الاستحسان- جعفر السبحاني

الاستحسان

الاستحسان من مصادر التشريع لدى المالكيّة ، وقد روي عن الإمام مالك أنّه قال : «الاستحسان تسعة أعشار العلم» خلافاً للشافعي حيث رفضه وقال : «من استحسن فقد شرّع» وربما يُفصّل بين الاستحسان المبنيّ على الدليل ، والاستحسان المبنيّ على الهوى والرأي ، ومع كونه أصلاً معتبراً لدى المالكيّة وغيرهم ، فلم يُعرَّف بوجه يكون مثلَ القياس ، واضحَ المعالم ، فإنّ الاستحسان ضد الاستقباح ، وتعالى التشريع الإسلامي أن يكون تابعاً لاستحسان إنسان أو استقباحه من دون أن يكون له رصيد من الشرع والعقل ، ولا يصحّ الإفتاء إلاّ بما دلّ الدليل القطعي على حجّيته ، والاستحسان بما هو هو ، ليس عِلْماً ولا ظنّاً يدل دليل قطعي على حجّيته ، كلّ ذلك يبعثنا إلى تحقيق مراد القائلين من كونه دليلاً فقهياً كسائر الأدلّة ، واللازم هو الإمعان في موارد استعماله.

أقول : مع ما عُرّف الاستحسان بتعاريف كثيرة أكثرها خاضعة للسجع دون بيان الواقع نظير ما يحكى عن الحاكم الذي كتب إلى قاضي قم بقوله :

أيّها القاضي بقم
 
  قد عزلناك فقم
 

 

 

ولذلك قال القاضي المعزول ما عزلني إلاّ وحدة القافية ، وإن شئت فأمعن النظر في هذه التعاريف ، فكأنّ الغاية فيها هو حفظ السجع دون تفهيم المراد.

  1. الاستحسان : ترك القياس ، والأخذ بما هو أوفق للناس.
  2. الاستحسان : طلب السهولة في الأحكام ، فيما يبتلى به الخاص والعام.
  3. الاستحسان : الأخذ بالسعة ، وابتغاء الدعة.
  4. الاستحسان : الأخذ بالسماحة ، وانتفاء ما فيه الراحة.
  5. الاستحسان : هو الالتفات إلى المصلحة والعدل.

فإنّ هذه التعاريف لا تُوضح حقيقة الاستحسان ، فالذي يمكن أن يكون محطاً للنزاع هو ما سنذكره عن قريب.

وقبل استعراضه يجب أن نركّز على نكتة وهي انّ ظاهر القائلين بالاستحسان عدّه دليلاً مستقلاً وراء الكتاب والسنّة والإجماع والعقل. ووراء القياس والاستصلاح (المصالح المرسلة) وسد الذرائع وفتحها وغيرها لكنّه في أغلب الموارد يرجع إلى أحد الأدلة المذكورة كما سيتضح عن قريب.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يُطلق ويراد منه أحد المعاني التالية :

الأوّل : العمل بالرأي والظن

قد يطلق الاستحسان ويراد منه العمل بالرأي فيما جعله الشارع موكولاً إلى آرائنا ، ويظهر هذا من السرخسيّ في أُصول فقهه ، كما في مورد تمتيع المطلقة غير المدخول بها قال سبحانه : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً

 

بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ). (1)

ونظيره قوله سبحانه في مورد رزق الوالدات وكسوتهنّ ، قال سبحانه : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (2) فقد ترك الشارع تعيين كيفية التمتيع وتقدير المعروف بحسب اليسر والعسر إلى آرائنا. (3) وهو يختلف حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.

والاستحسان بهذا المعنى ، عمل بالظن في موضوع من الموضوعات ، كالعمل به في سائر الموارد الذي جعل الظن فيه حجّة ، فلو قام دليل على حجّية مثل هذا الظن يتمسك به ويقتصر على مورده سواء استحسنه المجتهد أم لا ، وإلاّ فلا. وتسمية مثل هذا استحساناً أمر مُورِث للاشتباه.

على أنّ المرجع في هذه الموارد هو عرف البلد لا رأي القاضي ولا المجتهد كما هو واضح ، ولذلك يختلف مقدار تمتيع المطلقة ونفقة الزوجة حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.

