دور العقل في المعرفة عند المجلسي

681

دور العقل في المعرفة عند المجلسي

الشيخ حيدر نور الدين (*)

تمهيد

يُعتبر البحث حول منزلة العقل في الإدراك والحديث عن دائرة اعتباره في مجال تحصيل المعارف وأحكامه نفياً أو إثباتاً من الأبحاث المهمَّة في تاريخ الفكر البشريّ، وقد كان ذلك مثار جدل وتجاذب الآراء في حَقَبةٍ خاصَّةٍ من التاريخ الإسلاميّ، ونُسب إلى الأخباريِّين والمحدِّثين سيَّما المجلسيّ نفى حجيَّة العقل مطلقاً، والدعوة إلى التمسّك بالأخبار وكلام المعصومين(عليهم ‏السلام) كبديلٍ عن ذلك، وتتعرض هذه الدّراسة لكلمات المجلسيّ التي ادَّعى أنَّها تَدلّ على ذلك وتُبيّن مدى أثر العقل ودوره في اكتساب المعرفة وحجيَّة أحكامه من وجهة نظر المجلسيّ في ضوء تلك النُقول وتناقش آراء في هذا المجال تحليلاً ونقداً.

يُستعمل العقل في معنيَين أساسيَّين: الأوَّل: العقل بمعنى الجوهر المجرَّد عن المادَّة ذاتاً وفعلاً، والثاني: العقل بمعنى قوَّة إدراك الكليَّات ويُطلق عليه العقل النظريّ، وهو المقصود في دراسة طبيعة العلاقة والترابط فيما بين العقل والدِّين.

كما تُعتبر منزلة العقل وحجيَّته من المسائل التي كانت محلَّ بحثِ الفكر البشريَّ، وتفاوتت الآراء حـوله، وقد وقع الاختلاف بين الفقهـاء والمتكلِّمين

________________________________________

(*) دكتوراه في الإلهيات فرع علوم القرآن والحديث في كلية إعداد المدرسين في جامعة قم.

 

والمحدِّثين والفلاسفة في بيان حقيقة العقل وماهيَّته وحدود حجيَّته وبخاصَّةٍ عندما يتعارض مع النقل ظاهراً.

وقد بحث العلماء في كثيرٍ من الأديان عن كيفيَّة ربط الدِّين بالعقل وقوَّة التفكير، لكن من مفاخر الدِّين الإسلاميِّ عموماً ومذهب أهل البيت (عليهم ‏السلام) خاصَّةً أنَّه جعل للعقل حجَّةً واعتباراً ففي أصول الاعقادات مثل إثبات الصانع والمبدأ والتوحيد والنبوّة يُعَدُّ الدِّين تابعاً وملازماً للعقل، فمن يُسقط العقل عن الاعتبار والحجيَّة في أصول الدِّين فإنَّما يُسقط اعتبار الدِّين؛ لأنَّ مباحث أصول الدِّين إنَّما تَثبت بالعقل، ولو أردنا إثباتها بنفس الدِّين للزم الدور وهو باطل بالبداهة.

والعقل عند الشيعة الإماميَّة مصدرٌ من مصادر التشريع، وهو المناط الذي يدور عليه التكليف والثواب والعقاب، وهو هبة الله للخلق والحجَّة الباطنة عليهم، فقد ورد عن مولانا الصادق (عليه السلام): «يا هِشَامُ إنَّ لله عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ حًجَّةً ظَاهِرَةً وحُجَّةً بَاطِنَةً فأمَّا الظَّاهِرةُ فالرُّسُلُ والأنْبِياءُ والأَئِمَّةُ (عليهم ‏السلام) وأمَّا البَاطِنَةُ فالعُقُول) (1) ، وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): «لم يُطلع على تحديد صِفَته ولم يَحجبها عن واجبِ معرفته» (2)، كما ورد أنَّ العقل هو أوَّل ما خلق الله وأحبُّ الموجودات إليه، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَا خَلَقَ اللهُ عزَّ وجَلَّ شَيْئاً أَبْغَضَ إلَيْه منَ الأَحْمَقِ لأنَّهُ سَلَبَهُ أحَبَّ الأشْيَاءِ إليْه وهُوَ عَقْلُه» (3).

نعم لا حُكمَ للعقل في كثيرٍ من فروع الدِّين، وهو يَقف مُقِرِّاً بالعجز عن إدراك وتحليل الكثير من تفاصيلها.

وبالرغم من التأكيدات البالغة الواردة في المتون الدينيَّة على حجيَّة العقل وعدم معارَضته للدِّين إلا أنَّ هذه الشُبهة العقيمة تسرَّبت من بلاد الإلحاد إلى بلاد الإسلام، فقد ذكر (الشهيد مطهَّري) أنَّه سمع عن (السيِّد البروجرديّ) رحمهما الله أنَّه كان يَعتقد أنَّ نشأة تيَّار الأخباريين ـ الذي نُسب إليه عدم حجيَّة العقل واعتباره ـ تزامَنَ

________________________________________

(1) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج 1، ص 15 طهران، دار الكتب الإسلامية، ط4، 1407.

(2) نهج البلاغة، خ9.

(3) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 1، ص 89، بيروت، مؤسسة الوفاء، ط4، 1404.

مع موجةِ سقوط اعتباريَّة العقل في الغرب وظهور المادِّيين الذين يُؤمنون بالتجارب والحسِّ كطريقٍ وحيدٍ لحصول المعرفة، يقول (الشهيد مطهري): «كان السيِّد البروجرديّ يقول: إنَّ هذا التيَّار الفكريِّ للأخباريّين ـ على رأسهم الأمين الاسترآبادي ـ تزامن مع ظهور التيَّار المادِّي المخالف للعقل والفلسفة في أوروبا المبتنِي على فلسفة الحسِّ والتجربة الذي بدأ مع ديكارت وبيكن، فأصحاب هذا التيَّار عارضوا المنطق والعقل، ولكن بشكلٍ آخر وهو اعتماد المعرفة الناشئة من الحسِّ» (4).

و(الشهيد الصدر) أيضاً يَعتبر منشأ ظهور الحركة الأخباريَّة هو شيوع المذهب الحسيّ والتجريبيّ ومعاصرة رائد الأخباريِّين الاسترابادي لدعاة الحسِّ والتجربة مثل: (جون لوك) و(فرنسيس بيكون) التي أدَّت إلى تأثّر هذا المحدِّث بأفكارهم وسريان هذا الاتِّجاه المُنحرف إلى الفكر الإسلاميِّ، يقول الشهيد الصدر: (ونحن في هذا الضوء نُلاحظ بوضوح اتِّجاهاً حسيِّاً في أفكار المحدِّث الاسترآبادي يَميل به إلى المذهب الحسيّ في نظريَّة المعرفة القائل بأنَّ الحسّ هو أساس المعرفة، ولأجل ذلك يُمكننا أن نعتبر الحركة الأخباريَّة في الفكر العلميّ الإسلاميِّ أحد المسارب التي تسرَّب منها الاتِّجاه الحسيّ إلى تُراثنا الفكريّ … وعلى كلِّ حال فهناك التقاء فكريّ ملحوظ بين الحركة الفكريَّة الأخباريَّة والمذاهب الحسيَّة والتجريبيَّة في الفلسفة الأوروبيَّة، فقد شنَّت جميعاً حملةً كبيرةً ضدَّ العقل، وألغت قيمة أحكامه إذا لم يستمدّها من الحسِّ) (5).

المجلسي والعقل

يُعتبر المجلسي من العلماء الأفذاذ الذين جَمعوا علوم المعقول والمنقول، فتبحَّره في علوم الحديث وفنونه وتفسير القرآن غير خفيٍّ على كلِّ من يُراجع أشهر كُتبه (بحار الأنوار) و(مرآة العقول)، كما أنَّ بعض مؤلَّفاته تشهد بأنَّه مطَّلِعٌ على العلوم العقليَّة والنظريَّات الفلسفيَّة (6).

________________________________________

(4) مطهري، مرتضى، تعليم وتربيت در اسلام، ص 310 طهران، انتشارات صدرا، ط23، 1373هـ .

(5) الصدر، محمد باقر، المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد الصدر، ج 3، ص 50 بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1410.

(6) هناك من العلماء من يرفض ذلك ويرى أن المجلسي ليس من المتخصصين في العلوم العقلية، قال كاشف الغطاء في الفردوس الأعلى: ص277: »فإنه من المتخصصين في علم المنقول لا المعقول«.

وقد خاض (قدس‏ سره) غِمَار البحث في ماهيَّة العقل وذكر للعقل في (المرآة) ستَّة معانٍ (7)وأوردها بعينها في البحار (8) وكذا في كتابه (الأربعين) (9).

