علاقة المعرفة بالمجتمع وجهة نظر الشهيد الصدر

512

علاقة المعرفة بالمجتمع وجهة نظر الشهيد الصدر

السيد رضا كلوري (*)

تمهيد

يعتبر (ماكس شيلر) أوَّل من أطلق مصطلح (علم اجتماع المعرفة). وقد ذكر أنَّ موضوع هذا العلم هو البحث عن العلاقة بين أنماط الحياة الاجتماعيَّة ومختلف أنواع المعرفة.

وعلى الرغم من هذا التعريف الذي قدّمه (ماكس شيلر) لعلم اجتماع المعرفة، يمكننا القول إنَّ هذا العلم وخلافاً للكثير من فروع علم الاجتماع ليس له تعريفٌ معيَّن ولا دائرة محدَّدة. ويرى بعض الباحثين أنَّ من غير الممكن جعل هذا العلم فرعاً من فروع علم الاجتماع، بل غاية ما يصل إليه أن يكون أشبه ببرنامجٍ علميّ (1) .

وهذا الاصطلاح ينظر إلى الاختلاف الواقع حول العلاقة بين الظروف الاجتماعيَّة (2) أو بين العوامل غير الماديَّة. فقد تعرَّض العديد من الدِّراسات في علم الاجتماع لهذه المسألة وظهرت نظريَّات مختلفة في هذا المجال وهي التي يُطلق عليها تسمية (نتائج علم اجتماع المعرفة) (3) .

إنَّ الأبعاد الاجتماعيَّة للحياة الإنسانيَّة واسعةٌ جداً، فهي تشمل مختلف مجالات الحياة الإنسانيَّة بنحوٍ لا يبقي تأثيراً مهماً للأبعاد الفرديَّة. وأهميَّة التعرُّض

________________________________________

(*) باحث وكاتب، من إيران.

(1) – علي زاده، عبد الرضا، حسين اژدرى زاده و مجيد كافى، جامعه شناسى معرفت، قم، پژوهشگاه حوزه و دانشگاه، 1383، ص 25.

(2) – milieu social condition

(3) – Ideal or spritual factors

 

 

لهذا البعد الأساس واضحة للغاية ونحن نشهد في كلِّ يومٍ نزعةً للميول الفرديَّة نحو الحياة الاجتماعيَّة.

ويلتزم فقهاء الإسلام بمقولة أنَّ الفقه يملك الإجابة عن كافَّة المتطلَّبات الإنسانيَّة في كافَّة أبعادها ومختلف شؤونها. وبعبارةٍ أُخرى، الفقه علم يبحث عن العلاقة بين الوجه الماديّ وغير الماديّ للحياة الإنسانيَّة اكتشافاً أو إنشاءً واستيلاداً. ولكن ما يظهر للعيان وبملاحظة الماضي البعيد فإنَّ نظر العديد من الفقهاء إلى الفقه كانت تتَّجه للناحية الفرديَّة ولغة الفقه كانت كذلك أيضاً. وكما يذكر الشهيد الصدر فإنَّ هذه النظرة كانت نِتاج ظروفٍ اجتماعيَّة ـ تاريخيَّة محيطةٍ بهذا العلم (الفقه) وهو في طور التكوين والتكامل. وعلى الرغم من ذلك ـ وكما تقدّم ذكره ـ فإنَّه وتدريجيّاً ونتيجةَ الدور الخاص والأهميَّة التي تمتلكها الأبعاد الاجتماعيَّة، فإنَّ جماعةً من الفقهاء لم يكن لهم بدّ إلا أن يقوموا بتغيير أسلوبهم ولغتهم. وقد خطا الفقه خطوةً أساسيَّةً في هذا المجال. نعم لا ينبغي أن نَغفل عن ذكر أمرٍ وهو أنَّ الدِّراسات والأبحاث الفقهيَّة ومؤلَّفات الفقهاء مليئةٌ بالتعرَّض للموضوعات والقضايا الاجتماعيَّة، وقد لاحظها الفقهاء، ولكن لغة ومنهج هذا العلم لم يصطبغا بهذا النحو.

وللشهيد آية الله السيِّد محمَّد باقر الصدر العديد من الدِّراسات والأبحاث والكتابات المختلفة، وهي تمتاز بالعمق الذي جعل بعض الأكابر يعترف له بالنبوغ.

وقد أثار مؤلّفه القيّم (الأسس المنطقيَّة للاستقراء) إعجاب العلماء وتمَّ التعامل معه ككتابٍ تدريسيّ في العديد من المؤسَّسات العلميَّة. كما أنَّ إبداعاته في مجال علم أصول الفقه تشهد بذلك. وأبسط شاهدٍ على ذلك أنَّ كتبَه التي حوت جديده في علم أصول الفقه تدرَّس الآن في الحوزات العلميَّة من قِبَل أعلام الحوزة وفقهائها. ومن الأبعاد التي امتاز بها الشهيد الصدر اهتمامه بالأبعاد الاجتماعيَّة وسعيه للكشف عن دورها وبيان ذلك الدور.

________________________________________

نسعى في هذه الدِّراسة ـ وباختصار ـ لمعالجة بعض الآراء الاجتماعيَّة التي كان يتبنَّاها الشهيد الصدر فيما يتعلَّق بعلاقة المجتمع بالمعرفة والعلم. وسوف نقسِّم البحث في هذه الدِّراسة إلى قسمين: القسم الأوَّل نتعرَّض فيه للمباني العقليَّة والمنطقيَّة في موضوع المعرفة، ومن ذلك مباحث نظريَّة المعرفة؛ والقسم الثاني نتعرَّض فيه للاجتهاد والفقه وعلاقة الفهم الاجتماعيّ للفقه فيما يرتبط بمسائل علم اجتماع المعرفة.

تبنّي المعارف العقليَّة القبليَّة

من القضايا التي لها دور أساس في بحث علم اجتماع المعرفة موضوع المعارف العقليَّة القبليَّة، فهل من الصحيح وجود مثل هذه المعارف أو الصحيح نفي ذلك؟ وأهميَّة هذا الموضوع تبرز في أنَّنا مع تبنِّي هذا النوع من المعارف فإنَّ ذلك سوف يشكِّل سداً حائلا لعلم اجتماع المعرفة ومهده أي ما يسمَّى بـ (ما بعد الحداثة). وبناء عليه لا يُمكن تبنّي سوى الشيء اليسير من علم اجتماع المعرفة في الفكر والمعرفة؛ وذلك لأنَّنا مع القبول بأصل وجود معارف قبليّة فإنَّ مجالاً مستقلاً للعقل البشريّ سوف يكون ثابتاً، ولن تجد النسبيَّة لها طريقاً إلا في بعض المعارف.

وثمَّة اختلافٍ أساس في مصدر المعرفة بين المذهب العقليّ والمذهب التجريبيّ. وهذا الاختلاف هو من أهمِّ الاختلافات الفلسفيّة. فالمذهب العقليّ يتبنَّى القولَ بأنَّ المعرفة البشريّة لها أساس عقليّ وهي ذات جنبةٍ قبليَّة في الإنسان بنحوٍ يصل إليها الإنسان بشكلٍ مستقلٍّ عن الحسِّ والتجربة. وأمَّا المذهب التجريبيّ فيرى أنّ التجربة هي الأساس العامّ لكافَّة أنواع المعارف المخزونة في الفكر البشريّ، ولا وجود لأيِّ معرفةٍ إنسانيَّةٍ سابقةٍ أو مستقلَّةٍ عن التجربة. حتَّى تلك المعارف التي يبدو أنَّها في أعلى درجات الأصالة في النفس البشريَّة ومنها القضايا الرياضيَّة والمنطقيَّة مثل : 1 + 1 = 2 ترجع بالتحليل إلى التجربة التي توصَّل إليها الإنسان في حياته (4) .

