عقوبة الإساءة إلى المقدسات دراسة مقارنة بين القانون الإسلامي والنظام الانجلوسكسوني

909

عقوبة الإساءة إلى المقدسات دراسة مقارنة بين القانون الإسلامي والنظام الانجلوسكسوني

السيد حسين الهاشمي (*)

تمهيد

تُشرّع بعض الدول ومنها (إيران) ـ المبنيُّ قانونها على الشريعة الإسلاميَّة ـ و(بريطانيا) ـ التَّابعة للنظام (الانجلوسكسونيّ) ـ قوانين تحمي حدود المقدَّسات الدينيَّة، بينما هناك من الدول من يرى أنَّ عدّ إهانة المقدَّسات من الجرائم هو أمر منافٍ لحريَّة التعبير وحقوق الإنسان.

لقد حظيت المقدَّسات في الإسلام بحصانة قانونيَّة، ولذا يُعدّ المساس بحرمتها جريمةً يُحاسب عليها القانون. يُضاف إلى ذلك أنَّ العديد من الفقهاء ـ شيعة وسنَّة ـ يعدّون التعرّض لسائر الأنبياء (عليهم ‏السلام) جريمةً أيضاً، في حين يقتصر النظام الموحَّد (الانجلوسكسونيّ) على حماية مقدَّسات المسيحيَّة وحدها، فلم تحظَ الدِّيانات الأخرى بحماية القانون. من هنا لم يخضع (سلمان رشدي) لملاحقةٍ قانونيّةٍ حين اعتدى على قداسة الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في بريطانيا، وهي محل وقوع الجريمة، حيث قضت المحاكم فيها بأنَّ هذا الفعل لا يَستوجب الملاحقة القانونيَّة؛ الأمر الذي لم يُثر حفيظة المسلمين وحسب، بل لم يَسكت على هذا التمييز والاستثناء غير المنطقيِّ والجائر حتَّى أرباب القانون بأوروبا.

________________________________________

(*) باحث حقوقي، من إيران. ترجمة محمد عبد الرزاق.

محاور البحث

يتكوَّن البحث الحاليّ من ثلاثة محاور، الأوَّل (مدَيَات مفهوم الإساءة إلى المقدَّسات)؛ ونتناول فيه موقف الإسلام القانونيّ من التعرّض لبعض المقدَّسات كالرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) والأئمَّة المعصومين(عليهم ‏السلام)، وإدانته لهذه الجريمة الكبرى. يُضاف إلى ذلك أنَّ موقف الكثير من فقهاء الشيعة والسنة يُدين أيضاً الإساءة إلى سائر الأنبياء(عليهم ‏السلام) ولا يفرِّق بين هذه الجريمة وتلك.

أمَّا بالنسبة لنظام القانون (الانجلوسكسونيّ) فإنَّ أحكامه الحازمة في ذلك تقف عند حدِّ مقدَّسات الدِّين المسيحيِّ فقط دون توفير أيِّ حصانةٍ قانونيّةٍ للأديان الأخرى.

ويحمل المحور الثاني عنوان (عقوبة الإساءة للمقدَّسات)، وسنتطرَّق من خلاله إلى مسألة هامّةٍ وهي أنَّ هذه العقوبة في القانون الإسلاميّ جديرةٌ بالاهتمام من ناحية حقوق الإنسان؛ إذ إنَّها تُراعي في ذلك حال غير المسلم ـ الكافر الذميّ ـ فيخفَّف الحكم في حقِّه، وهذا على العكس تماماً من موقف القانون (الانجلوسكسونيّ) وأحكامه الانتقائيَّة، فالإسلام لم ينحزْ لجانب المسلمين، وإنَّما التفت في ذلك إلى تخفيف العقوبة عن غير المسلم.

أمَّا المحور الثالث فيتناول (فلسفة إدانة المسيء) والتركيز على مسألةٍ هامّةٍ أيضاً وهي أنَّ الحكمة في العقاب على الإساءة للمقدَّسات ضمن القانون الإسلاميّ تنشأ من أساس (الانضباط والأخلاق العامّة) (1)؛ وذلك لأنَّ المجتمع الدينيّ ـ لا سيما في الحكومة الدينيَّة ـ ونظراً لارتباط أفراده روحاً وقالباً بالمقدَّسات والرموز الدينيَّة التي تتمتَّع ـ علاوة على الميزة الحقوقيَّة ـ بميزةِ الشخصيَّة الحقيقيَّة أيضاً، كيف سيسمح بالإساءة للمقدَّسات وتجاوز المسيئين؟! والحال أنه حتَّى الأنظمة الديمقراطيّة لا تُجيز الإساءة إلى أُسس المجتمع الديمقراطيّة التي تمسّ بأمن وانضباط الأخلاق العامّة، أو إنَّها في أقلِّ التقادير لن تسمح بها من الناحية العمليَّة.

________________________________________

(1) مصطلح (الأخلاق العامّة) من مرادفات مفهوم (الأخلاق الحسنة). أنظر: الدكتور محمد جعفر جعفري لنـگرودي، ترمينولوجى حقوق، گنج دانش، طهران، الطبعة الثامنة، 1376، ص 20 – 21.