الثاني : العدول من قياس إلى قياس أقوى منه

وقد يطلق ويراد منه العدول عن مقتضى قياس ظاهر إلى مقتضى قياس أقوى منه ، وهذا هو الذي نقله أبو الحسين البصري عن بعضهم ، فقال : العدول من موجب قياس إلى قياس أقوى منه. (4)

 

وعلى هذا لا يكون الاستحسان دليلاً مستقلاً ويكون مرجّحاً لتقديم القياس الأقوى على غيره كما هو الحال في سائر الأدلّة حيث يقدم الأقوى على غيره ، كالخاص على العام ، والمقيّد على المطلق ، وهكذا ، ولو أُريد من الاستحسان هذا فمثله لا يليق أن يقع موضع خلاف بين القائلين بحجّية القياس كمالك والشافعي ، فالجميع على تقديم أقوى الدليلين على الآخر من غير فرق بين القياسين أو الدليلين.

الثالث : العدول من مقتضى قياس جلي إلى قياس خفي

يطلق الاستحسان ويراد منه ، العدول من مقتضى القياس الجلي إلى قياس خفي. (5) وهذا هو الذي يظهر من الأُصولي المعاصر الدكتور «وهبة الزحيلي» وغيره والفرق بين التعريفين ـ الثاني والثالث بعد اشتراكهما في أنّ المعدول عنه والمعدول إليه ، قياس ـ هو انّ المعدول إليه على التعريف الثاني ، هو القياس الأقوى الأعم من أن يكون جلياً أو خفياً ، بخلاف التعريف الثالث فإنّ المعدول إليه قياس خفيّ. ولنذكر مثالين :

  1. مقتضى القياس الجلي ، هو إلحاق سؤر الطيور المعلّمة بسؤر الحيوان المفترس في النجاسة ـ على القول بنجاسة سؤره ـ لاشتراكهما في الافتراس ، ولكن مقتضى القياس الخفي إلحاقه بسؤر الإنسان في الطهارة.
  2. إذا وقف أرضاً زراعية فهل يدخل فيه حقوق الري والمرور؟ قولان :

أ. لا يدخل حقوق الريّ والمرور في الوقف قياساً على البيع ، فإنّ البيع ، والوقف يشتركان في خروج المبيع عن ملك الواقف والبائع ، فلا يدخل في بيع

 

الأرض الزراعية حقوقُ ريّها وصرفها والمرور إليها بدون ذكرها ، فكذلك في وقفها ، وهذا هو مقتضى القياس الظاهري.

ب. يدخل حقوق الري والمرور قياساً على الإجارة بجامع انّ المقصود من كلّ منهما الانتفاع بريع العين لا تملُّك رقبتها ، وفي إجارة الأرض الزراعية تدخل حقوق ريّها وصرفها والمرور إليها بدون ذكرها ، فكذلك في وقفها ، وهذا هو العدول عن مقتضى القياس الظاهري إلى مقتضى القياس الخفي وسموه بالاستحسان. (6)

أقول : إنّ دخول حقّ الريّ والمرور أو عدمه لا يبتني على قياس الوقف بالبيع أو الإجارة ، بل هما مبنيان على وجود الملازمة العرفية بين وقف الأرض ودخول حقوق ريّها والمرور إليها فيه أو عدمها ، فلو قلنا بالملازمة العرفية بين إخراج الشيء عن ملكه وإخراج ما يتوقف الانتفاع به عليه (كحقوق ريّها وصرفها والمرور إليها على نحو إذا بيعت الأرض الزراعية أو أُوجرت أو أُوقفت يفهم منه نقل توابعها ممّا يتوقف الانتفاع بها عليها) فيدخل إلاّ أن ينصَّ على خلافه ، ولو قلنا بعدم الملازمة وانّه لا يفهم من نقل الأصل ، نقل التوابع ، فلا يدخل واحد ، فعلى الأوّل يكونُ الدخول هو مقتضى القاعدة حتى يثبت خلافه بخلاف الثاني ، فإنّه يكون عدم الدخول هو المطابق لمقتضى القاعدة حتى يثبت خلافه.

ونظير المقام توابع المبيع من اللجام والسرج ومفتاح الباب وغيرها ، وبذلك تعرف انّه لا دور للقياس في حلّ المسألتين خروجاً وعدمه ، حتّى يسمّى العدول استحساناً وإنّما يجب على الفقيه أن يركز على الملازمة العرفية بين النقلين وعدمها.

