الجابري .. واللامعقول الشيعي!

721

الجابري .. واللامعقول الشيعي!

الأستاذ إدريس هاني‏(*)

جَدَلُ الخطابة المُتَستِّر بمناهج علمية في ظاهرها

الخاصية التي تتبادر إلى الذهن، ونحن نقرأ أبحاث د. الجابري‏ (1) حول الفكر الشيعي وتاريخه السياسي، هي تلك المحاولة التي لم تقطع مع طرائق الجدل، ونعني بها طرائق الخطابة القائمة على كثرة الأقيسة الناقصة والمصادرات على المطلوب، والمغالطات…، حتى وهي تتستّر وراء مناهج ومفاهيم، تبدو ففي ظاهرهاف علمية، وبرهانية (2) . على أنه لا يكفي، في التحليل العلمي، إيراد المفاهيم العلمية، هذه التي من اليسير تحويلها إلى أساس لرؤية مفارقة، حينما لا نحسن استخدامها أو توظيفها.

لم تكن محاولة الجابري، إذن، سوى عملية جريئة، لتحيين ذلك الصراع التقليدي، الذي يتم فيه الانتصار لعقلانية فانتازية، تجد إطارها فبتكلف وإسراف زائدين ـ في ظاهرية ابن حزم وسلفية ابن تيمية (3) ، وهي محاولة تراثية استهدفت العقل نفسه عند المعتزلة وعموم الفلاسفة.. في حين لا يجد المشروع العقلاني، كما خطط له الجابري، إطاره الحالم، في إسهامات الفلاسفة المسلمين، الذين نعتهم بأنصار العقل المستقيل. لا ندري، إذا كان الجابري هنا ينحو في كل ذلك، منحىً جدلياً(4) ، أرغمه على ممارسة انتقائية مبتسرة في أغلب الأحوال، من تقارير استشراقية، وقعت في المأزق، الذي أشرنا إليه آنفاً. ما عدا ذلك، لم تعكس تلك المحاولات، أي إلمام بالتاريخ أو الفكر الشيعيَّين، كما تدلّ على ذلك مصادره المعتمدة. نعزو تلك المحاولة التي لم تحقق النجاح المطلوب إلى الهاجس السياسي والأيديولوجي الساكن ـ بقوة ـ في أعماق مشروع الجابري، مضافاً إليه

 

عدم التخصص، والبعد عن المصادر، والسرعة ـ وهي آفة كل مشروع ايديولوجي ـ في تركيب الصور والأحكام التاريخية. ويكفي، في هذا الإطار، تصدي الكثير من النقاد إلى تفكيك هذا المشروع وبيان هواجسه ونقائضه.

وحينما نعود إلى جملة المصادر التي اعتمدها الجابري في تناوله للفكر الشيعي، وهي العملية التي ستكشف، ليس فقط، عن عجز في الاستيعاب، بل، وهو الأخطر من ذلك، عن عجز في الفرز بين مختلف الفرق الشيعية؛ خصوصاً الاسماعيلية منها والاثني عشرية. بل حتى على صعيد العرفان الشيعي، في تلك الصلة التي أوجدها في ما بين تصوف ابن عربي أو الجنيد وعموم الباطنية وبين التيار الغنوصي نتبيَّن الخلط الذي يعود إلى ذهنيَّة البحث عن الأشباه والنظائر، كما تعكسها مجمل الأبحاث الكلاسيكية، الناظرة في تلك العلاقات. لكننا، وبغض النظر عن هذه الملاحظة، نعود للقول، إننا نعثر على مصادر هزيلة جدّاً، من الصعوبة بمكان تقبلها بوصفها آثاراً مرجعية كافية، لتشكيل رؤية متكاملة عن التشيع. نجد اعتماداً بسيطاً على ما لا يتجاوز ثلاثة مصادر أو أربعة (5). في مقابل ذلك، وبالإضافة إلى عدد من المصادر الإستشراقية، مثل أبحاث هنري كوربان فالذي أساء الجابري فهمه ، نجد مادة مصدرية غنية، تتعلق بجملة من المؤلفات ذات المنزع السلفي أو السني الأشعري، وأعني بذلك كتاب: «مقالات الإسلاميين» للأشعري، وكتاب: «الفرق بين الفرق»، لعبد القاهر البغدادي، و«نهاية الإقدام في علم الكلام» للشهرستاني و «المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين» لأبي رشيد النيسابوري، و «فتاوى» ابن تيمية. الخ..

ولا يخفي الجابري ـ مثلما يفعل دائماً (6) ـ هذه الحقيقة التي عبّر عنها في كتابه «العقل السياسي العربي»، فقال: «وإن جميع من له إلمام بأحداث القرن الهجري الأول يعرف كيف أن مصادرنا التاريخية أو بعضها على الأقل ـ المصادر السنِّيَّة عموماً ـ تجعل «الفتنة» زمن عثمان، من تدبير شخص، اسمه عبداللَّه بن سبأ(…) وقد أطلقت مصادرنا التاريخية على حركة المعارضة لمعاوية، إسم «السبئية» نسبة إلى عبداللَّه بن سبأ هذا» (7) .

لقد وقع الجابري بين قوى جذب مختلفة؛ بين نزعة تمركز الإسلام السني، التي تأثر فيها، لا أقول بهاملتون جيب فحسب؛ بل بمجمل البيئة الثقافية للباحث وبين ذلك الجهل الكبير بالتراث الآخر، بالإضافة إلى جاذبية المشروع النهضوي في بيئة، اقتضت الانتصار إلى مجمل الفرق الأندلسية والمغربية، حيث يصير «على مجدد الخطاب التاريخي العربي التقليدي، أن يجعل فلاسفة الشرق، وفي مقدمتهم، الشيعة، يدفعون ثمن هذا الصرح الأيديولوجي الضخم! ولا يكلفه ذلك أي جهد معرفي لإقامة الحدّ على جزء طليعي من التراث العربي والإسلامي، في محيط لا يوفّر رأياً جديداً. هاهنا، تستبد الأيديولوجيا بالبحث، ويستغني الباحث المنتمي، عن الآلية الابستمولوجية في استكشاف البنية الحقيقية، التي تستقر في مكامن هذا الخطاب التاريخي المتعصب لمعصوميته المزعومة، والمتسلح بعناصر غير معرفية: عناصر الغلبة، والتمركز، والأمر الواقع!

وليس غريباً أن نقع مع الجابري على صور من التلفيق، وأخرى من الوعي المفارق. فالجابري عندي، لا يناقض نفسه.. هو وفيٌّ لعالمه الفكري ومشاريعه الحالمة. فالتناقض ـ وهو منطقي ـ من شأن الجهد العلمي والنظر المعمّد بموضوعية الباحث. غير أن الجابري هنا يتمسك بمنهج خطابي؛ ويستثمر كمّاً هائلاً من المصادرات الخطابية، للوصول إلى غايته، إنه مشروع تستبد النتيجة بمقدماته. والمشروع النهضوي بكيفيته الايديولوجية، عنصر كافٍ لتشكيل العلّة الغائية لهذا التطاحن والتضارب الذي لا يخلو من افتعال.