وهو (قدس‏ سره) لم يقتصر على الورود في مباحث ماهيَّة العقل ومدى حجيَّته، بل نراه كثيراً ما يَعتمد العقل كحجّةٍ ودليلٍ وفي نواحي ومجالات متنوِّعة من الفكر الدينيّ.

ونحن في هذا المقال سنأتي بما يدلُّ على ذلك من كلامه، ثمَّ نأتي بما يُوهم خلاف ذلك ونناقشه، فمن شواهد اعتماده على العقل:

1 ـ في أصول الدِّين

فقد جاء (قدس‏ سره) على وحدة الصانع بستَّة براهين عقليَّة أوردها في البحار (10)، كذلك بَرْهَنَ في كتابه (حقّ اليقين) على إثبات وجود الله والمعاد بأدلَّة عقليَّةٍ (11).

وقال (قدس‏ سره) في موضع آخر: «قسَّم (عليه السلام) أمور الأديان إلى أربعة أقسام ترجع إلى أمرين: أحدهما ما لا يكون فيه اختلاف بين جميع الأمَّة من ضروريَّات الدِّين التي لا يحتاج في العلم بها إلى نظرٍ واستدلال… وثانيهما: ما لا يكون من ضروريَّات الدِّين فيحتاج في إثباته إلى نظرٍ واستدلال… ثمَّ قسَّم(عليه السلام) ذلك الأمر باعتبار ما يُستنبط منه إلى ثلاثة أقسام، فتصير بانضمام الأوَّل أربعة… إلى أن قال: والثالث قياسٌ عقليٌ برهانيٌ تَعرف العقول عدله أي حقيقته ولا يَسع لأحدٍ إنكاره، لا القياس الفقهيّ الذي لا ترتضيه العقول السليمة، وهذا إنَّما يَجري في أصول الدِّين لا في الشرائع والأحكام التي لا تُعلم إلا بنصِّ الشارع» (12).

وأنت كما تُلاحظ فإنَّ كلامه هنا نصٌّ في صحَّةِ إعمال العقل البرهانيِّ والاضطرار إليه والاعتماد عليه في أصول الدِّين والنكير على منكره.

2 ـ كلام المعصومين(عليهم ‏السلام)

وممَّا يدلُّ على اعتبار العقل عند المجلسيِّ تفسيره لما ورد في الحديث «عن سفيان بن السمط قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جُعلت فداك إنَّ الرجل ليأتينا من

________________________________________

(7) المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ج 25، ص 1ـ 30، طهران، دار الكتب الإسلامية، ط2، 1404.

(8) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 1، ص 99، بيروت، مؤسسة الوفاء، ط4، 1404.

(9) المجلسي، محمد باقر، الأربعين، ص 11ـ 17 قم، دار الكتب العلمية، اسماعيليان، 1399هـ . ق.

(10) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 3، ص 231.

(11) المجلسي، محمد باقر، حق اليقين، ص 4، 11، 375، طهران، دار الكتب الإسلامية، ط2، 1409.

(12) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 2، ص 239.

قِبَلك فيُخبرنا عنك بالعظيم من الأمر فيَضيق بذلك صدورنا حتَّى نكذِّبه» (13). فقال المجلسيِّ شارحاً كلام الإمام (عليه السلام): «أي هل تظن بنا أنَّا نقول ما يُخالف العقل؟! فإذا وصل إليك عنّا مثل هذا فاعلم أنَّا أردنا به أمراً آخر غير ما فهمت أو صدر عنَّا لغرضٍ فلا تكذِّبه» (14).

3 ـ احتكامه إلى العقل

فالرجوع إلى العقل والحُكم بأحكامه مشهور في طيَّات كلامه (قدس‏ سره) والمُنصف لا يَسعه إلا الإقرار بأنَّ المجلسيَّ قائلٌ بحجيَّة أحكام العقل في الجملة، وإن تعثَّر عند بعضها فحادَ عن الصواب، وإليك بعض الشواهد على ذلك:

أ ـ التزامه بالوجوب العقليّ

ففي الحديث الوارد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ألا وإنَّ طَلَبَ العِلْمِ أوْجَبُ عَلَيْكُم مِنْ طَلَبِ المَال» (15)، نرى المجلسيّ يَعتقد بوجوب اتِّباع حُكم العقل عندما يَحكم بالوجوب على فعلٍِ ما يقول (قدس‏ سره): «المُراد إمَّا الوجوب الشرعيّ الكفائيّ، أو الوجوب العقليّ أي أحسن وأليق بأنفسكم» (16).

وفي حكم الوفاء بالوعد نجده يقول إنَّ للصدق والكذب معانٍ غير المعنى المُصطلح ويَضرب شواهد لذلك من مثل: فلان صَدق أو كَذِب في القتال أي وفَّى حقَّ القِتال أو لم يوفِّ، وكقوله تعالى:{ مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً }(الأحزاب، 23) أي حقَّقوا العهد بما أظهروه من أفعالهم، فهو يرى أنَّ نسبةَ الصِدْق والكَذِب إلى الوعد تُحمل على واحدةٍ من تلك النِسَب المجازيَّة، وقال مُبيِّناً وجه الحكم به: «فظهر أنَّ حُسن الوفاء بالوعد أو وجوبه ليس من جهةِ أنَّ مخالفته تَستلزم الكذب… بل من جهة أنَّ العقل يَحكم بحسن الوفاء بالعهد أو بُقبح خُلفه، ويَحكم في الوعيد بخلاف ذلك… هذا ما تبيَّن لي في هذا المقام لكن ظاهر المحقِّقين من أصحابنا والمخالفين أنَّ الوعد

________________________________________

(13) الصفار، محمد بن الحسن، بصائر الدرجات، ص 537، قم، مكتبة آية الله مرعشي، ط2، 1404.

(14) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 2، ص 187.

(15) الكليني، محمد بن يعقوب، ج1 ص30.

(16) المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ج 1، ص 100، طهران، دار الكتب الإسلامية، ط2، 1404.

 

من نوع الخير وهو محتمِل للصدق والكذب وكذا الوعيد» (17).

ب ـ إنكاره تجسم الأعمال

وهو يرى لحكم العقل مرتبةً تتجاوزَ ظاهرِ الآيات والروايات تعويلاً على حجيَّة العقل فهو يُنكر تجسَّم الأعمال الذي يَظهر من الكثير من الآيات والروايات، بل قد يُقال بأنَّ بعض الأخبار نصٌّ في ذلك، ومع هذا فهو يَردُّ ظواهرها بما يَخاله من الدليل العقليّ يقول (قدس‏ سره): «يُمكن حمل الآيات والأخبار على أنَّ الله تعالى يَخلق بإزاء الأعمال الحسنة صوراً حسنةً، ليُظهر حُسنها للناس، وبإزاء الأعمال السيئة صوَراً قبيحةً ليُظهر قُبحها معاينةً ولا حاجة إلى القول بأمرٍ مخالفٍ لطور العقل» (18).

ونحن قد ناقشنا بتفصيلٍ كلامه هنا وفي المورد التالي وأثبتنا عدم صحَّته وذلك في كتابنا «مباني فقه الحديث عند المجلسي في كتابه (مرآة العقول) والمقام لا يَسع بيانه.

ج ـ تجويزه التكليف بالممتنع لذاته عقلاً

وذيل الآية الشريفة { وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } (يس، 10) الواردة في الحديث يجوِّز المجلسيّ التكليف بالممتنع لذاته بحكم العقل، لكنَّه لم يقع، يقول:

«والآية ممَّا احتجَّ به )كذا( مَن جوَّز تكليف ما لا يُطاق، والحقُّ أنَّ التكليف بالممتنع لذاته وإن جاز عقلاً لكنَّه غير واقعٍ للاستقراء، والإخبار بوقوع الشيء أو عدمه لا يَنفي القُدرة عليه كإخباره تعالى عمَّا يَفعله هو أو العبد باختياره وفائدة الإنذار بعد العلم بأنَّه لا يَنجع إلزام الحجَّة وحيازة الرسول فضل الإبلاغ، ولذا قال: «سَواءٌ عَلَيْهِم» ولم يقل: سواء عليك» (19).

د ـ فهمه للنصوص الدينيَّة على ضوء العقل

والمجلسي(قدس‏ سره) يرى للعقل حكومةً ونظراً في فَهم بعض معاني الأخبار، فهو

________________________________________

(17) المصدر نفسه، ج11 ص30.

(18) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج9 ص95.

(19) المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ج5 ص131.

 

يرى تصحيحها أو تضعيفها بناءً على ما يُرشد إليه العقل، فمثلاً ورد في مرسلة هشام بن سالم عن الصادق(عليه السلام): «إنَّ النَّهارَ إذا جَاءَ قالَ يا ابْنَ آدَمَ اعْمَلْ في يَوْمِكَ هَذا خيْراً أشْهَدْ لَكَ بهِ عِنْدَ ربِّكَ يَوْمَ القِيَامَة» (20)، ثمَّ قال في شرح هذا الحديث: «والقول إمَّا بلسان الحال وهو قول الملك الموكَل باليوم، وقد يُقال أنَّ للأيام والساعات والشهور والسنين شعوراً لكنَّه بعيد من طور العقل»(21).

