في ظلال الآيات (22)

في ظلال الآيات (22)

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} البقرة: 194.

في هذه الآية الكريمة ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: حول حرمة الأشهر الحرم.

المبحث الثاني: حول مبدأ القصاص.

المبحث الثالث: حول مفهوم التقوى وعلاقتها بالعدالة حتى مع العدو.

وسنعرض لها على التوالي انشاء الله، وقبل ذلك نذكر هذه المقدمة، وهي أن هناك ظرفان لا يحل بل يحرم فيهما القتل والقتال، الأول ظرف مكان وهو الحرم المكي، كما قال تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (البقرة:191)، وحدود هذا الحرم 80كم تقريبا حول المسجد الحرام.

والظرف الثاني ظرف زمان، وهو الأشهر الحرم التي تعرضت له الآية محل البحث، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} (البقرة:217)، وسيأتي بيانها.

وقد تتضاعف الحرمة إذا تداخل الظرفان، كما لو كان الفرد في مكة وحل عليه الشهر الحرام، فإن الحرمة تكون مؤكدة في حرمة سفك الدم… ولذلك جاءت الروايات متظافرة في أن من قتل ولجأ إلى الحرم لا يقتل فيه، بل يضيق عليه ولا يطعم ولا يسقى حتى يخرج منه، نعم لو أنه ارتكب جريمته داخل الحرم فلا حباً ولا كرامة، ويقتل ولو كان في الحرم.. كما سيأتي بيانه..

نعود الآن إلى مباحث الآية: 

المبحث الأول: حول حرمة الأشهر الحرم.

واحدة من المسائل المحمودة التي كانت عند العرب قبل الإسلام، وأقرها المشرع الإسلامي، هي مسألة الأشهر الحرم، وهي أربعة، واحد فرد وهو: (رجب)، وثلاثة سرد وهي: (ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم)، وتسمى بالأشهر الحرم؛ لأن القتال فيها محرم، وإنما جعلها العرب حُرُم، لأجل أن تأمن السابلة، ويستطيع الناس زيارة البيت العتيق الذي كان مقدساً لدى الجميع.. وذلك لكثرة سفك الدماء والثارات فيما بينهم.

وفي المقطع الأول من الآية حيث يقول تعالى:  {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ}، يعني إذا كان عدوكم يحترم الشهر الحرام فعاملوه كذلك، أما إذا لم يكن للشهر حرمة عنده وأرد استغلال فرصة أنكم لا تقاتلون في الأشهر الحرم، فلا ينبغي التواني عن ردعه حتى في الشهر الحرام، وهو ما قد يلوح مما ذكر في سبب نزول الآية.  

هذا وقد ذكر الشيخ الطوسي في سبب نزوله قولان:

الأول: إن قريشاً فخرت بردها رسول الله صلى الله عليه وآله – يوم الحديبية – محرماً – في ذي القعدة – عن البلد الحرام، فأدخله الله عز وجل مكة في العام المقبل في ذي القعدة، فقضى عمرته، وأقصّه بما حيل بينه وبينه يوم الحديبية.

الثاني: إن مشركي العرب قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله: أَنُهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟

قال ’ نعم.

فأراد المشركون أن يغزوه في الشهر الحرام، فيقاتلوه، فأنزل الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} أي إن استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئا، فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم[1].

ولهذا قال تعالى بعد ذكر القصاص: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}، وعن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله × عن رجل قتل رجلا في الحل ثم دخل الحرم.

فقال: لا يقتل ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع ولا يؤوى حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه الحد.

قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟

قال: يقام عليه الحد في الحرم صاغرا إنه لم ير للحرم حرمة، وقد قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}[2].

المبحث الثاني: حول مبدأ القصاص.

قال تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}، الحرمات: هي الأشياء المحترمة التي يحرم التعدي عليها من دون حق، كالدم والمال والعرض والأرض والمقدسات.

القصاص: مأخوذ من المقص، قال ابن منظور: (والمِقَصُّ: ما قصَصْت به أَي قطعت، قال أَبو منصور: القِصاص في الجِراح مأْخوذ من هذا إِذا اقْتُصَّ له منه بِجِرحِه مثلَ جَرْحِه إِيّاه أَو قتْله به)[3]، والمراد أن مَنْ أُخذ منه حقه إذا استرجعه من خصمه والجاني عليه كأنما قطع وقص حقه واسترده.

والقصاص مبدأ إسلامي عام وله عدة مستويات:

المستوى الأول: قصاص الأعضاء، كما لو فقأ شخصٌ عين شخص آخر.

المستوى الثاني: قصاص النفس، كما لو قتل شخص شخصا آخر.

المستوى الثالث: القصاص الإجتماعي، كما لو أن أمة أو جماعة اعتدوا على جماعة آخرين.

وموضوع الآية منصب على المستوى الثالث، أما المستوى الأول والثاني فيمكن بحثهما في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:179).

أو في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} (البقرة: 178).

وكذلك في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (المائدة:45).

المبحث الثالث: حول مفهوم التقوى وعلاقتها بالعدالة حتى مع العدو.

بعد أن ذكرت الآية مبدأ القصاص، وأن الإعتداء ينبغي أن يرد بالمثل بلا زيادة، لأن الزيادة تكون ظلماً، فمثلاً من فقأت منه عين واحدة لا يجوز له أن يفقأ عيني من اعتدى عليه، نعم يجوز له أن يفقأ عين من عيني صاحبه، كما يجب أن تكون هي هي، أي لو أن الخصم فقأ عينه اليسرى، فلا يجوز أن يفقأ العين اليمنى وله أن يفقأ اليسرى.

ومن هنا ذكَّرت الآية الشريفة بالتقوى فقالت: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، ولو تقدمنا خطوة لوجدنا أن بعض النصوص تحبب العفو والصفح، ومن ذلك:

ـ قوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} البقرة: 237.

ـ وقوله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} التغابن 14.

ـ وقوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} النور: 22.

وهذا المعنى يتأكد فيما لو كان الخصم مؤمناً.. فذيل الآية أذن يريد التأكيد على أن التقوى هي طاعة الله الذي لا يريد لهذا الإنسان إلا الخير والرحمة، ومن هنا عندما يُسأل الإمام الصادق  عن التقوى يقول × ـ بحسب الرواية ـ: أن لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك[4]، وإن من أوضح الواضحات أن الله تعالى قد أمر بالصفح والعفو والتسامح كما تقدم.

ومن ذلك كله يتبين أن الإسلام هو دين الرحمة والعدل حتى مع الخصم حيث لا يجوز ظلمه والإعتداء عليه.. وإن مما يؤسف له أن شرذمة من هذه الأمة يتجاوزون كل حرمات الله، ويعبرون كل الخطوط الحمراء كما يعبرون، ويسفكون الدم الحرام في الشهر الحرام، ويقتلون سيد شباب أهل الجنة، كما قال الشاعر[5]:

يا فـرو قومـي فاندبـي خير البـرية في القبور

وابكي الشـهـيد بعبرة من فيض دمع ذي درور

وارث الحسين مع التفجع والتـأوه والـزفـــير

قتلوا الحـرام من الأئمة في الحـرام من الشـهور

 

 

 



[1] التبيان للطوسي، ج2ص150.

[2] وسائل الشيعة، للحر العاملي، ج4ص228.

[3] لسان العرب لابن منظور: ج7ص73.

[4] بحار الأنوار للمجلسي، ج67ص285.

[5] عامر بن يزيد بن ثبيط العبدي البصري.