المباني النظرية لحوار الحضارات
المباني النظرية لحوار الحضارات
الدكتور السيد يحيى يثربي (*)
تمهيد
لا بد من تقديمٍ نشير فيه إلى ما نريد أن يصل القارئ إليه في هذه السطور، وذلك ضمن النقاط التالية:
أولاً: لطالما كان هناك نوعٌ من التحدّي بين الحضارات دون أن يكون في وسع أحدها الإنتقال إلى الأخرى أو السيطرة عليها، لكونها أنداداً في عرض بعضها بعضاً. أمّا التحدّي الذي نشهده اليوم، فهو حضارة جديدة في حالة مواجهة مع جميع الحضارات الأخرى، وتعتبر أنَّ باقي الحضارات في طولها لا أنداد ونظائر، يُضاف إلى ذلك امتلاكها جميع الإمكانات المطلوبة لنقل نفسها إلى الآخرين أو السيطرة عليهم.
ثانياً: هناك النظام الإسلاميّ ممثّلاً بالجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، الذي يدّعي في تعاطيه مع الحضارات الأخرى أنّه ليس في عرضها، بل السبّاق إلى تأسيس حضارة عالميّة أرفع.
وعليه، فالمواجهة بين الحضارة الإسلاميّة ممثّلة بإيران، وبين الحضارة الغربيّة ممثلةً بأمريكا وأوروبا الغربيّة، هي موضوع جدّي بين خصمين يدّعيان الأفضليّة والأصالة.
وتبيّن هذه المقالة أبعاد ومجالات صراع هاتين الحضارتين القائمتين، وتختم ببعض النتائج.
1 ـ تشبه الحضارة لوحة أو منحوتة جميلة في أنّها تأتي متأخِّرةً وبعد صعوبات، نابعةً من النبوغ والذوق الإنسانيّ؛ ولكن زوالها ممكن بسهولة، يكفيه القليل من التفاهة والحماقة. لذا يجب مراعاة كامل الاحتياط من أجل المحافظة عليها. قد نستطيع تمزيق وردة بسهولة، ولكن لا أحد يقدر على خلق تويجة واحدة من تويجاتيها.
الحضارة منظومةٌ تقود فكر النّاس وثقافتهم وسعيهم وعلاقاتهم الجماعيّة، ولطالما كان هناك نوع من الحضارة مذ كان المجتمع البشريّ.
2 ـ لطالما تصادمت المجتمعات والحضارات مع بعضها بعضاً، على غرار أفراد البشر الذين يتصادمون مع بعضهم بعضاً لسببٍ ما.
والمواجهة الحاصلة بين ثقافتين أو بضع ثقافات، لا تعني أن يكون لكل واحدة منها فرديّتها وأن تستمرّ إلى جانب الأخرى بهدوء وطمأنينة؛ بل تبقى هذه المواجهة في إطار الحسابات والتقييم.
النقطة الملفتة للنظر ـ وإن كانت طبيعيّة تماماً في الوقت نفسه ـ هي أنّ كلّ مجتمع يعتبر في هذه الحسابات، أنّ حضارته أفضل وحضارة الشعوب الأخرى أقلّ شأناً؛ { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }(المؤمنون، 53).
لطالما كانت حضارة كلِّ مجتمعٍ مقبولة ومشروعة ومألوفة بالنسبة لأفراد هذا المجتمع، وحضارة القوم الآخرين على العكس من ذلك!
3 ـ هناك عنصران في البنية الداخليَّة للحضارات مثيران للاهتمام أكثر من أيِّ شيءٍ آخر: أحدهما التعاليم المعرفيّة (1)، والآخر قدرة وإمكانات تأمين معيشة أفراد المجتمع الدنيويّة.
طبعاً، يَعتبر كلُّ مجتمعٍ أنّ حضارته أفضل في هذين المجالين، لذا يسعى لدعمها وأحياناً لنشرها.
