التقية عند الإمام الصادق (عليه السلام)وأثرها في خدمة الدين -السيد عبد الحسين الحجّار
التقية عند الإمام الصادق (عليه السلام)
وأثرها في خدمة الدين
بقلم فضيلة الأستاذ الخطيب
السيد عبد الحسين الحجّار
بسم الله الرحمن الرحيم
معنى التقية
التقية: الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس إذا كان ما يبطنه هو الحق فإذا كان ما يبطنه باطلاً كان ذلك نفاقاً.
وهي مأخوذة من الوقاية لتدفع عن نفسك الأخطار وتقيها من المخاوف.
هل التقية من مخترعات الشيعة؟
لم تكن التقية فكرة جديدة ولا بدعة جاءت بها الشيعة ولا أمراً مستهجناً ينكره العقل فلقد تكلّم عنها الفلاسفة وعلماء الأخلاق لا بعنوان التقية بل بعنوان: (هل الغاية تبرر الواسطة) وتكلم عنها الفقهاء وأهل التشريع في الشرق والغرب بعنوان: (هل يجوز التوصل إلى غاية مشروعة من طريق غير مشروع) وبعنوان: (المقاصد والمسائل) وتكلّم عنها علماء الأصول بعنوان (الأهم والمهم) واتفقوا على أنّ الأهم مقدّم على المهم، وهذه العناوين كلها تنطبق على التقية التي يقول بها الشيعة ولا تختلف عنها إلاّ باللفظ ولا عبرة باللفظ إذ المقصود هو المعنى(1).
الأقوال في التقية
إنّ التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقال أصحابنا إنها جائزة في الأحوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح، وليس تجوز من الأفعال في قتل المؤمن، ولا يعلم أو يغلب على الظن أنّه استفساد في الدين، قال المفيد (رحمه الله) إنها قد تجب أحياناً، ويكون فرضاً، ويجوز أحياناً من غير وجوب، وتكون في وقت أفضل من تركها، وقد يكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذوراً ومعفواً عنه متفضلاً عليه بترك اللوم عليها، يقول الشيخ أبو جعفر الطوسي (رحمه الله) والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس؛ وقد روى رخصة في جواز الإفصاح بالحق عندها، وروى الحسن أنّ ابن مسيلمة الكذّاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقال لأحدهما: أتشهد بأنّ محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله قال نعم، ثم دعا بالآخر فقال أتشهد بأنّ محمداً رسول الله؟ قال: نعم، ثم قال: أفتشهد أني رسول الله فقال إني أصم قالها ثلاثاً، كل ذلك يجيبه بمثل الأول فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: ((أما ذلك المقتول فمضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئاً له؛ وأمّا الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه)) ثم عقّب الشيخ على هذه الرواية بقوله: (فعلى هذا التقية رخصة والإفصاح بالحق فضيلة) وظاهر أخبارنا يدل على أنها واجبة وخلافها خطأ(2).
الأدلة على التقية
لقد أوضحنا سابقاً أنّ التقية ليست فكرة جديدة ولا من مختصات الشيعة فما ندّد به خصومهم واستهجنوه عليهم أمر لا يستند إلى برهان، ولو ثاب هؤلاء إلى رشدهم، ونفضوا غبار التعصب الذميم عن أعينهم ونبذوا الجهل، ونظروا إلى ذلك بمنظار العلم المتجرد من كل شائبة لعلموا أنّ التقية سواء كان على النفس أو العرض أو المال قد حكم بها الشرع والعقل فمن الكتاب قوله تعالى: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ) (آل عمران).
وجاء في سورة النحل: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وجاء في سورة المؤمن: (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ) وكان هذا الرجل يكتم إيمانه في صدره تقية، يقول أبو عبد الله الصادق التقية من ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له، والتقية ترس الله في الأرض لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل.
ومن السنّة ما رواه الحاكم عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه، قال أخذ المشركون عمّاراً فلم يتركوه حتى سبّ النبي (صلّى الله عليه وآله) وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: ((ما وراءك، قال: شر يا رسول الله، ما تُركت حتى نِلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال (صلّى الله عليه وآله): كيف تجد قلبك، قال: مطمئن بالإيمان قال: إن عادوا فعُد))(3).
وروي أيضاً عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) قال التقاة التكلم باللسان والقلب مطمئن بالإيمان فلا يبسط يده ليقتل، الحديث(4) ومنها قوله (صلّى الله عليه وآله): ((رُفع عن أمتي تسعة أشياء، الخطأ والنسيان، وما استُكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والطيرة والحسد والوسوسة في الخلق)) وقوله (صلّى الله عليه وآله): ((وما اضطروا إليه)) يدل على أنّ الضرورات تبيح المحظورات.
