في ظلال الآيات حلقة(43)

في ظلال الآيات حلقة(43)

الشيخ عبد الرزاق النداوي

 

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (الأَحقاف:15).

جاءت الوصية بالوالدين في ثلاث آيات قرآنية، في حين يوصي الوالدين بالأولاد مرة واحدة وفي مسألة جانبية، سيأتي بيانها.

أما نصوص الوصية بالوالدين:

(1) {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان:14).

(2) {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنْكبوت:8).

(3) والآية محل البحث: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (الأَحقاف:15).

أما الوصية بالأولاد ففي قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النساء:11)، لا حظ الوصية هنا ليس بالأولاد ذاتاً، بل بالحق الذي فرضه الله لهم، بمعنى لا يحل للوالدين أن يحرما بعض الأبناء من الميراث، وبعبارة أخرى إن الوالد أو الوالدة ليسا بحاجة للوصية بأولادهم؛ لأن الأولاد بالنسبة للوالدين كالقطعة منهم، كما ورد في الحديث عن النبي ’: (أولادنا أكبادنا، صغراؤهم أمراؤنا، كبراؤهم أعداؤنا، فإن عاشوا فتنونا، وإن ماتوا أحزنونا)([1])، ومهما كان حزن الولد على فقد الوالد فإنه لا يبلغ عشر معشار فقد الولد.   

وبالعود الى صلب الموضوع، ففي الآية محل البحث، خمسة مباحث:

الأول: في الوصية.

الثاني: الكره في الحمل والوضع.

الثالث: الحمل والفصال.

وسنعرض لها على التوالي:

المبحث الأول: في الوصية.

وبملاحظة نصوص التوصية بالوالدين يتبين أمور:

الأمر الأول: إن الآية الأولى من سورة لقمان جاءت التوصية فيها مطلقة، حيث يقول تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ}، ولم يبين الوصية بماذا، كما لم يصفها.. حيث جاء بعدها مباشرة: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}، ومن ذلك نفهم أن الوصية بكل ما هو خير وحسن، ويمكن أن تكون الآيات الأخرى قرينة على المراد من الوصية.

أما الآية الثانية ـ من سورة العنكبوت ـ فقد جاءت الوصية موصوفة بالحُسن، حيث يقول تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}، وحسنا: مصدر من فعل ثلاثي هو (حَسُنَ)، قال الطباطبائي: والتقدير: ووصينا الانسان بوالديه توصية حسنة أو ذات حسن، أي أمرناه أن يحسن إليهما وهذا مثل قوله : {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة 83)([2]) .

أما الآية الثالثة ـ وهي محل البحث ـ {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} فالإحسان مأخوذ من فعل رباعي هو (أحسن)، مثل: أكرم يكرم إكراماً، وقد ثبت في محله ـ من علم البيان ـ أن زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى، فـ (أحسن) يزيد على (حسُن) حرفا كما هو واضح، مما يدل على أن هناك معنى إضافي، وهو التأكيد والتشديد على المعاملة بالحسنى مع الوالدين، فكأنما قيل: وصينا الإنسان أن يحسن إلى والديه إحساناً، وعلى هذا التقدير يمكن أن تكون (إحسانا) مفعول مطلق.  

الأمر الثاني: في معنى الوصية، قال الراغب: (الوصية التقدم إلي الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ)([3])، وقد يقال: لماذا قال: (يوصيكم) وهذا التعبير لا يشعر بالإلزام مثل ما لو قال: (يأمركم)، خصوصا بعد ملاحظة أننا قرأنا في الفقه أن الموصى إليه غير ملزم بتنفيذ الوصية إلا أن يقبل أن يكون وصياً أولاً.

وفي مقام الجواب نقول:

أولا: إن وصية الله غير وصية البشر، وقياس إحداهما على الأخرى قياس مع الفارق، ذلك أن وصايا الله تعالى فيها ما هو أخلاقي وغير الزامي، ولكن أيضا فيها ما هو إلزامي سواء رضي الطرف الآخر أم أبى.

ثانيا: وبالعود الى قواميس اللغة نجد أن الوصية في اللغة معناها العهد، قال ابن منظور: (وَصّى الرجلَ ووَصَّاه: عَهِدَ إِليه)([4])، والعهد فيه نوع مسؤولية وإلزام، كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (الإسراء:34)، وقال في لسان العرب أيضاً: ({يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (النساء:11)؛ معناه يَفْرِضُ عليكم لأَن الوَصِيَّةَ من الله إِنما هي فَرْض، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} (الأَنعام 151)؛ وهذا من الفرض المحكم علينا)([5]).

