الحرية الدينية في الإسلام وموانـع الحـوار مع الآخر

206

الحرية الدينية في الإسلام وموانـع الحـوار مع الآخر

الدكتور  أحمد عيساوي (*)

يقول صموئيل هانتيغتون في مقاله الشهير (الإسلام والغرب ـ آفاق الصدام) عن صدام الحضارات: «.. ويقوم افتراضي على أنّ المصدر الأساسيَّ للصراع في هذا العالم الجديد لن يكون إيديولوجياً أو اقتصادياً في الأساس، فالتباينات بين الجنس البشريّ والمصدر المحوريّ للصراع ستكون ثقافيّة… وستظلّ الدول القوميَّة أكثر الوحدات الفاعلة قوّةً في الشؤون الدوليّة، غير أنّ الصراعات الأساسية في السياسة الدولية ستقع بين دول وجماعات صاحبة حضارات مختلفة. وسيهيمن صراع الحضارات على السياسة الدولية، وستكون الفوارق الفاصلة بين الحضارات بمثابة خطوط القتال في المستقبل. وسيشكِّل الصراع بين الحضارات آخر مراحل تطوُّر الصراع في العالم المعاصر..» (1).

المدخل

تتوزّع الساحة الاتِّصاليّة السياسيّة والحضاريّة العالميّة اليوم ثلاث نظريَّات فلسفيّة شاملة لمختلف أبعاد العلاقات الدوليّة الثقافيّة والحضاريّة لسكَّان المعمورة، تكاد تندرج ضمنها سائر المفاهيم والرؤى والتصوّرات الفكريّة والثقافيّة والمعياريّة لنمط التواصلات الحضاريّة بين مختلف الأمم والحضارات الإنسانيّة في

________________________________________

(*) أُستاذ الدعوة والإعلام والفكر الإسلامي المعاصر، كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية ـ جامعة باتنة / الجزائر.

(1) – صموئيل بي هانتينغتون، الإسلام والغرب ـ آفاق الصدام ـ ، ترجمة مجدي شرشر، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى، 1415هـ 1995م، ص 5 و 6.

 

ظلِّ قرنِ العولمة والاتِّصالات الإنسانيّة الحرَّة والمفتوحة والسريعة والمتدفِّقة، وهذه النظريّات المسيطرة على نمط وصيرورة التفكير العالميّ، هي:

1 ـ نظريّة صدام الحضارات.

2 ـ نظريّة حوار الحضارات.

3 ـ نظريّة تعارف الحضارات.

ولنحاول ـ الآن ـ تفكيك الأسس الفلسفيَّة والتاريخيّة والنفسيّة والسياسيّة لأصحاب كلِّ نظريّة على حِدَة، لنتبيّن موقع ما نطرحه من هذه الأبنيّة المتباعدة والمتناقضة (2).

1 ـ نظريّة صدام الحضارات

أو كما يحلو لأصحابها وأعدائها تسميتها بنظريَّة صراع الحضارات. وهي نظريَّة تقوم وتتأسَّس على جملة من التناقضات والتراكمات الموروثة عن الحقب التاريخيّة الماضية، وعلى جملة من التصوّرات المرضية للذّات وللآخر المغاير، وعلى جملة من تراكم المخلفات المرضية الأفقية والعمودية، كـ : الاستعمار، وعقدة المركزيَّة، وعقدة التفوّق، وعقد نظريّات الصعود والتفوّق الجنسيّ والعرقيّ، وعقد كراهية الآخر المتخلِّف، وعقد التمحور حول الذَّات والإعجاب بها، وعقدة النرجسيّة التاريخيّة والسياسيّة والثقافيّة، وعقد التراكمات الوثنية والعنصريّة، وعقد ثقافة الكراهية والاستئصال والاحتقار الأفقيّة والعموديّة، المحشوة في أسفار التوراة، وتفاسير وشروح التلمود (المشنا والجمارا) عن (القوييم ـ الأميين كما في المصطلح القرآنيّ)، وعقد الخوف من لحظات التداعي والتراجع والانهيار أمام التفوّق الإسلامي الذي زحزح الكيـانات التاريخيّة الصليبيّة السـائدة يومها: (الإمبراطورية الرومانيّة ـ الممالك الأوروبيّة)، وعقدة الخوف من تحوّل مركز الحضارة العالميّ من محور موسكو لندن باريس واشنطن إلى محور طوكيو بكين

