نظريَّة المعرفة والتوالد الذاتيّ عند السيّد الصدر

534

نظريَّة المعرفة والتوالد الذاتيّ عند السيّد الصدر

الدكتور علي التميمي (*)

المقدِّمة

المذهب الذاتيّ:هو المذهب الثالث في نظريَّة المعرفة الذي قام بدراسة الدليل الاستقرائيّ مع المذهَبين اللذين سبقاه، وهما: المذهب العقليّ في المعرفة الذي يقوده أرسطو المعلِّم الأوَّل، والمذهب التجريبيّ في المعرفة الذي نادى به جمهرةٌ من الفلاسفة المحدَثين وعلى رأسهم (جون ستيورت ميل) الإنكليزيّ، و(دافيد هيوم) الذي يتَّجه اتجاهاً سيكولوجيَّاً في المذهب التجريبيّ، والدكتور زكي نجيب محمود المصري ونزعته الترجيحيَّة.

وظلَّ المذهب العقليّ لأرسطو يقود نظريَّة المعرفة عبر مقولة التوالد الموضوعيّ لآلاف السنين؛ حتَّى جاء فيلسوفنا محمَّد باقر الصدر، المولود (1313هـ) الموافق (1933م)؛ ليكتشف المذهب الذاتيّ في نظريَّة المعرفة، ويُدافع عن نظريَّته بقوَّة البيان الفلسفيّ وصحَّة الاستنتاج الرياضيّ وسلامة المنطق الذي ينظِّم الفكر البشريّ.

ولم يتوقَّف السيد الصدر(قدس‏ سره) عند مناقشة التوالد الموضوعيّ في نظريّة المعرفة وبيان الثغرة الفكريَّة فيه، وإنّما قام بدراسة الفكر الأرسطيّ عموماً ابتداءً

________________________________________

(*) باحث في الفكر الإسلامي، من العراق.

 

من مفهومه عن الاستنباط والاستقراء، وألغى تقسيم الاستقراء إلى استقراءٍ كاملٍ وناقصٍ حسب منهجة أرسطو، وناقش نظريَّة المعرفة بتفاصيلها الفكريَّة الرياضيَّة والمنطقيَّة والفلسفيَّة.

ودرس القضايا العقليَّة القبليَّة وموقف أرسطو منها، وبيَّن ما هو قضيَّة عقليّة قبليّة أوّليّة وما هو ليس كذلك عند أرسطو، واختلف معه في كثيرٍ من المواقف ابتداءً من مبدأ عدم التناقض وتفسير أرسطو للبرهان وتقسيماته للاستقراء إلى كاملٍ وناقصٍ.

ويؤكِّد السيِّد الصدر ـ كما سوف يأتي في بيان أفكاره ـ على أنّ الاستقراء الناقص فقط هو الذي يَسير دليله من الخاصِّ إلى العام؛ خلافاً لمقولة أرسطو في هذا الصدد.

ثمَّ درس العلم الإجمالي، والسببيَّة ونظريَّة الاحتمال، ووضع تعريفاً جديداً للاحتمال.

ودرس المـذهب التجريبيّ بمـدارسه الثـلاث: اليقينيّة والترجيحيّة والسيكولوجيّة، وأظهر الثغرات الفكريّة الفلسفيّة في مبانيها جميعاً، وردّ مقولتها في أَنّ التجربة والحسّ هما المصدر الأساس للمعرفة البشريَّة؛ في الوقت الذي لم ينكر فيه دور التجربة والحسّ في المجال العلميّ والمعرفيّ.

وناقش (جون ستيوارت ميل)، و(دافيد هيوم)، و(زكي نجيب محمود)، و(لابلاس) و(بروني) و(رُسل)، وقبل ذلك ناقش ابن سينا والطوسيّ من الفلاسفة المسلمين، وقاد معهم دفَّة الحوار الفلسفيّ المُمتِع ـ كما سوف نرى ـ بثقة الفيلسوف العارف والمؤمن الواثق بربّه وبدينه وبأفكاره، واستعمل في كلِّ ذلك لغة العلم والأدب، والكيمياء والفيزياء الذريَّة والبيولوجيا، وكان في كلِّ ذلك فارساً رائداً يعرف أين يضع قلمه، وكيف يصوغ أفكاره، وماذا يريد من محاوره وماذا يطمح أن يقدِّم لقارئه.

________________________________________

 

ولم ينسَ أن يجعل من أُطروحته هذه، عبر إعادة دراسة وصياغة نظريَّة المعرفة، أن يجعلها ملحمةً للفكر الإيمانيّ، وساحةً من ساحات الجهاد والفتوح، ربط فيها العليَّة بالخالق، والاستقراء بالتوازن الفكريّ الموصِل إلى آفاق الإيمان؛ ليجعل ملحمة الفكر هي ملحمة الفكر الموسوعيّ الذي يكون شاهداً على المتحاورين في كلِّ عصرٍ وفي كلِّ مكان؛ حتَّى ليحقُّ لنا ـ إن جازت التسميات السابقة بحق الفلاسفة والمفكِّرين ـ أن نسمِّي السيِّد الصدر بالمعلِّم الرابع، بعد أن سُمِّيَ أرسطو المعلَّم الأوّل والفارابي بالمعلّم الثاني والمحقّق الداماد بالمعلِّم الثالث.

بل إنّ اكتشافات السيّد محمّد باقر الصدر وقدرته على إعادة صياغة نظريّة المعرفة بكلِّ مصادرها وملاحمها الفلسفيّة والمنطقيّة والرياضيّة تجعله يحتلُّ مكان الصدارة في الأُستاذيّة والمستشاريّة المعرفيّة لأهل الرأي والفكر المعرفيّ.

الدليل الاستقرائيّ في مرحلة التوالد الذاتيّ

التوالد الذاتيّ:هو مذهب السيِّد محمد باقر الصدر في نظريَّة المعرفة، وهو المذهب الثالث من المذاهب التي تعرَّضت لشرح نظريّة المعرفة بعد أن كان أوّلها المذهب العقليّ وثانيها المذهب التجريبيّ.

ويقول السيّد الصدر في هذا الصدد: «إنّ المذهب الذاتيّ هو اتِّجاهٌ جديد في نظريَّة المعرفة، يختلف عن كلٍّ من الاتِّجاهين التقليديِّين اللذين يتمثّلان بالمذهب العقليّ والمذهب التجريبيّ» (1) .