وفي بيان معاني ما ورد في علم الجواد (عليه السلام) عن »عَليٌّ بنُ إبْراهِيمَ عَنْ أبيهِ قالَ اسْتَأذَنَ عَلَى أبي جَعْفَر (عليه السلام) قَوْمٌ منْ أهْلِ النَّواحي مِنَ الشِّيعَةِ فأذِنَ لَهُم، فَدَخَلُوا فسَأَلُوه في مَجْلِسٍ واحِدٍ عَنْ ثَلاثينَ ألْفَ مَسْألةٍ فأجَابَ (عليه السلام) ولَهُ عَشْرُ سِنين» (22) ذكر(قدس‏ سره) في معنى ذلك سبعة وجوه قال في الخامس منها:

«أن يكون مبنيَّاً على بسط الزمان الذي يَقول به الصوفيَّة لكنَّه مخالفٌ للعقل» (23)، بل قال في البحار إنَّه من قبيل الخُرافات (24).

والذي يُمكن أن يُقال في المقام بعد الإغماض عن النقاش في سنده أنَّه يجوز أن نحمل كلام ابراهيم بن هاشم على المجاز ومثله قد يَقع في كلام ومجالس الخواص فضلاً عن العوام، ولا غرابة فيه ولا استنكار عليه. كما يُمكن أن نحمله على الخطأ من دون أن نَردَّ الحديث برمّته، وهذا ممَّا يَقع كثيراً فقد يَرِدُ كلام نقطع بصدوره ونسلّم بصحَّة بعضه وبطلان بعضه الآخر، فليس من الصحيح أن نَردَّ الرواية لمجرَّد ذلك.

والتوجيهات العقليَّة التي جاء بها المجلسيّ (قدس‏ سره) في الاحتمالات التي ذَكرها وإن كان بعضها سليماً ومُمكناً كقوله: «إشارة إلى كثرة ما يُستنبط من كلماته (عليه السلام) الموجَزة المشتمِلة على الأحكام الكثيرة» إلا أنَّ بعضها الآخر كحملها على الإعجاز بتسريع كلام القوم هو أشبه ببسط الزمان الذي يُنكره العقل على حدِّ قوله، وبعضها الآخر «إنَّ السؤال كان يعرض المكتوبات والطومارات فوقع الجواب بخرق العادة» فيه تكلُّفٌ

________________________________________

(20) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج2 ص455.

(21) المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ج11 ص365.

(22) الكليني، محمد بن يعقوب، ج1 ص496.

(23) المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ج6ص104.

(24) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 50، ص 93.

 

ظاهر فضلاً عن أنَّ هذا التأويل الأخير لم يَتبيّن المُراد منه بالضبط، فإن قَصد أنَّ القوم عَرضوا عليه ما كتبوه من الأسئلة ثمَّ أجابهم جواباً مُعجِزاً فإنَّ الإشكال فيه لا يَزال مستقرِّاً لكون عَرْض مدوّناتهم الكثيرة في الزمان المُختصر لا يَستقيم إلا بالإعجاز، وهو قد حصل الإعجاز في الجواب عنها فقط لا في عَرْضها عليه وجوابه عنها معاً.

هـ ـ عباديَّة التعقَّل عند المجلسيّ

وعند شرحه للحديث: «ما عُبِدَ اللهُ بِمثل العقل» نرى المجلسيِّ يُفسِّر ما نَدبت إليه الشريعة من التعقّل وإعمال العقل ويؤكِّد أنَّه من العبادات قال(قدس‏ سره):

«ويُحتمل أن يكون المُراد بالعقل تعقّل الأمور الدينيَّة والمعارف اليقينيَّة والتفكّر فيها وتحصيل العلم وهو من أفضل العبادات» (25).

ثمَّ لا يَخفى عليك أخيراً أنَّ اختياره اسم كتابه «مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)» مؤيِّد لذلك.

مخالفاته لبعض أحكام العقل

وفي مقالةٍ في إحدى المجلات الفكريَّة نَسَب بعض الباحثين إلى المجلسيّ القول بعدم حجيَّة العقل مطلقاً مستنداً إلى بعض أقوال المجلسيّ(قدس‏ سره) والتي سنوافيك تِباعاً بنصوصها ومناقشاتنا فيها، قال صاحب المقال: «وفي المرحلة الثانية وفي مقام جوابه على السؤال التالي: هل إدراك العقل معتبر أم لا؟ يُجيب المجلسي بالنفي؛ لأنَّه يَعتقد بأنَّه كثيراً ما يُخطئ العقل في إدراكه، وتوقيَّاً من الوقوع في اشتباهات العقل، فإنَّه لا بدَّ من القول بأنَّ الإدراك والتعقَّل المعتبر هو الإدراك الذي يُؤيِّده قانون الشرع… وهو ـ أي المجلسيّ ـ وفي مقام شرحه لأحد الأخبار يَخلص إلى النتيجة التالية وهي: إنَّ أئمَّة الدّين(عليهم ‏السلام) قد أغلقوا باب التعقّل بعد معرفة الإمام وأمروا شيعتهم باتِّباعهم في جميع الأمور، ونهوا عن الاعتماد على العقول الناقصة في جميع المسائل… والظاهر أنَّ المسألة الوحيدة التي يرى المجلسيّ فيها للعقل حقَّاً في إبداء النظر هي مسألة معرفة

________________________________________

(25) المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ج 1، ص 109.

الإمام، وبعد معرفة الإمام يجب تعطيل العقل وعدم الرجوع إليه إلا إذا وافق قول الإمام، والمجلسي لم يُبيّن لنا أنَّه هل للعقل دورٌ ومدخليَّة في فهم الأخبار ودلالاتها أم لا؟ فلذا فإنَّ العقل فاقدٌ للاعتبار، والدِّين هو الذي يَجب أن يُمضي اعتبار العقل، والدِّين ليس لم يُمضِ هذا الاعتبار فحسب بل نفاه» ولم يَكتفِ الكاتب بهذا حتَّى خَتَم كلامه السابق بأنَّ عدم حجيَّة العقل هو الدَّعامة الأساس التي يَبتني عليها الصرح الفكريُّ للعلامة المجلسيّ (قدس‏ سره) قال: «إنَّ عدم اعتبار العقل هي الركيزة الأساسيَّة لفكر المجلسيّ وسائر العلماء الأخباريّين» (26).

وقد تبيَّن لك من كلامنا السابق بعض الجواب على كلمات صاحب المقالة، وهنا سنُورد بعض كلامه (قدس‏ سره) الذي تُوهِّم منه نفيه حجيَّة العقل مطلقاً ونناقشه:

1 ـ «ولا يَخفى عليك بعد التدبِّر في هذا الخبر وأضرابه، أنَّهم سدُّوا باب العقل بعد معرفة الإمام وأمروا بأخذ جميع الأمور منهم ونهوا عن الاتِّكال على العقول الناقصة في كلِّ باب» (27).

وكذا كلامه (قدس‏ سره) ذيل ما جاء في الحديث حيث «وَرَدَ عَلَيْه رَجلٌ منْ أهْلِ الشَّامِ فَقالَ إنِّي رَجُلٌ صاحِبَ كَلامٍ وفِقْهٍ وفَرائِضَ وقَدْ جئْتُ لِمُناظَرَةِ أصْحَابِكَ فَقالَ أبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) كَلامُكَ مِنْ كَلامِ رَسُولِ الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) أوْ مِنْ عِنْدِكَ فَقالَ مِنْ كَلامِ رَسُولِ الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ومِنْ عِنْدي فقالَ أبُو عَبْدِ الله(عليه السلام): فأَنْتَ إذاً شَريكُ رَسُولِ الله؟ قالَ: لا. قالَ: فسَمِعْتُ الوَحْيَ عَنِ الله عزَّ وجلَّ يُخْبِرُكَ قالَ لا…»: فعلَّق المجلسي على كلام الصادق (عليه السلام) في قوله: «أفأنت إذاً شريك رسول الله» بقوله:

2ـ «يدلُّ على بطلان الكلام الذي لم يكن مأخوذاً من الكتاب والسنَّة، وأنَّه لا يجوز الاعتماد في أصول الدِّين على الأدلَّة العقليَّة» (28).

