وحدانية الفطرة الانسانية أساس الدين

399

وحدانية الفطرة الانسانية أساس الدين

الشيخ محمود الجياشي

يمثل هذا المقال حلقة مكملة لما تناولته في مقالات سابقة حول موضوع العلاقة بين الدين والفطرة الانسانية .. اذ قلنا أن القرآن يقرر أن الدين قائم على أساس الفطرة في ضوء قوله تعالى :(( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لايعلمون )) الروم : 30 .

فالدين القيّم بحسب منطق القرآن هو الدين المستند الى الفطرة التي لاتبديل لها ، ومن هنا ستكون الفطرة حاكمة على جميع تفاصيل الدين القيّم الذي يأمرنا الله بالتوجّه إليه ..

فالخطاب القرآني  (( فأقم وجهك للدين .. ))

يضعنا أمام هذه الحقيقة :  أن الدين هو الفطرة ، وذلك يعني  أن الاية الكريمة تدفع بالانسان ( صاحب الفطرة ) الى أن يواجه نفسه وحقيقته وجوهره ومحتواه الداخلي العميق وكينونته  ( فأقم وجهك للدين )..  ولكن ماهو الدين ؟ يجيب القرآن : فطرة الله التي فطر الناس عليها ! فإذا كنت أيها الانسان باحثاً عن الدين فلا نطلب منك أولاً الا التوجه الى ذاتك .. وعندما يتحقق هذا التوجه وفي لحظة تأمل عميق  تذوب الاثنينية بين الدين والانسان .. وينصهران في وحدة وجودية تكوينية لايلحظ فيها الا ومضات الكمال واشراقات النور الالهي المتجلية في هذا العالم … وبذلك يكون الدين قيّماً … ويكون حبل الله الذي يستحق أن يعتصم به ! وبه تنتهي الفرقة .. ويرتفع الاختلاف .. ويذهب البغي والظلم … إذ من المؤكد إستحالة أن نتقاطع داخل دائرة الفطرة .. لان مبدأ الحركة الفطرية واحد وغايتها واحدة .. فيستحيل التقاطع في مسارات الفطرة …

ومن هنا نفهم : من قتل نفساً … كأنما قتل الناس جميعاً …

لان الاعتداء على النفس هو في عمقه اعتداء على المحتوى المشترك عند الناس جميعا .. اعتداء على الفطرة .. وسحق لجوهرها … فيكون بمثابة من قتل الناس ( جميعاً ) !!!

ان معادلة ( قتل الناس جميعاً ) لايمكن تفسيرها الا في ضوء وحدانية الفطرة الانسانية واتحاد جوهرها عند جميع الناس…

واستنادا لهذه الوحدانية الفطرية يصبح جميع افراد الانسان مخلوقاً واحداً .. او كالجسد الواحد اذا مرض منه عضو تداعى له سائر الاعضاء بالسهر والحمى ! بالتأكيد  فإن هذا الكيان الوجودي الواحد الكبير الذي نتحد فيه جميعاً سيكون في عمقه منجماً أو ينبوعا مشتركاً لكل القيم السامية التي تحكم حياة الانسان وتستند اليها سعادته الحقيقية.

عندما تتحد الفطرة. تذوب العنصرية والطائفية والمذهبية الدينية بجميع مستوياتها .

ان مقولة ( البشر عائلة واحدة ) بالرغم من مضمونها الايجابي الكبير الا انها لاتعبر عن حقيقة الامر بالمستوى العميق الذي تعبر عنه وحدانية الفطرة … البشر ليسوا عائلة واحدة ذات افراد تجمعهم البنية العائلية القائمة على حفظ المصالح وايفاء حقوق الافراد .. كلا  ! .. بل هم حقيقة واحدة ذات كيان وجودي واحد ..

ان فرض تعدد الفطرة واختلافها بين افراد الانسان يعني في حقيقته وعمقه انهيار جميع اواصر منظومة القيم الانسانية لامحالة .

هل سألنا أنفسنا  : لماذا  يعتصر قلوبنا الالم عندما نرى ظلماً وقع على انسان برئ ؟ ولماذا تملأ قلوبنا الحسرة عندما نرى إنساناً ضعيفاً سلب حقه ؟

ولماذا  ننفجر بالغضب عندما نرى انسانا اعتدي على كرامته وشرفه ؟! ولماذا نشعر أن الاعتداء على الاخرين بغير حق هو اعتداء علينا جميعاً ؟ بل يصل الحال الى أننا نتألم ونذرف الدموع بسبب مشاهدة مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي يعرض دراما لبعض المواقف الانسانية والعاطفية والاخلاقية بالرغم من أننا نعلم  سلفاً أن هذه الدراما مجرد خيال اصطنعه كاتب السيناريو !

ترى ماهي الرابطة بين ذلك كله غير الفطرة التي ننتمي اليها جميعا ؟!

وهل يمكن لانسان ان يدعي أن فطرته تحكم بحسن الظلم .. وقبح العدل ؟!!