والتمييز الأساس بين هذه المذاهب الثلاثة على النحو التالي: توجد نقطتان رئيستان في تفسير المعرفة البشريّة:

الأولى:تحديد المصدر الأساس للمعرفة، فالتجريبيِّون يؤمنون بأنّ التجربة والخبرة الحسيّة هي المصدر الوحيد للمعرفة. والعقليُّون يؤمنون بوجود قضايا ومعارف يُدركها العقل بصورة قبليّة، ومستقلّة عن الحسّ والتجربة، وأنّ هذه

________________________________________

(1) الأسس المنطقية للاستقراء: ص123.

 

القضايا تشكّل الأساس للمعرفة البشريّة، والمذهب الذاتيّ يتَّفق في هذه النقطة مع المذهب العقليّ.

الثانية:تفسير نموِّ المعرفة، بمعنى آخر هذه المعارف القبليّة الأوّليّة كيف يمكن أن تنشأ منها معارف جديدة؟

وفي هذه النقطة يختلف المذهب الذاتيّ مع المذهب العقليّ، والذي أحبُّ من الآن فصاعداً أن أسميِّه بالمذهب الموضوعيّ؛ لأنّ كلا المذهبين هما من المذاهب العقليّة، ولكنَّهما يختلفان في التفاصيل التي تخصّ نموّ الذاتيّ، فالمذهب العقليّ الموضوعيّ لا يعترف إلاّ بطريقةٍ واحدةٍ لنموِّ المعرفة؛ وهي طريقة التوالد الموضوعيّ، بينما يرى المذهب الذاتيّ أنّ في الفكر طريقتين لنموِّ المعرفة: إحداهما التوالد الموضوعيّ، والأخرى التوالد الذاتيّ (2) .

والفرق بين الموضوعيّ والذاتيّ هو الفرق بين الإدراك ـ وهو الذاتيّ ـ والموضوع المدرك؛ وهو الموضوعيّ.

والتَّوالد الموضوعيّ يعني أنَّه متى ما وجد تلازم بين قضيّة أو مجموعةٍ من القضايا وقضيّة اُخرى، فبالإمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضيّة من معرفتنا بالقضايا التي نستلزمها.

فمعرفتنا بأنّ زيداً إنسان، وأنّ كل إنسان فانٍ تتولَّد منها معرفة بأنّ زيداً فانٍ، وهذا التّوالد موضوعيّ؛ لأنّه نابعٌ من التلازم بين الجانب الموضوعيّ من المعرفة المولِّدة والجانب الموضوعيّ من المعرفة المتوالِدة. وهذا التّوالد هو الأساس في كلِّ استنتاج يقوم على القياس الأرسطيّ؛ لأنّ النتيجة دائماً ملازمة للمقدّمات في القياس.

والتوالد الذاتيّ:يعني أنّه بالإمكان أن ينشأ ويولد علم على أساس معرفة اُخرى، دون تلازم بين موضوعَي المعرفتين، وإنّما يقوم التلازم والتّوالد على

________________________________________

(2) م. ن، ص124.

أساس التلازم بين نفس المعرفتين. فالتلازم هنا هو بين الجانبين الذاتيّين للمعرفة، وهذا التلازم غير تابعٍ للتلازم بين الجانبين الموضوعيّين.

والمذهب العقليّ الموضوعيّ ذهب إلى أنّ كلَّ استدلالٍ استقرائيّ مردّه إلى قياس يشتمل على كبرى عقليّة قبليّة تقول: إنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر باستمرار على خطٍّ طويل، وصغرى مستمدَّة من الخبرة الحسيّة، تقول: إنّ (أ) و(ب) اقترنا باستمرار على خطٍّ طويل.

وعلى هذا، فالمذهب العقليّ يفسِّر جميع العلوم والمعارف التي يَعترف بصحَّتها من الناحية المنطقيَّة بأنّها: إمَّا معارف أوليَّة تعبّر عن الجانب العقليّ القبليّ من المعرفة البشريّة، وإمَّا أن تكون مستنتَجة من تلك المعارف على أساس طريقة التّوالد الموضوعيّ.

بينما يذهب المذهب الذاتيّ إلى أنّ الجزء الأكبر من تلك العلوم والمعارف مستنتَج من معارفنا الأوليَّة بطريقة التوالد الذاتيّ، فهناك معارف عقليَّة أوَّليّة قبليَّة مثل: مبدأ عدم التناقض، ومثال المعارف الثانويّة المستنتَجة بطريقة التوالد الموضوعيّ: نظريّات الهندسة الإقليديَّة، ومثال المعارف الثانويّة المستنتَجة بطريقة التّوالد الذاتيّ: كلُّ التعميمات الاستقرائيّة (3) .

وقد استطاع المذهب الذاتيّ الذي يقوده السيِّد محمّد باقر الصدر أن يُبرهِنَ لأنصار المذهب العقليّ الموضوعيّ على أنّ طريقة التّوالد الموضوعيّ ليست هي الطريقة الوحيدة التي يَستعملها العقل في الحصول على معارف ثانويّة، بل يَستعمل إلى جانبهـا أيضاً طريقـة التّوالد الذاتيّ؛ لأنّ العـلم الاستقرائيّ لا يُمكن أن يكون نتيجةً للتَّوالد الموضوعيّ؛ لأنّه في نظر المذهب الذاتيّ أنّ الرأي الأرسطيّ أخطأ في الاعتقاد بطابعٍ عقليّ قبليّ لقضيّةٍ ليست من القضايا العقليَّة القلبيَّة، وكذلك أخطأ في الاعتقاد بحاجة الدليل الاستقرائيّ على مصادرات قبليَّة أيضاً (4) .

________________________________________

(3) م. ن، ص127.

(4) م. ن، ص66.

وقد سجّل السيِّد الصدر بجدارةٍ سبعة اعتراضات منطقيَّة على العلم الإجماليّ الأرسطيّ والمبدأ الأرسطيّ، وكشف أنّ هذا المبدأ غير عقليّ ولا قبليّ، وبالتالي عدم كونه الأساس المنطقيّ للاستدلالات الاستقرائيَّة.