________________________________________

(4) – الصدر، السيد محمد باقر، الأسس المنطقية للاستقراء، ص 547، طبعة المؤتمر العالمي للإمام الصدر، 1426 هـ . ق.

في هذه النقطة بالتحديد للشهيد الصدر بيانٌ يمكن من خلاله الموازنة بين هذين المذهبين والوصول إلى موقفٍ محدّد من موضوع علم اجتماع المعرفة. فيذكر الشهيد الصدر أنَّ من أهمِّ النتائج المترتِّبة على المذهب التجريبيّ هو أنَّ كافَّة المعارف البشريَّة الأوليَّة هي جزئيَّة؛ لأنَّ الحسَّ هو بداية المعرفة، ووظيفة الحسِّ إدراك الجزئيَّات. وبناءً عليه لا يقين لنا بأيِّ قضيَّةٍ كليَّةٍ خارجةٍ عن المدرَكات الحسيَّة، وهذا يقع على طرف النقيض من المذهب العقليّ الذي يرى وجود قضايا كليَّة يقينيَّة خارج الحسِّ والتجربة، وهو الأساس في تفسير المعارف المسبَقة التي نملكه (5) .

المقايسة بين الاتِّجاهين

يعتمد الشهيد الصدر في توضيحه لهذه المقايسة على النظر إلى القضايا التي تكون ملاكاً لتقييم كلا المذهبين (المذهب العقليّ والمذهب التجريبيّ) ومنه نصل إلى أنَّه ممن يتبنَّى المذهب العقليّ: «وحينما ندرس المذهب العقليّ والمذهب التجريبيّ، ونقارن بينهما، يجب أن نتّخذ مقياساً نقيّم في ضوئه هذين المذهبين. وهذا المقياس يتكوّن من الحدّ الأدنى المعترَف به عموماً من درجات التصديق بقضايا العلوم الطبيعيَّة وقضايا المنطق والرياضة. فهناك حدٌّ أدنى من درجات التصديق بهذه القضايا متّفق عليه ـ عادةً ـ بين العقليِّين والتجريبيِّين، فأيّ مذهبٍ لا يستطيع أن يبرّر ذلك الحدّ الأدنى الذي يتوجّب رفضه، وأيّ اتِّجاه ينسجم مع ذلك الحدّ الأدنى من التصديق على الأقل فهو اتِّجاه معقولٌ في تفسير المعرفة البشريَّة.

وعلى أساس هذا المقياس سوف نقارن بين المذهبين:

أولاً: في ضوء الحدِّ الأدنى من درجات التصديق المتّفق عليها لقضايا العلوم الطبيعيَّة.

ثانياً: في ضوء الحدِّ الأدنى من درجات التصديق المتّفق عليها لقضايا المنطق والرياضة» (6) .

________________________________________

(5) – لمزيد تفصيل راجع، المصدر، نفسه، ص 548.

(6) – م. ن، 548.

 

ضرورة وجود نقطة بداية للمعارف

المعارف البشريَّة سواء توصَّل إليها الإنسان عن طريق الاستنباط أو عن طريق الاستقراء لا بدَّ لها من نقطة بداية لا تكون المعرفة فيها نتاجاً لمعرفةٍ أُخرى؛ لأنَّ عدم وجود نقطة بدايةٍ كهذه تعني أنْ نواجه سلسلةً لا متناهية، وتوقُّف الوصول إلى أيِّ معرفةٍ على سلسلةٍ غير متناهيةٍ من المعارف، وهذا ما يؤدِّي إلى أن تكون أصل المعرفة مستحيلة (7) .

ويمكننا القول بشكلٍ حاسم إنَّ الشهيد الصدر يتبنَّى القول بوجود دائرة من المعرفة (المعرفة الأوليّة) في الإنسان لا ترتبط بأيِّ وجهٍ بالحسِّ والتجربة. ويَنتج من ذلك أنَّ هذه المعارف لم يتمّ تلقيها من المجتمع وليس للمجتمع أيُّ تأثيرٍ فيها. وبهذا يظهر أنَّ جزءاً من المعرفة الإنسانيَّة يكون مستقلاً ومنفصلاً عن المجتمع والاجتماع.

مصادر المعرفة

يرى آية الله السيِّد الصدر في بعض المواطن من كتابه فلسفتن (8) أنَّ جميع المعارف لا تُبتنى على الحسِّ والتجربة، بل للعقل الإنسانيّ مساحةٌ من المعرفة المستقلَّة، وبهذا يظهر أنَّ بعض المعارف والإدراكات الأوليّة للعقل البشريّ قد تكون مستقلّةً تماماً عن المجتمع. وخلافاً لما يتبنَّاه (دوركهايم) من أنَّ المقولات العشر مستقاة من المجتمع ومن التجربة الاجتماعيَّة يرى آية الله الصدر التالي: «إنَّ المعارف البشريَّة لا ترتكز كلّها على الحسِّ والتجربة، لأنَّ المذهب العقليّ… يقرِّر وجود معارفَ أوليَّة ضروريَّة للعقل البشريّ، وهذه المعارف الضروريَّة لم تنشأ من الحسِّ ولا يبدو فيها شيء من التناقضات مطلقاً، فلا يُمكن اقتلاع هذه المعارف بالعاصفة التي تُثار على الحسِّ والإدراكات الحسيَّة، وما دمنا نملك معارف في منجاة عن العاصفة فمن الميسور أن نُقيمَ على أساسها معرفةً موضوعيَّةً صحيحةً» (9) .

________________________________________

(7) – م. ن. 515.

(8) – لم يتعرض السيد الصدر في كتابه فلسفتنا لمسائل علم اجتماع المعرفة. نعم هذا الكتاب يشتمل على مطالب ترتبط بنظرية المعرفة كالتصور والتصديق، الفلسفة الماركسية، التجربة، التشكيك، النسبيّة، نسبيّة كانت، النسبية الذاتية. نعم لا يتعرض في هذا الكتاب لعوامل وأسباب المعرفة، ليكون منشأ للقول بتبنّيه لعلم اجتماع المعرفة، فهذه الكتاب تُبتنى أسسه على المباني المنطقية، ولا وجـود لعلم اجتماع المعرفة طبقاً للحداثويين.

(9) – الصدر، السيد محمّد باقر، فلسفتنا، ص 7، لبنان، دار التعارف للمطبوعات، 1410.

ومن الواضح أنَّ السيد الصدر يرى وجود سلسلةٍ من المعارف الضروريَّة لدى العقل البشريّ، وضرورته تعني مقارنتها للعقل بقطع النظر عن الارتباط بالمجتمع أو عدم الارتباط به. وثانياً، إنَّ هذه المعارف الضروريَّة ونظراً لكونها مصونةً عن الخطأ الناشئ من المعرفة الحسيّة والتجريبية، يُمكن أن تشكِّل أساساً ومستنداً للمعرفة الصحيحة والواقعيَّة. وبناء عليه فالكلام المذكور قد يتلاءم مع علم اجتماع المعرفة بنظرةٍ أولى وفي طور التكوّن، ولكنه لا ينسجم مع الصورة المفرِطة من علم اجتماع المعرفة حتماً، أي حيث تكون النسبيَّة حاكمة على أكثر المعارف البشريّة.

استقلال منطق التفكير

من الكتب المهمَّة والمعروفة للشهيد الصدر كتاب (الأسس المنطقيَّة للاستقراء). والموضوع المحوريّ في هذا الكتاب التعرّض لمسألة أنَّ في الفكر البشريّ نمطين من الاستدلال لهما الأصالة من بين أنماط الاستدلال البشريّ:

1ـ الاستدلال عن طريق الاستنباط (القياس المنطقيّ).