وأحسب أنَّ هذه الدِّراسة المقارنة بين القانون الإسلاميّ والقانون الأنجلوسكسونيّ ستكون ردَّاً وافياً على موقف بعض الناس ممّن رفض أن تكون عقوبة سبّ الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) والأئمّة(عليهم ‏السلام) هي القتل وذهب إلى ضرورة التحمّل مستشهداً بالنصوص القرآنية (2).

المحور الأوَّل: مَديَات مفهوم الإساءة للمقدَّسات

هنا سنبحث مَدَيَات وحدود صدق مفهوم الإساءة إلى المقدَّسات وأنَّه إلى أيِّ حدٍ يُمكن أن يمتدَّ ذلك؟ بعبارةٍ أُخرى هل إنَّ جريمة الإساءة في القانون الإسلاميّ والنِّظام (الانجلوسكسونيّ) تنطبق على مقدَّسات ذلك الدِّين فقط، أم أنَّ حكمها يمتدُّ إلى سائر المقدَّسات في الأديان الأُخرى؟

أ – مَدَيَات مفهوم الإساءة في القانون الإسلاميّ

1 – مَدَيات المفهوم عند الشيعة الإماميّة

من وجهة نظر فقهاء الشيعة فإنَّ جريمة الإساءة للمقدَّسات تقع إذا تعرَّض الرسول الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) أو الأئمة(عليهم ‏السلام) للإساءة أو الاستهزاء (3).

ويذهب معظم الفقهاء إلى إلحاق السيدة الزهراء(عليهما السلام) بسائر المعصومين(عليهم ‏السلام) أيضاً (4).

وكقاعدةٍ كليَّةٍ يُمكن القول بأنَّ كلَّ ما هو ضروريّ ومن الثوابت في الإسلام فإنَّ الإساءة إليه تُعدّ جريمة؛ كالإساءة للقرآن الكريم، والمسجد الحرام، والكعبة المشرفة وجميع الشعائر الإلهيَّة والمقدَّسات الثابتة في الإسلام، وإن ثمَّةَ تفاوتاً بين هذه المصاديق من حيث (حجم العقوبة) (5)المستحقَّة (6).

ووفقاً لقاعدة حرمة الإساءة للمقدَّسات فإنَّ الإساءة لمطلق المقدَّسات الدينيَّة حرام أيضاً (7). إلا أنَّ مسألة صدق الجريمة على تلك المقدَّسات التي لا تندرج ضمن الثوابت والضروريَّات تبقى بحاجة إلى دليل آخر.

انطلاقاً من هذه القاعدة أيضاً تمتدُّ مَدَيَات عقوبة الإساءة إلى جميع مقدَّسات

________________________________________

(2) فرهاد بهبهاني، أسبوعية آبان، 10 مهر 1378، العدد 95، ص 6.

(3) السيد مرتضى علم الهدى علي بن الحسين الموسوي البغدادي، الانتصار، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1415هـ، ص 480؛ زين الدين فاضل آبي، كشف الرموز في شرح المختصر النافع، ج2، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط3، 1417هـ، ص 567.

(4) الملا أحمد المقدس الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، ج13، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط1، 1416هـ، ص 174.

(5) يستحق المجرم في بعض الأحيان عقوبة التعزير وفي أحيان أخرى – كسبّ النبي – عقوبة الإعدام في حال تحقق الشروط كما سيمر بنا.

(6) المصدر السابق، ص 170، السيد حسن الموسوي البجنوردي، القواعد الفقهية، ج5، منشورات إسماعيليان، قم/ ط2، 1410هـ، ص 255.

(7) المصدر السابق، ص 249، 257.

سائر الدِّيانات ممَّن يدخل ضمن إطار المقدَّسات وثوابت الإسلام أيضاً؛ من قبيل ضرورة احترام الرسل(عليهم ‏السلام) أو التوراة والإنجيل غير المحرَّفين.

بل هناك من أعلام الشيعة من لا يفرِّق بين عقوبة التعرُّض إلى الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) أو التعرّض إلى سائر الأنبياء والرسل الآخرين. فالشهيد الثاني كان واحداً من أولئك الفقهاء الذين ذهبوا إلى أنَّ الإساءة إلى سائر الأنبياء هي كالإساءة للرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وتستحقّ العقوبة ذاته (8). وكان الشهيد الثاني قد علَّل حرمة التعرّض إلى سائر الرسل بكون احترامهم هو من ضروريَّات الإسلام وثوابته؛ وعليه فإنّ سبّهم ارتداد بعينه (9).