 

الرابع : العدول من مقتضى القياس بدليل

قد يطلق ويراد منه هو العدول عن مقتضى القياس بدليل شرعي سواء كان المعدول إليه قياساً أم غيره. نعم يشترط في المعدول عنه كونه قياساً.

وهذا هو الذي يظهر أيضاً من السرخسي في أُصول فقهه قال : هو الدليل يكون معارضاً للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إنعام التأمل فيه ، وبعد إنعام التأمل في حكم الحادث وأشباهه من الأُصول يظهر انّ الدليل الذي عارضه ، فوقه في القوة وانّ العمل به هو الواجب. (7)

وظاهر هذا التعريف كما عرفت أنّ العدول عن القياس بدليل شرعي هو الاستحسان ، وعلى ضوء هذا يختص الاستحسان بصورة العدول عن مقتضى القياس فحسب لا مطلق الدليل ، فيشترط في المعدول عنه أن يكون قياساً وامّا المعدول إليه ، فيشترط أن يكون دليلاً غير القياس.

وهذا هو الظاهر من الكرخي أيضاً حيث عرفه بقوله : إثبات الحكم في صورة من الصور على خلاف القياس من نظائرها مع أنّ القياس يقتضي إثباته ، بدليل خاص لا يوجد في غيرها. (8)

ولنذكر مثالاً :

إذا ضاع شيء تحت يد الصانع ، فمقتضى القياس هو عدم ضمانه إذا ضاع أو تلف لديه من غير تقصير منه قياساً على يد المودع ، ولكن روي عن الإمام علي بن أبي طالب ـ عليه ‌السلام ـ والقاضي أبي أُمية شريح بن الحارث الكندي بأنّهما يضمّنان

 

الصنّاع ، وما هذا إلاّ لأنّ عدم تضمينهم ربما ينتهي إلى إهمالهم في حفظ أموال الناس. (9)

وروي أنّ الإمام الشافعي يذكر انّه قد ذهب شريح إلى تضمين القصّار فضمّن قصّاراً احتُرق بيته ، فقال : تضمّنني وقد احترق بيتي ، فقال شريح : أرأيت لو احترق بيته كنت تترك له أجرك. (10)

وعلى ضوء هذا المثال ربما يفسر الاستحسان : بترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس.

أقول : المثال قابل للنقاش.

أوّلاً : ليس المورد من موارد القياس ، لأنّ قياس الأجير ، بالودعي قياس مع الفارق ، فإنّ الأوّل يأخذ المال لصالحه بُغية أخذ الأُجرة لعمله ، وهذا بخلاف الودعي فانّه يأخذ المال لصالح صاحب المال ، فقياس الأوّل بالثاني مع هذا الفارق ، قياس مع الفارق.

ثانياً : إذا كان المورد غير صالح لاعمال القياس ـ لفقدان بعض شرائطه ـ فيكون المرجع ، هو الأصل الأوّلي في الأموال ، وليس إلاّ الاحترام والضمان حتى يثبت خلافه لا الاستحسان «أعني : كون الضمان أوفق للناس ، أو لئلاّ ينتهي إلى الإهمال في أموال الناس». فإذا أتلفه الأجير أو تلف عنده فمقتضى قوله ـ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ـ : «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» هو الضمان ما لم يدل دليل على خلافه كما دلّ في مورد الودعي حيث ليس لصاحب المال تغريم الودعي ، نعم لصاحب المال إحلافه على أنّ التلف لم يكن عن تعد أو تفريط ، ولذلك قالوا : «ليس على الأمين إلاّ اليمين».

 

الخامس : الاستحسان والعمل بأقوى الدليلين

إذا كان بين الدليلين تعارض بنحو التباين أو بنحو العموم والخصوص من وجه ، يُعمل بأقوى الدليلين ، فالأوّل كما إذا ورد «ثمن العذرة سحت» ، وورد أيضاً «لا بأس ببيع العذرة». والثاني كما إذا قال : أكرم العلماء وقال أيضاً : لا تكرم الفاسق ، فاجتمع الدليلان في العالم الفاسق ، ففي هذه الموارد يرجع إلى مرجحات باب التعارض التي طرحها الأُصوليون في باب التعادل والترجيح ، وأهمّ المرجّحات هو موافقة الكتاب ، أو موافقة السنّة ، أو كون أحد الدليلين موافقاً لما هو المشهور بين العلماء ، أو غير ذلك.