الاعتراض الأوّل:يقوم على أساس عدم تفسير العلم الإجماليّ على أساس التمانع والتضادّ بين الصدف النسبيّة.

الاعتراض الثاني:أنّ التمانع والتضاد بين الأشياء لا يوجد جميعه نتيجة للتمانع والتضادّ بينهما.

الاعتراض الثالث:أنّ العلم الإجمالي الذي يمثِّله المبدأ الأرسطي ليس قائماً على التشابه والاشتباه.

الاعتراض الرابع:عدم وجود علم إجماليّ قبليّ قائم على أساس التشابه والاشتباه.

الاعتراض الخامس:الصدفة لا تتكرَّر على خطٍّ طويل إذا كان موجوداً لدينا حقاً علم إجماليٌ؛ لأنّه ليس علماً قبليّاً.

الاعتراض السادس:الاعتقاد الاستقرائيّ بسببيّة (أ) لـ (ب) يتناسب عكسيّاً مع مقدار احتمالات وجود (ت) في التجارب الناجحة.

الاعتراض السابع:أنّ العلم الإجمالي ليس علماً عقلياً معطىً لنا بصورةٍ مباشرةٍ، بل هو وليد عددٍ كبيرٍ من الاحتمالات (5) .

ثمَّ أوضح السيِّد الصدر: أنّ الخطأ في إدراك قضيّةٍ ثانويّة مستنتَجةٍ بطريقةِ التّوالد الموضوعيّ يَستند دائماً إلى الخطأ في إحدى القضايا ـ المقدِّمات ـ التي ساهمت في توليد تلك القضيّة الجديدة، فإمَّا أن يكون الخطأ في قضايا من الفئة الأولى، أو في قضايا التلازم التي تتمثَّل في الفئة الثانية. وضرب مثالاً لذلك، وهو مثال: (النفط سائل)، فإذا قلنا: إنّ كلَّ سائل يتبخَّر بدرجة مائة من الحرارة، وكلَّما

________________________________________

(5) م. ن، ص64.

كان شيء عنصراً من فئةٍ وكانت عناصر تلك الفئة تتَّصف بصفةٍ فإنّ ذلك يستلزم أن يتَّصف ذلك الشيء بتلك الصفة، واستنتجنا من ذلك أنّ النفط يتبخَّر بدرجة مائة، فكانت النتيجة خطأً؛ لأنّ القضية الثانية من القضايا الثلاث التي ساهمت في التوليد خط (6) .

ثمّ بيَّن السيِّد الصدر أنّ هذه الطريقة الجديدة للتوالد ذاتياً لا يُمكن إخضاعها للمنطق الصوَريّ أو الأرسطيّ الذي يُعالج التلازم بين أشكال القضايا؛ إذ لا تقوم طريقة التّوالد الذاتيّ على أساس التلازم؛ لأنّ التوالد ذاتيٌّ وليس موضوعيَّاً.

ثمَّ يستدرك السيّد الصدر أنّ هذا لا يمكن أن يكون سبباً لأيِّ استدلالٍ خاطئ، بل ما يقصده السيد الصدر هو أنّ جزءاً من المعرفة التي يؤمن بها العقليّون على الأقل لم يتكوَّن على أساس التّوالد الموضوعيّ، وإنّما تكوَّن على أساس التّوالد الذاتيّ.

والسيِّد الصدر يذهب بعيداً في الغور في أعماق الفكرة، ويقول: إنّ المنطق الأرسطيّ ببنائه المعروف لايستطيع الإجابة عن ذلك، ولذلك فنحن بحاجة إلى منطقٍ جديد؛ إلى منطقٍ ذاتيّ يكتشف الشروط التي تجعل طريقة التّوالد الذاتيِّ معقولةً، لذلك يذهب إلى سرد هذه النقطة الجوهريَّة بالطريقة التالية، حيث يقول:

إنّ كلَّ معرفةٍ ثانويّةٍ يحصل عليها العقل على أساس التّوالد الذاتيّ تمرُّ بمرحلتين؛ إذ تبدأ مرحلة التّوالد الموضوعيّ. وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة الاحتماليَّة، وينمو الاحتمال باستمرار، ويسير نموّ الاحتمال في هذه المرحلة بطريقةٍ التّوالد الموضوعيّ حتّى تَحظَى المعرفة بدرجةٍ كبيرةٍ جداً من الاحتمال؛ غير أنّ طريقة التّوالد الموضوعيّ تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين، وحينئذٍ تبدأ مرحلة التّوالد الذاتيّ؛ لكي تُنجِزَ ذلك وترتفع بالمعرفة إلى مستوى اليقين.

________________________________________

(6) م. ن، ص128.

 

ويُمكن بيان ذلك بالمخطَّط التالي:

معارف ثانويّة توالد موضوعيّ نموّ الاحتمال احتمال كبير توالد ذاتي تصعيد الاحتمال الكبير جداً اليقين.

والسيّد الصدر يذهب بعد ذلك إلى اعتبار التعميمات الاستقرائيّة كلّها تمرّ بهاتين المرحلتين، ففي مرحلة التّوالد الموضوعيّ يتَّخذ الدليل الاستقرائيّ مناهج الاستنباط العقليّ (7) .

وتنمو باستمرار درجة احتمال القضيَّة الاستقرائيَّة على أساسِ موضوعيّ، وفي المرحلة الثانية يتخلّى الدليل الاستقرائيّ عن منهجه الاستنباطيّ وطريقته في التّوالد الموضوعيّ، ويصطنع طريقة التّوالد الذاتيّ؛ لتصعيد المعرفة الاستقرائيّة إلى درجة اليقين.

ولهذا قام السيِّد الصدر بشرح نظريَّة الاحتمال وإعادة صياغتها بما يتلاءم مع المنطق الجديد الذي دعا إليه وبشَّر به من خلال شرحه للمذهب الذاتيّ، فقد قام بتفسير الاحتمال تفسيراً منطقيّاً، ودرس بديهيَّات الاحتمال، وقواعد حساب الاحتمال.

وبيّن أنّ البديهيات الستّ للاحتمال يجب أن تُلاحظ عند تفسير الاحتمال، وأنّ تُعطي مفهوماً تصدق عليه تلك البديهيَّات (8) .