يتّضح من هذا التعليل المنطقيّ أنّ الإساءة لسائر مقدَّسات الأديان التي هي من مقدَّسات الإسلام أيضاً مرفوضة بالجملة، فعلى سبيل المثال يدلُّ صريح القرآن على طهارة وعفَّة السيدة مريم(عليهما السلام) وتفضيلها على نساء عصرها. ونظراً لتوجيه بعض التّهم الباطلة له (10) جاء القرآن ليؤكِّد للناس قداسته (11) حتّى اتَّخذت منها بعض الآيات مضرب مثل للمرأة المؤمنة (12)، فإذا جاء أحدهم واتّهم هذه المرأة العظيمة بما ينافي ذلك سيكون قد أساء إلى مقدَّسات الإسلام، وهو مستحقٌّ للعقوبة كما لو كان قد أساء إلى أمِّ الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) أو ابنته؛ وإن كانت الإساءة هي بمثابة إساءة إلى شخص الأنبياء أيضاً، أو من قبيل الإساءة إلى الإنجيل والتوراة الحقيقيين اللذين وصفهما القرآن بالنور والهداية ـ قبل التحريف ـ ولهما ما للقرآن من قدسيَّة (13).

أيضاً ذهب الشيخ أبو الصلاح الحلبيّ ـ وهو من كبار فقهاء الشيعة ـ إلى أنَّ التعرُّض لسائر الأنبياء كالتعرُّض للرسول الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) تماماً ويستحقّ المتعرّض العقوبة أيضاً(14).

تأسيساً عليه لا مانع في القواعد الفقهيَّة عند الشيعة من تعميم عقوبة الإساءة للمقدَّسات وشمولها للإساءة إلى سائر الأنبياء أيضاً. وإذا كان التصريح بذلك مقتصراً على بعض الفقهاء فإنَّ سائر الفقهاء لم يُعارضوا ذلك أبداً؛ الأمر الذي قد يسمح لنا بنسبة هذا الرأي إلى جميعهم، ولعلَّ هذا هو السبب في ادعاء (ابن زهرة) الإجماع في المسألة (15).

________________________________________

(8) زين الدين الجبعي العاملي المعروف بالشهيد الثاني، مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام، ج1، منشورات بصيرتي، قم، ص 158: «لو سبّ النبي قتل الساب وكذا القول في سبّ باقي الأنبياء…».

(9) الشهيد الثاني، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، ج9، دار الهادي للمطبوعات، قم 1403هـ، ص 194: «وفي إلحاق الأنبياء بذلك وجه قوي؛ لأن تعظيمهم وكمالهم قد علم من دين الإسلام ضرورة فسبّهم ارتداد».

(10) سورة مريم، الآية 27.

(11) وجعلنا ابن مريم وأمه آية (المؤمنون/ 50).

(12) ضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون… ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها…(التحريم/11و12).

(13) … وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور (المائدة/ 46)؛ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور (المائدة/ 44).

(14) أبو الصلاح الحلبي، تقي الدين، الكافي في الفقه (تحقيق رضا أستادي)، ص 416.

(15) أبو المكارم ابن زهرة، غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع، مؤسسة الإمام الصادق(عليه ‏السلام)، قم، ط1، 1417هـ، ص 623: «ويقتل من سب النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ) وغيره من الأنبياء أو أحد الأئمة(عليهم ‏السلام). وليس على من سمعه فسبق إلى قتله من غير استئذان صاحب الأمر سبيل، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة».

 

وقد أبدى صاحب الجواهر تأييده الفكرة عقب ذكر رأي الشهيد الثاني وادّعاء الإجماع من قبل ابن زهرة ورأى أنَّ ما روي عن الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بهذا الصدد صريح الدلالة على أنّ القتل هو عقوبة كلِّ من يسبّ نبياً (16).

على الرغم من وجود هذا الحديث في جملةٍ من كتب الحديث المعتبرة (17) إلا أنَّ أولئك الفقهاء الذين عمّموا حرمة مقدَّسات الإسلام إلى سائر الأنبياء لم يستندوا إلى هذا الحديث بالذَّات ولم يذكروه إطلاقاً.

وقد ورد في قانون العقوبات الإسلاميِّ بإيران ـ المادَّة 513 لتشريعات عام 1006 واستناداً إلى قوانين الإسلام ـ منع الإساءة إلى أيِّ نبي وعدّ ذلك جرماً (18).

2 ـ مديات المفهوم عند باقي المذاهب الإسلاميّة

ليس الفرق كبيراً بين رأي الشيعة ورأي المذاهب الأخرى في شموليَّة مفهوم الإساءة للمقدَّسات وكلِّ ما يتعلَّق بتفاصيلها. حيث يذهب المالكيّ إلى الحكم بالقتل على كلِّ من يسبُّ الله أو النبيّ أو سائر الأنبياء (19). وعليه فإنَّ رأي فقهاء المذهب المالكيّ هو أنَّ حكم الإساءة إلى الأنبياء داخل ضمن مفهوم الإساءة إلى مقدَّسات الإسلام أيضاً (20).

كما يَذهب فقهاء الحنابلة إلى أنَّ سبَّ الله تبارك وتعالى أو النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) أو غيره من الأنبياء(عليهم ‏السلام) أو الإساءة إلى الكتب السماويّة كفر (21).

وهناك قسمٌ من فقهاء الشافعيَّة يرى أنَّ صدور الإساءة من الذميّ تجاه القرآن أو الله أو الرسول أو سائر الأنبياء موجب لنقض الذمَّة معه، طبعاً هذا إذا كان شرطاً في عقد الذمّة (22).

