عوامل النمو في مدرسة الإمام الصادق (ع)-
عوامل النمو
في مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)
بقلم: فضيلة الأستاذ
الشيخ محمد مهدي الآصفي
بسم الله الرحمن الرحيم
قد يستغرب الباحث إذ درسْ الظروف التاريخية التي ظهر فيها المذهب الجعفري والملابسات التي كانت تحف حياة هذه المدرسة… من أن تنمو هذه المدرسة، وتمتد إلى أقطار واسعة من آسيا وأفريقية وأورپا وأمريكا. وتزدهر وتؤتي ثمارها في مدة يسيرة ناضجة طيبة.
فقد اقترن ظهور المدرسة الجعفرية بسقوط الدولة الأموية وظهور الدولة العباسية وكانت هذه الفترة التي تمتد بين هذين العهدين من التاريخ الإسلامي هي من أنسب الأوقات لظهور مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، بعد أن كانت السلطة الأموية تطاردهم في كل مكان وتقضي على آثارهم ومآثرهم، كلما أُتيح لها ذلك.
في هذه الفترة التاريخية، التي يشبه أن تكون من فلتات الزمان، كما يقال، قام الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) بالمهمة التي عهدها النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى أهل بيته، إذا ما وجدوا الظروف المناسبة لذلك.
فشمّر الإمام الصادق عن ساعد الجد، وأخذ يدعو الناس إلى الإسلام، بعد أن كاد الحكم الأموي أن يقضي على أصول هذا الدين لتدعيم كيانه السياسي.
فاجتمع علماء المسلمين حول الإمام الصادق (عليه السلام) يأخذون منه ويستضيئون بهداه، ويدرسون الكتاب والسنّة عليه، ثم ينتشرون في أقطار الأرض ليتحدثوا إلى الناس بحديث الصادق عن الإسلام.
ولا غرابة في أن يجد الناس جدةً في هذا الحديث، فقد كادت السلطة الأموية أن تحجب الإسلام عن المسلمين في الفترة التي حكمت فيها البلاد الإسلامية ولم ينحسر ظلال الحكم الأموي عن الوطن الإسلامي حتى وجد المسلمون من جديد فرصة للرجوع إلى ظلال الإسلام، ووجدوا في هذه الحياة الجديدة التي قُدّر للإمام الصادق (عليه السلام) أن يرسمها لهم جدة ولذّة، لا تعدلها لذة أخرى.
ولم تتوسع مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) بهذا الشكل، حتى أخذت سلطة الدولة العباسية الناشئة تخشاها على نفسها وما يتصل بها من مصالح السياسة والحكم.
ولذلك حاولت أن تعارض الحركة الجديدة بما يتيسر لها من فنون وأساليب المعارضة، وأن تخلق لهذا الغرض مدارس فكرية معارضة لها، أو تتبنى المذاهب المعارضة وتدعو الناس إليها، قبال هذه المدرسة.
وإذا كانت معاملة المنصور مع أبي حنيفة ومالك ومعاملة الرشيد مع مالك والشافعي إزاء موقفهما المعادي من أهل البيت، ومن الإمام الصادق (عليه السلام)، بشكل خاص يدل على شيء فإنما يدل على مدى شعور السلطة بالخوف من توسع هذه المدرسة ونفوذها بين المسلمين…
ومع ذلك فقد ازدهرت هذه المدرسة التي غرس بذرتها الأولى صاحب الرسالة، وآتت أكلها ناضجة طيبة، وأنشأت عدداً كبيراً من العلماء والفقهاء، في وقت قصير، وامتد ظلالها إلى أقطار واسعة من الأرض.
* * *
وترجع الأسباب التي أدت إلى امتداد ظلال هذه المدرسة في العالم الإسلامي ونفوذها بين طبقات المسلمين إلى أمور ثلاثة:
1ـ شخصية الإمام الصادق (عليه السلام).
2ـ المحتوى الفكري للمدرسة.
3ـ جذور المدرسة الفكرية.
وهذه الجهات الثلاث هي كلما يُعنى الباحث في البحث عن المدارس الفكرية.
وقد قدّر لهذه المدرسة أن تضم إلى أصالة الفكر شخصية الإمام الصادق (عليه السلام) الفذّة وعراقة المذهب.
وأُتيح لها أن تجمع بين هذه الجوانب الثلاثة، على ندرة ما يتفق ذلك لمذهب من المذاهب.
* * *
ولا أجدني بحاجة إلى أن أشير إلى تأثير شخصية الداعية في نجاح الدعوة وتوسعها.
كما لا أجدني بحاجة إلى أن ألمح إلى شخصية الإمام الصادق الفذّة بين معاصريه وبين مَن تقدّمه ومَن تأخّر عنه من أئمة المسلمين. فقد كان العلماء يقبلون على مجلسه من أقطار بعيدة ويتلقون عنه الفقه والحديث والتفسير، ويلقون عليه ما يصعب عليهم من مسائل الفقه والتفسير، ثم يخرجون ليشيعوا ذلك عنه بين الناس، حتى كثر الحديث عنه(1).
وقد بلغ من إقبال الناس عليه أنّ الجهاز الحاكم أصبح يخشاه على مصالحه السياسية ووجد من افتتان الناس به، على حد تعبير المنصور، ما يهدّد موقف الدولة.
قال أبو حنيفة:
ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد، لمّا أقدم المنصور بعث إليّ، فقال: يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيّأ له من المسائل الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة ثم بعث إليّ أبي جعفر المنصور، وهو بالحيرة، فدخلت عليه، وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور، فسلّمت عليه وأومأ فجلست، ثم التفت إليه، قائلاً: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة فقال(عليه السلام):((نعم أعرفه))، ثم التفت المنصور إليّ، فقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد الله مسائلك، فجعلت ألقي عليه فيجيبني،
ـــــــــــــــــــــــ
(1) انظر الصواعق المحرقة.