لكن كلامه الأوَّل يقبل الحمل على القياس الفقهيِّ والاستحسانات العقليَّة التي لا دليل عليها من الشرع، ويؤيِّده أنّه (قدس‏ سره) ذكر كلامه هذا ذيل روايات القياس الفقهيِّ،

________________________________________

(26) كديور، محسن، عقل ودين از نكاه محدث وحكيم، كيهان انديشه، العدد 44 1371هـ . ش. ص17.

(27) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 2، ص 313.

(28) المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ج 2، ص 268.

 

ولم يَقصد به انسداد باب مطلق العقل. وأمَّا جواب كلامه الثاني فسيتَّضح عن قريبٍ.

3 ـ وممَّا يُوهم نفيه لحجيَّة العقل قوله بعد أن ذكر خمسةَ أدلَّةٍ على التوحيد:

«السادس: الأدلَّة السمعيَّة من الكتاب والسنَّة وهي أكثر من أن تُحصى وقد مرَّ بعضها ولا محذور في التمسّك بالأدلَّة السمعيَّة في باب التوحيد، وهذه هي المُعتمَد عليها عندي، وبسَّط الكلام في تلك الأدلة وما سواها ممَّا لم نُشر إليها موكول إلى مظانه» (29).

ولعلَّ الإمام الخميني(قدس‏ سره) أراد المجلسيَّ أو الاسترآبادي ومن حذا حذوهما عندما قال:

«وإذا ورد في كلام بعض المحدّثين ذوي المقام الرفيع أنَّ الاعتماد في باب إثبات التوحيد على الدليل النقليّ فهو من غرائب الأمور بل من المصائب التي ينبغي أن نَلوذ إلى الله تعالى منها، وهذا الكلام لا يَستدعي الاستهجان أو التحريج وإلى الله المُشتكَى» (30). والمُراجع لكلم المجلسي(قدس‏ سره) يُلاحظ ما يلي:

أولاً: يَدفع الإشكال المذكور ما نقله المجلسيّ عمَّن وصفه بقوله: «بعض الأفاضل»، وذلك ذيل الحديث: »عَنْ عَبْدِ الرَّحْمن بنِ الحَجَّاجِ قالَ قالَ لي أبُو عَبْدِ الله(عليه السلام): «إيَّاكَ وخَصْلَتيْنِ فَفِيهِما هَلَكَ مَنْ هَلَكَ، إيَّاكَ أنْ تُفْتيَ النَّاسَ برأْيِكَ أو تَدِينَ بِما لا تَعْلَمُ» (31).

«أي أن تَعبد الله بما لا تعلمه بثبوته بالبراهين والأدلَّة العقليَّة، أو بالكتاب والسنَّة، والأدلَّة السمعيَّة، ويُحتمل أن يكون من دان أي اتَّخذه ديناً، يعني إيَّاك أن تتَّخذ ما لا تعلم دين» (32).

فإنَّ نَقله لهذا الكلام ناعتاً قائله بالفضل ومن دون أيِّ تعليقٍ ظاهرٌ في تأييده لما ورد فيه بأنَّ عبادة الله أو التديَّن بدينٍ ينبغي أن يكون بمقتضى الأدلَّة العقليَّة والأدلَّة السمعيَّة.

________________________________________

(29) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 1، ص 246.

(30) الخميني، روح الله الموسوي، آداب الصلاة، طهران، ص 200 مؤسسة نشر آثار الإمام الخميني، ط7، 1419، ج1 (بالفارسية).

(31) الكليني، محمد بن يعقوب، ج1 ص42.

(32) المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ج1 ص136.

ثانياً: إنَّ المجلسيّ لم يَرفض الدليل العقليّ في باب التوحيد، بل جاء بالأدلَّة العقليَّة على ذلك، فإنَّ الكلام السابق الذي استُشهد به إنَّما أورده المجلسي في ذيل الوجوه الاستدلاليَّة على التوحيد حيث جاء بخمسة أدلَّةٍ عقليَّةٍ على ذلك من قبيل برهان الإمكان وبرهان التمانع بتقريرين، ثمَّ جاء بالدليل السادس دليلاً سمعي (33).

ثالثاً: إنَّ اعتماده على الأدلَّة السمعيَّة من الكتاب والسنَّة لا يَعني بالضرورة كونها حجَّة بنفسها في باب التوحيد، بل لكون الكتاب والسنة هاديَين ومرشِدَين إلى حكم العقل بالتوحيد، فإنَّه من المُمكن استنباط بعض البراهين العقليَّة لأصول الدِّين من الكتاب والسنَّة كمـا قيل في دلالة قـوله تعـالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ } (الطور، 35) على بطلان التسلسل.

وأمَّا قوله «وهو المُعتمَد عندي» فلعلَّه يُريد به أنَّ إرشادات الدليل السمعيِّ من الكتاب وروايات أهل البيت (عليهم ‏السلام) إلى الأدلَّة العقليَّة مصونةٌ عن الخَطَل ومنزَّهةٌ عن الزلل الذي يُمكن أن يَقع به الفلاسفة والحكماء التابعين لليونانيِّين على حدِّ قوله.

نعم يَرد إشكالٌ من جهةٍ أُخرى وهي أنّ فهمنا لما أَرشد إليه السمع واستنباطاتنا من الكتاب والسنَّة غير مصانين من الخطأ أيضاً، ولكن هذا إشكال آخر يَختلف عن الأوَّل، وممَّا بيَّناه من مراد المجلسي (قدس‏ سره) لا يَلزم محذور الدور في إثبات الصانع والتوحيد من الأدلَّة النقليَّة.

4 ـ ومن كلماته التي تُوهم دلالتها على منع المجلسي من حجيَّة العقل قوله(قدس‏ سره) في رسالة الاعتقادات: «ومعاذ الله أن يتَّكِلَ الناس إلى عقولهم في أصول العقائد، فيتحيَّرون في مراتع الجهالات» (34). ونحن لو عُدنا إلى كلام المجلسيِّ السابق واللاحق لِمَا ذُكر أعلاه لَتَبيَّن لنا سياق الكلام بوضوحٍ ولارتَفع اللبس في مراده (قدس‏ سره) فإنَّما أورد الكلام المذكور لأنَّه كان يُشدِّد في النكير على أصحاب العقول الذين اعتمدوا آراء ونظريَّات الفلاسفة اليوانيِّين الملاحدة على حدِّ قوله، وتركوا روايات

________________________________________

(33) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 1، ص 260.

(34)المجلسي، محمد باقر، الاعتقادات، ص 17 أصفهان، مكتبة العلامة المجلسي، ط1، 1409.

وأخبار أهل البيت(عليهم ‏السلام) وراحوا يؤوِّلون الأخبار ويحمِلونها على ما يُوافق أقوال ونظريَّات هؤلاء الفلاسفة. ونحن سنُورد كلامه بتمامه حتَّى يتَّضح مراده (قدس‏ سره): «ثمَّ إنَّهم صلوات الله عليهم تركوا بيننا أخبارهم، فليس لنا في هذا الزمان إلا التمسّك بأخبارهم، والتدبّر في آثارهم، فترك أكثر الناس في زماننا آثار أهل بيت نبيّهم، واستبدَّوا بآرائهم. فمنهم من سلَك مسلك الحكماء الذين ضلَّوا وأضلَّوا، ولم يُقِّروا بنبيٍّ، ولم يُؤمنوا بكتابٍ واعتمدوا عقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة، فاتَّخذوهم أئمّةً وقادةً. فهم يؤوِّلون النصوص الصريحة الصحيحة عن أئمَّة الهدى صلوات الله عليهم بأنَّه لا يُوافق ما ذهب إليه الحكماء، مع أنَّهم يَرون أنَّ دلائلهم وشُبهَهَم لا تُفيد ظناً ولا وهماً، بل وليس أفكارهم إلا كنسج العنكبوت. وأيضاً يرون تَخالَف أهوائهم وتَباين آرائهم، فمنهم مشَّاؤون، ومنهم إشراقيِّون، قَلّ ما يُوافق رأي إحدى الطائفتين رأي الأخرى، ومعاذ الله أن يتَّكِلَ الناس إلى عقولهم في أصول العقائد، فيتحيَّرون في مراتع الجهالات. ولعمري إنِّهم كيف يَجترئون أن يؤوِّلوا النصوص الواضحة الصادرة عن أهل بيت العصمة والطهارة، لحُسن ظنهم بيونانيٍّ كافرٍ لا يَعتقد ديناً ولا مذهب» (35). ويَحتمل كلامه هذا أنَّه أنكر الاعتماد على العقل في أصول العقائد من قبيل التفكِّر في ذات الله أو في معنى أنَّ الذَّات عين الصفات أو أنَّ العالم قديم أو حادث… وما شاكلها من المسائل المرتبطة بأصول العقائد وإنكارها يَستلزم ـ في رأي المجلسيّ كحدوث العالم ـ إنكار التوحيد وتعدّد الواجب، وهذه المسائل وإن كان بعضها قابلاً للإثبات عقلاً وأثَبَته الحكماء والمتكلِّمون إلا أنَّ هذا لا يُلازم نفي حجيَّة العقل مطلقاً عنده بل غاية ما يدلُّ عليه كلامه هو نسبة الخطأ إلى عقولهم في الاستدلال على الأصول الاعتقاديَّة».