4 ـ لقد كانت الحضارات الماضية تعيش في ظروف لم تسمح لحكَّامها وأمرائها الذين كانوا يذهبون إلى الدول الأخرى كفاتحين، أن ينقلوا حضارتهم إلى تلك الأمكنة. وأنّى لفاتحٍ يُرافقه عددٌ من القادة والجنود أن ينجح في تغيير حضارة القوم المغلوبين، خاصةً إذا كان هدفهم، منذ اللقاء الأوّل، سرقة الأموال والقضاء على أُسس السلطة السياسيّة لا غير؟ إلا أن يكون مبدأ وهدف الغزو نشر دين ومذهب، ففي حالة كهذه كان التغيّر في فكر وثقافة الناس نتيجةً للإجراءات الحثيثة التي تتّخذ. غير أنّ هذا النوع من التغيّرات كان غالباً ما يحصل ضمن إطار عقائد الناس الدينيّة؛ أمّا بالنسبة للمظاهر الحضاريّة الأخرى، فلم تكن تتغيّر بشكل ملحوظ، إذ إنّ السماء كانت ذات لونٍ واحدٍ في كلّ مكان (2): حياة زراعيّة، تجارة وصناعات يدويّة محدودة، ودفع الضريبة والخراج!
5 ـ كانت الحضارات في العصر السابق في عرض بعضها بعضاً، هذا إذا تخطّينا ظروف ذلك العصر وإمكاناته التي كانت تصعّب انتقال الحضارة، أو تجعل من ذلك أمراً مستحيلاً بمعنى من المعاني؛ أي أنّه على الرغم من أنّ كلَّ قومٍ وشعبٍ كان يَعتبر حضارته أرفع من الحضارات الأخرى نتيجة الخيلاء والنعرة الوطنيّة والأنس بها والتعصّب لها، لكن لم يكن لهذه الحضارات أفضليّة محسوسة على بعضها بعضاً؛ وغالباً ما كان الأمر يَعتمد على مدى اتِّساع رقعة الإمبراطورية، وجاه وجلال الملوك، وقدرة الأبطال البدنيّة، ومن النادر أن تعثر على مواجهة كالتي حصلت بين المجاهدين المسلمين وجيش إيران، طرفٌ ينادي بإلغاء الامتيازات والمساواة بين معيشة الحكَّام والرعايا والعسكر، والآخر ينادي بهالة وعظمة الملك وبلاطه (3)؛ هذا بالنسبة للشعار.
أمّا بالنسبة لواقع حياة الناس أيضاً، فأينما ذهبت كنت تجد حياة سكَّان الأرض ذات لونٍ واحد تقريباً، كما هي السماء لونها في كلّ مكان ذاته: كانت الأغلبيَّة رهينة أهداف وأطماع وأهواء أقليّة محدودة، بحيث كان محور هذه العلاقة الظالمة التسلط والذهب (المال) والتزوير! (4).
6 ـ ما قلناه يتعلَّق بالماضي، أمّا اليوم فنحن في قبال حضارة ليست (جديدة) بالعنوان فقط؛ بل هي مختلفة عن سائر الحضارات الماضية. سوف نصبّ الاهتمام على هذا الاختلاف في بحثنا بدقَّة من جهتين:
أمّا الجهة الأولى: فبما أنّ هذه حضارة جديدة، وليست في عرض الحضارات الأخرى، حضارة تعتبر نفسها ـ ونفسها فقط ـ الحضارة، وتنظر إلى سائر الحضارات بعين التحقير، وتعتبر هذه الحضارة أنّها هي الوحيدة صاحبة الرشد والبلوغ اللازم، وأنّ الآخرين متخلّفون، وإذا أرادت المجاملة أطلقت عليهم إسم الدول النامية، لذا فإنّ ما كان يُعرف من مواجهة بين الإسلام والمسيحية في القرون الوسطى، أصبح في أواسط القرن الثامن عشر تقابلاً بين التحضّر والبربريّة، وفي القرن التاسع عشر أصبح المطروح هو التقابل بين الشرق والغرب؛ لكن لا الشرق الهنديّ، بل الشرق الإسلاميّ. كانت أوروبا عصر التنوير تعتبر أنَّ الشرق الإسلاميّ هو مظهر كلِّ ما غدا وراء ظهرها، كالجهل مثلاً وحاكميَّة الفرد والركود (5).
تعتبر الحضارة الغربيَّة الجديدة نفسها، حاصل النهضة الفكريّة لتلك البلاد. إنَّها نهضة قلبت كلّ شيء، ورأت كلّ شيءٍ مقلوباً ولا زالت كذلك. نزّلت الشمس منزلة الأرض، والإنسان منزلة الله. وفي جعبة هذه الدعوة الجديدة أنواعٌ من السحر تستعرضها، بدئاً بوفرة المنتجات وازدهار التجارة، ومروراً بتطوُّر العلم والصناعة، وعموم الأمن والحريّة، وصولاً إلى استئصال الأمراض الوبائيّة! لقد دفعت هذه النهضة نقداً ما وعدت به الكنيسة نسيئة، والناس سيُصبحون بالطبع من مريديها، ولا ينبغي لشيخِ (6) الكنيسة أن ينزعج (7).