هكذا بتنا نرى، مع الجابري، انقلاباً جذرياً في رؤية الأشياء، وجرأة خطابية تتنكَّر لمتطلَّبات النظر الابستمولوجي. مع هذا الانقلاب، يتشكل المعقول الديني لدى الجابري، على مصادرات الخطاب التاريخي العربي، المتواصل الخطو، على طريق النفي والإقصاء والتغليب. والمعقول الديني هو المشروع الظاهري المعادي للمعقول العقلي. فالعقلانية الجابرية تجد خياراتها في نماذج من المعقول الديني، حيث يستحيل ابن حنبل قمة هذه العقلانية. وفي نزوة لا يستسيغها بطش الايديولوجية ـ المبتذلة ـ تصبح السِّينوية، ثلمة في مسيرة هذا المعقول الديني  والعقلي معاً.. ردّة دينية وعقلية! ويقام الحدُّ في معركة لا هوادة فيها، على أنصار اللامعقول: الرازي، إخوان الصفا، جابر بن حيان، الفارابي، ابن سينا، وبصورة ضمنية الإمام جعفر بن محمد الصادق. فالمعقول الديني، لا تجسده سلفية الخطاب، بقدر ما تمثله معيارية القرب من دائرة السلطة أو البعد عنها! ولذا ألفينا ميلاً شديداً، من الباحث، إلى تسويغ مواقف وانتماءات، تقع في قلب ذلك اللامعقول الديني.. ابن عربي، الذي كادت أندلسيته تشفع له للّحاق بالكتلة المغربية الأندلسية رائدة المعقول الديني والعقلي. شأنه، شأن ابن خلدون. أمّا الغزالي، فقد كان لذاكرته السياسية ودوره البارز في خلق التوازن أو التنكر المعرفي، عاملاً ساهم في انتشاله، بقدرة قادر، من مأواه الباطني، ربما يعود ذلك إلى أشعريته التي كرس لها جهده أثناء توليه المسؤولية في المدرسة النظامية، أو لمعاركه الضارية التي خاضها ضدّ الباطنية الإسماعلية. بناء عليه، ليس الجابري، في ما اختلقه من عوالم فانتازية، متناقضاً، إنما كان مهووساً بعلم نهضوي ومشروع سياسي، ومن شأن مشروع كهذا أن يسحق في طريقه أشخاصاً ويضحِّي بأفكار!

خطاب أصحاب الملل والنحل متجدّداً

التشيُّع، في رأي الجابري، لا يحظى بجذور فكرية أصيلة في تعاليم الإسلام. فهو، وإن كان في نشأته الأولى، تياراً سياسياً محضاً ـ وهوما أكّد عليه عدد من المستشرقين، نذكر منهم برنار لويس ـ إلاّ أنه في تكوينه المذهبي اللاحق، كما يرى الجابري، كان من وحي اليهودي المتأسلم عبداللَّه بن سبأ، وهذه فكرة أخذها ـ على علاتها ـ من المصادر السنِّية، حسب تقريره السابق‏ (8) . وهذا التشيُّع الذي بدأ سياسياً ـ نتيجة ظروف تاريخية ـ سرعان ما انتظم في تعاليم دخيلة، انتحلها، بشكل منتظم، هاشم بن الحكم، بالنسبة لعموم الشيعة الإمامية، وميمون القداح، بالنسبة للإسماعيلية. ومن خلال هذه المماحكة، يحاول الباحث لفت الأنظار إلى كون الأمة التي تفجّر عنها ذلك الصراع السياسي الأول، وبالتالي الموقف الشيعي من علي بن أبي طالب، يصعب الإمساك بها.. في حين، لم تعد الجماعة التي ناصرت عليّاً، تملك أي مشروعية، غير أنها ضالة، وانتهى بها الإخفاق السياسي

إلى مدّ الجسور مع القوى المتآمرة، ضد السلطة السياسية القائمة، وضد الإسلام بشكل عام. وهذا أسلوب دشَّنه أصحاب الملل والنَّحل، يتجدّد بكامل عناصره في هذا الخطاب. فالشرعية التي يمكن أن يحتج بها الطرف الشيعي، أو الأصول التي تحدد هذه الهوية المتجذرة في تاريخية الإسلام نفسه، تكمن في ذلك الموقف الأول من علي بن أبي طالب، موقف سياسي قام وانتهى.. وبقيت امتداداته تشهد نوعاً من الخروج والمروق إلى أن غيّر مجراها عبداللَّه بن سبأ، واكتمل صرحها مع الإمام الصادق وحاشيته الهرمسية الظلامية! وهذا يعني ـ بالتأكيد ـ أن الموقف الآخر في هذا المشهد السياسي الأول ـ المشروع نوعاً ما ـ انتهى هو الآخر، ولم تبق له أصداء في دائرة البيان أو المعقول الديني السائد. ليس إلاّ الشيعة يحملون آثاراً باهتة، وضالة، عن ذلك الموقف السياسي، ويستحضرونه في بكائية شبيهة ففي ميثولوجيتها وضلالها، أيضاً، ببكائيات اليهود. لقد أنهى الجابري هذا الصراع من دون أن يخبرنا إن كان فعلاً، انتهى، ومتى، ومن أنهاه؟! فهذا الطرف الذي تمركز، هو الرأي الثالث المحايد ـ هكذا يوحي الجابري ـ أي الإسلام الأصيل والمعقول الديني!

من هنا تواجهنا صعوبة في الاهتمام بهذا الرأي، باعتباره عرضاً منقولاً، لا جدّة فيه! وهو فوق هذا، مجرد استثمار، يتخذ منحى تغليب جزء من التراث على آخر في مغامرة صعبة! هكذا يهيّئنا الجابري لمواجهة منهج لا يخلو من غرائبيَّة. فإذا كان إرجاع التشيع إلى عبداللَّه بن سبأ، وهذه مقولة قال بها مستشرقون والتزموها، وبعضهم تخلّى عنها حينما وقف على علاّتها ـ فإن الجابري، سيلتزم بكل الآراء التمثيلية التي قال بها المستشرقون. أي بالأصل السبئي ـ اليهودي للتشيع، وأيضاً الفارسي الغنوصي.. والبوذي والمسيحي لمقاربة العرفان الشيعي وانتظاريته؛ ولعله فاته أن يرجع الطقس المأتمي الذي أحياه بنو بويه في القرن الرابع الهجري، إلى أصوله في طقوسيات «البورورو» و«النامبغوارا» في الأمريكتين!