والحقُّ أنَّ نزاع المجلسي مع الفلاسفة لم يَكن في أصل اعتماد العقل بل كان خلافه معهم حول حدود ومجالات اعتبار العقل في الدِّين، فمثلاً نرى أنَّ المجلسيَّ لا يُسلِّم بكون الصفات الإلهيَّة عين الذَّات؛ لعدم ورود النقل بذلك ممَّا يدل على أنَّ

________________________________________

(35) المصدر نفسه.

 

مراد المجلسيّ من رفض الأدلَّة العقليَّة في أصول الدين هو رفض اعتمادها في بعض التفاصيل والجزئيَّات من أصول الدِّين لا نفس أصول الدِّين فإنَّه أنكر عينيَّة الصِّفات للذَّات لعدم تأييد النقل، لذلك لا يَرى للعقل دوراً وكشفاً في ذلك، قال (قدس‏ سره):

«ويدل ـ الحديث ـ على نفي زيادة الصِّفات أي نفي صفات موجودةٍ زائدةٍ على ذاته سبحانه، وأمَّا كونها عين ذاته تعالى بمعنى أنَّها تصدق عليها أو أنَّها قائمة مقام الصفات الحاصلة في غيره تعالى أو أنَّها أمور اعتباريَّة غير موجودةٍ في الخارج، واجبة الثبوت لذاته تعالى فلا نصَّ فيه وفي أمثاله على شيءٍ منها، وإن كان ظاهر أكثرها أحدَ الأوّلين» (36).

لكن يَبدو أنَّ المجلسي عَدلَ عن هذا الرأي وقال بثبوت كون صفاته تعالى عين ذاته قال في رسالته القيّمة الاعتقادات التي أورد فيها عصارة آراءه ومبانيه:

«

فمما ثَبَت في الدِّين بالآيات والأخبار المتواترة هو أنَّه تعالى واحدٌ لا شريك له في ملكه، ولا يَجوز عبادة غيره، ولم يَستعن في خلق العالم بأحدٍ غيره، وأنَّه أحديُّ الذَّات ليس له أجزاء خارجيَّة ولا وهميَّة ولا عقليَّة، وأنَّه أحديُّ المعنى ليس له صفات زائدة، بل صفاته عين ذاته» (37).

فرسالة الاعتقادات ألّفها بعد أعوام من الشروع في تأليف مرآة العقول، وما ذكره من عدم النصِّ على ثبوت أنَّ الصفات عين الذَّات إنَّما هو في أوائل المرآة فمن المُحتمل قويَّاً جدَّاً أنْ يكون تَراجَعَ في الاعتقادات عن ذلك، قال صاحب الذريعة:

«وقد فرغ من تصنيفه ـ المرآة ـ في السنة الثانية بعد المائة والألف، وكان قد فرغ من شرح كتاب روضة الكافي في 1076 كما في نسخة الرضويَّة فيظهر أنَّه بدأ بشرح كتاب الروضة وكان في شرح البقيَّة إلى 1102» (38).

وفي رسالة جوابيَّة على أسئلة ثلاث كانت قد طُرحت عليه أبَانَ المجلسي مدى اعتبار العقل ودائرة حجيَّته في تحصيل المعارف وفهم النصوص الدينيَّة، وقد وجد

________________________________________

(36) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 2، ص 14.

(37) المجلسي، محمد باقر، حق اليقين، طهران، ص 20.

(38) تهراني، آقا بزرك، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 20، ص 280، قم، اسماعيليان وكتابخانه اسلاميه، تهران، 1408هـ.

أحد الباحثين نُسَخاً خطيَّةً مختلفة منها، وبالرغم من عدم وجود هذه الرسالة المختصرة في مؤلَّفات المجلسيّ التي ذكرها سبطه وتلميذه الخاتون آبادي إلا أنَّه استدلَّ على صحَّة نسبتها للمجلسيّ بوجودها في رسالة نقضيَّة على الصوفيين توفّيَ مؤلِّفها عام (1173هـ) (39)، يقول المجلسي (قدس‏ سره): (وأرى عدم صحَّة العمل بالأصول العقليَّة غير المُستنبَطة من الكتاب والسنَّة، ولكن أرى جواز اتِّباع الأصول والقواعد الكليَّة المُستخرَجة من عمومات الكتاب والسنّة إذا لم تُعارض بنصٍّ خاص، وقد ذَكرت تفصيل هذه الأمور في المجلَّد الأخير من بحار الأنوار» (40) فيُلاحظ أنَّ المجلسيَّ يرى حجيَّة القواعد الأصوليَّة والفقهيَّة المُستفادة من الكتاب، وأمَّا الأصول والنظريَّات التي جاء بها الفلاسفة من قبيل العقول العشرة وقِدَم العالم الزمانيّ والحركة الجوهريّة ووحدة الوجود وتجرّد الروح (41) فهو يُنكرها لمخالفتها للكتاب والسنَّة على حدِّ رأيه.

فتعبير المجلسي عن آراء ونظريَّات الفلاسفة التي يُخالفها بقوله «الأصول العقليَّة» لا يُريد به إنكار الأصول العقليَّة البديهيَّة كبطلان التناقض والدور والترجيح بلا مرجِّح وأنَّ الضدَّين لا يَجتمعان، والكلُّ أكبر من الجزء والواحد نصف الاثنين… ولا إنكار الأصول والقواعد العقليَّة التي يُثبَت بها أصول الدِّين، فقد ورد في طيَّات مؤلّفاته (قدس‏ سره) الكثير من المحاكمات تأييداً أو إبطالاً لبعض المسائل معلِّلاً ذلك بمطابقتها أو مخالفتها للأدلَّة العقليَّة، وتصريحه بذلك وتبنّيه له لا يَقبل الشك والارتياب كما مرَّ عليك شواهده وإنكارُه مكابرةٌ، فما ورد على لسانه ممَّا يُوهم إنكاره لحجيَّة العقل، إنَّما أراد به العقل الفلسفيّ أو الاستدلالات المبنيَّة على المقدِّمات البعيدة والمفاهيم الفلسفيَّة المبهَمة لا مُطلق العقل، أو أنَّه قال ذلك وكرَّره ردَّاً على المتبجِّحين بحجيَّة العقل في كلِّ شيءٍ.

5 ـ وفي الجواب عن إشكال معرفة الإمام بوقت وفاته ومع ذلك يُعيِن على نفسه حيث قال الإمام (عليه السلام): «خُيِّر في تلك الليلة لتمضي مقادير الله عزَّ وجلّ»، قال

________________________________________

(39) رسالة »رد صوفيان« لملا اسماعيل الخواجوئي.

(40) جعفريان، رسول، روياروتي فقيهان وصوفيان در عصر صفويان، شناخت نامه علامه مجلسي، ص 363 طهران، سازمان جاب وانتشارات وزارت فرهنك وارشاد اسلامى، ط1، 1378هـ .

(41) صرح (قدس‏ سره) في موضع واحد إمكان تجرد الروح استفادةً من بعض الروايات، وإن كان أكثر كلامه على إنكار ذلك، ومن أراد التفصيل فليراجع كتابنا: مباني فقه الحديث عند المجلسي في مرآة العقول.

المجلسيّ: «هو مبنيٌّ على منع كون حفظ النفس واجباً مطلقاً، ولعلَّه كان من خصائصهم عدم وجوب ذلك عند اختيارهم الموت، وحكم العقل في ذلك غير متَّبع، مع أنَّ حكم العقل بالوجوب في مثل ذلك غير مسلَّم» (42).

ولا شكَّ أنَّ وجوب حفظ النفس ممَّا تسالم عليه العقلاء وهو لا يتوقَّف على وروده في الشرع أو عدم وروده، ولا يتوقَّف أيضاً على عِلم المكلَّف بوروده في الشرع، فالعقلاء يَلومون من يَتناول السُمَّ القاتل، أو يُلقي بنفسه إلى التّهلكة ويُعرِّضها للإتلاف، بل إنَّ العقلاء يَلومون من لم يَدفع عن نفسه الضرر المعتدَّ به ويُوجبون التحرّز عن مثل هذا الضرر فضلاً عن الموت.