أمَّا المذهب الحنفيِّ فيرى علماؤه أنَّ إساءة الذميِّ للرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) لا توجب العقوبة وإنَّما يُنهى عن فعلته وحسب؛ لإنَّ إساءته للرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) ليست إلا زيادةً في الكفر وعليه لا عقوبة في ذلك (23).

________________________________________

(16) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ج1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط7، 1981م، ص 436 – 437.

(17) أنظر: الشيخ الحر العاملي، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ج18 (20 مجلداً)، ص 460؛ المحقق الميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج18، مؤسسة آل البيت(عليهم ‏السلام) إحياء التراث، ط1، قم، ص 172: «صحيفة الرضا بإسناده عن آبائه(عليهم ‏السلام) – قال: قال رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ): من سبّ نبياً قتل…».

(18) المادة 513. م.أ.: «يعدم كل من يسيء لمقدسات الإسلام أو أي نبي من الأنبياء أو الأئمة الأطهار أو السيدة الصدّيقة الطاهرة إذا صدق عليه وشمله حكم الساب للنبي، وإلا سُجن من سنة إلى خمس».

(19) أبو عمر يوسف بن عبد الله القرطبي، الكافي، ج1، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1407هـ، ص 585: «من شتم الله تبارك وتعالى أو شتم رسوله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ) أو شتم نبياً من أنبياء الله صلوات الله عليهم قتل…».

(20) علي الصعيدي العدوي المالكي، حاشية العدوي، ج2، دار الفكر، بيروت 1412هـ، ص 413.

(21) عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، الشرح الكبير، ج1، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 75؛ المغني، ج9، دار الفكر، بيروت، ط1، 1405هـ، ص 33: «من سبّ الله تعالى كفر سواء كان مازحاً أو جاداً وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه. قال تعالى: ولئن سألتهم ليقولون إنما كنا نخوض ونلعب. قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم.

(22) محمد الخطيب الشربيني، مغني المحتاج، ج4، دار الفكر، بيروت، ص 258.

(23) علاء الدين الكاشاني، بدائع الصنائع، ج7، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1982م، ص 113؛ ابن حزم الأندلسي، المحلّى، ج11، دار الفكر، بيروت، ص 115 و415.

 

أمَّا المذهب الزيديِّ فيرى أنَّ عقاب الإساءة للرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) هو القتل أيضاً(24).

تأسيساً على ما مضى فإنَّ رأي معظم فقهاء المسلمين هو امتداد مساحة مفهوم الإساءة للمقدَّسات إلى مصداق الإساءة لسائر الأنبياء(عليهم ‏السلام) أيضاً. وقد نقلت كتبهم الروائيَّة نصوصاً كثيرة يُفيد مضمونها بأنَّه يُقتل كلُّ من شتم الأنبياء (25).

هنا قد يُشكَل علينا بأنَّ دفاع الإسلام عن بعض مقدَّسات الأديان الأخرى ـ كالأنبياء ـ إنَّما جاء بدافعٍ من داخل الدِّين نفسه وأنَّ مصدره هو نصٌّ دينيّ أيضاً. ونقول في الردّ:

أولاً: إنَّ مسألة خضوع الدِّفاع عن حقوق الدِّيانات الأخرى في الإسلام لعامل دينيّ أو غير دينيّ لن تغيِّر شيئاً في نتيجة هذا الدِّفاع ومعطيَاته في تقديس واحترام جميع الأديان الإلهيَّة، فمن وجهة نظر حقوق الإنسان يكفي في الأمر أن يكون قانون ما منطقياً ومتلائماً مع حقوق الإنسان في تعامله مع القانون الآخر، وليس يهمُّ كثيراً منشأ الوضع في القانون.

ثانياً: لقد دافع الكتاب المقدَّس أيضاً عن قداسة النبيِّ موسى(عليه ‏السلام) وكذلك سائر الأنبياء(عليهم ‏السلام) من قبله، كما أنَّه بشّر بمجيء الرسول الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)؛ في حين لا تلتزم المسيحيَّة وقوانين بريطانيا بهذا النوع من الدِّفاع عمَّا هو صادر عن صميم تعاليم دينهم.

ب ـ مديات مفهوم الإساءة للمقدَّسات في النظام (الانجلوسكسونيّ)

منذ البداية والقانون (الأنجلوسكسوني) (26) يعدّ الإساءة للمقدَّسات جرماً ومخالفة قانونية اصطلح عليها بـ (Blasphemy).

ووفقاً لتعريف الحقوقيّين الغربيين لهذا المصطلح فإنَّ هذه القاعدة القانونية لا تقتصر على موضوع التعرُّض للمقدَّسات أو إنكار وجود الله (27).

لقد أثارت قضيَّة حصر القانون بدائرة الدِّين المسيحي أو المساس بقداسة الكتب الدينيّة بواسطة الكتابة والطباعة أو التعليم دهشة الكثيرين (28).

________________________________________

(24) يحيى بن الحسين الهادي، الأحكام في الحلال والحرام، ج2 ص 282.