2ـ الاستدلال عن طريق الاستقراء.

إنَّ ما يتعرّض له الشهيد الصدر في كتابه هذا هو بيان دعوى أنَّ طريق الاستدلال الاستنباطيّ هو طريقٌ منطقيّ وأنَّ جذر هذا الاستدلال يرجع إلى نفي التناقض. وذلك خلافاً للاستدلال عن طريق الاستقراء، ففي هذا الاستدلال لا تناقض بين المقدِّمات وكذب النتيجة، وهذا الذي جعل الدليل الاستقرائيّ ينتقل من حكم الخاص إلى حكم العام (من المقدّمات الجزئيَّة إلى النتيجة الكليَّة) وأمَّا في بُنيان الاستدلال المنطقيّ فلا مجال ولا مفرَّ من الاعتماد على مبدأ عدم التناقض (10) .

نعم لا يرتضي الشهيد الصدر الاستقراء طبقاً لقواعد المذهب التجريبيّ، بل يرى لهذا الطريق أُسساً وقواعدَ خاصَّة وينظر إليه كمصدرٍ علميّ. ويسعى في

________________________________________

(10) – الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء.

كتابه هذا لبيان منطقٍ وطريقٍ صحيحٍ للاستدلال من قِبَل الذهن. وطريقة الاستدلال هذه تعتمد في الأساس على أصلٍ بديهيّ عقليّ سابقٍ (سابق على التجربة)؛ أي على أكثر القضايا بداهةً وهو أصل (استحالة التناقض) أي استحالة اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما. وهذا الاتِّجاه يعني القول باستقلال منطق التفكير لا أقل في مستوىً من مستويات التفكير البشريّ. إذاً في دائرةِ العقل البشريّ ثمَّة مجالٍ لمعارف مستقلَّةٍ تماماً عن المجتمع، وهذا هو الدليل والمستند الوحيد لصحَّة الاستدلال البشريّ.

نعم لا نجد في كلمات الشهيد الصدر تعرّضاً للبُعد الميتافيزيقيّ من المعرفة، ولكن النقطة الرئيس التي نجدها في هذا الكتاب هو أنَّ كافَّة إمكانات المعرفة لا يمكن حصرها بالمحسوسات (الحسّ والتجربة)؛ أي في كلام الشهيد الصدر لا نجد أيّ إشارة إلى أنَّ هذه المعارف القبليَّة لدى العقل لها بُعد ميتافيزيقيّ أو أنَّ أساسها ذهن الإنسان وهي من صنعه؛ أي هذا الاختلاف الذي شكَّل بداية ظهور البحث حول علم اجتماع المعرفة. والشهيد الصدر وإن لم يشر إلى هذا الأمر ولكنّه لا يرى أنَّ كافَّة إمكانات المعرفة تنحصر بالحس، وخلافاً لهيوم وأمثاله الذين ذهبوا إلى أنَّ أيَّ نوعٍ من المعرفة لا يخرج عن التجربة ـ بل هو يُثبت ذلك ـ وهذا يشكِّل دليـلاً واضحـاً على أنَّه وإن التزم في دراساته الفقهيّة والأصولية بأنَّ للمجتمع وللشؤون الاجتماعيَّة لدى الإنسان دوراً مهماً في فهم وتفسير النصوص، ولكن بملاحظة ما يتبنّاه من قواعد منطقيَّة وفلسفيَّة؛ أيّ مع ملاحظة رأيه في استقلال منطق الذهن وقبوله للدائرة المستقلَّة لدى العقل والمختصَّة به، يرى أنّ للمجتمع دوراً في المعرفة.

والأمر الآخر هو أنَّه وإن كان يرى أنَّ لعنصرَي الزمان والمكان تأثيراً على عمليَّة الاستنباط من الفقيه، ولكنَّه يتبنَّى أيضاً المعايير غير التاريخيَّة؛ أي لا يرتضي العقل التاريخيّ. ويرى أنَّ للبنية الاجتماعيَّة تأثيرها على العلوم والمعارف، وأنَّ لها

________________________________________

تأثيرها على فهم الفقيه، وأنَّها تؤدّي إلى نوعٍ من الفهم الاجتماعي لديه (نعم مع فرض التفات الفقيه وقصده لذلك)، ولكن لا إلى الحدِّ الذي يَلتزم فيه بوجود علمٍ مناسب في كلِّ عصرٍ للبنيَة الاجتماعيَّة القائمة في ذلك العصر؛ لأنَّ مبانيه المنطقية ـ الفلسفية تمنع من تبنّيه لمثل هذا الرأي.

الهدف من حركة الاجتهاد

يرى آية الله الشهيد الصدر في دراسته التي حملت عنوان: (الاتِّجاهات المستقبليَّة لحركة الاجتهاد) أنَّ الهدف من حركة الاجتهاد تمكين المسلم من تطبيق النظريَّة الإسلاميَّة للحياة. ويذكر في صدد بيان ذلك أنَّ إدراك أبعاد الهدف بوضوح يتوقَّف على التمييز بين مجالين لتطبيق النظريَّة الإسلاميَّة للحياة أحدهما تطبيق النظريَّة في المجال الفرديّ، والآخر تطبيق النظريَّة في المجال الاجتماعيّ. إذاً، في هذا القسم نجد نوعاً من النظر إلى الموضوع الذي نعالجه في دراستنا هذه أي بحث (علم اجتماع المعرفة) وإن كان ارتباطه بعلم اجتماع العلم أكثر. ويذكر الشهيد الصدر أنَّ: «حركة الاجتهاد من حيث المبدأ ومن الناحية النظريّة وإن كانت تستهدف كلا مجالَي التطبيق… ولكنَّها في خطّها التاريخيّ الذي عاشته على الصعيد الشيعيّ كانت تتَّجه في هدفها على الأكثر نحو المجال الأوّل فحسب، فالمجتهد ـ خلال عمليَّة الاستنباط ـ يتمثَّل في ذهنه صورة الفرد المسلم الذي يُريد أن يطبِّق النظريَّة الإسلاميَّة للحياة على سلوكه، ولا يتمثَّل صورة المجتمع المسلم الذي يحاول أن يُنشِئَ حياته وعلاقاته على أساس الإسلام. وهذا التخصيص والانكماش في الهدف له ظروفه الموضوعيَّة وملابساته التاريخيَّة، فإنَّ حركة الاجتهاد عند الإماميَّة تأسَّست منذ ولدت ـ تقريباً ـ عزلاً سياسيَّاً عن المجالات الاجتماعيَّة للفقه الإسلاميّ نتيجة لارتباط الحكم في العصور الإسلاميَّة المختلفة وفي أكثر البقاع بحركة الاجتهاد عند السنّة، وهذا العزل السياسيّ أدّى تدريجيّاً إلى تقليص نطاق الهدف الذي تعمل حركة الاجتهاد عند الإماميَّة

________________________________________

 

لحسابه، وتعمَّق على الزمان شعورها بأنَّ مجالها الوحيد الذي يمكن أن تنعكس عليه في واقع الحياة وتستهدفه هو مجال التطبيق الفرديّ» (11) .