________________________________________

(2) – قدَّم الأستاذ الدكتور عبد الستار الهيتي دراسة في سلسلة كتاب الأمة رقم 99، بعنوان : (الحوار الذات والآخر) من تقديم الشيخ عمر عبيد حسنة، عرض فيها بدقّة واختصار مختلف قراءاته في هذا الباب، وشروحاته وفهمه للحوار من الناحية اللغويّة والاصطلاحيّة، ومن ناحية المفهوم والأنواع والأسس والضوابط والوسائل والأساليب والمناهج وآداب وأخلاق المتحاورين ودوائر الحوار الذاتيّ والغيريّ، كما تناول قضيّة الحوار بين الشعوب وعلى رأسها الحوار الإسلاميّ المسيحيّ، وقد ضبط مجموعة من الأسس لأيِّ حوار إسلامي مع الآخر ( الغرب ) ضمن جملة من الأسس والشروط هي: 1 ـ أن يكون الحوار متكافئاً تتوفَّر فيه شروط المساواة والإرادة المشتركة لبلوغ أهداف الخير. 2 ـ أن يهدف الحوار إلى تحقيق المصالح المشتركة للطرفين التي لها علاقة بالتقدّم العلميّ في كافّة مجالات الحياة الفكريّة والثقافيّة والاقتصاديّة. 3 ـ أن يكون الحوار متحضِّراً ومترفِّعاً عن الموضوعات التي تتعلّق بالخصوصيّات العقائديّة والأخلاقيّة للأمم والشعوب التي من شأنها إذا أُثيرت أن تؤدِّي إلى وقف الحوار وعدم فاعليّته. 4 ـ أن يكون الحوار معَدَّا وفق برامج مسبقة يكون الغرض منها التواصل والتفاهم لتحقيق التفاعل الحضاريّ، بعيداً عن فكرة التنازع المقيت. انظر: عبد الستَّار الهيتي، الحوار الذّات والآخر، سلسلة كتاب الأمة، قطر، رقم 99، محرم 1425هـ، ص 152 و153. كما عرض الكثير من الباحثين طروحاتهم حول هذا الموضوع أشهرهم وأسبقهم السيّد محمد حسين فضل الله في كتابه الحوار في القرآن الكريم، وناصر الدين الأسد وغيرهما.

 

كوالالمبور، ولا سيما بعد تمرّد النمور السبعة على مروِّضها وصاحب نعمتها السابق الغرب المسيحيّ اليهوديّ، وتحويل مسارها عن تعويق المارد الصينيّ، والتنين اليابانيّ، إلى المشاركة والانخراط والدفع الخلاق في ينابيع وعروق النهضة الآسيويّة القادمة.

وللأسف الشديد فإنَّ هذه النظريَّة نجدها قد صاحبت الفكر الغربيّ الصليبيّ اليهوديّ منذ قرون عديدة إلى اليوم، حيث تتوّج اجتماعات مجلس الأمن القوميّ الأمريكيّ الضيق بحضور شخصيّة دينيّة متميِّزة من الأصوليين الجُدد من رعاة الكنيسة الأنجليكانيّة المتهوِّدين بروح التوراة والتلمود، ومن رعاة الكنيسة البروتستانتيّة المتصهينين، والمهووسين بروح معركة (هرمجدون).

وتعود بداياتها الأولى منذ أن استطاعت جيوش الفتح الإسلاميّ تحرير شعوب وأمم العالم القديم من ربقة السيطرة الصليبيّة الرومانيّة عليه، وانضمامها الطوعيّ لحظيرة الإسلام السمحة، وهروبها من جحيم القهر والاستعباد الصليبي، مرورا بمآسي وويلات الحروب الصليبيّة المدمِّرة على العالم الإسلاميّ، وما صاحبها من انهيار نظريّة إعادة السيطرة على الشرق الإسلاميّ (1095-1291م / 498 – 690هـ).