ونظير ذلك إذا كان بين الدليلين تزاحم كما إذا تزاحم الأمر بإنقاذ نفس محترمة بالتصرف في أرض الغير ، أو تزاحم أداء الدين مع الحجّ إلى غير ذلك من موارد المتزاحمين ، فيرجع فيهما إلى أقوى الدليلين ملاكاً وأعظمهما أهمية.

فلو أُريد من الاستحسان هذا فلا أظن أن يكون هذا موضع اختلاف بين مالك والشافعي ، أو بين القائلين به والنافين له.

السادس : الاستحسان والأخذ بالعرف

وربما يفسر الاستحسان بالرجوع إلى العرف كما في عقد «الاستنصاع» وهو عقد على معدوم وقد قيل بصحته لأخذ العرف به ، ولعلّ المراد من العرف هو السيرة ولكنّها لا تكون دليلاً على مشروعية العقد إلاّ أن تكون متصلة إلى عصر المعصوم حتّى يقع موقع إقراره.

ومن عجيب الأمر أن يتوارد النفي والإثبات على موضوع كالاستحسان من دون أن يحدد مفهوم الاستحسان.

 

السابع : الاستحسان والمصلحة

وربما يفسر الاستحسان بإدراك الفعل لمصلحة توجب جعل حكم من الشارع له على وفقها ، وهذا يرجع إلى الاستصلاح والمصالح المرسلة الذي سيوافيك البحث فيه في الفصل التالي.

إلى هنا تبين انّه لم نعثر على معنى واضح للاستحسان ليقع مورد النزاع فالوجوه السبعة الآنفة الذكر ليست مورداً للخلاف وليس لها من الأهمية حتّى يعدّه مالك تسعة أعشار العلم كما نُقل عنه.

وإليك إجمال ما مضى من المعاني السبعة :

أمّا المعنى الأوّل أي العمل بالظن والرأي ، فهو فرع وجود دليل على حجّيته ولا يختلف فيه علمان.

وأمّا الثاني ـ أعني : العدول من قياس إلى قياس أقوى ـ فلو قلنا بحجّية القياس فلا محيص عن العدول.

وأمّا الثالث ـ أعني : العدول عن مقتضى قياس جلي إلى قياس خفي ـ فلو كان المعدول إليه أقوى فلا محيص عنه ، وإلاّ لكان القياسان متعارضين.

وأمّا الرابع ـ أي العدول من مقتضى القياس بالدليل ـ فهو أيضاً على وفق القاعدة بشرط أن يكون الدليل أقوى من القياس.

وأمّا الخامس ـ وهو العمل بأقوى الدليلين في بابي التعارض والتزاحم ـ فهو أيضاً أمر لا سترة فيه.

وأمّا السادس ـ أعني : العمل بالعرف والسيرة المستمرة ـ فهو أمر صحيح بشرط أن تكون السيرة مورد تقرير للمعصوم.

 

وأمّا السابع ـ أعني : العمل بالمصلحة ـ فالاستحسان بهذا المعنى لا يكون أصلاً مستقلاً برأسه ، والمفروض انّه دليل في مقابل الاستصلاح ، فلم يبق من المحتملات إلاّ الوجه الآتي ، أعني :

الثامن : العدول عن مقتضى الدليل إلى ما يستحسنه المجتهد

الظاهر انّ المراد بالاستحسان هو العدول عن مقتضى الدليل باستحسان المجتهد.

وقريب منه ما يقال «دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه» ولذلك يستحسن أن يفتي على وفقه.

وبعبارة أُخرى : يستحسن أن يكون الموضوع داخلاً تحت ذلك الدليل لا الدليل الآخر من دون أن يكون له دليل على هذا سوى استحسانه.