(25) علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج6، دار الكتب العلمية، بيروت 1408هـ، ص 260: «عن علي يعني ابن أبي طالب قال قال رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ): من سبّ الأنبياء قتل، ومن سبّ أصحابي جلد». وقد وردت الرواية – على اختلاف بسيط – في مسند زيد بن علي، دار مكتبة الحياة، بيروت، ص 468 و495.

(26) Common Law

(27) John Smith and Brian Hogan “Criminal law” Butter worths, 8th p. 732: “Matter is blasphemous if it denies the, 1996, ed., London religion or of the Bible or the book of truth of the Christian. “God common prayer or the existence of

(28) A.V. Dicey, “Law of the constitution” Macmillan, 9th ed., p. 245: “Most persons, again, are astonished to find, London, 1950 truth of Christianity or of the authority of the that the denial of the printing, teaching, or advised speaking… in, Scriptures, by writing offence entailing very severe England, is by statute a criminal penalties”.

 

لكن عقب توسّع مفهوم (Blasphemy) في السنوات الأخيرة داخل القانون البريطانيّ أصبحت الانتقادات الموجَّهة للمسيحيّة تُدان فقط في حالة اشتمالها على الإساءة وتجاوز المألوف (29).

تدفعنا مطالعة مَديَـات مفهـوم (Blasphemy) ضمن النـظام الأنجلوسكسونيّ السائد حالياً في بريطانيا إلى تساؤل أهمّ من أيِّ شيءٍ آخر، وهو: ما الملاك والمنطق في بريطانيا الذي دعاها إلى تأسيس هذا القانون واختزاله على مقدَّسات الدِّين المسيحيّ دون غيره من الدّيانات الأخرى؟! ألا يُعارض هذا القانون مبدأ إلغاء التمييز بين الأديان ممَّا ورد في العديد من المواثيق الدوليَّة وحقوق الإنسان؟

أمَّا بالنسبة لقضيَّة (سلمان رشدي) وإساءاته للرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في كتاب (الآيات الشيطانيَّة) التي أطلقها من داخل الأراضي البريطانيّة فقد قالت المحكمة هناك إنّ قانون (Blasphemy) مقتصر فقط على المقدَّسات المسيحيّة، ويعد الإساءة لها جرماً ومخالفة ولا يشمل أبداً الأديان الأخرى (30).

وقد أنصف بعض الحقوقيّين الغربيين اعتراضات المسلمين تجاه هذا القانون وعدّوا هذه الانتقائيّة شكلاً من أشكال التمييز الدينيّ، ورأوا أنّ القانون يُخالف المادتين 9 و14 من المعاهدة الأوروبيّة لحقوق الإنسان التي منعت جميع أشكال التمييز على أساس الدّين (31).

في المقابل اقترح قسمٌ آخر من الحقوقيّين الغربيين حلاً للمشكلة بأنْ يشمل قانون منع الإساءة للمقدَّسات في بريطانيا جميع الأديان أيضاً (32).

نستنتج من ذلك أنَّ قوانين الإسلام في حماية المقدَّسات هي الأقرب لحقوق الإنسان مقارنةً بالنِّظام الموجود في انجلترا (الانجلوسكسونيّ).

المحور الثاني: عقوبة الإساءة إلى المقدَّسات

من المباحث المطروحة أيضاً على طاولة الإساءة للمقدَّسات في قانون حقوق

________________________________________

(29) Smith and Hogan: op. cit., pp. 732 – 733: “Yet, While the law in these broad terms, there is no recorded instance of a was stated plasphemy where an element of contumely and conviction for ribaldry was ansent”.

(30) Ibid, pp. 733 – 734

(31) Ronald, Dworkin, “Freedoms law (the moral reading of the constitution)”, Oxford, 1996, p. 364: “In my view American rejected the suggestion the Calthoug british courts have taken together blasphemy law also violates Article 9 and 14 which in prohibit religious discrimination because that law discriminates favor of Christianity. Some Moslims said it was unjust that Salman book, the Satanic verses, could Rushdie(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله)s” not be prosecuted as blasphemous of their religion

(32) Peter Carey, “Media law”, sweet and Maxwell, London, 1996, p. 79: “commentators have suggested that the law should be other religions, and not just the Anglican faith extended to ocver all”

 

الإنسان مناقشة (نوع العقوبة) بما يُناسب الجريمة ومرتكبها. وهنا سنحاول التفصيل في الموضوع من خلال نافذتين:

1 ـ نوع العقوبة

ينضوي حكم الإساءة للمقدَّسات في القانون الأنجلوسكسونيّ تحت نوع العقوبة من درجة (الجِنحة)(33) سواء كانت الإساءة لفظاً أو كتابة؛ ولهذا تُنزل أشدُّ عقوبات الدول الغربيَّة في حقِّ المُدان وهي (السجن) (34). وهنا لا فرق بين نوع مذهب ودين مرتكب الجريمة.