والمتتبِّع المحلِّل لأصحاب هذه النظريّة يجد أنّهم ظلّوا يتململون طيلة الحقب التاريخية السابقة، ويحاولون استغلال اللحظة تلو الأخرى، متأثِّرين حينها بسعار طروحاتهم النظريّة العنصريّة الجامحة، حقبةً من بعد حقبة، وزمناً من بعد زمن، في نسق وتيرة تفاعل مرضي متأجّج، حتّى تسنَّت لهم لحظة الفرصة المناسبة، ولكن بعد أن استفحلت فيهم آثار هذه النظريّة المرضيّة أثناء الموجة الاستعماريّة الكبرى التي تلت سقوط إمارة غرناطة كآخر حصن عربيّ وإسلاميّ في الأندلس (897هـ – 1492م)، وما استتبعها من جرائم مشينة، ومذابح وحشيّة، ومتابعات قهريّة بطَّاشة، من قساوسة ورهبان وبطارقة محاكم التفتيش الكنسية

________________________________________

القهريّة، التي توسَّعت ارتداداتها وتفاعلاتها القمعيّة بعد موجات الغزو الاستعماريّ المحمومة، تحت مظلَّة الكشوفات الجغرافيَّة الكبرى للعالم القديم والجديد، ولا سيما بعد اقتسام العالم بين قواه الاستعماريّة الناهضة يومها (1492- 1699م إسبانيا ـ البرتغال)، وشره المستعمرين لنهب ثروات البلاد المكتشفة، ثمَّ تحوّلهم لتجارة الرقيق الأسود بهدف استعمار الأمريكتين، وكوة (غوري) في السنغال ما زالت شاهدةً على تلك الخطيئة الإجرامية الباكية في حقِّ سكَّان إفريقيا السود طيلة ثلاثة قرون آثمة (1500-1800م)، ثمَّ تناسخ القوى الاستعماريّة، منذ القرن السابع عشر إلى منتصف القرن العشرين (بريطانيا ـ فرنسا ـ هولندا ـ ألمانيا ـ بلجيكا ـ إيطاليا)، حتَّى وراثة الولايات المتّحدة الأمريكية للواء السيطرة الغربي على العالم، طيلة منتصف القرن الماضي، حتّى القضاء المبرم على المعسكر الاشتراكيّ بقيادة الاتِّحاد السوفياتي، وانهيار جدار برلين في ديسمبر 1989م، وتحويل وجهة الحرب الحضاريّة باتجاه العالم العربيّ والإسلاميّ بعد أحداث 11/09/2001م، وتحت غطاء ما يسمَّى بمحاربة الإرهاب.

وظلَّ أصحاب هذه النظريّة طيلة هذه الحقب التاريخيّة يؤجِّجون جذوة الصراع مع العالم الإسلاميّ، تحت شعارات وقيادات متباينة الوجوه، ولكنّها متَّحدة في الأسس والأهداف، لتجد في كلِّ حقبةٍ من حقبها من يغذيها ويُضرم لهيبها، ويؤجِّج أحقادها، في ظلِّ القيادات السياسيّة والدينيّة الصليبيّة واليهوديّة الحاقدة على الإسلام والمسلمين. حتّى ألفت مع نهايات القرن الماضي من يُعطيها الأبعاد الفلسفيّة والفكريّة، ويؤسِّس لها مكتبةً خاصة في بنوك المعلومات العالميّة، بأقلام السياسيِّين أمثال وزير الخارجيّة الأمريكيّ الأسبق (هنري كيسنجر 1972-1977م)، والخبراء الاستراتيجيّين في مراكز صناعة القرار، ودوائر تحريك القوى في مختلف البقاع الساخنة من العالم، ولتنتعش أخيراً في ظلِّ كتابات اليابانيّ الأمريكيّ (فرانسيس فوكوياما ونهاية التاريخ والأنموذج الغربيّ)، وكتابات اليهوديّ البريطانيّ

________________________________________

(صامويل هانتينغتون وصدام الحضارات)، وسائر الكتّاب والمفكِّرين الأصوليِّين البروتستانت الجدد من صقور السياسة الأمريكيّة والبريطانيّة ذوي الأصول اليهوديّة.