ولو اكتفى (قدس‏ سره) بعدم إيجاب حفظ النفس عليهم (عليهم ‏السلام) لكان أسهل وأهون؛ لأنَّ حفظ النفس ليس واجباً مطلقاً وعلى كلِّ حالٍ بل إنَّما حفظ النفس إذا لم يُزاحمه واجب أهمُّ وأخطر كمن يُجاهد ويُعرِّض نفسه للهلاك حفاظاً على بيضة الإسلام، أو ذوداً عن عِرضه…

وقد يُقال أنَّ استثناءه لهم (عليهم ‏السلام) من وجوب حفظ النفس عند الموت إنَّما هو من قبيل تخصيص الأحكام العقليَّة والمعروف أنَّ الأحكام العقليَّة آبية عن التخصيص ذلك لأنَّه وإن شكَّك في حكم العقل بوجوب حفظ النفس، لكنَّه بعد أن فرَض التسليمَ بهذا الوجوب العقليّ صرَّح بعدم وجوب اتِّباعه، وبعبارةٍ أُخرى فهو يَرد حكم العقل على فرض حكمه بذلك الوجوب وإن لم يُسلِّم بحكومة العقل.

لكن يُمكننا توجيه الحديث المذكور مع الحفاظ على وجوب حفظ النفس عقلاً بأن يُقال:

أولاً: ما عرفته ممَّا ذكرناه آنفاً، فإنَّ حفظ النفس ليس واجباً مطلقاً ومن دون قيدٍ وشرطٍ، بل هو واجب عند عدم مزاحمة واجب أهمّ له كحفظ الدِّين.

ثانياً: إنَّ الحديث المذكور يصرّح بأنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) خُيِّر من عند الله عزَّ

________________________________________

(42) المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ج 3، ص 123.

وجل بين البقاء واللقاء، وإنَّ أصل التخيير من الله لو ثبت يدلُّ بداهةً على أنَّ الخيارَين مورد رضا الله عزّ وجل وطاعته، وإن كان أحدهما أحَبَّ إلى الله وأعظم وأنفع وأولى له(عليه السلام)، وما من شكٍّ أنَّ العقل حاكم بوجوب طاعة المولى الحقيقي فيدخل اختياره(عليه السلام) لقاءه تعالى في طاعته التي يُوجبها العقل.

ومهما يكن فإنَّنا لو سلَّمنا بتنكِّره لحكم العقل هنا، فلا يُمكن تعميم القول بقوله بعدم اعتبار العقل مطلقاً وهو واضح.

6 ـ وفي الاستدلال على عصمة الأنبياء والأئمَّة (عليهم ‏السلام) قال المجلسي: «فاعلم أنَّ العمدة فيما أختاره أصحابنا من تنزيه الأنبياء والأئمَّة (عليهم ‏السلام) عن كلِّ ذنبٍ ودناءةٍ ومنقصَةٍ قبل النبوَّة وبعدها قول أئمتنا سلام الله عليهم بذلك، المعلوم لنا قطعاً بإجماع أصحابنا مع تأيّده بالنصوص المتضافرة، حيث صار ذلك من قبيل الضروريَّات في مذهب الإماميَّة. وقد استدلَّ عليه أصحابنا بالدلائل العقليَّة» (43).

وكلامه هذا لا يَظهر منه أكثر من تقديم النقل على العقل في إثبات العصمة، وهو وإن كان باطلاً؛ لأنَّه يَستلزم الدور من حيث أنَّ إثبات حجيَّة أقوالهم (عليهم ‏السلام) يتوقَّف على عصمتهم، وعصمتهم متوقِّفة على أقوالهم، فلا يُمكن الاستفادة منه تبنّيه عدم حجيَّة الاستدلالات العقليَّة، فتقديمه النقل على العقل واعتماده النقل شيءٌ وعدم حجيَّة العقل شيءٌ آخر.

معرفة الله موهبيَّة أم اكتسابيَّة عند المجلسيّ؟

أطبق علماء الإسلام على أنَّ معرفة الله عزَّ وجل واجبةٌ، واتَّفق أكثرهم على أنَّ هذه المعرفة لا تحصل إلا بالاستدلال والنَّظر في مقدِّماتها للوصول إلى العلم بوجوده عزَّ وجل، وأنَّ هذه المعرفة اكتسابيَّة لا بدَّ من إعمال النَّظر والتفكِّر فيها وليست ضروريّةً بديهيَّةً ولم يجوِّز التقليد فيها إلا من شذّ.

لكنَّهم اختلفوا في أنَّ هذا الدليل الذي دلَّ على وجوب المعرفة هل هو العقل أو

________________________________________

(43) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 25، ص 275.

السمع؟ فقال الأشعريَّة بأنَّ دليل وجوب معرفة الصانع هو النقل، وقال الإماميَّة والمعتزِلة بأنَّه العقل، وإذا ورد في الشرع ما يُوجب ذلك فهو مؤيِّد لحكم العقل.

وليس معنى الوجوب العقليِّ هنا إلا إدراك العقل لضرورة المعرفة ولزوم التفكير والاجتهاد في أصول الاعتقادات، وهذا يَعني أنَّ العقل هو الطريق لحصول هذا النوع من المعارف والوسيلة التي يَكتسب بها أصول الاعتقادات كالتوحيد فهي اكتسابيَّة تحصيليَّة.

هذا هو المشهور والمعروف عند الإماميَّة بل عند أكثر علماء الإسلام وهو أنَّ معرفة الله كسبيَّة تحصل بالتفكّر والتدبّر، أمَّا المجلسيّ فمع اعترافه بذلك وقوله: «لكن المشهور بين المتكلِّمين من أصحابنا والمعتزلة والأشاعرة أنَّ معرفته تعالى نظريَّة واجبةٌ على العباد… وإجماع المتكلِّمين على وجوب النَّظر في معرفة الله تعالى، بل إجماع الأمَّة عليه» (44) نراه يَعتقد متأثِّراً بالأمين الاسترآبادي مؤسِّس المنهج الأخباري أنَّ العلوم والمعارف إلهامٌ من الله، وليس للمكلَّف دور في حصولها له إلا التسليم والإقرار بالله والعقائد الحقَّة وتهذيب النفس بالعبادات والأعمال الصالحات، بل لم يقف المجلسيُّ عند ذلك بل هو يرى أنَّ تحصيل العلوم والمعارف مُحالٌ والأمر باكتسابها وتحصيلها أمر بالمحال.

وإنَّما نحى المجلسي هذا المسلك لاستظهاراته من بعض الأخبار التي يَظهر منها أنَّ المعرفة من فعل الله وصُنعه ففي الحديث عَنْ ُحمَّدِ بنِ حَكيمٍ قالَ: « قُلْتُ لأَبي عَبْدِ الله (عليه السلام) المَعْرِفَةُ مِنْ صُنْع مَنْ هيَ؟ قالَ مِنْ صُنْعِ الله لَيْسَ للعِبَادِ فيها صُنْع» (45).

ونحن هنا سنُورد كلام المجلسي(قدس‏ سره) الذي ذكـره ذيل هذا الحديث حرفيَّاً وكلاماَ آخر له ذيل حديثٍ آخر ثمَّ نناقشه، يَقول شارحاً الحديث السابق: «والمراد بالمعرفة إمَّا العلم بوجوده سبجانه فإنَّه ممَّا فطر الله العباد عليه، إذا خلوا أنفسهم عن المعصية، والأغراض الدنيَّة كما قال تعالى:{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ }

________________________________________

(44) المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ص223 ـ 227.

(45) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1 ص163.

{لَيَقُولُنَّ الله } وبه فسَّر قوله (عليه السلام): من عرف نفسه فقد عرف ربَّه، أي من وصل إلى حدٍّ يعرف نفسه فيُوقِن بأنَّ له خالقاً ليس مثله، ويُحتمَل أن يكون المراد كمال المعرفة، فإنَّه من قِبَل الله تعالى بسبب كثرة الطاعات والعبادات والرياضات، أو المراد معرفة غير ما يتوقَّف عليه العلم بصِدْق الرُّسل فإنَّ ما سوى ذلك إنَّما نعرفه بما عرَّفنا الله على لسان أنبيائه وحُججه صلوات الله عليهم، أو يُقال: المراد بها معرفة الأحكام الفرعيَّة لعدم استقلال العقل فيها، أو المعنى أنَّها إنَّما تحصل بتوفيقه تعالى للاكتساب وذهب الحكماء إلى أنَّ العلَّة الفاعلة للمعرفة تصوريَّاً كان أو تصديقيَّاً، بديهيَّاً كان أو نظريَّاً، شرعيَّاً كان أو غيره، إنَّما يَفيض من الله تعالى في الذِّهن بعد حصول استعدادٍ له بسبب الإحساس أو التجربة أو النظر والفكر والاستماع من المعلِّم أو غير ذلك، فهذه الأمور مُعِدَّات والعبد كاسبٌ للمعرفة لا موجد لها، والظاهر من أكثر الأخبار أنَّ العباد إنَّما كُلِّفوا بالانقياد للحقِّ وترك الاستكبار عن قبوله، فأمَّا المعارف فإنَّها بأسرها ممَّا يُلقيه الله سبحانه في قلوب عباده بعد اختيارهم للحقِّ, ثمَّ يُكمِّل ذلك يوماً فيوماً بقدَر أعمالهم وطاعاتهم حتَّى يُوصِلَهم إلى درجةِ اليقين، وحسبك في ذلك ما وصل إليك من سيرة النبيين وأئمَّة الدِّين في تكميل أُمَمهم وأصحابهم فإنَّهم لم يُحيلوهم على الاكتساب والنَّظر، وتَتبِّع كتب الفلاسفة وغيرهم، بل إنَّما دعوهم أولاً إلى الإقرار بالتوحيد وسائر العقائد، ثمَّ إلى تكميل النفس بالطاعات والرياضات، حتَّى فازوا بما سعدوا به من أعالي درجات السعادات».

