والانكسار.) (2).

 وليس ذلك إلا لأن الأنبياء عليهم السلام لايرون قيمة لعملهم أمام الله تبارك وتعالى مهما كان هذا العمل كبيرا” أو مهما”. فأنهم يرون ذلك قليلا” بل لاشيء أمام إفاضات الباري عز وجل بالوجود. فيطلبون من الله القبول بتكلف منه تعالى. إذ أن هذا العمل بنفسه لايستحق شيء من القبول وهو الثواب والمجازاة مالم يتوجه له المولى تعالى يشيء من العناية والرعاية.

    ولعل هذا هو الذي دفع الخليل عليه السلام على عدم ذكر متعلق القبول. حيث إنا لم نجد ذكرا” له وهو بناء البيت العتيق في نفس الآية المباركة { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ }. وفي ذلك إشارة واضحة إلى تواضعه مع ولده إسماعيل عليهما السلام. لدرجة لايرى ضرورة لذكر ذلك العمل الكبير والمضني، وما سيكون عليه من الأهمية في حياة البشرية إلى يوم القيامة. ولذلك أشار السيد الطبأطيائي في ميزانه:

( وفي عدم ذكر متعلق القبول – وهو بناء البيت – تواضع في مقام العبودية واستحقار لما عملا. والمعنى: ربنا تقبل منا هذا العمل اليسير) (3).

ولنفس هذا المعنى أشار السيد عبد الأعلى السبزواري في مواهبه إذ يقول قدس سره: ( وفي حذف المتعلق تحقير للعمل والنفس في مقابل العظيم المتعال جل شأنه وهذا من أدب خليل الرحمن مع الله عز وجل في دعواته) (4).

    ولأن السيد العارف بالله السبزواري يغور في عمق المعاني المتصورة من ظاهر الألفاظ وبواطنها  وخاصة” عندما تصدر من الأنبياء تجاه المولى تبارك وتعالى فقد رأى معنا” آخر أكثر عمقا” لاختيار خليل الله عليه السلام لفظة ( تقبل) ومستوى أكثر عمقا”مما ذكر المفسرون. يقول رضوان الله عليه:

( وفي لفظ – تقبل – إشارة إلى كثرة توجهه عليه السلام إلى جنة اللقاء ومقام الرضا كما طلبه في دعائه الآخر: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء } سورة إبراهيم الآية40فإن مقامه (عليه السلام) أرفع من أن يطلب قبولا” يوجب الحور والقصور فقط ) (5).

ويبدو أن الخليل عليه السلام أراد تحقيق مستوى آخر من استعماله هذا اللفظ. إذ لم ينظرالى عمله مطلقا” حتى يطلب به ثوابا” بل نظر إلى ساحة المولى تعالى وكرمه ، فرمى بنظره إلى مايسره في الآخرة وهو ليس مايطلبه الغير من القصور والحور العين مقابل طاعاتهم وحسناتهم، بل إلى جنة اللقاء معه تبارك وتعالى والقرب إلى جواره والأنس به. وهذا هو مطلب الأنبياء والأولياء وجل غاياتهم مع خالقهم وربهم عز وجل.

    فيتضح مما تقدم إضافة” إلى جمالية التعبير واختصاره ما في هذا التعبير والصيغة من دلالة مركزة على استحقار الذات والعمل على حد سواء أمام الله سبحانه وتعالى من قبل نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام مع علو منزلته وعظيم تفانيه في طاعة الله عز وجل وتنفيذ أوامره.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وجميع الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين.

_________________________

(1)  تفسير الميزان :للسيد محمد حسين الطبأطبائي:  12\74.

(2) التفسير الكبير: الرازي: 4\64.

(3) تفسير الميزان: 10\286.

(4) مواهب الرحمن في تفسير القرآن: السيد عبد الأعلى السبزواري:2\36. 

(5) المصدر: الجزء والصفحة.