أمّا الجهة الثانية: فهي أنّ هذه الحضارة الجديدة، بما تحمل معها من ادّعاءات وبدع، تمتلك إمكانيَّات للانتقال إلى البلاد الأخرى. إذا كان سليمان في الماضي، يستطيع أن يجلس على بساطه ويركب الريح، أو كان الجنّيّ يستطيع أن يأتيه بعرش ملكة سبأ في طرفة عين (8)، فإنتاجات الحضارة الجديدة اليوم أثبتت حضورها في الكواكب الأخرى، فضلاً عن الأرض، ولم تقف عند حدود ما، بل وصلت الإنتاجات المثيرة للعجب والشبيهة بالمعجزة إلى بيوت النّاس في العالم، ولذا يُمكن أن تُصبح عادات الناس وثقافتهم مهدَّدة بعد السيطرة تدريجيّاً على حياتهم اليوميّة. طبعاً وجود هكذا هوّة وتفوّق مشهود لا يُنكر، لم يترك مجالاً للتعصّب والنعرة الوطنيّة، كي يأتي أحدهم ويفكّر في أفضليّة حضارته. لن يأتي أحد بعد اليوم ليقارن الحصان والبغل بالطائرة العملاقة، فما بالك بالمنافسة!
وفي الشعر الفارسي قيل: (إذا قلت إنّ الغراب كالباز/ لن يسمعك أحد، فالأعين مفتوحة) (9).
وكلّما قلّ اهتمامنا بميزتي الحضارة الغربية الجديدة هاتين (الطوليّة وامتلاك وسائل الانتقال)، كلَّما خسرنا المزيد في هذه المواجهة.
7 ـ لقد برزت مؤخَّراً مواجهة جديدة بين الشرق والغرب، بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، والهدف الأساس من هذه المقالة هو دراسة هذه المواجهة.
لقد ذكرنا سابقاً أنّ الحضارة الغربيّة الجديدة لا تعتبر نفسها في عرض الحضارات الأخرى بل في طولهـا، وفي طليعتها جميعاً، وهي جادّة في سعيها لنشر دعوتها، وليس لها هدف سوى توحيد الحضارات الأخرى تحت راية حضارته (10). فالحضارة الغربيّة الجديدة تعتبر أنّ التغيير التكاملي هو السبيل الوحيد إلى تحقيق الحضارات الأخرى للهدف السامي وهو مماثلة الحضارة الغربيّة ووحدة التوجّه معها ومواكبتها، كما أنّ طريق نجاحها وازدهارها لا يكون إلا من خلال هذه الحركة والتغيير التكامليّ، وإلا فإنَّها ستتجرّع الهزيمة على يد
سلطة الواقع وحاكميّته (11). ونحن بالفعل نرى بوضوح شواهد على هذه الرؤية في أرجاء المعمورة: تخلّف العالم الثالث، هزيمة الفاشيّة، وأخيراً الانكسار الفاضح لمعسكر الشيوعيّة الصخّاب، الذي كان آخر ضحاياه أوجالان، الذي وقع في حركة رمزيّة أسير مخالب صقر الحضارة الغربيّة (12).
سوف نقوم في هذه المقالة أولاً بتوضيح هذه المواجهة بالقدر المتاح، ومن ثمَّ نبحث إمكانيَّة حصول حوار بين هذين الطرفين.