والاستحسان بهذا المعنى قابل للنقض والإبرام ، ولذلك يصفه الشافعي بقوله : «أفرأيت إذا قال المفتي في النازلة ليس فيها نصّ خبر ولا قياس ، وقال : استحسن فلا بدّ أن يزعم انّه جائز لغيره أن يستحسن خلافه ، فيقول كلّ حاكم في بلد ومفت بما يستحسن ، فيقال في الشيء الواحد بضروب من الحكم والفتيا ، فإن كان هذا جائزاً عندهم فقد أهملوا أنفسهم فحكموا حيث شاءوا ، وإن كان ضيقاً فلا يجوز أن يدخلوا فيه». (11)

ولعلّ مراد الشافعي من كلامه هذا ما استظهره بعض الأجلة وقال :

والظاهر انّ مراده هو الردع عن خصوص هذا القسم ، كما تومئ إليه بقية أقواله ، ممّا لا تخضع لضوابط من شأنها أن تقلل من وقوع الاختلاف وتفسح

 

المجال أمام المتطفّلين على منصب الإفتاء ليرسلوا كلماتهم بسهولة استناداً إلى ما يدعونه لأنفسهم من انقداحات نفسية وأدلة لا يقدرون على التعبير عنها ، ممّا يسبِّب إشاعة الفوضى في عوالم الفقه والتشريع. (12)

ويمكن توضيح هذا الوجه بمثالين :

أ. انّ مقتضى إطلاق قوله سبحانه : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (13) هو قطع يد السارق دون فرق بين عام الرخاء والمجاعة ، ولكن نقل عن عمر عدم العمل به في عام المجاعة.

ب. يقول سبحانه : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (14) وقد نقل عن الإمام مالك إخراج الأُمّ الرفيعة المنزلة التي ليست من شأن مثلها أن ترضع ولدها ، وعلى هذا ينطبق تعريف الجرجاني : الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس. (15)

أقول : لا وجه للعدول عن إطلاق الآية الشامل لعام المجاعة والأُم الرفيعة المنزلة وغيرهما إلاّ بدليل ، ويمكن أن يكون الدليل انصراف الآية عن الصورتين ، والانصراف يحدّد دلالة الدليل ويُتّبع الدليل في غير مورد الانصراف.

ولكن الذي يؤاخذ على هذا الاستعمال هو انّ تسمية الانصراف وأشباهه ممّا يوجب العدول عن الدليل الأوّل بالاستحسان أمر غير صحيح.

وبعبارة أُخرى : إذا كان هنا دليل على العدول ، وكان المورد يتمتع برصيد خاص ، فما هو الوجه لاستعمال كلمة الاستحسان المريب ، إذ من الواضح انّ

 

استحسان شخص واستقباحه ما لم يعتمد على دليل ، لا يعدان من مصادر التشريع؟

وهنا نقطة جديرة بالإشارة وهي انّ الاختلاف في تعريف الاستحسان الذي جعل من مصادر الفقه إلى هذا المستوى يعرب عن أنّه لم يمتلك مفهوماً واضحاً حتى عرّف بتعاريف مختلفة.

إنّ الاختلاف في حجّية الاستحسان ناتج عن عدم دراسة مصادر التشريع حسب مراتبها ، فإنّ تقديم دليل على دليل آخر سواء كانا قياسين أو غيرهما فرع وجود الملاك للتقديم حتى تقدم إحدى الحجّتين على الأُخرى بملاك وليس الاستحسان منه أبداً ، وعلى القائلين بالاستحسان بالوجوه المذكورة أن يدرسوا ملاك تقدّم الأدلّة بعضها على بعض.

مثلاً أنّ الخاص يقدّم على العام ، والمقيّد على المطلق ، والنص على الظاهر المخالف ، وأحكام العناوين الثانوية كالضرر والحرج على أحكام العناوين الأوّلية وغير ذلك فتقديم أيّ دليل على آخر يجب أن يكون داخلاً تحت أحد هذه الملاكات وأمثالها ممّا قرّر في مبحث تعارض الأدلّة وترجيحها ، لا تحت عنوان الاستحسان ، وعلى هذا لو فسروا الاستحسان بمعنى تقدم أحد الدليلين على الدليل الآخر بملاك موجب له ، لاتفقت الشيعة أيضاً معهم.