من الواضح بملاحظة هذا النصّ أنَّ الشهيد الصدر يرى دوراً للتاريخ وللمجرَيَات الاجتماعيَّة ـ التاريخيَّة في نوع الميل، وأنَّ تأثيره بالغ الأهميَّة في غلبة نوعٍ من الميل في الاجتهاد الفقهيّ لدى الشيعة، وهذا هو سبب تلك النزعة الفرديَّة في حركة الاجتهاد هذه. إذاً، من وجهة نظره فإنَّ للتاريخ والظروف التاريخيّة تأثيرها في غلبة ميلٍ خاص في تفكير المجتهد أو حتَّى في بعض الموضوعات. ويذكر الشهيد الصدر لإثبات هذه الدعوى المتمثِّلة بوجود نوعٍ من النزعة الفرديَّة أمثلةً من المسائل التي عالجها الفقهاء والأصوليِّون، فيرى في البحث الذي خاضه الأصوليِّون حول (دليل الانسداد) أي انسداد باب العلم شاهداً على دعواه، فيقول: «إنَّنا ما دمنا نعلم بأنَّ في الشريعة تكاليفَ ولا يُمكننا معرفتها بصورة قطعيَّة، فيجب أن يكون المتّبع في معرفتها هو الظنّ. إنَّ هذه الفكرة يُناقشها الأصوليّون قائلين: لماذا لا يُمكن أن نفترض أنَّ الواجب على المكلف هو الاحتياط في كلِّ واقعةٍ بدلاً عن اتِّخاذ الظنِّ مقياساً؟ وإذا أدّى التوسّع في الاحتياط إلى الحرج فيُسمح لكلِّ مكلّف بأن يقلّل من الاحتياط بالدرجة التي لا تؤدّي إلى الحرج. انظروا إلى الروح الكامنة في هذا الافتراض وكيف سيطرت على أصحابه النظرة الفرديَّة إلى الشريعة، فإنَّ الشريعة إنَّما يمكن أن تأمر بهذا النوع من الاحتياط لو كانت تشريعاً للفرد فحسب، وأمَّا حيث تكون تشريعاً للجماعة وأساساً لتنظيم حياتها فلا يُمكن ذلك بشأنها لأنَّ هذا الفرد أو ذاك قد يتمّ سلوكه على أساس الاحتياط، وأمَّا الجماعة كلّها فلا يمكن أن تُقيم حياتها وعلاقاتها الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والتجاريَّة والسياسيَّة على أساس الاحتياط» (12) .

وفي بعض عبارات الشهيد الصدر حول النزعة الفرديَّة لدى فقهاء الشيعة ثمَّة موضوعات ذات أهميَّةٍ بالغةٍ: «وقد امتدّ أثر الانكماش وترسّخ النظرة الفرديَّة

________________________________________

(11) – الاجتهاد والحياة، حوار على الورق، إعداد محمد الحسيني، مقالة الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، ص 156.

(12) – م.ن، ص 157

للشريعة إلى طريقة فهم النصِّ الشرعيّ أيضاً، فمن ناحيةٍ أهملت في فهم النصوص شخصيَّة النبيّ (عليهما السلام) أو الإمام (عليه ‏السلام) كحاكم ورئيس للدولة، فإذا ورد نهي عن النبيّ(عليهما السلام) مثلاً كنهيه أهل المدينة عن منع فضل الماء فهو إمَّا في نهي تحريمٍ أو نهي كراهةٍ عندهم مع أنَّه قد لا يكون هذا ولا ذاك بل قد يصدر النهي من النبيّ(عليهما السلام) بوصفه رئيساً للدولة فلا يُستفاد منه الحكم الشرعيّ العام.

ومن ناحيةٍ أخرى لم تُعالَج النصوص بروح التطبيق على الواقع واتّخاذ قاعدةٍ منه، ولهذا سوَّغ الكثير لأنفسهم أن يجزّئوا الموضوع الواحد ويلتزموا بأحكام مختلفةٍ له» (13) .

يوضح هذا الكلام أنَّ الظروف التاريخيَّة ـ الاجتماعيَّة قد تلقي بظلّها على غالب الفقهاء؛ كما سيطرت النزعة الفرديَّة على ذهن جماعة الفقهاء الشيعة.

والشهيد الصدر هو من الفقهاء الذين يرون لعنصرَي الزمان والمكان تأثيراً مهماً للغاية ودوراً رئيساً. ويظهر الشهيد الصدر اهتماماً بموضوع المجتمع وارتباط الموضوعات الفقهيَّة بالمجتمع (كما هو الملاحظ في كلماته). ويرى أهميَّة ملاحظة الجنبة الاجتماعيَّة في الموضوعات حتّى في فهم النصوص الدينيّة من خلال ارتباطها بالظروف الاجتماعيّة المحيطة: «سوف يتحوَّل فهم النصوص وتؤخذ فيه كلُّ جوانب شخصيَّة النبي (عليهما السلام) والإمام بعين الاعتبار، كما سترفض التجزئة التي أشرنا إليها لا على أساس القياس بل على أساس فهم ارتكاز اجتماعيّ للنصّ… فإنّ للنص بمفهومه الاجتماعيّ مدلولاً أوسع من مدلوله اللغويّ في كثيرٍ من الأحيان»(14) .

وطبقاً لهذا البيان فإنّ للمفاهيم الواردة في النصوص مضافاً إلى مفهومها اللغويّ (الظهور البدويّ) وبلحاظ بعض المفاهيم الأخرى وفي غالب الأحيان معنىً أوسع من المعنى اللغويّ والسطحيّ. ومن الطبيعيّ أنّنا ومن خلال فهم وتصوّر هذه المفاهيم الثانويّة (الاجتماعيّة) سوف يتبدَّل اتِّجاه نظرة الفقيه إلى

________________________________________

(13) – م. ن، ص157ـ 158.

(14) – م. ن، ص 159

 

الحكم. إذاً، للظروف الاجتماعيّة دور مهم وبنَّاءٌ في حركة الفقيه.

وفي تتمَّةِ بحثه حول الاتِّجاهات المستقبليَّة لحركة الاجتهاد يُشير الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر إلى بدايات التطوّر أو التوسّع في الهدف فيقول: «وبعد أن سقط الحكم الإسلاميّ على أثر غزو الكافر المستعمر هذه البلاد لم يعد هذا العزل مختصاً بحركة الاجتهاد عند الإماميّة بالخصوص، بل لقد شملت عمليَّة العزل السياسيّ التي تمخض عنها الغزو الكافر الإسلام ككلّ والفقه الإسلاميّ بشتّى مذاهبه، وأقيمت بدلاً عن الإسلام قواعد فكريَّة أُخرى لإنشاء الحياة الاجتماعيَّة على أساسها واستبدال الفقه الإسلاميّ بالفقه المرتبط حضارياً بتلك القواعد الفكريّة.

وقد كان لهذا التحوَّل الأساسيّ في وضع الأمَّة أثره الكبير على حركة الاجتهاد عند الإماميَّة؛ لأنَّ هذه الحركة أحسَّت بكلِّ وضوحٍ بالخطر الحقيقيّ على كيان الإسلام ونفوذه السياسيّ والعسكريّ وقواعده الفكريّة الجديدة، وقد صدمها هذا الخطر العظيم بدرجةٍ استطاع أن يجعلها تتمثَّل الكيان الاجتماعيّ للأمَّة الإسلاميَّة… وهذا ما نَلحظ بداياته بوضوحٍ في الواقع المعاصر لحركة الاجتهاد عند الإماميَّة وما تمخَّض عنه من محاولات التعبير عن نظام الحكم في الإسلام أو عن المذهب الاقتصاديّ في الإسلام ونحو هذا وذاك من ألوان البحث الاجتماعيّ في الإسلام» (15) .