ثمَّ استعرض قواعد حساب الاحتمالات، وهي كالتالي:

أولاً: قاعدة الجمع في الاحتمالات المتنافية:

وهنا بيّن أنّ اجتماع حادثتين غير محتمل في النتائج المتنافية، فيصدق أنّ احتمال إحدى الحادثتين يُساوي مجموع الاحتمالين، وبيَّن أنّ هذا تطبيق للبديهيّة السادسة (بديهيّة الانفصال).

ثانياً: مجموع الاحتمالات في المجموعة المتكاملة يساوي واحداً:

وفي ذلك قرّر أنّ مجموع احتمال الحالات المتكاملة يساوي واحداً صحيحاً؛

________________________________________

(7) م. ن، ص131.

(8) م. ن، ص140.

وهكذا حينما نقذف قطعة النقد نعتبر حالة ظهور الصورة وحالة ظهور الكتابة مجموعة متكاملة؛ لأنّ إحدى الحالتين لا بدّ أن تظهر، ولا يمكن أن تظهر أكثر من حالة واحدة.

ثالثاً: قاعدة الجمع في الاحتمالات غير المتنافية:

ونضرب لها مثالاً: إذا كانت لدينا حالتان، هما: (أ) و (ب) محتملتان، وكان من المحتمل اجتماع الحالتين معاً، وأردنا أن نعرف قيمة احتمال (أ) أو (ب) فليس بالإمكان أن نحدِّد قيمة هذا الاحتمال عن طريق جمع قيمة احتمال (أ) مع قيمة احتمال (ب)، كما كنّا نصنع في الحالات المتنافية؛ لأنّ احتمال المجموع موجود هنا، وهو يدخل في كلٍّ من احتمال (أ) واحتمال (ب)، فلا بدَّ أن نطرح قيمة احتمال المجموع من مجموع قيمتي الاحتمالين لكي تصل إلى قيمة احتمال (أ) أو (ب).

رابعاً: قاعدة الضرب في الاحتمالات المشروطة:

ومعنى ذلك أنّ كلَّ احتمالٍ يتأثَّر بافتراض صدق احتمالٍ آخر يسمَّى احتمالاً مشروطاً.

خامساً: قاعدة الضرب في الاحتمالات المستقلّة:

وهي الاحتمالات غير المشروطة التي لا يتأثَّر بعضها بافتراض صدق بعضها الآخر، من قبيل: نجاح خالدٍ في المنطق، واحتمال أن ينجح زيد في الرياضيّات، فإنّ قيمة احتمال نجاح زيد في الرياضيّات تُساوي قيمة احتمال نجاحه على افتراض نجاح خالد، ويسمّى هذا النوع من الاحتمالات بـ (الاحتمالات المستقلّة).

سادساً: مبدأ الاحتمال العكسيّ:

أي إنّ احتمال تفوّق طالب في الفيزياء على أساس الظروف العامّة وافتراض

________________________________________

تفوِّقه في الرياضيّات يُساوي احتمال تفوِّقه في الفيزياء على أساس الظروف العامّة مضروباً في احتمال تفوُّقه في الرياضيَّات على أساس الظروف العامّة، وافتراض تفوُّقه في الفيزياء مقسوماً على احتمال تفوُّقه في الرياضيَّات على أساس الظروف العامّة.

وهذه المعادلة اللازمة عن بديهيّة الاتِّصال تسمّى بـ (مبدأ الاحتمال العكسيّ). فعن طريق الاحتمال العكسيّ حُدِّدَت قيمة احتمال نظريّة الجاذبيّة بعد اكتشاف (نيوتن).

ثمَّ بعد ذلك بدأ السيّد الصدر بتعريف الاحتمال وتفسيره لتنطبق عليه تلك البديهيّات التي تحدّثنا عنها. فالاحتمال لديه عبارة عن نسبة الحالات الموافقة للحادثة المطلوبة (9) . وأوضح أنّ هذا التعريف تنشأ عنه مشكلتان، هما:

الأولى:هي أنّ البديهيات لنظريَّة الاحتمال غير كافيةٍ لتبرير الاحتمال بمعناه الذي يحدِّده التعريف على هذا الأساس، وقد عالج السيِّد الصدر هذه المشكلة بطريقين هما:

1 ـ أنّه أضاف إلى بديهيَّات نظريّة الاحتمال بديهيّةً اُخرى تقول: إنّ الحالات الممكنة إذا كانت متساوية في نسبتها إلى (س) فسوف تتساوى تلك الحالات في قيمها الاحتماليّة بالنسبة إلى (س).

2 ـ أنّ نطوِّر معنى الاحتمال الذي يَستهدف التعريف تحديده وننتزع منه عنصر الشك، ونقصد به النسبة الموضوعيّة بين الحالات المرافقة لـ (ل)، ومجموع الحالات الممكنة، فلا نحتاج بعد ذلك إلى بديهيّةٍ أُخرى.

وهذا يعني أنّ لدينا احتمالين: أحدهما الاحتمال الواقعيّ، وهو معنى يستبطن التصديق، والآخر الاحتمال الرياضيّ، وهو عبارة عن نسبة الحالات المرافقة لـ (ل) في مجموع الحالات.

________________________________________

(9) م. ن، ص157.

الثانية:وهي ترتبط بالتفسير المتساوي، وذهب السيّد الصدر إلى تفسير هذا التساوي واعتبر في هذا التساوي النسبيّ أن هناك علاقة بين كلِّ حالةٍ من الحالات الممكنة (س)، وأنّ هذه العلاقة لها درجات.

وهنا لا بدَّ من أن يحاول السيِّد الصدر تفسير العلاقة التي تربط (س) بكلِّ حالةٍ من الحالات الممكنة بدون افتراض الاحتمال في محتوى تلك العلاقة، وهذا يعني أنّ العلاقة يجب أن تكون ثابتة بصورة مستقلَّة في عالم الاحتمال واليقين، وقائمةً بصورةٍ موضوعية بين قضيَّتين.

ثمَّ يستطرد الشهيد الصدر فيقول في معرض شرحه لهذه النقطة الفكريّة: إنّنا في النهاية نجد أنفسنا أمام علاقتين هما: علاقة الاحتمال وعلاقة الإمكان، فلا يمكن تفسير التساوي المفترَض في التعريف على أساس أيّة واحدةٍ منهما، فلا علاقة الاحتمال الذاتيَّة تصلح أساساً للتساوي المفترض؛ لأنّ هذا يجعل التعريف يفرض الاحتمال بصورةٍ مسبَقةٍ، ولا علاقة الإمكان الموضوعيّة تصلح أساساً للتساوي المفترض؛ لأنّ هذه العلاقة ليس لها درجات (10) .