ثالثاً: وبملاحظة السياق الذي جاءت به هذه الوصايا ندرك أنها إلزامية، فالآية من سورة العنكبوت جاء في ذيلها: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (لقمان:14)، لاحظ: (اشكر)، فعل أمر، والأمر ظاهر في الوجوب كما ثبت في علم الأصول، كما أن التعبير بـ{إِلَيَّ الْمَصِيرُ} يشم منه التحذير والتهديد من التقصير في الالتزام الوصية.

وفي الآية من سورة العنكبوت، جاء في الذيل {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنْكبوت:8)، وهذه كسابقتها من التذكير بيوم الوعيد.

وفي الآية من سورة الأحقاف ـ التي هي محل البحث ـ أيضا جاءت في سياق التذكير بيوم الوعيد حيث يقول تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ * وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} (الأَحقاف:15-18).

رابعا: وإذا رجعنا الى الآيات المتعلقة ببر الوالدين نجدها جميعا أوامر، فيمكن أن تكون بمجموعها قرينة على أن الوصية إلزامية، وقد نوهنا قبل قليل أن الأمر ظاهر في الوجوب، وخير قرينة على ما أردنا قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء:23-24).

فلاحظ أن قرن الإحسان للوالدين بعبادة الله التي هي أمر إلزامي قطعي ثابت في عهدة الإنسان يثاب عليها ويعاقب على تركها، يعطي معنى الإلزام بالإحسان للوالدين، مضافا الى أنه جاء في سياق أوامر ونواهي: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}، {وَلَا تَنْهَرْهُمَا}، {وَقلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}، {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.

والأمر الحاسم في هذه النقطة ما جاء في سورة الأنعام حيث يقول تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الأَنعام:151)، فإن من يقرأ هذا النص لا يشك قيد انملة أن المقصود بالوصية هنا أوامر إلزامية.

خامساً: ومن المؤكد أننا في أي مطلب قرآني قد يبدو غير واضح لابد من الرجوع لأهل البيت ^ لمعرفة جلية الحال، وأهل البيت أدرى بالذي فيه، وكلمات أهل البيت تدل على أن البر بالوالدين من الأحكام الإلزامية.  

 

 

الأمر الثالث: في إطلاق الوصية لعموم الإنسان وليس للمؤمنين أو للمسلمين أو للموحدين، حيث قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ}، دليل على أن البر بالوالدين من الأمور التي حثت عليها جميع الشرائع، كما أنه يدل على أن هذا الحكم من الأمور الفطرية والعاطفية التي جبلت عليها النفوس ويذعن لها حتى غير أهل الدين([6])، ولعله لهذا السبب جاءت التعبيرات بعنوان الوصية التي فيها جنبة وعظ ولين، ولم تأت بلهجة شديدة… ولعله أيضا لهذا السبب جاءت الوصية بالوالدين في الروايات الشريفة بطريقة محببة وعاطفية…

المبحث الثاني: في معنى الكره في الحمل والوضع.

قال الطباطبائي: (ثم عقبه سبحانه  بالإشارة إلى ما قاسته أمه في حمله ووضعه وفصاله إشعار بملاك الحكم وتهييجا لعواطفه وإثارة لغريزة رحمته ورأفته فقال : {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} أي حملته أمه حملا ذا كره أي مشقة وذلك لما في حمله من الثقل ، ووضعته وضعا ذا كره وذلك لما عنده من ألم الطلق)([7]).

أقول: لا ريب أن الأم تقاسي الكثير من الآلام والضعف الذي يهد كيانها من خلال الحمل والوضع والذي أشارت له الآية من سورة لقمان: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} (لقمان:14)، مضافا الى السهر والتعب والرضاع بعد الولادة، كل ذلك جعل الشرع يعطيها من المكانة ما تتقدم به على الوالد، فعن أبي عبد الله × قال: جاء رجل إلى النبي ’ فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك([8]).

وفي رسالة الحقوق عن الإمام زين العابدين ×: (فحق أمك فان تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحد أحدا وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحدٌ أحدا، وأنها وقتك بسمعها وبصرها ويدها ورجلها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها مستبشرة بذلك، فرحة، موابلة([9])، محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمها، حتى دفعتها عنك يد القدرة، وأخرجتك إلى الأرض، فرضيت أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ، وتظلك وتضحى، وتنعمك ببؤسها وتلذذك بالنوم بأرقها، وكان بطنها لك وعاء، وحجرها لك حواء، وثديها لك سقاء، ونفسها لك وقاء، تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك، فتشكرها على قدر ذلك، ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه)([10]).