نحن، إذن، أمام مشروعية زئبقية، للموقف الشيعي. مشروعية لم تبرح كونها في الزمن الأول، ولاءً سياسياً لعلي بن أبي طالب، حيث في عصر هذا الأخير تنطلي اللعبة، على خليفة لا يحسن السياسة، فلا يكون عليّ بن أبي طالب، متزعم الحملة التصحيحية، ويسمِّيها بعضهم «الفتنة»، بل كان الأمر هنا يتعلق بيهودي مجهول الأصل، وظّف شخصية علي بن أبي طالب في مؤامرة يهودية، ذلك، في ترجيحي، الدافع الأساسي الذي جعل الجابري، يغالي إلى أبعد الحدود في هرمسية التشيع. وهذه فكرة أخذها عن كوربان كما أكّدنا سالفاً، وتعود في الأصل إلى ماسينيون. وقد طرحها كوربان في سياق تأويلي مغاير لما رامه الجابري، الذي ألف إخفاء الكثير من مصادره وبتر العديد من النصوص، التي من شأنها أن تكون شواهد ضد خطواته الانتقائية. وقد تبين موقف كل من ماسينيون وكوربان، حول التعاليم الأصيلة للنظر الشيعي. يقتفي الجابري طريقة كوربان في عرض التعاليم الشيعية المؤسسة للفكر الباطني، مع الفارق، بأن كوربان يجعل الباطنية نتيجة طبيعية للتعاليم الإسلامية الأصيلة. والسياق الذي اتبعه كوربان هو التوصل إلى ما مفاده أن الباطنية هي السمة الأساسية لفلسفة الإسلام، التي هي فلسفة النبوة فإذا كانت التعاليم الشيعية كما مثّل لها كوربان، بعيّنات، دقيقة ومنسجمة، ما يعطي الإحساس بمعقولية الربط، ونزاهة الباحث.. فإننا، مع الجابري، أمام تقمص باهت، أبهت من محفزاته الأيديولوجية نفسها، يخفي كل هذه الإحالات جميعاً، ثم يجعل من تعاليم الأئمة أساساً لما سيشيده جمهور العرفانيين من حجج شرعية على مذهبهم؛ العرفانيون بمن فيهم رواد التصوف السنّي المتهرمسين، كابن عربي والجنيد والحلاج… كما أن من بين تلك التعاليم التي يقوم عليها صرح العرفان المتين، ما ينقله الباحث، من رواية عن أبي هريرة أنه قال: «حفظت من رسول اللَّه (صلي الله عليه و آله و سلم) وعائين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر، فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم» (9) .

هذاالخبر هو كلام لأبي هريرة الدوسي، اقتضى الالتباس، أو التلبيس، أن يكون خبراً مؤسساً للعرفان. وهذا كلام صادر عن شخصية لم يحص لها التاريخ ميزة روحية أو عرفانية، ناهيك عن أن كلاماً كهذا، يعكس موقفاً سياسياً، لشخصية كانت تتحرك برأي ثالث ـ إن لم نقل ـ برؤية انتهازية في حادثة مقتل عثمان وما بعدها (10).

لا تقف محاولة الجابري عند هذا الحدّ، فقد واصلت سعيها، و «جهادها» لطرد الشيعة من دائرة الإسلام. كانت ذهنية الإقصاء حاضرة بكل قوة في مشروع الجابري. هذا الإقصاء الذي لم يكتفِ بتسخير ملفّ الهرمسية ـ الورقة الخطيرة ـ في هذه اللعبة لملاحقة كلّ من بدا له فيه أثر من تلك العقلانية التي تسمو على منطق «الظاهر». لقد كانت استراتيجية «البَنْيَنَة» (Structuralisation ) أكثر حدّة ومضاء، حيث تم استثمارها في تشطير التراث واللعب على جميع أوراقه. «البنية» هذه التي تتحول من شامّتها «الابستمولوجية» إلى لعبتها الخطابية.. «بنية» تنتقل فوقد جعلها الجابري تنتقل رغماً عنهاف لنمضي مع هذه الرحلة «الابتسميّة» داخل ترسبات الخطاب التاريخي العربي، ببُنية، غير ثابتة، غير قارّة، أي بالنتيجة ـ المنطقية ـ لا بنية! فمن ثلاثية «البيان» و«البرهان» و«العرفان» إلى ثلاثية «القبيلة» و«الغنيمة» و«العقيدة»! كأنما عسير على الباحث في بنية العقل العربي، أن يحدد بنية واحدة، للمعرفة والسلطة، كما لو أنهما مجالان، لا ينتميان إلى عقل واحد.. أو طبيعتهما تقتضي بنيّتين مختلفتين. وهذا التجزيئي في النظر، لم يكن إلاّ استجابة لمقتضيات الجدل الأيديولوجي الذي خاضه الباحث في عملية التغليب. ومهما تزحزحت هذه البنيات من مجالاتها، حسب مقتضيات خطابية، فإنها تبقى مكسورة أمام معيارية المسافة من السلطة.

ويصل الهوس الايديولوجي بالجابري إلى حدّ استصحاب الموقف السلبي الغاضب والفاقد للأعصاب، فيبتكر قاموساً جديداً ـ ومموهاً أيضاً ـ من مفردات الطعن، تتوظف فيه معطيات حداثية، وتحل محلّ الطعون التقليدية. هكذا، لا يتردّد الجابري في أن ينعت الأشخاص المتمنعين على مشروعه بمختلف أنواع القدح، في تنكر يضفي طابعاً اصطلاحياً يوحي بموضوعية القدح وتقدمية القادح! فيتحوَّل الإمام علي بن أبي طالب في معاركه السياسية إلى مجرد مغامر، جاهل بالسياسة، التي أتقنها معاوية.. كما أن ابنه (ابن الحنفية) كان حامل مركب نفسي، يسعى إلى إيجاد معوِّضاته في فروسية نادرة النظير. كما يكون أحد أحفاده (الإمام الصادق) متزعماً لحاشية مبتدعة ظلامية.

مقولتا التباين: مشرق مغرب، والقطيعة التامة

إذن، لا شك في أننا، أمام مأزق مثل هذا، يجب أن نعلن القطيعة التامة، ليس فقط، مع الموروث الهرمسي العرفاني أو الشيعي، بل القطيعة مع الشرق كله.

فالبيانيَّة المشرقية رغم كل جهودها الجبارة لم تلق من الباحث المغربي التقدير المطلوب، إنها بيانيَّة مهدّدة؛ مجاورة لمجال محايث، جغرافياً وتاريخياً للامعقول! هكذا يكون الشرق، شرقاً، والغرب غرباً.. أو على حدّ تعبيره، بضاعة الشرق تردّ إليه.

يوهمنا الباحث، هنا، بوجود كتلة تاريخية واقعيّة، شملها مجال جغرافي واحد. يقحم الجابري عامل الجغرافيا في تاريخية اكتسحت المجال.. تاريخية «عقيدية». نحن، في نهاية المطاف، مع مستشرق خانتهُ الجغرافيا والتاريخ، ينظر إلى الشرق نظرة برانية. مشروعه العربي، القومي، لا يجد أي حرج في المساهمة ـ أو المؤامرة ـ المعرفية، لاقتطاع هذا الجزء من الحضارة العربية الإسلامية اقتطاعاً معرفياً، وهو أشدّ خطورة من الاقتطاع الجغرافي. لم يعد المجال ينقسم إلى عقل بيان، وعقل عرفان ولا إلى سنّة وشيعة. فهذه المرة سوف ينقسم العقل، إلى عقل الشرق وعقل الغرب.. عقل العرفان والغنوص والتشيُّع، وهو في النهاية عقل اللامعقول العقلي، واللامعقول الديني.. وعقل البيان، والبرهان، والمعقول العقلي، والديني.. لقد أقرّ الاستشراق بإيمان الشرق، وارتأى «القلب» للشرق، و«العقل» للغرب. مع الجابري يبقى هذا الشرق خاوياً على عروشه، لا «قلب» ولا «عقل» لا دين ولا علم. ما أشدّها عنصرية وعقدة من الشرق! ولا بد، في رأي الجابري، من إحداث هذه القطيعة التي ابتدأت في دائرة عقيدية، مذهبية.. لتنتهي إلى حالة جغرافية استقطابية: شرق وغرب. يعلن هنا الجابري نفسه غربياً! قطيعة لم يستشعرها عقل التراث، حينما كان الجدل الايديولوجي على أشدّه؛ ينصبّ على الفكرة والشخص، أو على الملل والنحل، ولا يعكس أي إحساس بوجود كتلتين تاريخيتين وجغرافيتين: مشرق ومغرب! ذلك لأن النظام العرفاني، بخصائصه الشيعية فالهرمسية، كان قد أثّر إلى حدّ ما في فكر المشرق الإسلامي، حيث يتم توظيف العقل، كأساس ابستمولوجي لدعم اللامعقول، «إذن لقد كانت الفلسفة في المشرق متجهة إلى الوراء. لقد استعملت العقل لإضفاء نوع من المعقولية على ما هو «لا عقل»، على نزعتها الصوفية. ومن هنا اكتسبت طابع المسيرة الفلسفة الدينية» (11) .