بينما وضع قانون العقوبات الإسلاميِّ فوارق منطقيَّة ملاكها دين المسيء وعقيدته، فإذا كان مسلماً استحقّ ـ حسب الغالبيَّة من مذاهب المسلمين ـ أشدَّ العقوبات المقرَّرة في الإسلام وهي (القتل)(35). أمَّا إذا كان المجرم غير مسلمٍ (كافراً ذميّاً) فإنَّ رأي الأغلبيَّة من فقهاء المسلمين نفي حكم الإعدام عنه. نعم هناك من الفقهاء من يُعامله معاملة المسلم في استحقاق عقوبة الإعدام لكن في حالة عدم إسلامه، أمَّا إذا أسلم فيرفع عنه حكم القتل. ومن العلماء أيضاً من قال بالتفصيل.

وتذهب طائفة من فقهاء الإماميَّة إلى عدم التفريق في العقوبة بين الكافر الذميّ والمسلم وكلاهما يستحقّ القتل، مع وجود فارق هو في حالة إسلام الكافر فإنَّ حكم الإعدام سيسقط عنه، كونه سيُدرج تحت قاعدة (الجبّ) (36).

وهكذا رأي المذهب المالكيّ الذي يعتبر أنَّ من سبَّ الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) أو الله قُتِلَ إذا كان فعله بغير ما كفر إلا أنْ يُسلم (37). نعم نقل عن مالك رأي آخر مفاده أنَّ عقوبة الذميّ كعقوبة المسلم حتَّى إذا أسلم (38).

أمَّا عند الحنفية فليست عقوبة الذميّ قتله، بل يُكتفى بنهيه عن ذلك ومنهم أيضاً من يقول بلزوم تعزيره (39).

ورأي الشافعيَّة أنّه يُقتل الذمي المسيء للرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وتنقض الذمَّة معه أيضاً (40). ونُسب إليهم قولٌ آخر يَنقض الذمَّة في حال كان قد اشتُرط في بنودها عدم الإساءة

________________________________________

(33) Smith and Hogan: op. cit., p. 732: “It is a common law publish blasphemous matter whether orally or in misdeminour to writing”

(34) Peter Carey, op. cit., p. 78

(35) أنظر: الشيخ المفيد، المقدمة، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط4، 1417هـ، ص 743؛ ابن قدامة، الشرح الكبير، مصدر سابق، ج10، ص 635؛ علي بن سليمان المرداوي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، ج4، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص 257.

(36) الشيخ محمد حسن الجواهري، مصدر سابق، ج41، ص 439: «لا فرق في السب بين المسلم والكافر لعموم النص… نعم قد يتوقف في قتل الكافر الساب إذا أسلم، لأن الإسلام يجبّ ما قبله».

(37) أحمد الدردير أبو البركات، الشرح الكبير، ج4، دار الفكر، بيروت، ص 312؛ عبد الله بن أبي زيد القيرواني، رسالة القيرواني، ج1، دار الفكر، بيروت، ص 127: «مَنْ سب رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله )، قتل ولا تقبل توبته، ومن سبّه من أهل الذمة بغير ما كفر، أو سب الله بغير ما به كفر قتل إلا أن يسلم».

(38) أبو عمر يوسف بن عبد الله القرطبي، الكافي، ج1، مصدر سابق، ص 585: «قيل كل من سبّ النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ) قتل مسلماً كان أو ذمياً على كل حال وكلا القولين عن مالك».

(39) ابن حزم الأندلسي، المحلّى، ج11، مصدر سابق، ص 415.

(40) محيي الدين بن شرف النووي، المجموع في شرح المهذب، ج19، دار الفكر، بيروت، ص 428: «قال الشافعي: يقتل الذمي إذا سبّ النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ) وتبرأ منه الذمة واحتج في ذلك بخبر ابن الأشرف».

 

للمقدَّسات، فإذا لم تشتمل معاهدة الذميّ على مثل ذلك بالتنصيص لم تنقض ذمّته (41).

ويَذهب بعض فقهاء الإماميّة إلى القول بقتل الذميّ إذا سبّ الله تعالى أو نبيّه ونقض عهد الذمّة معه، أمَّا إذا كانت أقواله المسيئة ليست سبَّاً اكتُفيَ بتعزيره ويُنقض عهده إذا كان ذلك شرطاً فيه سلفاً (42).

ولا ترى الحنفيَّة في سبِّ النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) نقضاً لعهد الذمي، إلا إذا لجأ إلى (دار الحرب) أو خرج على الدولة الإسلاميَّة (43).

نستنتج من الأمثلة والأقوال الواردة في هذا المحور أنَّ قوانين الإسلام ومقارنةً بالقانون الأنجلوسكسونيّ لم تجعل تمييزاً في أحكام الإساءة للمقدَّسات، بل كانت قد أخذت بعين الاعتبار تخفيف العقوبات على غير المسلم، وهي مسألة جديـرة بالاهتمام على صعيد معـايير حقوق الإنسان.