وفي هذا الكلام نجد أنَّ الشهيد الصدر ومن خلال ملاحظته للدور الخاص والمهمّ للظروف الاجتماعيّة والتاريخيّة يُثبت كيف أنّ للظروف الخاصة السياسيّة والثقافيّة المعاصرة للفقهاء تأثيرها على الهدف المنشود من قِبَلِهم، وتأثير ذلك تبعاً على موضوعات علم الفقه ومسائله. وبناءً عليه فإنّ ذهنيَّة الفقيه وتأثير هذه الذهنيَّة على آرائه واجتهاده ترتبط بالظروف التاريخيّة والأوضاع الاجتماعيَّة الخاصّة، وهذا هو معنى تأثير المجتمع على العلم وعلى المعرفة أيضاً. نعم لا نُغفل هنا ذكر أمرٍ وهو أنّه وبالنظر إلى المباني الفلسفيّة المتبنَّاة من قِبَل الشهيد الصدر فإنَّه يتبنَّى القول بوجود الحقيقة المطلَقة، العامّة، النفس أمريَّة، ولا يرتضي النسبيّة، ومن

________________________________________

(15) – م. ن، ص 155

يُدرِك المباني الفلسفيَّة للشهيد الصدر سوف يصل بوضوح إلى أنَّه لا يلتزم القول بوجود نوع من النسبيّة في الفقه الشيعيّ (16) .

تأثير شخصيَّة المجتهد على عمليَّة الاجتهاد

المسألة المهمَّة والرئيسة في اكتشاف أيِّ نظامٍ (كالنظام الاقتصاديّ في الإسلام) هو خطر تأثير شخصيَّة المجتهد على عمليَّة الاجتهاد؛ وذلك لأنَّ عمليَّة الاكتشاف كلَّما ابتعدت عن الذاتيَّة من قِبَل المجتهد والمكتَشِف كانت أقرب إلى الموضوعيَّة، وكانت أدقّ في الاكتشاف، وكان نصيبها التوفيق في الاكتشاف. ويشتدّ الخطر ويتفاقم، عندما تَفصل بين الشخص المُمارِس والنصوص التي يُمارسها فواصل تاريخيَّة وواقعيَّة كبيرة، وحين تكون تلك النصوص بصدد علاج قضايا يعيش المُمارس واقعاً مخالفاً كلَّ المخالفة لطريقة النصوص في علاجها ، كالنصوص التشريعيَّة والمفهوميَّة المرتبطة بالجوانب الاجتماعيَّة من حياة الإنسان. ولأجل هذا كان خطر الذاتيَّة على عمليّة اكتشاف الاقتصاد الإسلاميّ أشدّ من خطرها على عمليّة الاجتهاد في أحكام أُخرى فرديّة (كوجوب التوبة على المذنب) (17) . وبناء عليه يرى الشهيد الصدر أنَّ الاجتهاد هو نوعٌ من المعرفة المتطوِّرة، وأنَّها متى ارتبطت بالموضوعات والمسائل الاجتماعيّة فإنّ احتمال خطأ المجتهد أقوى بمراحل.

ومن جهةٍ أُخرى، لو أنَّنا تمكنّا من أن نجد في كلمات الشهيد الصدر ما يدلّ على كون الشخصيّة هي مقولة اجتماعيّة، وأنَّها أمرٌ اجتماعيّ وليست مقولةً نفسيّةً فقط، فإنّ بإمكاننا حينئذ أن ننسب شيئاً من الاعتقاد بعلم اجتماع المعرفة للشهيد الصدر. ولكنَّ الشهيد الصدر لم يتعرَّض لهذا الأمر بشكلٍ مباشر. فمعرفة موقف الشهيد الصدر من هذا الأمر تتوقَّف على معرفة نطرته إلى الشخصيَّة وأنَّها هل تُبتنى أساساً على المجتمع أو تتأثَّر بالمجتمع وبالعلاقات الاجتماعيّة كحدٍّ أدنى؟ وبهذا يُمكننا أن نحدِّد تبنّيه لنوعٍ من علم اجتماع المعرفة.

________________________________________

(16) – رعاية للاختصار نرجع القراء إلى كتب الشهيد الفلسفية.

(17) – الصدر، السيد محمد باقر، اقتصادنا، ص 384، مكتب الإعلام الإسلامي، 1402 هـ . ق.

وكلام الشهيد الصدر المتلخّص في العبارة التالية: «خطر الذاتيّة على عمليَّة اكتشاف الاقتصاد الإسلاميّ أشدّ من خطرها على عمليّة الاجتهاد في أحكام أُخرى فرديَّة»، ومن خلال التفسير الخاص لكلامه يُمكننا أن نستكشف موافقته على تأثير الاجتماعيَّات في المعرفة؛ وبيان ذلك أنَّ اختلاف العصور والحياة المتبدِّلة للإنسان سوف تؤدِّي إلى وجود فهمٍ عصريٍّ لدى الإنسان، والإنسان لا بدّ وأن يَخضع لهذا التأثير في عمليَّة الفهم والتفسير للنصوص المتعلّقة بالماضي. إذاً، للتاريخ الناظر إلى المتغيّرات الاجتماعيَّة تأثيره في فهم الإنسان وفي معرفته، ويترتَّب على ذلك أنَّ للمجتمع تأثيره على المعرفة. ويُشير الشهيد الصدر في بحثَي (الاجتهاد) و(تأثير شخصيَّة المجتهد) ضمن بيانه للعوامل المؤثِّرة إلى عواملَ أربعة، وبعض هذه العوامل يرتبط ببحثنا الفعليّ. وهذه العوامل عبارة عن:

أ ـ تبرير الواقع.

ب ـ دمج النصّ ضمن إطار خاص.

ج ـ تجريد الدليل الشرعيّ من ظروفه وشروطه.

د ـ اتِّخاذ موقفٍ معيَّن بصورة مسبَقةٍ تجاه النصّ (18) .

وفي معرض حديثه عن العامل الأوَّل أي (تبرير الواقع) فإنَّ ما يذكره الشهيد الصدر يرتبط إلى حدٍّ ما وبنحو المطابقة بموضوع بحثنا. ويَذكر في هذا المجال التالي: «إنَّ عمليّة تبرير الواقع هي: المحاولة التي يَندفع فيها الممارس ـ بقصدٍ أو بدون قصدٍ ـ إلى تطوير النصوص، وفهمها فهماً خاصاً يبرِّر الواقع الفاسد الذي يَعيشه المُمارس، ويعتبره ضرورةً واقعةً لا مناص عنها نظير ما قام به بعض المفكِّرين المسلمين، ممَّن استسلم للواقع الاجتماعيّ الذي يَعيشه، وحاول أن يُخضع النصَّ للواقع، بدلاً عن التفكير في تغيير الواقع على أساس النصّ، فتأوَّل أدلَّة حرمة الربا والفائدة وخرج من ذلك بنتيجةٍ تواكب الواقع الفاسد، وهي: إنَّ الإسلام يَسمح بالفائدة إذا لم تكن أضعافاً مضاعفةً، وإنَّما يَنهى عنها إذا بلغت

________________________________________

(18) – م. ن.

مبلغاً فاحشاً، يتعدَّى الحدود المعقولة كما في الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } » (19) .

ويُجيب الشهيد الصدر عن هذا الاتِّجاه بقوله: «الحدود التي ألِفَها هذا المتأوِّل من واقعه في حياته ومجتمعه. وقد منعه واقعه عن إدراك غرض هذه الآية الكريمة» (20) .

وبناءً عليه فإنَّ الشهيد الصدر يرى أنَّ العلاقات الاجتماعيَّة من الممكن أن يكون لها تأثيرها بنحوٍ لا شعوريّ على فهم ومعرفة المجتهد. نعم يَظهر من كلماته أنَّ بالإمكان الحذر من الوقوع في هذا الأمر، والتوصّل بعيداً عن الظروف الاجتماعيَّة إلى فهمٍ مستقلٍّ (كما توصَّل هو إلى هذا الفهم من خلال موقفه كناظرٍ من الخارج إلى هذا الموضوع): «ولو أراد هذا المتأوِّل أن يعيش القرآن خالصاً، وبعيداً عن إيحاءات الواقع المُعاش وإغرائـه، لقرأ قوله تعـالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ } » (21) .