يقول مصدّر هذه النظريّة صموئيل هانتينغتون في مقاله الشهير (الإسلام والغرب ـ آفاق الصِدَام) عن صدام الحضارات : «… ويقوم افتراضي على أنّ المصدر الأساسيّ للصراع في هذا العالم الجديد لن يكون إيديولوجياً أو اقتصادياً في الأساس، فالتباينات بين الجنس البشريّ والمصدر المحوريّ للصراع ستكون ثقافيّة… وستظلّ الدول القوميّة أكثر الوحدات الفاعلة قوّةً في الشؤون الدوليّة. غير أنَّ الصراعات الأساسيّة في السياسة الدوليّة ستقع بين دول وجماعات صاحبة حضارات مختلفة. وسيهيمن صراع الحضارات على السياسة الدوليّة، وستكون الفوارق الفاصلة بين الحضارات بمثابة خطوط القتال في المستقبل. وسيشكل الصراع بين الحضارات آخر مراحل تطور الصراع في العالم المعاصر..» (3).

وقد وجد هانتينغتون وفوكوياما وبرنار لويس ضالَّتهم في صقور الحزب الجمهوريّ الأمريكيّ المتعطِّش للسلطة والدماء والسيطرة على العالم الإسلاميّ والاستحواذ على أموال ونفوذ مناطق البترودولار، والاستعداد لمعركة (هرمجدون) التوراتيّة الفاصلة مع العالم الإسلاميّ. واستطاع وفوكوياما بأكاذيبهما وعقدهما المرضية التي ملآ بها كتابيهما أن يُلهبا حماس الساسة الأمريكان لإشعال فتيل الحرب الحضاريّة العالميّة، وخلق بؤر توتر جديدة في العالم الإسلامي، بعد ذريعة أحداث 11/09/2001م، التي ما زالت لم تُعرَف حقيقتها بعد، وتطويق العالم الإسلاميّ بقوات حلف النيتو في أفغانستان وباكستان ودول أواسط آسيا الإسلاميّة المنفصلة عن الاتِّحاد السوفياتيّ السابق، وفي العراق ولبنان وفلسطين بؤرة الصراع العربيّ الإسلاميّ اليهوديّ الصليبيّ (4).

وقد عبَّر هانتينغتون عن رؤيته في تزايد حدّة ووتيرة الصدام بين الحضارات

________________________________________

(3) – صموئيل بي هانتينغتون، الإسلام والغرب، آفاق الصدام، ترجمة مجدي شرشر، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى، 1415هـ 1995م، ص 5 و 6.

(4) – كتب فوكوياما في مطالع شهر مارس في (التايمز) الأمريكيّة مقالات تصحيحياً اعتذارياً، يتأسَّف فيه من النتائج الخاطئة التي توصَّل إليها في كتابه (نهاية التاريخ)، والتي كانت تتلخَّص في توقَّف عجلة الإبداع والتطوّر البشري عند حدود الرأسماليّة الليبيراليّة الحرّة والديمقراطيّة، حيث تبيّن من خلال التعاطي الغربيّ اليهوديّ المسيحيّ الأمريكيّ والأوربيّ مع العالم قاطبةً والعالمين العربيّ والإسلاميّ خصوصاً طبيعة النتائج الكارثيّة التي توصَّلت إليها الديمقراطيّة الغربيّة في فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان والصومال والسودان.

فقال: «… ستتزايد أهميَّة الهوَّة الحضاريّة في المستقبل، وسوف يتشكَّل العالم إلى حدٍ كبير نتيجة التفاعل بين سبع أو ثماني حضارات كبرى، وتشمل هذه الحضارات الحضارة الغربيّة والكونفوشيّة واليابانيّة والإسلاميّة والهندوسيّة والأرثوذكسيّة السلافيّة والأمريكيّة اللاتينيّة، ويحتمل أن تنضم إليها الحضارة الإفريقيّة..» (5).