من هنا ينبت مشروع تأسيس «ثقافة أصيلة مستقلة عن ثقافة أهل المشرق» (12) يتولى هذه المسيرة تكتل ثقافي ـ موهوم ـ تأطر بانتماء جغرافي. هو حلم هذه

النهضة العربية المنشودة، وأساسها التاريخي. «إن ما ننشده اليوم من تحديث للعقل العربي، وتجديد للفكر الإسلامي، يتوقف ليس فقط على مدى استيعابنا للمكتسبات العلمية والمنهجية المعاصرة.. بل أيضاً، ولربما بالدرجة الأولى، يتوقف على مدى قدرتنا على استعادة نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون  إنه باستعادة العقلانية النقدية التي دشنت خطاباً جديداً في الأندلس والمغرب مع ابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون، وبها وحدها، يمكن إعادة بنية العقل العربي من داخل الثقافة التي ينتمي إليها، مما يسمح بتوفير الشروط الضرورية لتدشين عصر تدوين جديد في هذه الثقافة» (13) .

هكذا، نستطيع الإمساك بأحد العناصر المحركة لهذا الشطح الايديولوجي المهووس بانفصامية وقطيعة بالغتين.. وهما وجهان يخفيان ميلاً متنكراً، إلى نوع آخر من الصيرورة والاتصال، في مستوى خطاب السلطة! وتبقى هذه العناصر، بالنتيجة، خطابية تخلق عالماً من المسميات، إمعاناً في نهج الإخفاء! فالمعقول الديني هو الوجه الآخر للعلمانية التي يطفح بها الفكر المغربي ـ الأندلسي، حيث يقوم البيان على البرهان. «الفكر الرشدي كان أقرب إلى فكر عصر النهضة في أوروبا منه إلى فكر ابن سينا  ونظرية ابن رشد في العلاقة بين الدين والفلسفة، قد تكون أثرت بكيفية أو بأخرى في رواد العلمانية في أوروبا» (14) . وفي مقام آخر، تكون كامل الفرق الأندلسية تجسد هذا المنحى العلماني.. «فإن الفلسفة في الأندلس، فلسفة ابن ماجة وابن طفيل وابن رشد، قد تأسست على العلم، على الرياضيات والمنطق، مما سيجعل منها فلسفة علمية علمانية»(15) .

الشَّطح الايديولوجي والتَّفاضل القائم على النَّفي‏

ولا يتوقف الشطح هنا، بل يمتدُّ إلى أبعد من ذلك، عوداً إلى التغليب. فالتفاضل هنا لا يتمّ إلاّ بالنفي، «.. كل من عاش أو يعيش لحظة ابن سينا بعد ابن رشد، إنما قضى أو يقضي حياته خارج التاريخ، وبالفعل قضينا نحن العرب حياتنا بعد ابن رشد خارج التاريخ.. لأننا تمسكنا بلحظة ابن سينا، بعد أن «أدخلها» الغزالي في الإسلام، وعاش الأوروبيون التاريخ الذي خرجنا منه لأنهم أخذوا منا ابن رشد فعاشوا لحظته وما زالوا يفعلون» (16) . هذه اللحظة السّينوية، بقدر ما هي خارجة عن نطاق العقل، والتاريخ، هي أبعد ما تكون عن دائرة الإسلام (= الدين)، فقد كان الغزالي هو من تولّى إدخالها ـ ليس في دائرة البيان فحسب ـ بل في دنيا الإسلام!! هذه السّنويَّة العملاقة الضخمة، لم يعترف لها الجابري بأي مأثرة على صعيد الأنا (التراث) أو الآخر (الغرب).. فأوروبا الناهضة، المتعلمنة.. قامت على نقيض هذه السّينوية الغنوصية، السحرية، الروحانية.. ولهذا السبب بالذات، انتهى تمسكنا بلحظة ابن سينا ـ نحن العرب ـ إلى هامش التاريخ.. لا ندري إن كان الجابري حقّاً يعي ما يقول ـ وهو طبعاً واعٍ به ـ، إذْ في أي دائرة من دوائرنا المعرفية ـ نحن العرب ـ )البيان أم العرفان، أم البرهان‏( أو في أي حيز جغرافي أو تاريخي، سادت فيه هذه اللحظة السّينويَّة وكانت لها سلطة تسندها، وتؤمنها. مع أن الجابري يتحدث عن العرب، بينما ظلت السّينويَّة شيعية عرفانية إيرانية. ربما كان حتماً على هذه السّينويَّة التي ربطت مصيرها بالتشيع والعرفان، أن تقيم فهي وأنصارهاف خلف التاريخ، مثلما ظلت للأسباب نفسها خارج العقل، وخارج المعقول الديني! حتى ولو أنها في اللحظة التي «كان الفكر الفلسفي، في جميع أرجاء العالم الإسلامي، يغط في سبات عميق، قام هؤلاء المعلمون في المدرسة السينوية» الإيرانية يقودون الإسلام الشيعي إلى أعلى مراتب وجدانه الفلسفي» (17) .

حتى لو تخرج من هذه السينوية رموز علمية، لها مكانتها في تراث النهضة الأوروبية.. ابن الهيثم (965ـ1038م) الذي كان «لكتابه المناظر وبحثه في البصريات أثر عظيم على اللاتين في القرن الثاني عشر. وهو واضع تحليل في الإدراك البصري لا يزال، إلى يومنا هذا نموذجياً، وسوف نلتقيه عند فيتلو» (18) .