الأول: المواجهة القائمة بين الحكومة الإسلاميّة والحضارة الغربيّة الجديدة
إنّ شاب التعبئة ذاك، حديث السنّ، حامل السلاح على عاتقه، الواقف في صفِّ إرسال العناصر إلى الجبهة، يصرخ بقبضة مرفوعة من أعماق القلب: لا شرقيّة، لا غربيّة، جمهوريّة إسلاميّة؛ لم يكن يدرك مدى عمق كلماته؛ فقد كان يؤمن بأنّه كان يسعى لأن تكون هذه الحركة، حركة الثورة الإسلاميّة، غير شرقيّة وغير غربيّة؛ وقد كان غافلاً عن أنّه سواء أراد ذلك أم لا، وسواءٌ أعلم أم لم يعلم، فالحكومة الدينيّة هي ظاهرة لا يمكن أن تكون شرقيّة أو غربيّة! لأنّ أسس هذا النوع من الحكم لا تنسجم مع أُسس معسكر الشرق وأصوله، كما أنّها في صراعٍ لا أمل فيه بالصلح مع أُسس ومدّعيات الغرب. لم تعد هناك حاجة اليوم لنُثبت أنّ الحكومة الدينيّة ليست شرقيّة بعد أن تمّ القضاء على المعسكر الشرقيّ في النهاية بسبب خطأ مبانيه، والأكثر من ذلك السلوك الخاطئ لقادته، وأكثر من هذين الاثنين، نتيجة عزم الغرب الجدّي على إنهائه. وسوف نتطرّق للموارد التي يكـمن فيها التقابل والتضادّ بين ظاهرة الحكومة الدينيّة والحضارة الغربيّة الجديدة:
قلنا سابقاً: نحن نشهد اليوم تضادّاً جديداً بين ظاهرة حدثت ببزوغ الثورة الإسلاميّة وبين الحضارة الغربيّة؛ بدلاً من التضادّ القديم بين حضارة اليونان وبربريّة آسيا، وبين إمبراطورية إيران والروم، أو بين الإسلام والمسيحيّة، أو الرأسماليّة والشيوعيّة وبالتالي بين الشرق والغرب بمفهومٍ جديد. ويُعتبر هذا التقابل على مستوى غير عاديّ من الحساسيّة، وموضوعاً جدّياً إلى حدّ يَعصى على عموم النّاس إدراكه، نظراً لعمق تغلغل أبعاده من جهة، ومن جهة أخرى بسبب إمكانات الاتّصالات.
هناك أبعاد مختلفة تبرز في وجه بعضها بعضاً في المواجهة القائمة بين حضارة الغرب والحضارة الإسلاميّة بشكلها الذي ظهر في الثورة الإسلاميّة في إيران، وسنشير إلى بعض هذه الأبعاد:
أ ـ التضادّ في مباني نظريّة المعرفة. في هذا التقابل، تتواجه الطبيعة مع ما بعد الطبيعة، والفيزياء مع الميتافيزيقيا، والدنيا مع الآخرة، والأرض مع السماء، وبعبارةٍ واحدةٍ مؤدّية، تحصل المواجهة بين الإنسان والله في صراع على السلطة.
ب ـ تضادّ القيم. في المواجهة القائمة بين الحكومة الإسلاميّة والحضارة الغربيّة الجديدة، تحتلّ أُسس القِيَم قطبين متخالفين: ركن القِيَم في أحدها هو الدنيا وحياة الإنسان الأرضيّة، وفي الآخر، الآخرة والإرادة الإلهيّة.
ج ـ التضادّ في أسلوب الحكم. إنّ الحاكميّة التي تقبلها الحضارة الغربيّة هي تلك الحاملة للأهداف الدنيويّة والناشئة من إرادة الشعب، والمكلّفة تأمين وسدّ حاجاتهم الدنيويّة؛ في حين أنَّ الحاكميَّة الدينيّة، إضافةً إلى كونها حكومة إلهيّة، فهي نابعة من الإرادة الإلهيّة، وهي تحمل تكليف هداية النّاس إلى السعادة الأخرويّة. المهمّ بالنسبة لحاكميّة الليبراليّة ـ الديموقراطيّة الغربيّة هو حريّة أفراد المجتمع؛ في حين أنّه بالنسبة للحاكميّة الدينيّة الهدف النهائيّ هو تحديد سلوك البشر ضمن إطار الهداية الدينيّة.
د ـ التضاد والمواجهة في ادّعاء قيادة العالم. على غرار ما ذكرناه سابقاً، واجهت أمريكا عمليّاً جميع أنواع المنافسين، من منطلق قيادتها للسلطة السياسيّة والعسكريّة الغربيّة، وكونها الممثّل الأبرز للحضارة الجديدة. وها هي الآن، مع تهاوي النظام السوفياتيّ، تعتبر نفسها الفارس الأوحد في الميدان. واعتماداً على اتِّساع رقعة الاتِّصالات تعطي نفسها حقّ ممارسة السيادة على هذه القرية العالميّة، وتعمل طبعاً على توحيد الثقافة والحضارة في هذه القرية؛ لذلك فهي تحارب بقوّة وستحارب أيَّ فرصةٍ أو إمكان نشوء مركز قوَّةٍ جديدة بأصول وأسس متضادّة معها.