2 ـ إنزال العقوبة وآليّاته

تطبق العقوبات في القانون الإسلاميِّ عبر آليَّات ومراحل خاصة. وهذا التطبيق يقع على عاتق الدولة الإسلاميَّة وتشريعاتها القضائيَّة. وفي حالة تعلَّقَ الحكم بالحقِّ الإلهيّ فإنَّ مسار تلك القوانين القضائيَّة سيصبّ تماماً في صالح المتَّهم لا سيما على صعيد أدلَّة إثبات الجريمة. ومع هذا كلِّه يبقى الموضوع مختلفاً بشأن مسألة سبِّ النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) والأئمّة الأطهار(عليهم ‏السلام)، فالمشهور بين الفقهاء الإماميَّة أنَّه يحقُّ للسامع إنزال العقوبة بنفسه بحقِّ السابّ دون إذن الحاكم (44).

وهناك من أعلام الإماميّة من يُخالف هذه الفكرة تماماً وعلى رأسهم الشيخ المفيد والعلامة الحليّ. يقول الشيخ المفيد في هذا الصدد:

(من سبّ رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) أو أحداً من الأئمة(عليهم ‏السلام) فهو مرتدٌّ عن الإسلام ودمه هدر، يتولّى ذلك منه إمام المسلمين) (45).

واستدلَّ العلامة الحلّي ـ عقب تأييده نظريَّة المفيد ـ على أنَّ هذا الحكم من

________________________________________

(41) محمد الخطيب الشربيني، مصدر سابق، ج4، ص 258؛ السيد المرتضى، مصدر سابق، ص 235.

(42) السيد روح الله الخميني (الإمام)، تحرير الوسيلة، ج2، منشورات اعتماد، ط2، 1403هـ، ص 452، المسألة 4؛ الشيخ أبو جعفر الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية، ج2، المكتبة المرتضوية 1351هـ، ص 44: «إذا ذكر الله تعالى أو نبيه بالسبّ فإنه يجب قتله ويكون ناقضاً للعهد، وإن ذكرهما بما دون السب وذكر دينه وكتابه بما لا ينبغي فإن كان شُرط عليهم الكف عن ذلك، كان نقضاً للعهد. وإن لم يكن )قد( شرط عليهم لم يكن نقضاً للعهد وعزروا عليه».

(43) علي بن أبي بكر المرغيناني، بداية المبتدي، ج1، مطبعة محمد علي صبيح، القاهرة، ط1، 1355هـ، ص 121؛ الهداية في شرح البداية، ج2، المكتبة الإسلامية، بيروت، ص 163؛ علاء الدين الكاشاني، مصدر سابق، ج7، ص 113.

(44) الشيخ محمد حسن النجفي، مصدر سابق، ج41، ص 438.

(45) الشيخ محمد المفيد، مصدر سابق، ص 743.

الحدود وهي من واجبات الحاكم الإسلاميّ (46). واستشهد على ذلك برواية للإمام الصادق(عليه ‏السلام) (47).

يبدو أنَّ هذا الرأي ـ علاوة على دليله الروائيّ ـ هو الأقرب للأصول والقواعد الفقهيَّة في المنهج الإماميّ؛ لأنَّ السماح بتطبيق العقوبات لغير الحاكم بشكلٍ مطلق ـ لا سيما في عصر الحكومة الإسلاميَّة ـ سيتسبَّب في اندلاع فوضى عارمة في المجتمع الإسلاميّ، خصوصاً وأنَّ عمليَّة البتّ في تحقّق الشروط وتعلّق الحكم ليست من شأن عامَّة الناس؛ فعلى سبيل المثال يَذهب العديد من فقهاء الإماميَّة إلى عدم إدانة المسيء للمقدَّسات في حالات الانفعال والغضب وفقدان السيطرة(48).

ثمَّ إنَّ إقامة الحدود ـ كما يقول الحلّي ـ هي من صلاحيَّات الحاكم وفقاً لثوابت الإماميّة وما ورد في النصوص الروائيّة العديدة التي نصَّت على اختصاص ذلك بمن له الحكم وليس عامّة الناس (49). أمَّا الروايات المخالفة فلا تصمد بوجه هذه القاعدة الثابتة.

علماً أنَّ هذه النظريَّة لا تتعارض مع مبدأ الأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر وتطبيقه من قِبَل العامّة؛ لأنّ رأي معظم الفقهاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا استلزم (الجرح) أو (القتل) هو اشتراط إذن المجتهد الجامع للشرائط (50). ثمَّ إنَّه في حالة أدَّى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى القتل سينتفي بذلك موضوعه أيضاً؛ لأنَّ (الهدف) من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو اجتناب الفعل المنهيِّ عنه، كما أنَّ من شروطه هو (احتمال التأثير) في المخاطب، وهنا يَنتفي الهدف وشرط التأثير معاً (51).

حكم التنفيذ في قضيّة (سلمان رشدي)

بُعيد تعرُّض سلمان رشدي لشخص الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) والإساءة إليه أصدر الإمام الخميني(قده) فتواه بهدر دمِه وإحالة إنزال القصاص بحقِّه على عامَّة الناس. وقد جاء ذلك نظراً لمكانة الإمام كمجتهدٍ وحاكمٍ إسلاميّ ونتيجة لدراسة مستفيضة لتفاصيل

________________________________________

(46) العلامة حسن بن يوسف بن المطهر الحلّي، مختلف الشيعة، ج9، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط1، 1419هـ، ص 451: «الوجه ما قاله المفيد؛ لأنه حدّ والمستوفي للحدود هو الإمام. ورواية أبي عاصم السجستاني دالة عليه».