او تحكم بحسن الخيانة ! أو قبح اداء الامانة ؟!!!  أو يمكن لانسان أن يبتهج فرحاً  حينما يعتدى على انسان برئ  أمامه !!؟ أو يمكن  لانسان ان يدعي أنه مفطور على حبّ النقص أو عدم حبّ المعرفة  ؟!!    ثم يقول أن لديّ قراءة أخرى لاحكام الفطرة !!

إن دائرة الفطرة وحيثياتها قد تمتد في بعض الحالات الى استهجان القسوة واستنكارها حتى مع الحيوانات …  بل النباتات أيضا لانهما  يشتركان معنا في عنصر ( الحياة ) .. فكثيرا مانتألم قلبياً لقتل حيوان أو قطع شجرة مثلا ً ! ونشعر جوانياً وباطنياً أنه قد أعتدي على جزء من وجودنا الداخلي بمعناه العميق !

لقد اختلفت الوان بشرتنا .. واشكال عيوننا .. وملامح مظهرنا الخارجي .. بسبب ظروف عارضة نظراً لاختلاف العوامل الطبيعية للحياة في هذا العالم .. وتشعبت أنسابنا وابتعدنا عن بعضنا البعض الى المستوى الذي نشعر ان الاخرين اجانب علينا وهم من ( جنسيات ) أخرى !! في حين أننا لو تجاوزنا هذه الفوارق البدنية وعدنا الى بقايا حقيقتنا الانسانية التي فطرنا عليها لم نجد اثراً لاختلاف لون البشرة وحجم الجسم أو بعض الصفات ال

بدنية التي فرضتها اسباب الطبيعة وعوامل البيئة التي تحكم عالم المادة الذي نعيش فيه …

اننا ابناء لاب واحد .. وسجايانا الحقيقية نابعة من فطرة واحدة .. ولايمكن لكثرتنا العددية واختلاف اشكالنا  وتباعدنا في أقطار الارض أن ينال  من نسبنا الواحد وكينونتنا الاصلية … قد تكون هذه عنصرية انسانية !! وهي صحيحة. لانها ترفض عنصرية لون البشرة أو الانساب الخاصة المحدودة التي تسمى بالعرقية .. وكذلك ترفض العنصرية الدينية وتحطم دوائر المذهبية والفئوية بجميع أشكالها …

ومن هنا تعلق الخطاب الالهي بهذه الحقيقة التي نشترك فيها جميعا .. وهذا النهر الصافي العذب الذي نرتوي منه اصل الحياة  .. لم يتعلق نداء الدين الالهي بفئة من الناس ذات لون محدد او بقعة جغرافية معينة أو بعرق مخصوص من بني البشر .. وانما قال : فطرة الله التي فطر الناس عليها ذلك الدين القيّم !

إن دائرة الفطرة هي أوسع  دائرة وجودية قادرة على جمع أفراد الانسان في مسيرة تكاملية موحدة نحو سعادتهم الحقيقية وكمالهم المنشود … ومن هنا كان الدين المستند الى هذه الدائرة ( قيّماً ) لايمكن أن يتحقق فيه ( الاكراه ) لان الاكراه انما يتحقق فيما لو جاء الطرف المكرِه ( بالكسر ) بشيء مخالف لطبيعة الطرف المكرَه ( بالفتح ) ومنافياً لارادته .. والحال ان الدين المستند الى الفطرة ليس كذلك  ، ومن هنا يقرر القران انه ( لااكراه في الدين ) وليس معنى ذلك ان الاكراه في الدين ممكن ولكنه ممنوع  وأن القرآن ينهى عنه ! كلاّ ! بل لايمكن أصلاً أن يتحقق الاكراه في الدين ..

يقول السيد الطبأطبائي في تفسير الميزان  ج4 ص 135 في معرض حديثه عن الاعتقاد المستند الى الاكراه :

وأمّا تحميل الاعتقاد على النفوس والختم على القلوب وإماتة غريزة الفكرة في الإنسان عنوةً وقهراً والتوسّل في ذلك بالسوط أو السيف أو بالتكفير والهجرة وترك المخالطة فحاشا ساحة الحقّ والدين القويم أن يرضى به أو يشرّع ما يؤيّده،

وإنما هو خصيصة نصرانية، وقد امتلأ تاريخ الكنيسة من أعمالها وتحكماتها في هذا الباب ـ وخاصة فيما بين القرن الخامس وبين القرن السادس عشر الميلاديين ـ بما لا يوجد نظائره في أشنع ما عملته أيدي الجبابرة والطواغيت وأقساه.

ولكن مع الأسف أنّا معاشر المسلمين سلبنا هذه النعمة وما لزمها (الاجتماع الفكريّ وحرّيّة العقيدة) كما سلبنا كثيراً من النعم العظام الّتي كان الله سبحانه أنعم علينا بها لما فرّطنا في جنب الله واستتبع ذلك أن تفرّقت القلوب وظهر الفتور وتشتّت المذاهب والمسالك (وإِنَّ الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) !