أوروبا الناهضة تمسكت بـ «AVICENNE»، هكذا عرفته، واجتاحها طبه ورياضياته.. كما تمسكت بطب الرازي وفلكه، وكيمياء جابر بن حيان، أسماء بارزة كانت أساساً لتلك النهضة العلمية الجبارة. وخلال حقبة طويلة في تاريخية النهضة الأوروبية، كانت هناك أسماء تتردّد، مثل RASI, ALGEBRE, ALHAZEN, AVICENNE

هذه أسماء تنتمي لما أسماه الجابري العقل المستقيل. هم ـ حقاً ـ من قادنا خارج التاريخ! التاريخ الذي دخلته أوروبا حينما أطاحت بهذه الفرقة السينوية! لكننا نملك استئناف الرحلة داخل التاريخ.. وابن خلدون، لحظة مهمة في هذه القطيعة بين التاريخ واللاتاريخ.. لا نعلم إن كان ابن خلدون نفسه قد وفق إلى تطبيق هذا الاكتشاف العلمي، على تاريخ صراعي، سلطاني! من منع فيلسوف التاريخ من تحقيق المهمة الثانية بعد اكتشافه منطق التاريخ؟ الجابري يرجعها إلى محض فشل.. تتوقف الآلية الابستمولوجية، والإحالات.. فأي ميزة تبقى لهذه اللحظة الخلدونية، إن كان التأريخ فيها يجري خارج عقل التاريخ، وينزل رتبةً أقل ممَّن سلط عليهم في «مقدمته» سيف النقوض والطعون! فهل أعادنا ـ ابن خلدون ـ حقّاً إلى علم التاريخ؟ «إن تأسيس التاريخ على البرهان كان يتطلب من ابن خلدون خطوتين اثنتين: كان عليه أن يخترع الطريقة البرهانية الصالحة للتطبيق في ميدان التاريخ، أي «منطقاً» جديداً خاصاً بالتاريخ، وكان عليه أن يوظف هذا المنطق الجديد توظيفاً ينقل التاريخ فعلاً من ميدان اللاعلم إلى مستوى العلم. أما الخطوة الأولى فقد استطاع ابن خلدون إنجازها، وأما الخطوة الثانية فقد أخفق فيها. لقد نجح ابن خلدون في اكتشاف علم جديد يصلح أن يكون ـ على الأقل من وجهة نظره ـ معياراً صحيحاً يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب في ما ينقلونه»، ولكنه أخفق في تطبيق هذا «المعيار في مؤلفه التاريخي الضخم..»(19) .

إلاّ أن الجابري… لا يعطينا تفسيراً موضوعياً عن هذا الإخفاق ولا يقدمه في إطاره التاريخي، وفي بعده المقاصدي، الذي ظل حاضراً في الخطاب التاريخي الخلدوني. أين السياسة في كل ذلك؟ هنا تكمن صعوبة التناول الأبستمولوجي للظاهرة، حينما يشوبها طلاء الانتماء.. أو لمّا تحدق «ميدوزا» المعقول الديني لتحجّر تلك الجرأة! (جاء في أسطورة يونانية أن كل من وقع نظره على ميدوزا ينقلب إلى حجر) هل أخفق ابن خلدون حقاً في التطبيق أو أنّه تراجع عنه؟ فإن كان الإخبار الموجه، والتبديع والإقصاء والمدح والذم.. يكشف عن مجرد إخفاق في الإنجاز، فما ذنب مؤرخي الرسل والملوك! هذا من جهة، ومن جهة أخرى نرى طموحاً لابتعاث بنية للفكر العربي من داخل ثقافته. البنية التي يمكن الإمساك بعناصرها

الأساس، في نقديَّة ابن حزم، وعقلانية ابن رشد وتاريخية ابن خلدون، مع أننا لا نكاد نلمس تماهياً حقيقياً في هذه الاتجاهات المختلفة، ولو جعلها الباحث تنم عن انشغال مشترك، وتنطلق من قلق واحد! ما يعني استحالة الوقوف على بنية ما في هذه الأمشاج المذهبية. لقد كانت تاريخية ابن خلدون براغماتيَّة، وهي ما أعاد الفكر العربي إلى الوراء فحقاًف، فقد عادى ابن خلدون، الفلاسفة الذين دافع عنهم ابن رشد، كما حمل ابن حزم على أهل القياس الذي أقام عليه الشاطبي بناءه الاُصولي، وامتدح طريقتهم ابن خلدون، وظل ابن رشد سندهم الأرسطي‏ (20) .

أي بنية ستنبعث من هذه الانتماءات المختلفة، وإن كان الجامع بينها، المجال الجغرافي، والانتماء إلى أمراء بني أمية بالأندلس!؟

جهل الجابري بالتُّراث التأصيلي للشِّيعة وعجزه عن فهمه‏

لقد اجترح الجابري أسلوباً فريداً في تناول الفكر الشيعي، فلا نكاد نُفرِّق معه بين التشيع والعرفان والغنوصيَّة. فإن كان جزء من التصوف، هو وحده ما وقع ضحية الاختراق الغنوصي، فإن التشيع، أصبح عرفانياً مطلقاً! لا يكلف الجابري نفسه عناء التفريق بين طبقاته أو مذاهبه. لا يجد فرقاً جوهرياً بين العرفانيين، والإمامية. فالشيعة، بالنتيجة، جميعهم باطنية! وهذا إنما يكشف عن جهل كبير بالتراث التأصيلي لدى الإمامية الاثني عشرية منهم، على صعيد علم الأصول والدراية والفقه الاستدلالي! فلقد تبلور عقل برهاني جبّار عند الإمامية في العلوم الشرعية ابتداء من القرن الرابع الهجري حتى الآن. ومن هنا، وحينما نتناول قضية الاجتهاد ومسائله، كالبناء العقلاني، ومباحث الألفاظ التي أقحمها الإمامية في علم الأصول والمنطق معاً، سوف يتبين أنهم أمعنوا نظرهم في مفهوم القرينة والحد الوسط في القياس المنطقي، وهو ـ حسب الجابري ـ ما لم يتقيد به العرفانيون عموماً، والشيعة الباطنية على وجه الخصوص. ويرجع الجابري، في عملية تسطيحية، زعم أنها مسهبة، لضبط الآلية الذهنية التي يعتمدها العرفانيون والشيعة «في تأويل الخطاب القرآني»، مفهوم الإعتبار أو الإشارة؛ وهي «القرينة» التي تحل عندهم محل الدليل عند المتكلم، والحد الوسط عند المناطقة والعلة بلغة الفقهاء، إلى مفهوم المماثلة (ANALOGIE ). وذلك تعبيراً عن القاعدة العرفانية «النظير ـ يذكر بالنظير» أو مفهوم «المثل والممثول» الاسماعيلية. لقد حاكم الجابري مفهوم «المثل» بذهنية بيانية، انطلاقاً من معطيات المنطق الصوري؛ وهو مع ذلك يرى التفسير الشيعي إذا ما اعتبر هذه المماثلة لا تخرج عن كونها وسيلة إيضاح، فلا وجود لأي مشكلة ما دامت تلك هي وظيفة التمثيل؛ غير أن الشيعة في نظره، يخرجون عن هذه الوظيفة، ليخلقوا عالماً آخر من المطابقة.. هكذا يعطينا مثالاً عن «تفسيرهم» الآية الكريمة: {مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأيّ آلاء ربكما تكذبان، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} }الرحمن/55{.

فـ «عندما فسر الشيعة قوله تعالى }الآية{ بأن المقصود بـ «البحرين»: علي وفاطمة، وبـ«البرزخ»: محمد(صلي الله عليه و آله) وبـ«اللؤلؤ والمرجان» الحسن والحسين، فإنهم لم يفعلوا أكثر من إقامة مماثلة بين بنيتين: الأولى هي تلك التي عناصرها: علي وفاطمة ومحمد والحسن والحسين وعلاقة القرابة بينهم، وهي البنية «الأصل». والثانية هي تلك التي عناصرها: البحران والبرزخ واللؤلؤ والمرجان والعلاقة التي تقوم بينها، وهي البنية «الفرع». وعلاقة المماثلة بين هاتين البنيتين كما يلي: محمد/علي/ فاطمة، برزخ/بحر/بحر، علي/فاطمة/الحسن/الحسين، بحر/بحر/لؤلؤ/مرجان» (21) .