وممّا يرشد إلى ذلك انّ الأُستاذ «أبو زهرة» يعرف القياس ويقسمه إلى قسمين : أحدهما : استحسان القياس ، والآخر : استحسان سبب معارضة القياس ، ويمثل للقسم الأوّل بقوله : أن يكون في المسألة وصفان يقتضيان قياسين متباينين أحدهما ظاهر متبادر وهو القياس الاصطلاحي ، والثاني خفي يقتضي إلحاقها بأصل آخر فتسمى هنا استحساناً ، مثل انّ المرأة عورة من قمة رأسها إلى قدميها ،

 

ثمّ أُبيح النظر إلى بعض المواضع للحاجة ، كرؤية الطبيب ، فأعملت علّة التيسير هنا في هذا الموضع. (16)

إنّ الأُستاذ وإن أصاب في تقديم الدليل الثاني على الأوّل ولكنّه لم يذكر وجهه ، فانّ المقام داخل تحت العناوين الثانوية فتقدم على أحكام العناوين الأوّلية ، فقوله سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (17) يدلّ على أنّ كلّ حكم حرجي مرفوع في الإسلام وغير مشرّع ، فلو افترضنا انّ بدن المرأة عورة كلّه يجب عليها ستره ، لكن هذا الحكم يختص بغير حالة الضرورة ، وذلك لتقدم أحكام العناوين الثانوية كالضرورة والاضطرار على العناوين الأوّلية ، فقوله ـ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ـ : «رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه» دليل على إباحة الرؤية ، فأي صلة لهذه المسألة بالاستحسان ، وما هذا إلاّ لأنّ القوم لم يقيّموا مصادر التشريع حسب مراتبها فأسموا مثلَ ذلك بالاستحسان.

الاستدلال على حجّية الاستحسان

استدلّوا على حجّية الاستحسان بوجوه :

الاستدلال بالكتاب والسنّة

الأوّل : قوله سبحانه : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ). (18)

 

الثاني : قوله ـ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ـ : ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. (19)

يلاحظ على الأوّل : أنّه لا نزاع في الكبرى وانّ عباد الله هم الذين يستمعون القول فيتّبعون ما هو الأحسن ، ولكن الكلام في أنّ الإفتاء بشيء ممّا لم يقم عليه دليل سوى استحسان المجتهد ، هل هو اتّباع للأحسن أو اتّباع للهوى؟

وبعبارة أُخرى : القرآن يدعو إلى اقتفاء القول الأحسن وهو الذي دعمه العقل الصريح والشرع المبين ، وأين هذا من الإفتاء بشيء بمجرّد استحسان ذهن المجتهد ورأيه من دون أن يقوم عليه دليل قطعي من عقل أو شرع؟! نعم إذا كان الإفتاء مستنداً إلى دليل شرعي فهو حجّة قطعية ولا حاجة في جواز الإفتاء بها إلى الاستدلال بالآية ، بل يكفي دليل حجّيته.

والدليل على أنّ المراد من قوله «أحسن» هو ما قام الدليل على حجّيته انّك لو فسرت الآية بالاستحسان وقلت : الذين يتبعون الاستحسان لاختل انسجام الآية.

والحاصل : انّ لفظ «الأحسن» يُمثّل أحد معنيين :

  1. امّا أن يتضمن معنى التفصيل ، فعندئذ يدلّ على أنّ هناك قولاً حسناً وقولاً أحسن فيتبعون الثاني دون الأوّل ، ولا يوصف القول بالحُسْن إلاّ إذا دلّ الدليل من العقل والنقل على كونه حجّة.
  2. أن يكون بمعنى الحسن خالياً عن المفاضلة فيكون المعنى يتبعون الحسن دون غيره ، وعلى كلا التقديرين لا صلة للآية بما يستحسنه المجتهد بأنّه حكم الله من دون أن يستند إلى دليل قاطع.

 

ومنه يظهر انّ الحديث لا صلة له بالمقام ، فإنّ المراد ما رآه المسلمون حسناً أي ما اتّفقت عليه عقولهم لا رأي واحد منهم.

الاستدلال بالإجماع

وربما يستدلّ بإجماع الأُمّة واستحسانهم دخول الحمام وشرب الماء بأيدي السقّائين من غير تقدير لزمان المكث وتقدير الماء والأُجرة.

يلاحظ عليه : أنّه إذا جرت السيرة على هذا فهي حجّة إذا استمرت إلى عصر المعصوم حتّى يقع موقع التقرير وإلاّ فليست السيرة حجّة في مقابل الأدلة الشرعية ، حيث إنّ الجهل في المعاملة مرفوض شرعاً إلاّ ما جرت السيرة المستمرة عليه بالشرط المذكور.