لو أنّ الثورة الإسلاميَّة في إيران تقدّمت بشكل جيّد، وانضمّت دول مثل مصر والعراق والجزائر وتركيا إلى هذه النواة المركزيّة، فمن الواضح أنّه كانت ستتشكّل قوّة منافسة جديدة تقف في وجه سيّد قرية الحضارة الجديدة هذا، تصارعه في كلّ الميادين. طبعاً يتّسم الميدان المعرفيّ في هذا المجال بأهميّة خاصة، لذا فإنّ (الأصوليّة) هي أكثر ما تتحسّس وسائل الإعلام التابعة لأمريكا منه في كلامها حول هذا المنافس الجديد.
الثاني: حوار الحضارات
1 ـ مفهوم الحوار
إنّ لمفردة (الحوار) في هذه المواجهة والتضادّ مفهوم ظاهريّ، بحيث إنّنا إذا افترضنا أنَّ طرفَي الحوار هما الحضارة الإسلاميّة ممثّلةً بإيران، والحضارة الغربيّة الجديدة ممثّلة بأمريكا ودول أوروبا الغربيّة، فلا يمكن في نهاية المطاف لأيٍّ منهما اعتبار الحوار هدفاً أساساً.
المفهوم الظاهريّ لـ (الحوار) هو أن يكون هناك طرفان يرغبان بالعيش المشترك المسالم القائم على التفاهم. عندما تتمّ الموافقة على مشروع حوار الحضارات في الأمم المتحدة، فهذا أوّلاً بسبب أنّ الفهم العام لممثّلي الدول هو هذا المفهوم الظاهريِّ، وثانياً، لأنّ الغرب لا يأخذ أغلب الحضارات ـ ما عدا الحضارة الغربيّة ـ على محمل الجدّ، ولا ممثّلي تلك الحضارات!
أمّا مسألة أنّ أحداً من الطرفين المذكورين لا يَعتبر هذا الفهم العام هدفه الأصليّ فهو بسبب أنّ كلا الطرفين يدّعي حمل رسالة عالميّة. فالحكومة الإسلاميَّة من جهة مكلّفة، على أساس اعتقادها بالرسالة السماويّة، بحفظ وترويج أصول وفروع هداية جميع الناس، ومسؤولة عن توعية وتحرير بني البشر، إذ إنّ بعثة رسول الإسلام(صلى الله عليه و آله) جاءت لهداية جميع شعوب العالم(13). ومن جهةٍ أُخرى، هناك التيّار الفكري الغربيّ الذي أوجد هذه الحضارة الجديدة التي تزعم أنّها مسؤولة عن التصدّي لتخلّف البشر وإيمانهم بالخرافات، وتعتبر أنّ رسالتها الأساس التي لا يُمكن أن يُغفل عنها هي توعية وتربية أذهان البشر وفكرهم، كما أنّها تعتبر الإسلام مظهر كلّ الأشياء التي كانت تحاربها خلال القرون الأخيرة (14).
إذا أخذنا حوار الحضارات بمعناه الظاهريّ هذا، نكون قد غفلنا عن الهندسة الطوليَّة للحضارات، التي لا ينفرد الغرب في اعتبارها أمراً متحقّقاً، بل هي وجهة نظر الدولة الإسلاميّة الإيرانيّة أيضاً؛ ولكن بمعنى أنَّ الغرب إذا اعتبر نفسه في طول الحضارات الأخرى وفي طليعتها من ناحية أُسس نظريَّة المعرفة والعلوم الإنسانيّة والصناعة والتكنولوجيا؛ فالدولة الإسلاميّة أيضاً تعتبر نفسها حاملةً لراية هداية وتحرير البشر من ناحية امتلاك الكتاب السماويّ الأخير، والوحيد الذي لم يُصَبْ بأيِّ نوعٍ من أنواع الضرر أو التحريف، وتؤمن بأنَّه لكي تبلّغ هذه الرسالة عليها أن توظّف جميع الإمكانات، من أجل هداية جميع البشر إلى الطريق الصحيح في العبوديَّة لله، لكي تؤمّن لهم من خلال ذلك أرضيّة السعادة الأبديّة ونجاتهم الواقعيّة، ولذا كانت هاتان الحضارتان في حالة صراعٍ فيما بينهما، وستبقيان كذلك، على غرار تنبّؤ نيكسون أنّ العالم الإسلامي سيكون أحد أهمّ ميـادين استعراض قدرات السياسة الأمريكيّة في القـرن الحادي والعشرين (15).