وأمَّا فيما يرتبط بالعامل الثاني أي (دمج النصّ ضمن إطارٍ خاصّ) فيذكر التالي: « دراسة النصِّ في إطارٍ فكريٍّ غير إسلاميّ. وهذا الإطار قد يكون منبثِقاً عن الواقع المُعاش، وقد لا يكون. فيُحاولُ المُمارس أن يَفهم النصّ ضمن ذلك الإطار المعيّن، فإذا وجده لا ينسجم مع إطاره، أو لا تصطدم به على أقلّ تقدير» (22) .

والمثال المُلفِت الذي يذكره في هذا المجال هو التالي: « وقد كتب فقيهٌ، معلِّقاً على النصِّ القائل: بأنَّ الأرض إذا لم يعمِّرها صاحبها أخذها منه وليّ الأمر واستثمرها لحساب الأمّة: إنَّ الأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية، فإنَّها تخالف الأصول والأدلَّة العقليَّة. وهو يعني بالأدلة العقليَّة: الأفكار التي تؤكِّد قدسيَّة الملكيَّة».

ويرى الشهيد الصدر أنَّ هذا الاستنباط يخضع لإطارٍ فكـريّ مستعارٍ، وإلا فلا دليلَ عقليّاً على قدسيَّة الملـكيّة الفرديّة، بل الملـكيّة الفرديّة ليست سوى علاقة اجتماعيَّة بين المال والفرد، والعلاقة الاجتماعيَّة ليست إلا مجرَّد فرضٍ واعتبار (23) .

________________________________________

(19) – الصدر، السيد محمد باقر، اقتصادنا، ص 384.

(20) – م. ن.

(21) – م. ن.

(22) – م. ن، 385.

(23) – م. ن.

إذاً، طبقاً لرأي الشهيد الصدر فإنَّ المفاهيم الاجتماعيَّة تُبتنى على المجتمع الفرضيَّات المسبَقة والأُطر النظريَّة المتبنَّاة من قبل الباحث والمجتهد. نعم الباحث والمجتهد لا مفرَّ له من الخضوع إلى أن تكون عمليَّة الفهم ضمن هذا الإطار، وهذا هو السبب الموجب للخطأ في الفهم. وبناءً عليه فإنَّ ههنا نوعاً آخر من التأثير للذهنيَّة المسبَقة المبنيّة على أساس الفهم الاجتماعيّ على فهم الباحث والفقيه.

ومن جملة الأمور التي لها تأثيرها على عملية الاستنباط ما يطلق عليه تسمية (الإطار اللغويّ). نعم هذه المسألة تَندرج تحت العامل الثاني أي (دمج النصّ ضمن إطارٍ خاص). ويرى الشهيد الصدر هنا الحالة التالية: «إذا كانت الكلمة الأساسيَّة في النصِّ لفظاً مشحوناً بالتاريخ أي ممتدّاً ومتطوِّراً عبر الزمن… فمن الطبيعيّ أن يُبادر المُمارس بصورة عفويَّة إلى فهم الكلمة، كما تدلّ عليه في واقعها، لا في تاريخها البعيد. وقد يكون هذا المدلول حديثاً في عمر الكلمة، ونِتَاجاً لغويّاً لمذهبٍ جديد، أو حضارةٍ ناشئة. ولأجل ذلك يجب عند تحديد معنى النصّ الانتباه الشديد إلى عدم الاندماج في إطار لغويٍّ حادث، لم يعش مع النصّ منذ ولادته» (24) .

إذاً، وكما نُلاحظ، فإنَّ المكوِّنات اللغويَّة (ومن ذلك المعنى اللغويّ للكلمات) يتأثَّر بالمتغيّرات الاجتماعيَّة، وكم تغلب المعاني الثانويَّة للكلمات والمتأثِّرة بالتاريخ على المعاني اللغويَّة. وحيث كانت هذه المكوّنات تشكِّل عناصر أساسيَّة في عمليَّة الاستنباط وتفسير النصّ، فإنّ هذا يعني أنَّ للمجتمع تأثيره في المعرفة الإنسانيَّة. ولكن ما ينبغي أن نُلفِتَ النظر إليه هنا هو أنَّ الشهيد الصدر يَسعى في هذه المسألة إلى جعل مثل هذا التأثير غير ضروريّ ولا جبريّ؛ أي إنّ المجتمع والفهم المعاصر والمرتبط بالتاريخ وبالمتغيِّرات وإن كان له تأثيره على الاستنباط من قبل الفقيه، ولكنَّه يشكِّل جزءاً ونوعاً من الخطأ الذي يقع فيه الذهن خلال ممارسة الفهم، وهو في الوقت نفسه يشكِّل منطقاً للفهم المستقلّ

________________________________________

(24) – م. ن، ص 387

والاجتناب عنه أمرٌ ممكنٌ. وأحدُ الأدلَّة على هذه الدعوى هو أنَّ الشهيد الصدر يقوم بالبحث عن العوامل الذاتيَّة المؤثِّرة على الاجتهاد، ليجعلَ منها طريقاً لمنع نفوذ الخطأ عند الالتفات إليها، والاحتراز عنها بعد التعرِّف إليها. والشاهد على ذلك ملاحظة جزءٍ من كلامه يقول فيه: «لأنَّ النصوص لا تبرز ـ في الغالب ـ مضمونها التشريعي أو المفهوميّ ـ الحكم أو المفهوم ـ إبرازاً صريحاً محدَّداً، لا يقبل الشكَّ في أيِّ جهةٍ من جهاته، بل كثيراً ما ينطمس المضمون أو تبدو المضامين مختلفة وغير متَّسقة… نريد في هذا الضوء أن نقرِّر حقيقةً عن المذهب الاقتصاديّ، ونحذر من خطرٍ قد يقع خلال عمليَّة الاكتشاف» (25) .

وأمَّا العامل الثالث أي (تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه) فيذكر الشهيد الصدر في تحديده لهذا العامل من عوامل الخطأ التي يقع فيها المجتهد في عمليَّة الاستنباط مستفيداً من الدليل الشرعيّ المعروف بـ (التقرير) التالي: «في بعض الأحيان يجد الممارس نفسه يعيش واقعاً عامراً بسلوكٍ اقتصاديٍّ معيَّن، ويحسُّ بوضوح هذا السلوك وأصالته وعمقه، إلى درجةٍ يتناسى العوامل التي ساعدت على إيجاده، والظروف المؤقَّتة التي مهَّدت له . فيخيَّل له أن هذا السلوك أصيل، حادثة، أو من الممكن أن يكـون كذلك على أقـل تقدير. ولنذكر لذلك على سبيل المثال: الإنتاج الرأسمالي في الأعمال والصناعات الاستخراجيّة، فإنَّ الواقع اليوم يغصّ بهذا اللون من الإنتاج، الذي يتمثَّل في عمل أجراء يستخرجون الموادَّ المعدنيَّة من ملح أو نفط، ورأسماليّ يدفع إليهم الأجور… ويؤمنون على أساس هذا التصوّر: بأنَّ هذا النوع من الإجارة كان موجوداً في عصر التشريع… إنّ هؤلاء الذين يستدلّون بدليل التقرير على صحَّة تلك الإجارة ومقتضياتها لم يعيشوا عصر التشريع، ليتأكَّدوا من تداول هذا النوع من الإجارة في ذلك العصر» (26) .