(47) الشيخ الحر العاملي، مصدر سابق، ج19، ص 204 – 205، باب حكم ضمان الناصب وديته (الباب 33)، الحديث1: «محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم، رفعه عن بعض أصحاب أبي عبد الله(عليه ‏السلام) أظنه أبا عاصم السجستاني، قال… فدخل على أبي عبد الله(عليه ‏السلام) فقال: إني قتلت سبعة ممن سمعته يشتم أمير المؤمنين(عليه ‏السلام)، فسألت عن ذلك عبد الله بن الحسن فقال: أنت مأخوذ بدمائهم في الدنيا والآخرة. إلى أن قال: فقال أبو عبد الله(عليه ‏السلام)… ولو أنك قتلتهم بإذن الإمام لم يكن عليك شيء في الدنيا والآخرة».

(48) الإمام الخميني، مصدر سابق، ص 445، المسألة 2؛ الشهيد الثاني، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، ج9، مصدر سابق، ص 342؛ الشيخ محمد حسن النجفي، مصدر سابق، ج41، ص 439: «لا إشكال في عدم شيء على غير القاصد للسب لغفلة أو نحوها؛ بل في خبر علي بن عطية عن أبي عبد الله(عليه ‏السلام) قال: كنت عنده وسأله رجل يجيء من النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ) على جهة غضب بؤاخذه الله به؟ فقال: الله أكرم من أن يستقلق عبده» .

(49) الشيخ الحر العاملي، مصدر سابق، ج18، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث1: «… إقامة الحدود بيد من إليه الحكم».

(50) الإمام الخميني، ج1، مصدر سابق، ص 413، المسألة 11.

(51) الشهيد الثاني، مصدر سابق، ج2، ص 416 – 417.

الحادثة وظروفها الخاصّة بها، فجاء الحكم خاصاً أيضاً. وهذا ليس من نوع إحالة تشخيص موضوع الحكم وشروطه إلى عامَّة الناس الذي يتطلَّب اجتياز مراحل قضائيَّة معتمَدة.

نعم هناك من عقوبات الحدود ما أُحيل بالدليل الخاص إلى غير المرجع القضائي؛ كما في حالة إذا شاهد الزوج أجنبياً يغتصب زوجته فهنا له قتل الزاني، وفي حالة استجابة الزوجة أيضاً سيحقّ للزوج تطبيق الحدِّ على الاثنين بنفسه (52).

لكن هذا الحكم ونظائره لا يُقاس على ما نحن بصدده إطلاقاً؛ لأنَّه أولاً: يتعلَّق حكم الزنا هنا ـ مع التسليم بصحّة الدليل ـ بحقّ الناس الشخصيّ؛ وحتّى في الفرضيّة الثانية فإنّ الحقّ عائد للزوج نفسه، أمَّا حكم الإساءة للمقدَّسات فهو حقٌّ عام ومتعلِّقٌ بالله جل وعلا، وعلى الشارع المقدّس في الحقوق الإلهيّة أن يُراعي دائماً مبنى التساهل والاحتياط؛ من هنا تنصُّ قاعدة الدرء على أنَّ مجرَّد عروض الشبهة يوجب انتفاء الحدّ. ثانياً: لا تتطلَّب مسألة تحديد الموضوع والشروط في جرائم كالزنا عناءً كبيراً؛ خلافاً لجريمة الإساءة للمقدَّسات ذات المَدَيَات الواسعة والملابسات المعقَّدة، إذ لا يمتلك الناس تعريفاً محدّداً في هذا المجال.

ثمَّ إنَّ القوانين الجزائيَّة في الإسلام تدعو إلى أخذ جانب المتَّهم في حالة طروء تعارض أو تعادل في الأدلَّة. ولا بدَّ أن يكون الحكم الصادر في مجال التعدّي على المقدَّسات قد مرّ بمراحله القضائيّة بما يصبّ بصالح المتَّهم متَّخـذاً الاحتياط مبنـاه الأوّل؛ فالاحتياط واجب في الدِّماء والنفوس.

المحور الثالث: فلسفة إدانة الإساءة للمقدَّسات

ليس للأخلاق أو الدّين ـ في هذه الأيّام ـ دور أساس بين العديد من الدول الغربيّة ذات النِّظام الأنجلوسكسونيّ؛ بحيث باتت مدَيَاتها بمعزل عن مدَيَات القانون؛ ففي أمريكا ـ مثلاً ـ ووفقاً للتعديل الأوّل في دستورها ـ لا يحقّ للكونغرس تشريع قانون يدعم ديناً ما أو يُلغي حريَّاته (53).

________________________________________

(52) المادة (630) من قانون العقوبات الإسلامي (التعزيرات) لعام 1375ش، حيث ورد فيها ما يوافق هذه النظرية تماماً.

(53) Alpheas Thomas and Milliam Beany, “Ammerican constitutional. prentice-hall, inc. 3rd ed., New jersey, 1964, p. 594