2 ـ ضرورة الحوار
أوّلاً، بما أنّ كلّ مدرسة تعتبر نفسها محقّة فهي إذن لا تخاف الحوار، وثانياً، بما أنّ كلاًّ من الحضارتين الغربيّة والإسلاميّة تعتبر نفسها محقّة، وتعتبر نفسها ملزمةً بقيادة وإرشاد البشر، وكلتا الحضارتين تعتبر أنّه من غير الأخلاقيّ أن تحرم الآخرين من السعادة والحركة التي تؤمن بها، فسيعتبر الطرفان إذن التواصل والحوار أمراً ضرورياً، وسيرحّبان به (16).
3 ـ إمكانيّة الحوار
نظراً إلى الظروف الحاليّة في العالم، لا مانع من إجراء هذا الحوار؛ ويُمكن لكلا الطرفين أن يُوصِلَ رسالته إلى مسامع الآخر.
4 ـ هدف الحوار، والنتيجة المتوخّاة
لا شكّ أنّ هدف كلِّ طرفٍ كما قلنا هو أن يجذب الطرف الآخر نحو خطّه وأن لا يتسامح بأيِّ شيءٍ قدر المستطاع، حتَّى يتوصّل إلى السيطرة على العالم (17).
يعتبر الغرب أنّ الشرق ـ ومنه الدولة الإسلاميَّة في إيران ـ من الماضي، وأنّ هذا الحوار لا يهدف سوى إلى إرشاده وإلحاقه بركبه، ولا يُمكن أن يقبل الغرب بظروف الشرق. على الرغم من أنّ الغرب يدّعي التسامح والتعدّدية، ولكنّه لا يمكن أن يتسامح أبداً إذا كان الأمر يتعلّق بأُسسٍ تتعارض مع أصوله وأركان حضارته، وهذا ما ظهر منه عمليّاً.
لا يَتحمّل الغرب حضور الأصوليّين إلى الساحة ولو بالأساليب الديموقراطيّة. يشهد على هذا المدّعى، أحداث السنوات الأخيرة في الجزائر وتركيّ (18). على الرغم من أنّ شعار الغرب هو السلام، ولكن عندما تكون المواجهة مع البربريّة فهو يُبقي باروده جافّاً دائماً (19).
وهناك الدولة الإسلاميَّة من جهةٍ أُخرى، التي لا يمكن أن تساوم وتتسامح في أصولها وأُسسها؛ وبناءً عليه، إذا انخرطت في هذا الحوار، فهذا إنَّما من أجل تهيئة الأرضيّة للتعريف بنفسها وتبليغ رسالتها؛ وإلا فهي ترى أنّ الكثير من أسس نظريّة المعرفة والقِيَم ومعرفة الوجود عند الحضارة الغربيّة الجديدة تتناقض مع أُسسها صراحةً، ولذا لن تتماشى معها أبداً. مثلاً، يقول قائد الثورة في وصيّته محذّراً:
«يجب أن نعلم جميعاً أنَّ الحريّة بنمطها الغربيّ ستفسد شبابنا، وأنّها مدانة بحكم الإسلام والعقل»(20). وكذا غيرها من القضايا.
الثالث: ساحة التنافس والاشتباك
ذكرنا سابقاً أنَّ الحضارة الإسلاميّة ممثَّلةً بالجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، والحضارة الغربيَّة الجديدة، كلتاهما تعتبران نفسيهما في طول الحضارات الأخرى نوعاً ما: الإسلام بعقائده وقِيَمه وقضاياه الإنسانيَّة، والغرب بعقائده وقِيَمه وبعلومه والتكنولوجيا خاصّته. وعليه، تخوض هاتان الحضارتان مواجهة ومنافسة في الموضوعات والميادين التالية:
ـ أُسس المعرفة
ـ الرؤية السياسيّة
ـ المسائل الاقتصاديّة
ـ العلم والتكنولوجيا
ـ الأدب والفنّ
وعلى الرغم من الأهميّة التي تتّصف بها كلُّ واحدةٍ من هذه الموضوعات المذكورة، إلا أنَّنا سنبحثها باختصار بما لا يتعدّى الإشارة بحسب ما تسمح به هذه المقالة:
________________________________________
(*) باحث إسلامي متخصص في الفلسفة والعرفان، من إيران، ترجمة الشيخ علي قازان.