إذاً، في عمليَّة الاستنباط يحمل المجتهد نوعاً من المعرفة المرتبطة بمجالٍ خاصٍ يرى فيه أنَّ نوعاً من الظروف الاجتماعيّة والعلاقات الاجتماعيّة في عصره

________________________________________

(25) – م. ن، ص 383

(26) – م. ن، ص 391

لها الأصالة، ولعلَّه يَصل بها إلى عصر التشريع، ثمَّ يستفيد من دليل السنّة (التقرير) نوعاً من العلاقة المنسوبة إلى الشرع. وكما هو الملاحظ فإنَّ هذا النوع من الخطأ في الفهم يرجع إلى المجتمع، ولكنَّ الشهيد الصدر يرى في الوقت ذاته أنّ بإمكان المجتهد الاحتراز عنه، أي إنَّ الشهيد الصدر يرى أنَّه لا وجود لعلاقة جبريَّة بين المجتمع والمعرفة.

وأمَّا العامل الرابع أي (اتِّخاذ موقفٍ معيَّنٍ بصورةٍ مسبَقةٍ تجاه النصّ) وهو العامل المرتبط بالاتِّجاه النفسيّ المسبَق لدى المجتهد عن النصّ فإنَّ هذا العامل هو أيضاً من العوامل التي تشكِّل خطراً على عمليَّة الاستنباط. والمراد من هذا العامل أن يتَّجه المجتهد إلى النصِّ من خلال الذهنيَّة الخاصَّة التي يمتلكها. والأمر المهم في هذا المجال هو أنَّه قد يصل الأمر إلى أنَّنا لا يُمكننا الحديث عن الصحّة القطعيَّة للنصِّ، يقول: «حتَّى لو تأكَّدنا أحياناً من صحّة النصّ، وصدوره من النبيّ أو الإمام ، فإنَّنا لن نفهمه إلا كما نعيشه الآن، ولن نستطيع استيعاب جوّه وشروطه، واستبطان بيئته التي كان من الممكن أن تُلقي عليه ضوءاً» (27) .

وكلام الشهيد الصدر هذا يَقترب بشكلٍ كبيرٍ من مباحث الهرمنيوطيقيا. ولعلَّ بالإمكان أن ننسب إليه القول بوجود نوعٍ من الفهم العصريّ اعتماداً على هذا الكلام. والمُستفاد من هذا الكلام أنَّ فهمنا ومعرفتنا عن نصٍّ ما يَبقى محدوداً بمقتضيات زماننا، وهذه المقتضيات لا تخرج عن المجتمع وعن العلاقات الاجتماعيّة الحاكمة في عصرنا. إذاً، بهذا اللحاظ فإنَّ فهمنا ومعرفتنا تخضع لتأثير الظروف الاجتماعيَّة المهيمنة، بل إنّ ذلك يتمُّ بنحوٍ جبريّ.

نعم هذه التعابير قد تكون محكومة لنوعٍ من الجبر؛ أيّ إنَّ هذه التأثيرات حتميَّة في مستويات من الفهم البشريّ، بمعنى أنَّ أيَّ مجتهدٍ وباحثٍ لا يمكنه أن يخرج عن الأفق الذهنيّ المتعلِّق بالمحيط الاجتماعيّ الذي يعيش فيه، وهذا هو عين علاقة المجتمع بالمعرفة، بل ليس هذا سوى تبنٍّ للحد الأدنى من علم

________________________________________

(27) -م. ن، ص 396

اجتماع المعرفة. وبناء عليه نجد شواهد على أنَّ الشهيد الصدر يتبنَّى وإلى حدٍّ ما علم اجتماع المعرفة، إلا أنَّ يكون مراده من المحيط الذهنيّ ودائرة معرفة اللغة ما يكون غير مرتبطٍ بالخارج ولا بالاجتماعيَّات ولكن هذا ما لم يذكره، فالاحتمال الأوَّل هو الأقوى.

ملاحظة الأبعاد الاجتماعيّة للنصّ

في معرض حديثه عن أحد الفقهاء يُلفِت الشهيد الصدر النظر إلى مسألةٍ يرى أنَّ غالب الفقهاء قد غَفِلوا عنها. وهذه المسألة تتمثَّل في إثبات أنَّ المدلول الاجتماعيّ للنصّ شيءٌ مختلفٌ ومتمايزٌ عن المفهوم اللغويّ واللفظيّ للنصِّ الشرعيّ، وأنَّ الفهم والتفسير الاجتماعيّ للنصِّ الدينيّ هو عنصرٌ أساس في عمليّة الاجتهاد. ويذكر في هذا المجال التالي: «هل يصل الشخص الذي يحاول فهم النص إلى المعنى النهائيّ له بكلِّ حدوده وأبعاده، إذا أحصى الدلالات اللفظيّة من وضعيَّة وسياقيَّة، واستوعب المُعطَى اللغويّ للنصّ؟

والجواب بالإيجاب والنفي معاً، فالجواب بالإيجاب إذا افترضنا أنَّ هذا الشخص الذي يُحاول فهم النصِّ الشرعيّ إنسانٌ لغويٌّ فحسب، أي إنسان تلقَّن اللغة وحياً وإلهاماً فهو يعرف اللغة ودلالات الألفاظ الوضعيَّة والسياقيَّة وليست له أيُّ خبرةٍ من نوعٍ آخر، فإنَّ هذا الإنسان اللغويّ الذي لا توجد له خبرة سوى الخبرة اللغويَّة سوف يَنتهي عمله في فهم النصِّ عند جمع الدلالات الوضعيَّة والسياقيَّة وتحديد الظهور اللفظي على أساسها.

والجواب بالنفي إذا كان الشخص الذي يُحاول فهم النصّ قد عاش الحياة الاجتماعيَّة مع سائر العقلاء من أفراد نوعه في مختلف المجالات الحياتيَّة، فإنَّ الأفراد الذين يَعيشون حياةً اجتماعيّةً من هذا القبيل تتكوَّن لديهم خبرة مشتركة، وذهنيَّة موحَّدة، إلى جانب ما يتميّز به كلُّ فردٍ من خُبرات، واتِّجاهات، وتلك الخبرة المشتركة والذهنيَّة الموحَّدة تشكِّل أساساً لمرتكزاتٍ عامَّة وذوقٍ مشترَك

________________________________________

في مجالات عديدة بما فيها المجال التشريعي والتقنيني، والمرتكَزات العامَّة والذوق المشترك في المجال التشريعيّ والتقنينيّ هو ما يُطلق عليه الفقهاء في الفقه اسم مناسبات الحكم والموضوع.

فيقولون مثلا: إنَّ الدليل إذا دلّ على أنَّ من حاز ماءً من النهر أو خشباً من الغابة ملكه، نفهم منه أنّ كلّ من حاز شيئاً من الثروات الطبيعيّة الخام ملكه، دون فرق في ذلك بين الماء والخشب وغيرها؛ لأنَّ مناسبات الحكم والموضوع لا تسمح بجعل موضوع الحكم محصوراً في نطاق الخشب والماء فحسب. مثالٌ آخر: إذا جاءت الرواية في ثوبٍ أصابه ماءٌ تنجَّس وأَمرت بغسل الثوب أو شيءٍ آخر؛ لأنَّ مناسبات الحكم والموضوع المرتكزة في الذهنيَّة العرفيَّة العامَّة لا تقبل أن تنجيس الماء المتنجِّس خاصٌّ بالثوب، فالثوب يُعتبر في الرواية قد جاء على سبيل المثال لا التحديد.