وبعد عدَّة صفحات أورد الحديث التالي: «عَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَبْد الأعْلَى قالَ قٌلْتُ لأبي عَبْدِ الله (عليه السلام) أصْلَحَكَ اللهُ هَلْ جُعِلَ في النَّاسِ أداةٌ يَنالُونَ بها المَعْرفَةَ قالَ فَقالَ لا ٌثلْتُ فَهَلْ كُلْفُوا المَعْرفَةَ قالَ لا عَلَى الله البَيَانُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلا وُسْعَها، ولا يُكَلِّف الله نَفْساً إلا ما آتاها قالَ وسَألْتُهُ عَنْ قَوْلِه وما كانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إذْ هَداهُمْ حتَّى يُبَيِّنَ لهُمْ ما يَتَّقُونَ قالَ حتَّى يُعَرِّفَهُم ما يُرْضِيه وما يُسْخِطُه» (46) ثمَّ علّق عليه بقوله: «هل جعل في الناس أداةً: أي آلةً من العقل والفهم يَنالون بها بدون التعريف

________________________________________

(46) الكليني، محمد بن يعقوب، ج1 ص163.

والتوقيف المعرفة بأحد المعاني المتقدِّمة، (فهل كُلِّفوا المعرفة): أي بالنظر والاستدلال (على الله البيان): أي وعليهم القبول كما رُوي في التوحيد عن الصادق (عليه السلام) قال: ليس لله على الخلق أن يَعرفوا قبل أن يَعرفهم، وللخلق على الله أن يُعرِّفهم، ولله على الخلق إذا عرفهم أن يَقبلوا، ثمَّ أشار (عليه السلام) إلى أنَّ تكليفهم بالمعرفة أو بكمالها تكليف بالمحال بقوله: (لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إلا وُسْعَها) والوِسْع أوسع من الطاقة، (ولا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إلا ما آتاها) أي ما آتاها علمه، وظاهره أنَّ المعارف توقيفيَّة، وتكليفهم بتحصيلها تكليفٌ بالمُحال وقد سبَق الكلام فيه» (47).

وأغرب ما في كلامه أنَّه نَسب إلى الأنبياء والأئمَّة (عليهم ‏السلام) عدم دعوة الناس إلى التفكّر والتعلّم في الأصول والفروع والاكتفاء بالتسليم والطاعة حيث قال: «فإنَّهم لم يُحيلوهم على الاكتساب والنظر» وهو يُناقض جهاراً دعوة الكتاب والسنَّة إلى طلب العلم وتحصيله وهي صريحة ومواردها كثيرةٌ جدَّاً.

وأغرب من هذا هو توجيهه لِمَا ورد فيهما بما نَقله عن الأمين الاسترآبادي في الفوائد المدنيَّة حيث نَقل له أكثر من كلام، يقول المجلسيّ:

«وقال ـ الاسترآبادي ـ في موضعٍ آخر: قد تواترت الأخبار أنَّ معرفةَ خالق العالم ومعرفة النبيّ والأئمّة (عليهم ‏السلام) ليستا من أفعالنا الاختياريَّة، وأنَّ على الله بيان هذه الأمور وإيقاعها في القلوب بأسبابها، وأنَّ على الخلق بعد أن أوقع الله تلك المعارف الإقرار لها والعزم على العمل بمقتضاها. ثمَّ قال في موضعٍ آخر: قد تواترت الأخبار عن الأئمَّة الأطهار (عليهم ‏السلام) بأنَّ طلب العلم فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ كما تواترت بأنَّ المعرفة موهبةٌ غير كسبيَّة، وإنَّما عليهم اكتساب الأعمال فكيف يكون الجمع بينهما؟ أقول: الذي استفدته من كلامهم (عليهم ‏السلام) في الجمع بينهما: أنَّ المراد بالمعرفة ما يتوقَّف عليه حجيَّة الأدلَّة السمعيَّة من معرفة صانع العالم، وأنَّ له رضاً وسخطاً، وينبغي أن يَنصب معلِّماً ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم، ومن معرفة النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، والمراد

________________________________________

(47) يظهر من بعض الباحثين أنّه لم يقرأ كلام المجلسي بتمامه فتصور أن المجلسي يخالف الأخباريين وزعيمهم فبعد أن نقل كلام المجلسي السابق عن مشهور المتكلمين قال: »كما نشاهد فإن العلامة جعل الأخباريين في مقابل المتكلمين والمعتزلة والأشاعرة وبذلك ضعف نظريتهم« راجع، نصيري، علي، علامه مجلسي ونقد ديد كاههاى فلاسفه، علوم حديث، 1381هـ . ش، 26؛ المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ج2، ص221ـ 226، وج5 ص223.

بالعلم الأدلَّة السمعيَّة كما قال(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم): العلم إمَّا آية محكَمة أو سنَّة متَّبعة أو فريضة عادلة، وفي قول الصادق(عليه السلام): إنَّ من قولنا أنَّ الله احتجَّ على العباد بما آتاهم وعرفهم، ثمَّ أرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتاب وأمر فيه ونهى، وفي نظائره إشارة إلى ذلك، ألا ترى أنَّه (عليه السلام) قدَّم أشياء على الأمر والنهي، فتلك الأشياء كلَّها معارف، وما يُستفاد من الأمر والنهي كلّه هو العلم، ويُحتمل أيضاً أن يُراد بها معرفة الأحكام الشرعيَّة وهو الذي ذهب إليه بعض أصحابنا حيث قال: المراد بهذه المعرفة التي يّعذَّب ويُثاب مخالفها وموافقه» (48).

أولاً: إنَّ الآيات في طلب العلم والأخبار في إحالتهم (عليهم ‏السلام) لشيعتهم على التعلّم والتفكّر في الأصول والحثِّ على ذلك والترغيب إليه بألوان الثواب وأنواع الترغيب عن تركه كثيرة جداً، أمَّا في القرآن فهو كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله} (محمّد، 19) {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ الله السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالحَقِّ وَأَجَلٍ} (الروم، 8) {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}(الغاشية، 17) {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران، 191)… وأمَّا في الأخبار فمثل ما ورد: عَنْ يُونُسَ عنْ جَميل عَنْ أبي عَبْدِ الله (عليه السلام) قالَ: سَمِعْتُه يقُولُ يَغْدُو النَّاسَ عَلَى ثَلاثَةِ أصْنافٍ عَالِمٍ ومُتعلِّمٍ وغُثَاءٍ فنَحْنُ العُلَماءُ وشِيعَتُنا المُتَعَلِّمُون وسَائرُ النَّاسِ غُثاء» (49) وهي صريحة في ذلك بلا مِرية وهو لازم كون العلوم اكتسابيَّة كما هو واضح، وغريب جداً منه أن يدَّعي ذلك حتَّى ولو تبنَّى ما قاله الاسترآبادي من الفَرق بين المعرفة والعلم، وأنَّ المُراد بالمعارف العقائد وبالعلوم الأحكام الشرعيَّة حيث نَقل عنه: «المراد بالمعرفة ما يتوقَّف عليه حجيَّة الأدلَّة السمعيَّة من معرفة صانع العالم، وأنَّ له رضاً وسخطاً، ويَنبغي أن يُنصِّب معلّماً ليعلِّم الناس ما يُصلحهم وما يُفسدهم، ومن معرفة النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، والمراد بالعلم الأدلَّة السمعيَّة كما قال(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم): «العلم إمَّا آيةٌ محكَمة أو سُنَّة متَّبعة أو فريضة عادلة» (50).

________________________________________

(48) المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ج2 ص223.

(49) الكليني، محمد بن يعقوب، ج1 ص34.

(50) المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ج2 ص223.