وقد وَجدَت هذه النظريَّة لها آذاناً صاغية في العالمين العربيّ والإسلاميّ ولا سيما من طابور المنتسبين لتيَّار الحداثة وما بعد الحداثة، ممَّن لا يختلفون في طروحاتهم الاستئصاليّة عن أسيادهم في الغرب، بل ربما غالوا في طروحاتهم تلك، فكانوا أكثر حقداً وسوداويّة على أهلهم وذويهم، بحجّة محاربة التخلّف، ومقاومة الفكر الرجعيّ، وإرساء الفكر التقدّمي والحداثيّ، من أنصار العقلانيّة، والعلمانيّة، والإلحاديّة، والاشتراكيّة الشيوعيّة، وفلسفات التشرذم والعبث واللامعقول، والتفكيك والتشكيك والتحلّل والتحرّر، والحداثة، وما بعد الحداثة.. ممَّن سعى ويسعى بمختلف الوسائل والأساليب، وتحت مختلف الظروف والمناسبات، وتحت عباءة وشعار الرقيّ والحريّة والتقدم وحريّة المرأة وحقوق الإنسان.. إلى الترويج والدعاية المجانيّة والمأجورة لمشاريع الاستكبار، بهدف تبيئتها وتوطينها في العالمين العربيّ والإسلاميّ.

والحقيقة التي يجب ألا نخدع بها أنفسنا ـ كعرب ومسلمين ـ أبداً أنَّ أصحاب هذه النظريَّة لا يُمكن التجسير معهم، ولا يُمكن التهدئة من غلواء حقدهم وعنصريَّتهم، فهم دمويُّون حتّى في رياضاتهم وتساليهم وألعابهم وبرامجهم السينمائيّة والإعلاميّة والتلفازيّة والثقافيّة (6).. كما أنّه لا يُمكننا التقليل من شرِّهم القادم على العالمين العربيّ والإسلاميّ خاصّة وعلى العالم عامّة، في ظلّ انعدام توازن القوى. وما يَجعلنا نقف هذا الموقف التـاريخيّ والرسالي الاعتبارات العديدة والمتنوعة التي نمتلكها بين أيدينا، فمنها ما هو دينيّ، ومنها ما هو واقعيّ، ومنها ما هو علميّ.

________________________________________

(5) – صموئيل بي هانتينغتون، الإسلام والغرب، آفاق الصدام، ص 11.

(6) – انظر مقالنا المنشور في مجلة الوعي الإسلاميّ، الكويت، رياضات الشعوب وحوار الحضارات، عدد 484، يناير 2006م.

 

ولنؤسِّس موقفنا ورؤيتنا الحقيقيّة من أصحاب هذه النظريّة بالاستناد والاعتبار بالمرجع الدينيّ الكريم، فقد بسط الله تعالى في نصف آيات القرآن الكريم قوانين مضبوطة، وخلاصات سننيّة قطعية، وحِكَماً مطلقة وصادقة وواضحة عن أصحاب هذه النظريّة، مبيِّناً كنه وأُسس واعتقادات وممارسات وأهداف ومواقف أصحابها، من: يهود، ونصارى، ومنافقين، ومستكبرين، ومعاندين، وملحدين، ودهريين، وجبابرة، وطغاة، من شرائح مختلفة منهم : الأحبار، والرهبان، والربانيّون، والقادة، والملوك، والخاصّة، والعامّة، من الأقوام البائدة كـ : قوم نوح وعاد وثمود وتبَّع وأصحاب الأيكة والرس ولوط وفرعون.. ممنّ أدار ظهره لعهد أبينا آدم عليه الصلاة والسلام مع ربّه من جهة، وسنّ سنن الجاهليّة العمياء في الأرض من جهةٍ ثانيةٍ، وعادى الأنبياء والمرسلين وآذاهم وقتلهم وشوَّه صورتهم وتاريخهم قروناً طويلة من جهةٍ أُخرى، حتّى برَّأهم القرآن الكريم بعد قرون عديدة، كما حصل لسيدينا داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام على سبيل المثال.

وعلى هذا الأساس فنحن نمتلك كمسلمين خلاصات مقدَّسة ودقيقة في حقيقة وكنه وعمق أصحاب هذه النظريّة، ولكنَّنا ذُهلنا عنها، ولم نفقهها حقّ فقهها، وتنكّبنا طريقها، فابتغينا العزّة في غير منهج الله، ففشلنا وذهبت ريحنا، وصرنا ـ للأسف ـ لعبة ودمية طيعة، وورقة رابحة في يد أصحاب هذه النظريّة، يفعلون بها ما يشاءون في حسابات السياسة العالميّة.