تعريف الاحتمال على أساس التكرار

نظريّة التكرار المتناهي

أخذ السيِّد الصدر على عاتقه التصدّي لهذه النظريّة، وإمكانيّة التعريف الجديد للاحتمال الذي قامت على أساسه هذه النظريّة؛ ليتعرَّف إلى إمكانيّة التخلّص من المشاكل التي واجهت التعريف السابق أم لا.

وهذا التعريف يتعرَّض إلى فئتين ـ مثلاً فئة العراقيين، وفئة الأذكياء ـ وهما كليّان؛ لكلٍّ منهما أعضاؤه وأفراده الموجودة فعلاً.

فهناك فعلاً عراقيُّون، وهناك فعلاً أذكياء، وهناك فئة ثالثة هي فئة العراقيّين الأذكياء؛ تشتمل على الأعضاء الداخلين في كلا الفئتين فعلاً.

________________________________________

(10) م. ن، ص164.

والسيّد الصدر يرى أنّ هذا التعريف يفي ببديهيّات الاحتمال المتقدِّم، كما أنّه يتخلّص من الاعتراضات التي أُثيرت ضدّ التعريف السابق.

ولكن هذا التعريف يواجه اعتراضاً جديداً، وهو أنّه لا يشمل كلَّ المجالات التي يُمكن للاحتمال الرياضي أن يمتدّ إليها؛ بمعنى أنّ هناك مجالات يمكن فيها تحديد الاحتمال رياضيّاً ولا يشملها التعريف، فيُعتبر من هذه الناحية ناقصاً؛ ولذلك رأى السيد الشهيد الصدر أنّه من الضروريّ دراسة الاحتمال الواقعيّ والاحتمال الافتراضيّ.

الاحتمال الواقعيّ والاحتمال الافتراضيّ

ويمكن التمييز بين الاصطلاحين من خلال العبارات التالية:

إذا أخذنا عراقيّاً ولا ندري هل هو ذكي أم لا، فنقول: من المحتمل بدرجة كذا أن يكون ذكيّاً.

وبعبارة اُخرى: نفترض عراقياً، ونقول: إذا كان هذا الإنسان عراقياً، فمن المحتمل بدرجة كذا أن يكون ذكيّاً. فالعبارة الأُولى تتحدَّث عن احتمال واقعيّ، وشكٍ حقيقيّ، وبالإمكان إزالة هذا الاحتمال وتبديله إلى يقينٍ بجمع المعلومات عن هذا الفرد.

والعبارة الثانية تتحدَّث عن احتمالٍ افتراضيّ؛ أي عن يقينٍ في صورة الشكّ.

وبهذا نعرف أنّنا في القضية الأُولى نتحدَّث عن قضيّة مشكوكٍ فيها؛ لجهلنا بالظروف المحيطة.

وأمّا القضية الثانية، فنحن نتحدَّت عن احتمال افتراضيّ، فهي قضيَّةٌ يقينيَّةٌ مستنتَجةٌ من المبادئ الرياضيّة وبديهيّات نظريَّة الاحتمال استنتاجاً، ولا ترتبط هذه القضية بأيّة درجة من الجهل، ولهذا يمكن لله سبحانه مثلاً أن يقرّرها كما نقرّرها.

________________________________________

والسيّد الصدر يرى أنّ الاحتمال الواقعي يشتمل دائماً على قضيَّتين، وما دامت القضيَّتان على نهجٍ واحدٍ فلكلٍّ منهما الحقّ في تمثيل الاحتمال الرياضيّ ـ ولكنَّ السيّد الصدر يرى كذلك أنّ هذه العلاقة لا يُمكن استنتاجها من المبادئ المتقدِّمة لنظريَّة الاحتمال فحسب؛ لأنّ المبادئ المتقدِّمة بإمكانها أن تحدِّد نسبة التكرار في الذكاء، ولكن ليس بإمكانها أن تقرّر أنّه في حالة اطلاعنا على أنّ هذا الفرد المعيّن عراقي، وعدم اطّلاعنا على أيّ شيءٍ آخر لا بدَّ أن تكون درجة الاحتمال مطابقةً لتلك النسبة، فلا بدّ لاستنتاج هذا التطابق من بديهيّةٍ أُخرى، ولكنّه يفترض الآن أنّ التطابق حاصل إلى أن يأتي وقت البديهيّة الأُخرى.

ويَحتاج السيّد الصدر هنا إلى شرطين لتحديد أساس تعريف الاحتمال:

الأوَّل:أن يكون عدد أعضاء (ل) المنتمين إلى (ح) في مجموع أعضاء (ل) بما فيهم (هـ)، معلوماً، فإذا افترضنا أنّ مجموع أعضاء (ل) عشرة وأنّ أحدهم هو (هـ)، فلابدَّ أن نعرف أنّ عدد الأعضاء المنتمين من هؤلاء العشرة إلى الفئة (ح).

الثاني:أن نفترض أنّ أسس التعريف البديهيَّة القائلة بالتطابق بين نسبة عدد الأعضاء المشتركة إلى مجموع أعضاء (ل)، ودرجة احتمال كون (هـ) منتمياً إلى (ح)، فإذا توفَّر هذان الشرطان أمكن تطبيق التعريف على الاحتمال الواقعيّ في الحالة الأولى كما ينطبق على الاحتمال الافتراضيّ فيه(11) .

ويستدرك السيِّد الصدر إلى أنّ في هذا القول شيئاً من التناقض؛ لأنّنا حين نتحدَّث عن الاحتمال الواقعيّ بشأن (هـ) نعني أنّنا لم نختبر شأن (هـ)، ولم نتأكَّد من عضويّتها لكلتا الفئتين، سلباً أو إيجاباً، فإذا جعلنا الشرط الأوّل في تحديد هذا الاحتمال على أساس التعريف المتقدّم بأن نكون على علمٍ بعدد الأعضاء المنتمين إلى (ح) في مجموعة (ل) بما فيها (هـ) كان معنى ذلك أنّنا قد افترضنا اختيار

________________________________________

(11) م. ن، ص170.