وذلك لأنَّه وإن كان التتبُّع يُفضي إلى أنَّ أكثر ما استُعملت «المعرفة» به في الحديث هو ولاية الأئمَّة (عليهم ‏السلام) والاعتقاد بالله والنب(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) خاصّةً وهي أكثر ما وردت في الولاية إلا أنَّ أحداً لا يَستطيع إنكار جواز إطلاق كلٍّ من «العلم» و«المعرفة» على كلٍّ من الاعتقادات والأحكام والأخلاق وقد وقع في الكتاب والسنَّة كما قال تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله} (محمد، 19) وكما ورد في الحديث: «مَا العِلْمُ باللهِ والعَمَلُ إلاّ إلْفَانِ مُؤْتَلِفانِ فَمَنْ عَرَفَ الله خافَهُ وحَثَّهُ الخَوْفُ عَلَى العَمَلِ بطَاعَةِ الله وإنَّ أرْبابَ العِلْمِ وأتْبَاعَهُمُ الَّذينَ عَرَفُوا الله فَعَمِِِلُوا لهُ وَرَغِبُوا إلَيْه وقَدْ قالَ اللهُ إنَّما يَخْشَى الله من عِبادِهِ العُلَماءُ» (51) بل إنَّ المجلسيّ نفسه علّق على الحديث الذي نقله عن الكافي عن عَليُّ بنُ إبْراهِيم عَنْ أبيهِ عَنْ النَّوْفَليِّ عَنِ السَّكُونيِّ عَنْ أبي عَبْدِ الله (عليه السلام) قالَ ثَلاثَةٌ مِنْ عَلامَاتِ المُؤْمنِ العِلْمُ بالله ومَنْ يُحِبُّ ومَنْ يَكْرَه» بقوله:

«بيان: العلم بالله أي بالربوبيَّة وصفاته الكماليَّة فيؤمن به ومن يُحِب أي يُحبِّه الله من النبي والأئمَّة (عليهم ‏السلام) وأتباعهم فيواليهم ويُتابعهم أو من يُحبه المؤمن ويَلزمه محبَّته ومن يَكره أي يكرهه الله فيُبغضه ولا يُواليه أو من يُحب أن يكره» (52).

ثانياً: إنَّ كلام المجلسي حول كيفيَّة حصول المعرفة يَكتنفه الإبهام بل التعثُّر البيِّن فهو من جهة يُلزم المكلَّفين بضرورة اتِّباع الحق والإقرار بأصول الدّين، ومن جهةٍ أُخرى يقول إنَّ العلوم جميعَها سيَّما معرفة الله وتوحيده تحصل بالإلهام لكن بعد اتِّباع الحقّ، وهاك كلامه:

«والظاهر من أكثر الأخبار أنَّ العباد إنَّما كُلِّفوا بالانقياد للحقِّ وترك الاستكبار عن قبوله، فأمَّا المعارف فإنَّها بأسرها ممَّا يُلقيه الله سبحانه في قلوب عباده بعد اختيارهم للحقِّ ثمَّ كمّل ذلك يوماً فيوماً…» (53).

فكلامه هذا يؤدِّي إلى الدور لأنَّ الظاهر منه أنَّ اختيار الحقِّ من المكلَّفين لا يَقع إلا بعد إلقاء المعراف بأنواعها بما فيها المعارف الأصوليَّة (حيث قال: يُلقيه.. بعد

________________________________________

(51) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج8 ص116.

(52) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 64، ص 357.

(53) المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، ج2 ص222.

اختيارهم للحقّ)، وهذا هو الدور بعينه لأنَّك ترى أنَّ اختيار الحقّ (أي المعارف الحقَّة) من المكلَّف شرط حصول الحقِّ للمكلَّف فتوقَّفَ حصول الحقِّ على نفسه. إلا أن يكون مراده بالمعارف أدلَّة الأصول الدينيَّة وبراهينها وعندها يكون المُلقَى من الله عزَّ وجل إلى قلوب العباد هو دلائل التوحيد مثلاً نتيجةَ تسليمهم للحقّ، وأمَّا نفس الإيمان بالله ووحدانيَّته فهو حاصل له ومفطور عليه.

ولكن لو كان مراده ذلك فمؤدَّى هذا الكلام أن يكون اختيار الإنسان للتوحيد مجرَّداً عن الدليل، لأنَّ اختيار التوحيد يكون قبل إلقاء الأدلَّة إليه أي يكون اختياراً لا عن تفكّر وتدبّر فيكون الاختيار اتّفاقياً وأيُّ مدح يستحقَّه مختار ذلك، بل لو اختار التوحيد من دون أدلَّته كان ترجيحاً بلا مرجِّح.

ثالثاً: المناقشة في فقه الحديث: أي سؤال مُحَمَّدِ بنِ حَكيمٍ قالَ: «قُلْتُ لأبي عَبْدِ الله (عليه السلام): المَعْرفَة مِنْ صُنْعِ مَنْ هيَ؟ قالَ: مِنْ صُنْعِ الله لَيْسَ لِلعِبادِ فِيها صُنْع» فهو وإن كان ظاهره يدلُّ على أنَّ صانع العالم عزَّ وجل هو صانع المعرفة، وليس غيره إلا أنَّه إنَّما جاز سلب صناعتها عن غير الله لأنَّ الله هو واهب العقول والقوى التي بها تحصل العلوم والمعارف، ولولاها لما تمكَّنَ الإنسان من المعرفة هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ ثانيةٍ فإنَّ بعض أسباب حصول المعارف يَقع في اختيار الإنسان كالسعي والجدِّ له ورفع الموانع عن ذلك والله عزَّ وجلَّ هو جاعل الاختيار للإنسان، ومن جهةٍ ثالثةٍ فإنَّ أسباب حصول المعارف التي جزءٌ منها بيد الإنسان لا تَكفي؛ لأنّضها جزء العلَّة لا تمامها، فلا بدَّ أن تنضمَّ إليها الإفاضة الإلهيَّة، ولمَّا كانت الإرادة الإلهيَّة جزءَ العلَّة ولا يتحقَّق المعلول إلا بتحقِّق جميع أجزاء العلَّة جاز نسبة صناعتها إلى الله عزَّ وجل، بل جاز حصرها بالله تعالى للجهات الثلاث التي ذكرناها، وقد ورد نسبة الهداية والإضلال بل حصرُها به عز وجل في قوله تعالى {فَما لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَالله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ الله وَمَنْ يُضْلِلْ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } (النساء، 88) وكذلك قولته تعالى: { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ }

________________________________________

 

{يَعْمَهُونَ } (الأعراف، 186) وغير ذلك من الآيات.

والصحيح في فقه هذه الرواية أنَّها ونظائرها من الروايات التي يَظهر منها أنَّ العلم والمعرفة الإنسانيَّة من أفعال الله إنَّما تَقصد إلى أنَّ الله عزَّ وجل فطر الإنسان على الإيمان بوجوده، فلو تفكَّر ونَظَر في الآفاق وفي النفس لأمكن له التصديق بذلك، وعليه فلو آمن الإنسان بعد ذلك فهو إيمان بفعل الله عزَّ وجل الذي هيَّأ له أسباب المعرفة وموادَّها فحاز أن تنسب المعرفة لصنع الله.

وهذا ما علّق به العلامة الطباطبائي على شرح المجلسي للرواية في البحار الذي جاء به مكرَّراً في مرآة العقول مع تغييرات لفظيَّة طفيفة يقول العلامة الطباطبائي:

«لا يخفى أنَّ الإرادة التي هي مناط الاختيار لا تتعلَّق بشيءٍ إلا عن تصوّرٍ وتصديق إجمالاً أو تفصيلاً فمن المُحال أن يتعلَّق الإرادة بأصل المعرفة والعلم فيكون اختياريَّاً من صُنع العبد كأفعال الجوارح، وهذا هو الذي تذكره الروايات، وأمَّا تفاصيل العلم والمعرفة فهي كسبيَّة اختياريَّة بالواسطة بمعنى أنَّ الفكر في المقدِّمات يَجعل الإنسان مستعدَّاً لإفاضة النتيجة منه تعالى، والعلم مع ذلك ليس فعلاً من أفعال الإنسان».

خلاصة واستنتاج

وفي ختام هذه المقالة نخلص إلى القول بأنَّ ما نُسب إلى المجلسي(قدس‏ سره) من نفي حجيَّة العقل مطلقاً عارٍٍ عن الصحَّة، والذين نسبوا له هذا القول لم يتمعَّنوا في كلامه أو فَصَلوه عن سياقه أو لم يضمّوا إليه بياناته وتصريحاته الأخرى.

نعم يَظهر من بعض كلماته نفي حجيَّة العقل في بعض الموارد الخاصَّة، ومع التسليم بعدم صحة ما ادَّعاه فإنَّه لا يُمكن تسرية الحكم إلى جميع مُثبتات العقل فننسب له نفي حجيَّتها؛ لأنَّه يُقرُّ بالبراهين والأحكام العقليَّة ويَعتمدها حجَّةً في ردِّ أو قبول معاني الأخبار.

________________________________________