ويجيء الاعتبار الواقعيّ ليؤكِّد لنا عبر صفحات التاريخ، وحقائق الحياة والعلاقات الإنسانيّة السائدة في العالم، ما يبيِّن لنا بوضوح صدق الخلاصات القرآنيّة في أصحاب هذه النظريّة، الذين لم نر منهم غير : القهر والاستضعاف والقمع والاستذلال، طيلة قرون ضعفنا وتخلّفنا. ويكفي اختصاراً انتقاء عبارة حضاريّة راقية لأصحاب هذه النظرية على لسان ساسة أكبر دولة تتردّى برداء

________________________________________

الديمقراطيّة ونشرها في العـالم ويُكثرون من استعمـالها ببرودة وحقد أثناء حواراتهم وإملاء شروطهم على قادة وزعماء العالم الإسلامي، ما يبيِّن حقيقة نوايا وأهداف أصحاب هذه النظريّة، التي لا تدع لنا مجالاً هامشياً للتفكير الحسن، وهي قولهم: «إمَّا أن تنصاعوا لشروطنا مباشرة، وتستجيبوا لإملاءاتنا بدقّة، وإلاّ فانتظروا العودة السريعة إلى العصر الحجريّ». طبعاً، وسيتمّ ذلك عبر وسائل التدمير الفتّاكة، التي صنعوها خصيصاً لهؤلاء القوييم (7).

كما يجيء الاعتبار العلميّ التجريبي ليؤكِّد صدق الاعتبارين السابقين. فمن خلال السياسة الغربيّة المتَّبعة تجاه العالمين العربيّ والإسلاميّ فيما يخصُّ قضاياهم المصيريّة نتبيّن كلَّ شيءٍ عن أصحاب هذه النظريّة. حتَّى أنَّ حقائق التاريخ علَّمتنا كيف استطاعت الشعوب العربيّة والإسلاميّة انتزاع استقلالها السياسيّ من قبضة أصحاب هذه النظريّة منذ بداية منتصف القرن الماضي.

وأمام هذه الحالة المرضية المأسويّة التي رسمتها حقائق الواقع والتاريخ عن أصحاب هذه النظريّة، يفترض فينا كقيادات وطلائع ونُخَب مثقّفة أن نتوزّع الأدوار بيننا، كلٌّ حسب موقعه وتكوينه وثقافته وإمكاناته ومواهبه، فيمتهن بعضنا دور الطبيب المعالج حيال المريض والمرض الغربيّ من جهة، ويمتهن بعضنا الآخر مهنة الإعلاميّين المخلصين فنضطلع بمهنة التبشير والدعاية والإعلام الموضوعيّ الباسط للحقائق الصحيحة عن الذات العربيّة والإسلاميّة، وتوضيحها في ذهن الآخر المريض من جهةٍ ثانية، دون أن ننسى أنّه سبق لرسولنا الكريم محمد(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) أن قامَ بمثل هذه العمليّات الإعلاميّة والفكريّة والأدبيّة والدعائيّة والتبشيريّة… من: مباهلة ومناظرة ومجادلة ومكاشفة ومواجهة ومطارحة ومذاكرة ومناصحة ومفاضلة وملاطفة… والخطاب القرآنيّ الكريم واضح بيّن في مثل هذه المواقف، عن نصارى نجران، وعن يهود المدينة وعبد الله بن سلام حبرهم وخيرهم وسيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم،

________________________________________

(7) – مصطلح توراتيّ ظهر في التلمود وفي شروحات التوراة، وبرز بقوة في بروتوكولات حكماء صهيون. انظر: رشاد الشامي ومحمد الهواري وعبد الخالق بكر، دراسات وأبحاث في التوراة والتلمود، محاضرات علمية لطلبة الدراسات العليا قسم أصول الدين، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة سنوات 1987-1989م.

 

 

وعن مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وعن {تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم وأنفسنا وأنفسكم} .

وأن يضطلّع فريقٌ آخر على الصعيد المحليّ والذاتي بالنفخ في ضمائر وقلوب الجماهير العربية والمسلمة المرهَقة بنيران الغزو الإعلاميّ والثقافيّ التدميريّ الغربيّ، وذلك عبر دفقات التحشيد المعنويّ والتأثير العاطفيّ والوجدانيّ لإحياء الضمائر والقلوب الميتة، علّها تستيقظ من سباتها، وتفيق من غفوتها، وتدرك مناطات رسالتها من جهةٍ ثالثة.