ومناسبات الحكم والموضوع هذه هي في الواقع تعبير آخر عن ذهنيَّةٍ موحَّدة، وارتكازٍ تشريعيّ عامٍ، على ضوئه يَحكم الفقيه بأنَّ الشيء الذي يُناسب أن يكون موضوعاً للتملُّك بالحيازة أو للتنجّس بالماء أوسع نطاقاً من الأشياء المنصوص عليها في الصيغة اللفظيَّة، وهذا هو ما نعنيه بالفهم الاجتماعيّ للنصّ.

وهكذا نعرف أنَّ الفهم الاجتماعيّ للنصِّ معناه فهم النصِّ على ضوء ارتكازٍ عام يَشترك فيه الأفراد نتيجةً لخبرةٍ عامَّة وذوقٍ موحّد، وهو لذلك يَختلف عن الفهم اللفظيّ واللغويّ للنصّ الذي يعني تحديد الدلالات الوضعيَّة والسياقيَّة للكلام.

ويأتي دور الفهم الاجتماعيّ للنصّ حين ينتهي دور الفهم اللفظيّ واللغويّ له. فإنَّ الفقيه في الدرجة الأولى يحدِّد المُعطَى اللغويّ واللفظيّ للنصّ، ثمَّ بعد أن يعرف معنى اللفظ يُسلِّط عليه الارتكاز الاجتماعيّ ويدرس المعنى بالذهنيَّة الاجتماعيَّة المشتركة، (مناسبات الحكم والموضوع) فيظهر له من النص أشياء جديدة» (28) .

________________________________________

(28) – الاجتهاد والحياة، حوار على الورق، إعداد السيد محمد الحسيني، مقالة الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، ص162 ـ 164.

من الواضح بناءً على هذا الكلام أنَّ الذهنيَّة المشتركة التي تحصل لدى الإنسان بسبب الحياة الاجتماعيَّة ـ والتي يراها الشهيد الصدر أمراً عرفيّاً ـ لها دورٌ أساسٌ في فهم النصّ وفي العمليَّات العلميَّة للفقيه. بل إنَّ ملاحظة هذه الجنبة الاجتماعيّة وإدارك هذا النوع من الإدراك المشترك هو الذي يجعل الفقيه متمكناً من الوصول إلى الرأي الصحيح والمراد الواقعيّ للنصّ. ومن هنا يمكن الحكم بأنَّ الشهيد الصدر يرى أنَّ بعض أبعاد الحياة الاجتماعيّة (المعارف المشتركة والارتكاز العام) لها تأثيرها على معرفة الإنسان (الفقيه والباحث) وفهمه. وهذا الأمر يُمكن استكشافه بوضوحٍ من النصِّ التالي للشهيد الصدر: «الخبرة المشتركة والذهنيَّة الموحَّدة تشكِّل أساساً لمرتكزاتٍ عامّةٍ وذوقٍ مشتركٍ في مجالات عديدة بما فيها المجال التشريعيّ والتقنينيّ» (29) .

بل إنَّ المستفاد من كلامه أنَّ خصوصيَّة الذهنيَّة المشتركة ليست خصيصة العقل البشريّ، بل هي نتاج الحياة الاجتماعيَّة؛ أي إنَّ هذا النوع من التلقِّي لم ينشأ من المنطق المستقلِّ للعقل، بل هو فهم يحصل لدى العقل بسبب العلاقات الاجتماعيَّة. وعلى فرض صحَّة هذا النوع من الاستظهار من كلمات الشهيد الصدر فإنَّه لا شكَّ في أنَّ هذا الرأي فضلاً عن كونه لا يتنافى مع علم اجتماع المعرفة في صورته المعدَّلة كحدٍّ أدنى، فهو ينسجم تماماً مع هذا الشكل المعدَّل من علم اجتماع المعرفة.

دائرة الفهم الاجتماعيّ المستفاد من النصوص

يرى الشهيد الصدر أنَّ (الشيخ محمَّد جواد مغنيّة) هو أوَّل من بنى في الفقه أوسع نظريَّة لعنصر الفهم الاجتماعيّ للنصّ، يُعالج فيها بدقَّةٍ وعمق الفرق بين المدلول اللغويّ ـ اللفظيّ للنصِّ، والمدلول الاجتماعيّ ويحدّد للمدلول الاجتماعيّ حدوده المشروعة (30) .

ويَنقل الشهيد الصدر عن كتاب فقه الإمام جعفر الصادق (عليه ‏السلام) للشيخ محمَّد

________________________________________

(29) – م. ن، ص 163.

(30) – م. ن، مقالة الفهم الاجتماعي للنص في فقه الإمام الصادق، ص 160.

جواد مغنيَّة قاعدةً تعيّن حدود الفهم الاجتماعيّ للنصِّ الذي يجوز الاعتماد عليه في استنباط الحكم من النصّ، وتتلخَّص القاعدة فيما يلي: إذا كان النصُّ مرتبطاً بالعبادات فيجب فهمه على أساس لغويٍّ ولفظيٍّ فقط، ولا يجوز أن يُفهم على أساس ارتكازٍ اجتماعيّ مسبَق؛ لأنَّ نظام العبادات نظام غيبيّ لا تحكم عليه الارتكازات الاجتماعيّة ولا صِلَة لها به، وأمَّا إذا كان النصُّ مرتبطاً بمجالٍ حياتيّ اجتماعيّ من قبيل المعاملات فيجيء دور الفهم الاجتماعيّ للنصّ؛ لأنَّ للناس في هذا المجال ارتكازهم المشترك وذهنيَّتهم التي حدَّدتها الخبرة والتعايش (31) .

إرجاع الفهم الاجتماعيّ لأصل حجيَّة الظهور

يوجّه الشهيد الصدر هذا النوع من الفهم الاجتماعيّ للنصوص من خلال إرجاعه إلى أصل حجيَّة الظهور، والتي هي أمر عقلائيّ ثابتٌ ومستدَلٌّ عليه. ويذكر الشهيد الصدر في بيانه لذلك التالي: «أمَّا المبرِّر للاعتماد على الارتكاز الاجتماعيّ في فهم النصِّ فهو نفس مبدأ حجيّة الظهور؛ لأنّ هذا الارتكاز يُكسِبُ النصَّ ظهوراً في المعنى الذي يتّفق معه، وهذا الظهور حجّة لدى العقلاء كالظهور اللغويّ؛ لأنّ المتكلّم بوصفه فرداً لغوياً يُفهم كلامه فهماً لغوياً، وبوصفه فرداً اجتماعيَّاً يُفهم كلامه فهماً اجتماعيَّاً، وقد أمضى الشارع هذه الطريقة في الفهم» (32) .

والملاحظ في كلام الشهيد الصدر أنَّ هذا الفهم الاجتماعيّ الذي نجده متداولاً في كلمات الكثير من الفقهاء والأصوليِّين تحت عنوان (العرف وارتكاز العقلاء) ونحو ذلك، هو نوع من الدلالة ـ إلى جانب الدلالة الوضعيَّة والسياقيَّة ـ يَظهر من النصّ ومن الكلام. وأصل حجيَّة الظهور الذي هو المستمسك لإثبات سائر الدلالات والاعتماد عليها هو الدليل على إثبات هذا النوع من الدلالة أيضاً وهي تتساوى مع سائر الدلالات ولها نوع ارتباطٍ بها. ولذا لعلَّ بالإمكان توضيح رأي الشهيد الصدر بالنحو التالي: للمجتمع والعلاقات الاجتماعيَّة الحاكمة نفوذ عن طريق اللغة في المعرفة واستظهار الإنسان. وبناء عليه فإنَّ للمجتمع تأثيراً

________________________________________

(31) – م. ن، ص 164.

(32) – م. ن، ص 165.