هكذا، ادعى الكاتب، بجرأة، أنه يقدم فهماً ابستمولوجياً للعرفان الشيعي، من خلال إحالته إلى عنصر المماثلة، الذي سرعان ما يبارحه العرفانيون، إلى المطابقة! وهنا أبان الكاتب عن عجز الباحث المتسلح بذهنية البيان الظاهري، والبرهان الصوري، عن فهم حقيقة العرفان الشيعي، الذي اعتبره ـ جهلاً منه، به ـ دون العقل منزلة! هذا العقل الذي قيّم به الكاتب العرفان والتشيع، هو ما وصفه إخوان الصفا بالحجاب.. أي ذلك العقل الظاهري الذي يحجب عن الباحث الحقيقة المغمورة! وما كان على الجابري ـ حينما طرق مجال العرفان ـ أن يتحدث عن «تفسير»، لأن آلية هذا الأخير تختلف جوهرياً عن آلية التأويل العرفاني. وحتى يتيسر فهم هذه الحقيقة، يجب إعادة النظر في عقل البيان نفسه الذي خضع إلى بناء مفهومي، قيّد المعرفة، وحاصر العقل، وكان بالتالي، «حاجبا» للحقيقة! وعلى

عادته، يردّ الكاتب، مفهوم «المماثلة» أو «النظير المذكر بالنظير»، إلى أصل فيتاغوري.. ذلك لاعتبار بسيط، أن أرسطو، ذكر أن الفيتاغوريين كانوا يعتمدون كثيراً على مفهوم «المماثلة». ينسى الكاتب أنه، في هذه الإحالات الفجّة، كان يمارس المنهج نفسه. «النظير المذكر بالنَّظير».. ويتجاوز الوظيفة الإشارية للمماثلة إلى المطابقة.. «منهج المماثلة الذي تعتمده العرفانية الإسماعيلية، بل كل العرفانيات، والذي ربما يرجع أصله إلى الفيتاغوريين» (22) .

وقد يجهل الجابري فوطبيعي أن يجهل ميداناً كهذا ليس من اختصاصه، فضلاً عن أنه ليس من هواه ـ بأنه أساس هذا العقل المماثل، لم يكن نابعاً من أصول أجنبية، بل هو أسلوب ثاوٍ في تعاليم الإسلام نفسه، كما تضمنتها نصوص القرآن والسنة وأقوال الأئمة الشيعة. وكان ذلك هو أساس التأويل، كما مارسه جمهور القُرّاء في عصر النبي (صلي الله عليه و آله و سلم). لهذا السبب تم إحراق نسخ من القرآن في عصر عثمان، لجماعة من القُراء الذين ثمّن النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) قراءاتهم، في عهده، وشهد بشرعيتها، مثل ابن مسعود (23) وابن عباس… إن عصر التدوين وما جاء به من مفاهيم، مثل الإجماع، وأولوية الظهور العرفي للألفاظ، وانقسام المعنى إلى حقيقة ومجاز، والمعنى الوحيد الحصري للفظ الواحد، هذه مفاهيم كانت قد قضت على إحدى أهم ركائز التأويل، ألا وهي: فكرة «تعدد الوجوه». والعادة التي سار عليها القراء في عصر الرسالة وبعدها فإلى ما قبل عصر التدوين ـ لم تكن هي تفسير القرآن، وفقاً لهذه المعيارية البيانية المشيدة على البرهان الصوري؛ حيث يستبد اللفظ بالمعنى ويحجر عليه.. لقد كانوا «مؤوّلين» بواسطة «تعدد الوجوه» أو ما يعرف «بتعدد القراءات» (24) ! هكذا ارتبطت «الفتيا» ـ وبالتالي الفقه والدراية في مفهوم ما قبل التدوين ـ بالتأويل‏ (25) .

وفي التفسير المأثور، نعثر على عينات من هذه المماثلة الفيتاغورية فإن جاز هذا الربط الجابري ـ في فهم النصوص، فقد فسر النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) كلمة الظلم، بالشرك، في الآية{الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم} على أساس المماثلة، بالإحالة إلى وصية لقمان لابنه: {يا بني لا تشرك باللَّه، إن الشرك لظلم عظيم} . وهو منهج قام عليه التأويل وهو مناط تفسير القرآن بعضه ببعض.. هكذا يسهل علينا فهم قوله تعالى:

{ومن لم يحكم بما أنزل اللَّه، فأولئك هم الظالمون} أي المشركون، وهكذا تنتظم العلاقة المعنوية بين كل من الشرك والكفر والظلم.

لا نعرف، إن كان مفهوم المماثلة (ANALOGIE ) هو موروث المعقول العقلي اليوناني ذاته، الداعم للمعقول الديني، أم أنه كان القاعدة الابستمولوجية الرئيسية للعرفان المتهرمس. أم كان ذلك وسيلة الجابري نفسه في ربط هذه بتلك وإحالة هذا إلى ذاك.

ويدعي الجابري أن العرفانيين، متصوفة كانوا أم شيعة إمامية أم اسماعيلية، مجمعون على أن العقل «حجاب».. ولهذا يقول: «والواقع أن العقل حجاب يمنع من الانزلاق بالمماثلة إلى المطابقة، من القفز من النظر إليها على أنها مجرد وسيلة من وسائل الإيضاح إلى اتخاذها أساساً ل «البرهان» (26) .

ويضيف: ومن هنا كان التشيع في طليعة التيارات القائمة في، «اللامعقول» والداعمة له! ما هو جدير بالذكر، أن البحث المعمق في مفهوم العقل، من خلال تعاليم أئمة الشيعة، يكشف عن أن المعنى المراد، هنا، بالحجاب هو ما شاع تداوله في عصر التدوين، أي ذلك العقل المؤقنم الذي حدّ من إمكانات العقل المتعددة ويحكم على الحقيقة بالظهور السطحي لها. ذلك الظهور الذي يعزّر السلطة ولا ينفيها! على هذا الأساس كان قياس العرفانيين والشيعة من دون جامع، «القياس العرفاني إذن، قياس بدون جامع، بدون حد وسط. بدون رقابة عقلية. إنه انزلاق بالمماثلة بوصفها مشابهة في العلاقة بين بنيتين إلى المطابقة بينهما بصورة تجعل الواحدة منهما مرآة للأخرى..»(27) .