فيما تضطلّع القيادات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والماليّة والحزبيّة والجمعيّة من قادة الرأي ورجال المال والأعمال الحقيقيّين بوضع خطة اقتصاديّة شاملة وواقعيّة محكمة زمنياً وتمكنياً وإمكانياً وكيانياً ومكانياً للنهوض والتنمية الشاملة الماديّة والمعنويّة والأدبيّة والبشريّة على مختلف الأصعدة، لبناء مجتمع قويّ ومتماسك، قادر على الردع والمقاومة من جهةٍ، وعلى كفاية نفسه بالضروري من متطلّبات الحياة، عبر آلية تجميع الأطراف عند المركز حين استشعار الخطر الداهم، بإقامة علاقات قويّة ومتينة مع كلِّ القوى الخيرة من المستضعفين من أمثالنا، أو من الخيّرين في معسكر أصحاب هذه النظريّة، أو من القوى الاقتصاديّة العالميّة الصاعدة في جنوب شرقيّ آسيا، بهدف رصّ جبهة المقاومة وتمتينها وتمكينها من الصمود والتصدّي، كما صنعت كلٌّ من ماليزيا وباكستان وإيران وكوريا الشمالية (8).

2 ـ نظريّة حوار الحضارات

وبمقابل نظريّة صدام الحضارات تجيء نظريّة حوار الحضارات. ودون الدخول في التفاصيل المعرفيّة والجديّة لمعنى الحوار من الناحيتين الاصطلاحيّة الفلسفيّة، والواقعيّة العمليّة، ومجالاته وميادينه وحقيقته، وموقعه الحكمي في

________________________________________

(8) – يُجمل الدارسون العرب والمسلمون تخوّفات الغرب من العالم الإسلاميّ في نقطتين أساسيتين هما : الخوف من تضاعف الهجرة نحو بلاد الغرب، والخوف من انتشار المدِّ الأصوليّ. وبمقابل ذلك يسجِّل المسلمون والعرب من الغرب تخوُّفاتهم التالية: 1 ـ خلفيَّة الحروب الصليبيّة وتدميراتها الدمويّة وتأثيراتها البشعة على مخيال الأمّة الإسلاميّة والعربيّة. 2 ـ الاستعمار الأوربيّ وتأثيراته البشعة بشكليه القديم والحديث على الأمّة العربيّة والإسلاميّة. 3 ـ مناصرة الغرب لإسرائيل وانتزاع أقدس أراضيهم وتدعيم الغزاة الغاصبين. 4 ـ التدخّل السافر في شؤون العالم العربيّ والإسلاميّ وفرض الشروط على حكَّامه. 5 ـ الطمع في ثروات الأمّة واستنزافها بأبخس الأثمان. 6 ـ المحافظة على مصالح الغرب في البلاد العربيّة والإسلاميّة ولو على حساب سيادتها. انظر: عبد الستار الهيتي، الحوار الذات والآخر، سلسلة كتاب الأمة، قطر، رقم 99، محرم 1425هـ، ص 166 و167.

المنظومة التشريعيّة الإسلاميّة، وحجم الآي الكريمة التي تناولته، إذ بيّنت لنا أهميّته وحدوده وفضله، وموقعه من السنّة النبويّة المطهّرة، التي قدَّمته في أفضل صوَره وأشكاله، نرى أنَّ هذه النظريّة تتقاسمها فئتان، فئة الطابور الخامس المؤيِّد للطروحات الغربيّة في العالم العربيّ والإسلاميّ، ممن يتبنَّون مشروع تخضيع وأكسدة العالمين العربي والإسلامي ضمن مشاريع الهيمنة الغربية كخيارٍ فكريّ وفلسفيّ واعتقاديّ واستراتيجيّ لهم، ويندرج معهم فصيل من المفكِّرين الانهزاميين ممن أخلدوا لثقافة الهزيمة والاندحار، بعد سطوة الغطرسة الأمريكيّة واليهوديّة والأصوليّة المسيحيّة واليهوديّة على المعسكر الاشتراكي سابقاً، وتحييد روسيا كقوّة عالميّةٍ سابقة، والهيمنة المطلقة على العالم المتخلف عموماً، والعالمين العربيّ والإسلاميّ خصوصاً، واستسلامهم المطلق، دون تقديم أيِّ محاولات للانفلات والانعتاق، من الكتّاب والمفكِّرين والباحثين الذين ملأت كتاباتهم المجلات والدوريّات العربيّة والعالمية القوميّة والحداثية، من أمثال وأنصار مفكِّري ومنظِّري ومشجعي مؤتمرات القاهرة وبكين ودربن.. للبيئة والمرأة والسكان.