حال (هـ) والتأكّد من انتمائه إلى (ح) إيجاباً أو سلباً، وهذا يؤدِّي إلى تناقضٍ فحواه أنّه لكي نحدِّد درجة احتمال انتماء (هـ) إلى (ح) يجب أن نتأكَّد أنّها منتمية أو غير منتمية.

وحلُّ هذا التناقض هو أنّنا في بعض الأحوال نستطيع أن نعرف عدد أعضاء فئة (ل) المنتمين إلى (ح) دون أن نشخِّص تلك الأعضاء في أفراد محدّدة، فمعرفة عدد الأعضاء المشتركة لا يجب أن تستبطن معرفة حال (هـ) والتأكّد من انتمائه إلى (ح) إيجاباً أو سلباً.

ومن تلك الأحوال ما إذا حصلنا بعد ذلك على أيّ عددٍ كبيرٍ من أعضاء (ل) عن طريق الاستقراء، فإنَّنا إذا حصلنا بعد ذلك على أيِّ عددٍ كبيرٍ من أعضاء (ل) فسوف نعرف على أساس الاستقراء عدد الأعضاء المنتمية إلى (ح) دون أن نشخِّص حالَ كلِّ عضوٍ بالذَّات.

ثمَّ يستعرض السيّد الصدر محاولة (رَسْل) التي حاول فيها أن يُثبِتَ شمول التعريف. ومن المحاورات التي أدارها في هذا الباب قوله:

إنّ مبدأ الاستقراء نفسه يرتكز على الاحتمال، وليس الاحتمال الذي يرتكز على الاستقراء تكراراً، بل هو نوع آخر رغم أنّ كلَّ استقراء يشتمل على تكرّر.

فنحن حينما نستقرئ عدداً من أعضاء الفئة التي تنتمي إليها الدالّة على وجود زرادشت مثلاً ونلاحظ أنّها صادقة بنسبة معيّنة نجد في هذا الاستقراء تكراراً، ولكن مبدأ الاستقراء الذي يبرّر تعميم النتيجة على سائر أعضاء الفئة لا يستند إلى الاحتمال بوصفه مجرّد تعبير عن هذا التكرار، بل يستند إلى الاحتمال بمعنىً آخر، وسوف يقوم بتوضيحه السيّد الصدر في بحوث اُخرى من أُطروحته حول التّوالد الذاتيّ.

________________________________________

ثمّ يقول: إذا كان مبدأ الاستقراء يرتكز على احتمال غير تكراريّ فلا بدّ من تعريف للاحتمال على هذا الأساس.

تعريف جديد للاحتمال

وحتّى يستكمل السيّد الصدر أُطروحته حول الاحتمال بدأ بتعريفٍ جديدٍ يَستبدل فيه التعريفين السابقين. وقدَّم لذلك باستذكار البحث حول العلم الإجماليّ وهو العلم بشيءٍ غير محدّدٍ تحديداً كاملاً.

وقسَّم العلم الإجماليّ بعد ذلك إلى قسمين:

الأوّل:هو العلم الإجماليّ الذي تكون أطرافه متنافية.

الثاني:هو العلم الإجماليّ الذي تكون أطرافه غير متنافية. وواضح أنّنا نواجه في حالة كلِّ علمٍ إجماليّ:

أولاً: العلم بشيءٍ غير محدَّد (كلي).

ثانياً: مجموعة الأطراف التي يعبِّر كلُّ عضوٍ فيها ممثلاً احتماليّاً للمعلوم أي يحتمل أنّه هو ذلك الشيء غير المحدّد.

ثالثاً: مجموعة الاحتمالات التي يُطابق عددها عدد مجموعة الأطراف؛ لأنّ كلَّ طرفٍ من أطراف العلم الإجماليّ يحتمل أن يكون هو الممثّل للمعلوم.

ثمّ بدأ بتوضيح تعريفه للاحتمال في صيغتين:

تعريف الاحتمال:إنّ الاحتمال الذي يمكن تحديد قيمته هو دائماً عضو في مجموعة الاحتمالات التي تتمثَّل في علمٍ من العلوم الإجماليّة، وقيمته تساوي دائماً ناتج قسمة رقم اليقين على عدد أعضاء مجموعة الأطراف التي تتمثّل في ذلك العلم الإجماليّ.

فالاحتمال عند السيِّد الصدر هو تصديقٌ بدرجةٍ معيَّنةٍ ناقصةٍ من درجات الاحتمال، وهو احتمالٌ رياضيٌّ ومنطقيٌّ من البديهيَّات المفترَضة لنظريَّة الاحتمال.

________________________________________

 

ثمَّ بيَّن أنّ هذا التعريف يشتمل على النقاط التالية:

1 ـ وفاء التعريف بالبديهيَّات المفترَضة لنظريَّة الاحتمال.

2 ـ تذليل الصعوبات التي يمكن أن يواجهها التعريف.

3 ـ انسجام هذا التعريف مع الجانب الحسابيّ من نظريَّة الاحتمال.

4 ـ استيعاب هذا التعريف لتلك الاحتمالات التي لم يستطع تعريف الاحتمال على أساس التكرار أن يستوعبها.

5 ـ قائمة البديهيّات الإضافيّة لهذا التعريف.

الضرب والحكومة في العلوم الإجماليّة

وقد بيَّن السيّد الصدر أنّ هذه الحكومة يُمكن أن نقدِّمها بوصفها البديهيّة الإضافيّة الثالثة. وأهمُّ نتيجةٍ تؤدِّي إليها هذه البديهيّة الإضافيّة الثالثة هي أن نبرهن على الخطأ في تطبيق مبدأ الاحتمال العكسيّ، فإنّ هذا المبدأ يَستبطن قاعدة الضرب.

العوامل المثبِتة في الحكومة

إنّ القيمة الاحتماليّة النافية حاكمة على القيمة الاحتمالية المثبتَة لقضيّةٍ ما، والعامل الذي يُضعف احتمال الطرفيّة يحكم على تلك القِيَم.