هنا يضبط الكاتب بين مفهوم الاعتبار ومفهوم الحد الوسط القياسي.. الإعتبار هو أمارة تفتح المجال للانتقال إلى علاقات أخرى، وإيضاحات أخرى، وبالنتيجة إلى مطابقات، ما دام الكشف الواقع أحد مقاصد الاعتبار! وإفساح المجال ـ أيضاً ـ أمام العقل ليعانق المعاني الممكنة والمحتملة، التي يتيحها النص. هنا تتأكد سلطة النصر وديناميكيته في إنتاج المعنى وإظهاره حسب منطقة الداخلي.. فالاعتبار هو مفتاح هذه الديناميكية التأويلية، التي قبل أن تكون «مماثلة»، كانت

عملية تفكيك وتركيب، بالمعنى الدياليكتيكي للتركيب‏ (28) ! العملية التي بها ففقطف يتم إنماء المعرفة، وإخراج النص من تحجّره! فلا يمكن القول ـ إذن ـ إن القياس العرفاني (الاعتبار) هو قياس من دون جامع ومن دون رقابة عقلية إلاّ إذا فهمناه في ضوء تلك العلاقة التمثيلية، كما يهوى الباحث ممارستها، وليس انزياحاً من العلاقة الإيضاحية إلى المطابقة. إنه آلية مستقلة تقع ـ عكس ما نَحا الجابري ـ فوق العقل، عقل البيان، بتقنياته البرهانية الظاهرية والقياسية والتفسيرية. فالنص هنا كائن حي، متحرك، يملك ديناميكية تجعله قابلاً لمواصلة إضاءاته. النص الذي إن أخضعناه إلى تقنيات البيان الجابرية (الظاهرية)، سوف يموت مع «أسباب النزول» (29) ومع «أسبقية الحقيقة على المجاز»! يبقى نصّاً ميتاً يُستصحب للذكرى والتبرك، لا ليكون بؤرة معرفية متواصلة، أو ليكون {فيه تبيان لكل شي‏ء} }النحل/89{ ويبقى المستوى الدلالي الاستبدالي للباطن غير مستواه السياقي الظاهري.. هو معنى المعنى، كما يسميه عبد القاهر الجرجاني‏ (30) هذه الخاصية الديناميكية لنصّ يتمنّع على بيانية صورية، لا يجد مأواه الطبيعي إلاّ في هذه الهرمينيوطيقية الاستبدالية! فلا شبه بين طبيعة الاستنباط العرفاني والاستنباط البياني. الخلاف بينهما في الطبيعة والوسيلة معاً، وليس في الوسيلة فقط، كما ذهب الجابري.

والعقل الذي اعتبره الشيعة «حجاباً» لم يكن المراد منه «العقل» بما هو القدرة البشرية على التأمل المحض، فإذا ما رفض الشيعة أو عموم العرفانيين آليات عصر التدوين، فذلك لا يعني رفض العقل! هذا مع أننا نرى أن القياس والمماثلة التي لا تنتهي إلى المطابقة، هي تلك الآلية البرهانية التي مكنت عقل البيان من الانخراط في دائرة «المعقول العقلي» و «المعقول الديني».. لكننا نجد معارضة شديدة لهذه الآلية من دائرة البيان نفسها، لا، بل من دائرة البيان الأندلسي.. ابن حزم الظاهري في الفقه وابن مضاء القرطبي في النحو. كما أن قياساً كهذا والعلية التي حاربها أنصار الظاهرية الجابرية، مما كافح ابن سينا وحاشيته لتثبيته.. أولئك الذين يؤهلهم دفاعهم عن هذه المضامين البرهانية فعند الجابري ـ ليظفروا بموقع خارج دائرة العقل المستقيل.

 

مزاعم الجابري وحقائق المنصوص‏

دعنا نرى في أحد نصوص إخوان الصفا ـ وهم في زعم الجابري أنصار العقل المستقيل، ورسائلهم في زعمه أيضاً «مدونة هرمسية» ـ إن كان هؤلاء يقفون فعلاً هذا الموقف من العقل والفلسفة والعلوم:

«ولكنّ أشرّهم على أهل الدين والورع، وأضرّهم على العلماء، وأشدهم على عداوة الحكماء، هذه الطائفة الظلمة المجادلة المخاصمة.. الذين يخوضون في المعقولات وهم لا يعلمون في المحسوسات، ويتعاطون البراهين والقياسات وهم لا يحسنون الرياضيات، ويتكلمون في الإلهيات وهم يجهلون الطبيعيات، ويتصدَّرون في المجالس ويتجادلون في أشياء لا تفيد في الدين علماً، ولا تنتج في الحكمة فائدة، مثل كلامهم في التعديل والتجويز والجزء الذي لا يتجزأ… ويعارضون الحكماء والعلماء، ويشنعون عليهم مثل قولهم: إن علم الطب والنجوم باطل، وإن الكواكب جمادات وإن الأفلاك لا وجود لها، وإن علم الطب لا منفعة فيه، وإن علم الهندسة لا حقيقة له، وإن علم المنطق والطبيعيات كفر وزندقة» (31) .

ولمزيد من الاطلاع، يذكر إخوان الصفا كلاماً آخر: «إعلم أن في الناموس أقواماً يتشبهون بأهل العلم ويتدلسون بأهل الدين، لا الفلسفة يعرفونها، ولا الشريعة يحققونها، ويدعون مع هذا معرفة الأشياء، ويتعاطون النظر في خفيات الأمور الغامضة البعيدة، وهم لا يعرفون أنفسهم التي هي أقرب الأشياء إليهم، ولا يميزون الأمور الجلية، ولا يتفكرون في الموجودات الظاهرة المدركة بالحواس المشهورة في العقول، ثم ينظرون في الفطرة والخلقة والجزء الذي لا يتجزأ وما شاكلها من المسائل في الأمور المتوهمة التي لا حقيقة لها في الهيولى، وهم شاكون في الأشياء الظاهرة الجلية، ويدعون فيها المحالات بالمكابرة في الكلام والحجاج في الجدل، مثل دعواهم أن قطر المربع مساوٍ لأحد أضلاعه، وأن النار لا تحرق، وأن شعاع البصر جسم يبلغ في طرفة عين إلى فلك الكوكب، وأن علم النجوم باطل، وما شاكل ذلك من الزور والبهتان فاحذرهم يا أخي، فإنهم الدجالون الذلقون الألسن، العميان القلوب، الشاكون في الحقائق، الضالون عن الصواب» (32) .

 

(*)باحث من المغرب.

(1)التركيز هنا على الجابري له ما يسوِّغه، فهو أول مغامر جازف في قراءة التراث قراءةً لم تسى‏ء إلى المنهج العلمي فحسب، بل تم فيها التركيز على الشيعة، كما لو أنهم الفئة المنبوذة التي لم تظفر في التراث العربي والإسلامي بعقل أو أي فضيلة، حتى كان أشد عليهم من السلفية وأكثر حقداً. فلم يخل كتاب من كتبه هذه من تشنيع على الشِّيعة وتعريضٍ بهم.. لهذا فضلنا التركيز عليه من دون الآخرين، لأن موقفهم من الشيعة ظل يمثل جزءاً من نظرتهم الشمولية إلى التراث.

(2)هذا إذا لم نشر إلى تلك الفضيحة التي فجرها جورج طرابيشي في كتابه الأخير «نقد نقد العقل العربي»، التي تتعلق بسرقات الجابري العلمية وإحالاته الكاذبة واستبداده بمصادر غيره.. وقد كنا أشرنا جزئياً إلى ذلك من قبل، راجع مجلة الكلمة، عدد «9»، «إنتاج التراث أم فهمه»، حيث حددنا «جينيالوجيا» لأفكار الجابري، المنقولة.

(3)من المفارقات أن يكون الرحالة المغربي «ابن بطوطة» لا يتوانى عن أن ينعت ابن تيمية ب «الفقيه ذو اللُّوثة» لمّا سمع له خطبة في أحد جوامع دمشق، بينما جعل منه الجابري أحد رواد المعقول الديني!

(4)أقصد بالجدل، هنا، معنى الخطابة نفسها في المنظور المنطقي الأرسطي، وهو ما قام على كثرة من الأقيسة الناقصة، والمصادرات على المطلوب، والمغالطات..