والفئة الثانية من المفكِّرين العرب والمسلمين ممن يحسِنون الظنّ بالآخر، وممَّن يحاولون التجسير مع قوى الخير الموجودة لدى الآخر المتغطرس، على اعتبار أنّ القوى الخيِّرة في المعسكر الغربيّ واليهوديّ تدرك تمام الإدراك استحالة إخضاع الآخر ما دام هناك نبض للمقاومة والممانعة ينبض في عروق الأمّة العربية والإسلامية، وأنَّ الغطرسة الغربية ستُنهي نفسها باستنفاد قواها في عقدين أو ثلاثة عقود من الصراع غير المحسوم النتائج، على أقصى تقدير. ولذا تسعى لخلق بؤر تواصل حوار إيجابيّ مع أصحاب نظريّة حوار الحضارات، ضماناً لخطِّ الرجعة لمعسكرهم في حالة استحالة تحقيق أهدافهم بالكيفيّات التي يُديرها صقور السياسة الصليبيّة اليهوديّة المتغطرسين العاملين من أجل السيطرة والتفوّق.

________________________________________

وقد حاول هؤلاء عقد العديد من المؤتمرات واللقاءات والندوات الفكريّة والتشاوريّة، بهدف اختبار نيَّة الآخر، ومعرفة مواقفه وتصوّراته ورؤاه لما يجري على الساحة العالميّة من مجريات اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة وفكريّة وماليّة وتربويّة ودينيّة وإعلاميّة.

وطرح أصحاب هذا الاتِّجاه رؤاهم وتصوّراتهم في تلك المؤتمرات، وسمعوا من الآخر المغاير تصوّراته ورؤاه، ولكنّ الطرفين كانا يقفان على ضفتين متباعدتين، بتباعد نظرتيهما وفلسفتيهما ومرجعيّتيهما، ولم يتوصلا إلى شيء مهم يذكر، عدا التأكيد على نيتهما في مواصلة الحوار والتشاور والأمل في التوصّل لأرضيّة تفاهمٍ مشترك.

وفي الوقت الذي يسير فيه أصحاب هذه النظريّة قُدماً في عقد اللقاءات الدينيّة والثقافيّة والأدبيّة والعلميّة والفنيّة… يبرز صوت ناشز عن الصف فيُعيد الأدبيّات الحواريّة إلى دائرة الصفر. فبعد محاولات بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني توسيع دائرة الحوار مع العالم الإسلاميّ في زياراته الأخيرة للمشرق الإسلاميّ، تجيء حملة الإساءة للرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله)، وإذكاء روح بطرس الناسك، وأقوال البابا أوربان الثاني ملهب حماس الحملة الصليبية الأولى 498هـ 1095م، فضلاً عن حملات التشويه والإساءة الدائمة عبر المنتجات والسلع والملبوسات ووسائل التعبئة والتغليف والدعاية، فضلاً عن حملات التنصير المسيحيّ الحثيثة في العالمين العربيّ والإسـلاميّ، والانتهاكات والتصريحـات اللامسؤولة للساسة وللقادة الغربيين كتصريحات رئيس الولايات المتّحدة الأمريكيّة عن الإسلام والمسلمين، وتصريحات الوزير السابق الإسباني (خوسيه ماريا أزنار)، وتصريحات قادة العدو الصهيونيّ القوليّة وعبر حروبهم التدميريّة المستمرّة في فلسطين ولبنان.

وفي اعتقادي أنّ أصحاب هذه النظريّة قد لا يصلون إلى شيءٍ مهمّ، يؤدِّي

________________________________________