وفي قصة لطيفة اختصمت عربية مع زوجها في أيهما أكثر حقا على الولد، فقال الزوج: أنا حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه.

فقالت: إن كنت حملته قبلي فقد حملته حملا خفيفا دون ما تشعر به، وأنا حملته كرها ثقيلاً وهنا على وهن، وإن كنت وضعته قبلي فقد وضعته وأنت في أوج اللذّة، أما أنا فقد وضعته وأنا في أوج الألم والوهن.

فما أبلغ وأجمل ما قالت.   

المبحث الثالث: الحمل والفصال.

قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}.

الفصال: هو الفطام والمنع من الرضاع، وكأنه مأخوذ من الفصل بين الطفل والثدي، وأطلق هنا على لازمه وهو الرضاع، من باب تسمية الشيء باسم لازمه، وفي الآية الشريفة جمع لمدتي الحمل والرضاع {ثَلَاثُونَ شَهْرًا}، وقد بين في سورة لقمان أن الفصال عامين {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (لقمان:14)، وحث في سورة البقرة أن يكونا كاملين {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (البقرة 233).

وعلى أية حال بحذف الحولين (24) شهراً من (30) شهرا مجموع المدتين يبقى (6) أشهر وهي أقل مدة للحمل، ولا يمكن أن يولد طفل بحمل أقل من ستة أشهر إلا أن يكون سقطاً.

وفي هذا المجال وقعت حادثتان واحدة في عهد عمر والأخرى في عهد عثمان، وكان القول الفصل فيهما لأمير المؤمنين ×.

قال الرازي: (روي عن عمر أن امرأة رفعت إليه، وكانت قد ولدت لستة أشهر، فأمر برجمها، فقال علي: لا رجم عليها، وذكر الطريق الذي ذكرناه([11])، وعن عثمان أنه هم بذلك، فقرأ ابن عباس عليه ذلك)([12])، ومن المعلوم أن ابن عباس أخذ عن أمير المؤمنين ×.

وقال الأميني: (أخرج الحافظان ابن أبي حاتم والبيهقي عن الدئلي: أن عمر بن الخطاب رفعت إليه امرأة ولدت لستة فهم برجمها، فبلغ ذلك عليا فقال: ليس عليها رجم، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأرسل إليه فسأله فقال: قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} فستة أشهر حمله وحولين فذلك ثلاثون شهرا، فخلى عنها.

وفي لفظ النيسابوري والحافظ الكنجي: فصدّقه عمر وقال: لولا علي لهلك عمر.

وفي لفظ سبط ابن الجوزي: فخلى وقال: اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب([13]).

و(أخرج الحفاظ عن بعجة بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له تماما لستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان فأمر بها أن ترجم، فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه فأتاه فقال: ما تصنع؟ ليس ذلك عليها قال الله تبارك وتعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}، وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، فالرضاعة أربعة وعشرون شهرا والحمل ستة أشهر، فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، فأمر بها عثمان أن ترد فوجدت قد رجمت، وكان من قولها لأختها: يا أخية لا تحزني فوالله ما كشف فرجي أحد قط غيره، قال: فشب الغلام بعد فاعترف الرجل به وكان أشبه الناس به…)([14]).

أقول: وفي الأخبار ما يدل على أن ولادة الحسن والحسين ÷ كانت لستة أشهر، ولهذا جاء في بعضها أن الزهراء × لما حملت بالحسين × وأخبرها النبي ’ بقتله كرهت حمله ووضعه، وكأنها كرهت ما يحل به، كما روي عن أبي عبد الله: (لم تر في الدنيا أم تلد غلاما تكرهه ولكنها كرهته لما علمت أنه سيقتل، قال: وفيه نزلت هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}.

  وفي رواية أخرى: ثم هبط جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويبشرك بأنه جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية، فقال: إني رضيت، ثم بشر فاطمة عليها السلام بذلك فرضيت([15]).

 

 

 

 

 



[1])) البحار، 101ص97.

[2])) الميزان للطباطبائي، ج16ص103.

[3])) مفردات الراغب، ص525.

[4])) لسان العرب، ج15ص394.

[5])) ج15ص395.

[6])) لاحظ النص الآتي حيث جاءت التوصية ببر الوالدين في سياق الحديث مع المشركين: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الأَنعام:148-151).

[7])) الميزان، ج18ص201.

[8])) الكافي، ج2ص160.

[9])) مواضبة.

[10])) تحف العقول، ص263.

[11])) يعني الجمع بين الآيات.

[12])) تفسير الفخر الرازي، ج28ص15.

[13])) الغدير، ج6ص93.

[14])) الغدير، ج6ص94.

[15])) البحار، ج66ص266.