(5)وحتى هذه المصادر لم يطلع عليها مباشرة، بل فوذلك واضح جدّاً ـ استولى عليها من هوامش غيره.

(6)لمن أراد الإطلاع أكثر، يراجع «نقد نقد العقل العربي» لجورج طرابيشي.

(7)العقل السياسي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، شباط ففبراير 1990م، ص 207.

(8)لا نعتب على الجابري إن كان قد صادر على هذه القضية في بناء وجهة نظره في تلك الأحداث.. فقد وقع فيها قبله مستشرقون، كانوا قد وجدوا أنفسهم محاصرين داخل غمر من النصوص التي سهلتها عليهم الأوساط السنية عموماً، وذلك إذا عرفنا أن أكثر هؤلاء المؤرخين، إنما تعلموا داخل هذه الأوساط، مثل جامعة الأزهر. لكننا نقدر جهلهم ذلك، خصوصاً أن بعضهم، في ما يذكره برنار لويس، كان قد تراجع عنها بعد أن تبينت له حقيقتها. لكننا نجد الجابري يصرّ عليها بمزيد من التعسف من دون أن يحقق فيها.

(9)بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، يناير 1986، ط1، ص‏283.

(10) أعني، هنا، أن لحديث أبي هريرة تفسير ينسجم مع سياق الأحداث التي قيل فيها هذا الكلام.. وهو أنه يدعي معرفة بعض الأسرار التي لو صرَّح بها، لقطع منه البلعوم، أي من قبل معاوية.. فلا يخفى أن أبا هريرة كان ممَّن ناصر معاوية وروى له وعنه الكثير من الفضائل، وهو بذلك يكون قد انخرط في الجهاز الأموي، مع أنه يحفظ من تلك الأخبار التي تثبت مجد علي بن أبي طالب، وأهميته في تاريخية الإسلام. ولم يكن هذا الخبر يفيد أسراراً عرفانية، إذْ لم يعرف عن أبي هريرة شي‏ء من هذا القبيل!

(11)نحن والتراث، دار الطليعة، بيروت 1983، ط3، ص 358و 359.

(12)المصدر نفسه، ص 361.

(13) بنية العقل العربي، ص 566.

(14)نحن والتراث، ص 359.

(15)المصدر نفسه، ص 249 ـ 250.

(16)المصدر نفسه، ص 70 ـ 71.

(17)هنري كوربان، تاريخ الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات، 1983 ـ بيروت ط3، ص 265، ترجمة نصير مروة وحسن قبيسي.

(18) إميل برهييه، تاريخ الفلسفة، ترجمة جورج طرابيشي ط1، أيار (مايو) 1983، دار الطليعة، بيروت ج‏3، ص 126.

(19)بنية العقل العربي، ص 562.

(20)سنورد كلاماً لابن رشد يصف به القائلين بالسماع من دون العقل (أي القياس) بالحشوية.. وإذا كان ابن حزم من أكبر المحاربين للقياس، فلن يكون في نظرفابن رشد إلاّ نصيراً لهذه الحشوية. وكيف يلتقي ابن حزم الظاهري الناقم على القياس مع الشاطبي الذي بنى مقاصده على مذاهب التعليل وتحقيق المناط وكيف يلتقي ابن رشد المنافح عن الفلاسفة بابن خلدون الذي سلك مذهب أبي حامد الغزالي في النقمة عليهم؟

(21)بنية العقل العربي، ص 313.

(22)بنية العقل العربي، ص 317.

(23) نشير هنا إلى أن حرق نسخ من القرآن، في عهد عثمان، كان ذا خلفيات أخرى أكثر من دافع توحيد القراءات.. ذلك أن القرّاء الذين دعاهم عثمان وأغلظ عليهم، كانوا قرّاء في العصر النبوي مثل ابن مسعود الذي مات على خصومة مع عثمان.. هذا إن لم يكن التأويل الذي شرع قديماً بوصفه تبياناً صريحاً لمختلف وجوه القرآن، كان يثير مشاكل سياسية في عصر الخلفاء.. فإذا كان ابن مسعود أو ابن عباس أو غيرهما من القراء ممّن أمنهم النبي (صلي الله عليه و آله و سلم) على تعليم القرآن فما هو المسوغ في أن يوحد عثمان القراءات على قراءة واحدة لشخص بعينه، أي قراءة زيد!

(24) ثمة نزاع، لا يتسع له المبحث، يتعلق بتعدد القراءات، أو السبع قراءات كناية عن الكثرة، فيما إذا كان الأمر يتعلق باختلاف الألفاظ والعبارات المحلية أو بعدد وجوه تأويله، ونحن نرجح أن يكون معنى القراءات السبع كناية عن كثرة وجوهه، التي هي مدخل رئيسي لمشروعية التأويل!

(25) نلاحظ، هنا، أن المفهوم اللغوي فعكس الاصطلاحي ـ ينطوي على مغزى أعمق لمفهومي التأويل والفتيا.. هذان المفهومان اللذان قرنا في القرآن، فقد جاءت الفتيا مرادفة للتأويل في قوله:يأيها الملأ افتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون }يوسف/43{ ثم قال:وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين}يوسف/44{. هكذا نفهم أن المفتي الحقيقي من وجهة النظر الإسلامية الأصلية فأي الفقيه بالمعنى اللاحق ـ هو من أوتي تأويل القرآن.

(26)بنية العقل العربي، ص 322.

(27)المصدر نفسه.

(28)أعني أن الآيات التي تنطوي على ذاك «النظير»، تخضع إلى عملية تفكيك، من أجل فرز موضوعها الرئيسي أو المحور الذي تدور حوله عملية «الاعتبار»، ثم يعاد تركيبها بصورة يتم فيها نوع من الإكمال أو الإبدال، فتغدو في مستوى جديد ووضع أكثر تطوراً من وضعها الأولي من حيث ارتفاع «تشابهها» وتمام إحكامها.. وهذا ما أعني به المفهوم الدياليكتيكي للتركيب أو ما يعبر عنه بنفي النفي، حيث يأتي التركيب صورةً متطورة عن الأطروحة.

(29)على الرغم من أن جمهور العلماء، متفقون على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إلاّ أنهم عملياً لم يتحرروا من قاعدة «أسباب النزول» الطاغية على مناهج المفسِّرين. وطبيعي أن يموت النَّصُّ بعد أن تنتهي صلاحيَّته هذه التي تتوقف على ظهور المعنى الوحيد. إن أسباب النزول هي وجه واحد لوجود النص.. بينما ثمة وجوه أخرى تنقدح بتطبيق النص على موضوعات متجددة ومتعددة. وطغيان هذه الأسباب على مناهج التفسير تدل على أن الموقف الطاغي عليهم، هو ذلك الذي يجعل النص أسير معناه الوحيد. وبهذا يكون للنص نزولات متعددة بتعدُّد الأسباب والوجوه، وهو ما يعني المطابقة. فليس هناك سبب للنزول، بل أسباب لنزولات متعددة.

(30) دلائل الإعجاز، مكتبة الخانجي، القاهرة، سنة 1984، ص 263.

(31)بتوسط جورج طرابيشي، مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة، دار الساقي، ط1، 1993، ص 98.

(32)المصدر نفسه.