الفرضيّات التي تُعني ببديهيىّ الحكومة

ويوضح السيِّد الصدر أنّ هناك فرضيَّتين تُعنيَان ببديهيَّة الحكومة وتحقِّقان شروطها:

الفرضيَّة الأولى:أن يكون المعلوم بالعلم الإجماليّ الأوّل يتَّصف بصفة، وتكون هذه الصفة بمثابة اللازم الأعم لأحد طرفي العلم الإجمالي، ولا يكون بينها وبين الطرف الآخر للعلم الاجمالي تلازم إيجابيّ أو سلبيّ، بمعنى أنّ الطرف الآخر من المحتمل أن يكون متَّصِفاً بها ومن المحتمل أن لا يكون متَّصِفاً بها.

________________________________________

ففي هذه الحالة تُصبح قيمة احتماليّة نافية لاتِّصاف الطرف الآخر بذلك اللازم حاكمةً على القيمة الاحتماليّة المثبِتة للطرف الآخر والمستمرّة من العلم الإجماليّ الأوّل.

الفرضيّة الثانية:أن نحصل على علمٍ بأنّ المعلوم الإجمالي الأوَّل يتَّصف بصفة، وهذه الصفة ليست لازمةً لأيِّ واحدٍ من الطرفين، وإنّما هي ممكنة ومحتمَلة في أيِّ واحدٍ منهما، ففي هذه الحالة تُصبح أيُّ قيمةٍ احتماليّة نافية بدرجةٍ أكبر ثبوت تلك الصفة أو تُثبِت بدرجةٍ أكبر ثبوتها في طرفٍ، حاكمةً على القيمة الاحتماليّة المسبَقة.

الحكومة في الأسباب والمسبِّبات

إذا وجدنا فئتين كلُّ واحدةٍ منهما تشكِّل مجموعة الأطراف لعلم إجماليّ، وكانت أعضاء الفئة الأولى أسباباً لأعضاء الفئة الثانية:

فالقِيَم الاحتماليّة التي يحدِّدها العلم الإجماليّ الذي يضمُّ الفئة الأولى (12) حاكمةٌ على القِيَم الاحتماليَّة التي يحدِّدها العلم الإجماليّ الذي يَضمُّ الفئة الثانية، وهذه الحكومة كذلك تفسر على أساس البديهيّة الإضافيّة الثالثة.

انطباق الحكومة على الواقع

وهنا يُمكن القول إنّ الحكومة التي ثَبتَت لبعض القِيَم الاحتماليّة على بعض وفقاً للبديهيَّة الثالثة والرابعة تُطابق الواقع، وهذا يعني أنّ الواقع يَتطابق مع افتراض القِيَم الاحتماليّة المستمدَّة من العلم الإجماليّ في مرحلة المسبِّبات؛ محكومة للقِيَم المستمدَّة من العلم الإجماليّ في مرحلة الأسباب.

العلوم الإجماليّة الحمليّة والشرطيّة

القضيّة تنقسم إلى قضيّة حمليّة وقضيّة شرطيّة، فالحمليَّة تتحدَّث عن وقوع شيءٍ أو نفيه، والشرطيَّة تتحدَّث عن العلاقة الشرطيّة بين شيئين مثل: إذا كانت

________________________________________

(12) م. ن، ص214.

 

الشمس طالعة فالنهار مضيء. وعلى هذا الأساس يَنقسم العلم الإجماليّ إلى حمليّ وشرطيّ.

العلوم الشرطيّة ذات الواقع المحدّد

والعلوم الإجماليّة الشرطيّة تنقسم إلى قسمين:

الأوّل:العلم الإجماليّ الشرطيّ الذي يكون لشرطه جزاء معيّن في الواقع مثل: إذا استعملت الدواء الفلانيّ فسيحدث في جسمي الحالة (1) أو (2) و(3)، فإذا سألت خبيراً أخبرني عن الثاني.

الثاني:العلم الإجماليّ الشرطيّ الذي نفترض في جزائه بدائل متعدِّدة ولا يوجد له في الواقع جزاء محدَّد عن تلك البدائل.

وهكذا يكون العلم الإجماليّ الشرطيّ الذي يتحدّث عن جزاء غير محدّد في الواقع فهو في هذه الحالة لا يَصلح أن يكون أساساً لتنمية الاحتمال.

فالعلم الإجماليّ الشرطيّ لا بد أن يكون معبِّراً عن جزاء محدّد في الواقع. وهنا بدأ السيِّد الصدر تلخيص دراسته عن نظريّة الاحتمال بالنتائج التالية:

1 ـ أنّ الاحتمال يقوم دائماً على أساس علمٍ إجماليّ.

2 ـ أنّ نظرية الاحتمال على أساس هذا التعريف تشتمل إلى جانب بديهيّات الحساب الأوليّة على خمس بديهيّات إضافيّة، هي:

أ ـ أنَّ العلم الإجماليّ يَنقسم بالتساوي على أعضاء مجموعة الأطراف التي تتمثَّل فيه.

ب ـ إذا أمكن تقسيم أحد أطراف العلم الإجماليّ دون أن يُناظره تقسيم للأطراف الأُخرى، فهذه الأقسام إمَّا أصليَّة وإمَّا فرعيَّة، فإذا كانت أصليَّة كان كلُّ قسمٍ من أقسام الطرف عضواً في مجموعة أطراف العلم الإجماليّ، وإذا كانت الأقسام فرعيَّة، فالطرف عضوٌ واحدٌ.

________________________________________

 

3 ـ القيمة الاحتماليَّة النافية حاكمةٌ على المثبتة.

4 ـ أنّ التقييد المصطنع للكلي المعلوم بالعلم الإجمالي في قوّة عدم التقيّد.

5 ـ كلَّما كان العلم الإجمالي الشرطيّ يتحدَّث عن جزاءٍ غير محدَّد في الواقع فلا يصلح أن يكون أساساً لتنمية الاحتمال.

ثم بيّن أنّ البديهيَّة الإضافيّة الثانية هي تحديد وتفسير لموضوع البديهيّة الأولى. كما أنّ البديهية الرابعة تقوم بتحقيق مصداق للبديهيّة الإضافيّة الثالثة.

إنّ قاعدة الضرب هي مستنتَجة من البديهيَّات السابقة.

وإلى هنا تكون نظريَّة الاحتمال بكلِّ أبعادها واضحة، وهي التي سيقوم السيِّد الصدر بتفسير الدليل الاستقرائيّ باعتباره تطبيقاً بحتاً لها.