(1) ـ هنتينغتون، صاموئيل، صدام الحضارات (الترجمة الفارسية لمجتبى أميري)، النشرية الشهريّة (اطلاعات سياسى ـ المعلومات السياسية)، العدد 69 ـ 70.
(2) ـ ترجمة لمَثل إيراني، يعني أنَّ الوضع السائد كان ذاته في كلِّ مكان (المترجم).
(3) ـ فردوسي، شاهنامه (سير الملوك)، ج 4. رائعة الأدب الفارسي في الأدب الملحمي المنظوم.
(4) ـ شريعتي، علي، حسين وارث آدم.
(5) ـ بروجردي، مهرزاد، روشنفكران ايرانى و غرب (المفكرون الإيرانيّون والغرب)، ترجمة جمشيد شيرازى، نشر فروزان 1377 (1998)، ص 17 ـ 19.
(6) ـ تعبير فارسي على ما يبدو. طبعاً، الشيخ والمريد من مصطلحات الصوفيّة، الشيخ بمعنى الأستاذ والمرشد، والمريد بمعنى التلميذ (المترجم).
(7) ـ في إشارة إلى بيت حافظ: مريد پير مغانم زمن مرنج اى شيخ چرا كه وعده تو كردى و او به جا آورد (أنا مريد كبير الخمارة فلا تحزن يا شيخ، إذ إنّك أنت وعدتني وهو الذي وفى).
(8) ـ طبعاً القرآن يختلف في نقله عن المذكور، فالقرآن يقول إن الجنيّ ادّعى أنه يستطيع الإتيان بالعرش قبل أن يقوم سليمان من مقامه، وقال الذي عنده علم من الكتاب، أنا آتيك به قبل أن يرتدّ طرفك، إلا أن نقول إن طرفة العين تساوي ما قبل القيام من المقام…وهو بعيد (المترجم).
(9) ـ البيت بالفارسية: «گر بگوئى كه زاغ چون باز است نشنوندت كه ديدهها باز است».
(10) ـ شريعتي، علي، بازشناسى هويت ايرانى ـ اسلامى (التعرّف إلى الهوية الإيرانيّة ـ الإسلاميّة)، نشر قلم؛ و: نيكسون، الانتصار دون حرب، ص 55.
(11) ـ دان كوپيت، درياى ايمان (بحر الإيمان)، ترجمه حسن كامشاد، پيشگفتار مؤلف. Cuppit, Dan: The Sea of Faith, BBC Books, 1984, Cambridge University Press 1988 edition: ISBN 521-34420-4
(12) ـ عبد الله أوجالان، قائد أكراد تركيا الذي قبض عناصر الأمن التركي عليه أخيراً وحاكموه وحكموه بالإعدام. وقد طلب من السجن من مؤيّديه أن يكفّوا عن المواجهة المسلحة وأن يسلكوا سبل النضال السياسي والديموقراطي.
(13) ـ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً سورة سبأ، الآية 28.
(14) ـ بروجردي، مهرزاد، روشنفكران ايرانى و غرب (المفكرون الإيرانيّون والغرب)، المصدر الأسبق.
(15) ـ نيكسون، فرصت را دريابيم (فلنغتنم الفرصة)، ص256.
(16) ـ توفلر، الفين و هايدي، بسوى تمدن جديد “نحو حضارة جديدة”، ترجمه من الإنكليزية إلى الفارسية محمد رضا جعفري، نشر سيمرغ، ص 11. والكتاب بالإنكليزية هو: Creating a new civilization, Alvin & Heidi Toffler.
(17) ـ المصدر السابق.
(18) ـ وكذلك فوز حركة حماس في فلسطين (المترجم).
(19) ـ تعبير عن الجهوزيّة لاستخدام القوّة (المترجم).
(20) ـ صحيفه نور، ج 21، ص 111.