بقي هنا أمر :

ربما يُمثّل بالاستحسان بالموارد التالية ويدعى انّ النبي الأعظم أفتى فيها به دون الوحي وانّه كان يجتهد كسائر الناس :

أ. نهى رسول الله عن بيع المعدوم ، ورخّص في السلم.

ب. نهى رسول الله عن بيع الرطب باليابس ، ورخّص في العرايا.

ج. نهى رسول الله عن أن يخضد شجر مكة وأن يختلى خلاها ورخّص في الإذخر.

يلاحظ على المثال الأوّل : أنّه لم يرد على لسان الرسول ـ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ـ قوله : نهى رسول الله عن بيع المعدوم ، وإنّما الوارد قوله ـ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ـ : «لا تبع ما ليس عندك» (20) وهو ناظر إلى بيع المبيع الشخصي الذي هو تحت يد الغير ، فما لم يتملّكه البائع لا حق له في بيعه ،

 

لعدم جواز بيع ما لا يملك ، وأين هو من بيع السلم الذي هو بيع شيء في الذمة ، فلم يكن ما صدر عن الرسول بنحو الضابطة شاملاً لبيع السلم حتى يكون الثاني استثناء من الأوّل ومبنيّاً على اجتهاده واستحسانه.

ومنه يظهر حال المثال الثاني أعني : «نهى رسول الله عن بيع الرطب باليابس».

فانّ نهي رسول الله ـ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ـ إنّما كان منصبّاً على المجنيّ من الثمرة دون ما كان على الشجرة ، فنهى عن بيع الرطب باليابس ، لئلا يلزم الربا ، وإليك نصّ الحديث

عن سعد بن أبي وقاص قال : سمعت رسول الله ـ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ـ يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر ، فقال : أينقص الرطب إذا يبس؟ قال : نعم ، فنهى عن ذلك. (1) وعلى ذلك فالنهي كان منصبّاً على البيع الشخصي ، أي تبديل الرطب المعيّن بعين يابس ، وعلى ضوء ذلك فلم يكن بيع العرايا داخلاً في النهي حتى يحتاج إلى الترخيص ويكون مبنياً على الاستحسان.

ومن ذلك يعلم أنّ ما رواه زيد بن ثابت «انّ رسول الله رخص في العرايا تباع بخرصها كيلاً» (2) ليس بمعنى انّه كان ممنوعاً ، ثمّ رخصه رسول الله ، بل بمعنى عدم تعلّق النهي به من بدء الأمر ، بخلاف المجنيّ.

وأمّا الثالث فلأنّ استثناء الإذخر من «اختلاء خلاه» ليس بمعنى انّ النبي استثناه من تلقاء نفسه معتمداً على الاستحسان ، بل كان الحكم (لا يخضد شجر مكة ولا يختلي خلاها) غير شامل للأُذخر في الواقع ، ولعلّ النبي كان مستعداً لبيان المخصص غير أنّ عمه العباس لما سبقه وقال : إلاّ الإذخُر ، فأعقبه النبي وقال : إلاّ الأُذخُر ، فزُعم انّ النبي قاله اجتهاداً أو استحساناً ، وما ذكرناه وإن كان احتمالاً ، لكنّه يكفي في نقض الدليل وإسقاطه عن الصلاحية

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش :

 (1) البقرة : 236.

(2) البقرة : 233.

(3) أُصول الفقه : 2 / 200.

(4) المعتمد : 2 / 296.

(5) الوجيز في أُصول الفقه : 86.

(6) مصادر التشريع الإسلامي : 72.

(7) أُصول الفقه : 2 / 200.

(8) الوصول إلى الأُصول : 2 / 321 ؛ المنخول : 375 ، حيث قال : الصحيح في ضبط الاستحسان ما ذكره الكرخي.

(9) السنن الكبرى : 3 / 122.

(10) السنن الكبرى : 3 / 122.

(11) فلسفة التشريع الإسلامي : 174.

(12) الأُصول العامة للفقه المقارن : 363.

(13) المائدة : 38.

(14) البقرة : 233.

(15) التعريفات : 13.

(16) أُصول الفقه : 247 ـ 249.

(17) الحج : 78.

(18) الزمر : 18.

 (19) احكام الفصول في احكام الأُصول : 688 ـ 689 ؛ الإحكام : 6 / 192 ـ 196.

(20) لاحظ بلوغ المرام : 162 ، الحديث 820.

 

 

1244    مسائل خلافية