موقف السيّد الصدر من المرحلة الاستنباطيّة

(على مستوى التّوالد الموضوعيّ)

وفي البداية يُسارع السيّد الصدر لإبداء غرضه من هذا البحث، وهو محاولته لإثبات أنّ الاستقراء يمكن أن ينمِّي قيمة احتمال التعميم، ويرتفع به على درجة عالية من درجات التصديق الاحتماليّ مستنبطاً ذلك من نفس نظريّة الاحتمال وبديهيَّاتها من دون حاجةٍ إلى مصادرات إضافيّة يختصّ بها الدليل الاستقرائيّ.

أيّ إنّ الاستقراء عند الشيهد الصدر ما هو إلاّ تطبيقٌ للاحتمال بتعريفه وبديهيّاته التي مرّت في بحث نظريّة الاحتمال، ويُمكن عن طريقه إثبات التعميم الاستقرائيّ بقيمة احتماليّة كبيرة جداً (13).

وهو إذ يميّز طريقته عن الطرق الأُخرى بكلِّ تواضع، فهو يَطرح الطرق الأُخرى ويشرحها قبل محاوله (لا بلاس) في تفسير الدليل الاستقرائيّ، والتي لم تنجح في تفسيره على هذا الأساس، ولم تكتشف مبرِّراته المنطقيّة.

________________________________________

(13) م. ن، ص228.

وهناك محاولة (رسل) الفيلسوف البريطاني الذي ادَّعى الحاجة إلى مصادرات خاصّة، وهو رأي غالبيَّة المفكِّرين المعنيِّين بدراسة الدليل الاستقرائيّ.

ومحاولة السيِّد الصدر ترتكز على افتراض علمٍ إجماليّ يكون عددٌ كبيرٌ من أعضائه وأطرافه مستبطناً أو مستلزماً للقضيّة الاستقرائيّة، فتصبح القضيّة الاستقرائيّة محوراً لعددٍ من القِيَم الاحتماليّة بقدر ذلك العدد من الأعضاء المستبطَن أو المستلزَم للقضيَّة الاستقرائية، ولا بدَّ أن يكون العلم الإجمالي مرناً بشكل يزداد فيه عدد الأعضاء التي تتضمَّن إثبات القضيّة الاستقرائيّة، وينمو هذا العدد تبعاً لازدياد عدد التجارب أو الملاحظات في عمليّة الاستقراء.

وبهذا يُصبح نموّ القيمة الاحتماليّة للقضيّة الاستقرائيّة مطَّرِدَاً مع نموِّ الاستقراء وامتداده.

ثمَّ ينتقل السيد الصدر إلى بيان السببيَّة العقليَّة والتجريبيَّة، ويبيّن الفارق بينهما على النحو التالي:

1 ـ أنّ السببيّة بالمفهوم العقليّ: هي علاقة ضرورة، والسببيّة بالمفهوم التجريبيّ هي علاقة اقتران أو تتابع بصورة مطّردة (صدفة).

2 ـ أنّ السببيّة بالمفهوم العقليّ علاقة واحدة رئيسة بين مفهومين وارتباطات متلازمة، والسببيّة بالمفهوم التجريبيّ تتمثَّل في علاقات بين الأفراد، وكلُّ علاقةٍ تتابع بين فردٍ من الحرارة وفردٍ من الحركة فهي علاقة مستقلَّة عن علاقات التتابع بين الحرارة والحركات الأُخرى.

3 ـ أنّ أفراد المفهوم الواحد متلازمة في علاقاتها السببيَّة على أساس المفهوم العقليّ، وهو مفاد المقولة: «إنّ الأشياء المتماثلة تؤدِّي إلى نتائج متماثلة».

________________________________________

 

أمّا السببيّة الوجوديّة والسببيّة العدميّة

1 ـ أنّ السببيَّة الوجوديّة بالمفهوم العقليّ لا تنفي إمكان الصدفة المطلَقة.

2 ـ أنّ السببيّة الوجوديّة بالمفهوم التجريبيّ تساوي الصدفة المطلقة المتمثِّلة في اقتران وجود شيءٍ بوجود شيءٍ آخر دون أيِّ ضرر.

3 ـ أنّ السببيَّة العدميَّة بالمفهوم العقلي تساوي استحالة الصدفة المطلَقة.

وفي ضوء هذه الإيضاحات يقول السيد الصدر: إنّنا يمكن أن نفهم المواقف القبليَّة الأربعة.

ففي الموقف القبليّ للتطبيق الأوّل: تفترض أنّه لا يوجد أيُّ مبرِّرٍ قبليّ لرفض علاقة السببيّة الوجوديّة بمفهومها العقليّ بين (أ) و(ب) أي للإيمان بعدمها، ونقبل في نفس الوقت السببيّة العدميّة بمفهومها العقليّ الذي يتضمَّن استحالة الصدفة المطلَقة.

وفي الموقف القبليّ للتطبيق الثاني نفترض ـ كما في الأوّل ـ : أنّه لا يوجد أيُّ مبرّرٍ قبليّ لرفض علاقة السببيّة الوجوديّة بمفهومها العقليّ بين (أ) و(ب)، وأمَّا السببيّة العدميّة بمفهومها العقليّ فتفترض أنّه لا يوجد أيُّ مبرِّر قبليّ للإيمان بها، كما لا مبرّر للإيمان بعدمها، وهذا يعني الشك في إمكان الصدفة المطلَقة.

وفي الموقف القبليّ للتطبيق الثالث نفترض ـ كما في الموقفين السابقين ـ : أنّه لا يوجد أي مبرِّر قبليّ لرفض علاقة السببيّة الوجوديّة بمفهومها العقليّ بين (أ) و(ب) للإيمان بعدمها، ولكن يوجد مبرّر قبليّ لرفض علاقة السببيّة العدميّة بمفهومها العقليّ.

وهذا يعني الإيمان المسبَق بإمكان الصدفة المطلَقة، ولا تناقض بين الإيمان بإمكان الصدفة المطلَقة وعدم رفض السببيّة الوجوديّة بالمفهوم العقليّ.

وفي الموقف القبليّ للتطبيق الرابـع نفترض ـ خلافاً للمواقف الثـلاثة

________________________________________