أما العقل فإنّه يحكم بوجوب المحافظة على النفس والعرض والمال فلو أنّ امرأً حلّ بين أقوام يخالفونه في المبدأ وخشي منهم إن هو صرح بعقيدته فالعقل يأمره أن يخلد إلى التقية ويتكتم في عقيدته وإن لم يسمح حكم الشرع في ذلك، كيف وقد نهى القرآن عن إلقاء النفس في المهالك قال تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ويقول تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) والشريعة الإسلامية سمحة سهلة ولا يكلّف الجليل جلّ وعلا فوق الطاقة: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)(5) إلى غير ذلك من الآيات التي تنفي العسر والحرج في الدين والشريعة، فهذا الذي يأمر به الكتاب والسنّة ويحكم به العقل هو الذي تقول به الشيعة فهل يسوغ لأحد بعد سرد هذه الأدلة أن يعد هذا رياءً ونفاقاً اللهم إلاّ مَن حَرمه الله لذة العقل.
التقية لم تنفرد بها الشيعة
لقد أوضحنا فيما سبق أنّ التقية مما حكم العقل بوجوبها عند الاضطرار فهي أمر فطري غريزي عند الإنسان فكتمان العقيدة عند الخوف والكذب عند الاضطرار لم تلتزم به طائفة دون أخرى ولقد اعترف علماء العامة بالتقية، وقالوا بوجوبها إن تعذرت المهاجرة، وقال الغزالي في الجزء الثالث من إحياء العلوم، في باب: (ما رُخِّص فيه من الكذب) (وفي عصمة دم المسلم واجبة): (فمهما كان القصد سفك دم مسلم قد اختفي من ظالم فالكذب فيه واجب)(6) ويقول الفخر الرازي بعد نقله الأقوال في التقية، روى عوف عن الحسن أنّه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة، وهذا القول أولى لأنّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان).
أما السيوطي فإنّه يقول: (يجوز أكل الميتة في المخمصة وإساغة اللقمة في الخمر والتلفظ بكلمة الكفر ولو عمّ الحرام قطراً بحيث لا يوجد فيه حلال إلاّ نادراً فإنّه يجوز استعمال ما يحتاج إليه)(7).
ويقول الجصّاص عند تفسير قوله تعالى: (إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً) (يعني أن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ وعليه الجمهور من أهل العلم)(8).
وقال ابن برهان الدين الحلبي الشافعي: (لمّا فتح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خيبر قال له حجاج ابن علاط: يا رسول الله إنّ لي بمكة مالاً وإنّ لي بها أهلاً وأنا أريد أن آتيهم فأنا في حلٍ إن أنا نِلت منك وقلت شيئاً، فأذنَ له رسول الله أن يقول ما يشاء)(9).
فأنت ترى أنّ التقية لا مجال لنكرانها ولا يسع هؤلاء بعد الإطلاع على هذه النصوص من الكتاب والسنّة إلاّ الاعتراف بها والعمل بموجبها في مقام الاضطرار ولكن بالرغم من هذا الاعتراف نراهم يندّدون بالشيعة ويعدّون ذلك عليهم عاراً ووصمة وإنّه تستّر بالنفاق والرياء.
فهذا موسى جار الله يعترف بالتقية فيقول ما هذا لفظه: (نعم التقية في سبيل حفظ حياته وشرفه وفي حفظ ماله واجبة على كل أحد إماماً كان أو غيره) فهو مع هذا الاعتراف بوجوب التقية وضرورتها عند هذه الأمور التي ذكرها تراه يعيب الشيعة ويصفهم بكل وصمة كأنهم التزموا بالتقية لغير حفظ الحياة والشرف والمال، فيقول في مسائله التي بعث بها إلى علماء الشيعة قال: (ولكتب الشيعة في حيلة التقية غرام قد شغفها حُباً الخ) ولقد تطرّف هذا الرجل في كتاب الوشيعة فوصف الشيعة بالنفاق فقال وهو يصف تقية الشيعة: (بأنّ روحها النفاق وثمرتها كفر التهود) ولقد علّق الأستاذ الدكتور علي الوردي على هذه الجملة وناقشه مناقشة هادئة قال: (والظاهر أنّ الأستاذ جار الله لم يذق طعم الاضطهاد السياسي في حياته، فهو يقول عن التقية إنها نفاق ونسى أنّ عمّار بن ياسر كان بهذا الاعتبار أول منافق، في الإسلام)(10).
والأمر الذي هو أنكى وأمر جرأته على الأئمة من أهل البيت ووصف أعمالهم بالتقية أنها لم يقصد بها وجه الله وذلك طعن في الدين والعصمة إلى غير ذلك من الهراء وسخف القول الذي استساغه عقل موسى جار الله ولقد ردّ عليه جماعة من العلماء، لأنه بعث بهذه المسائل إلى علماء الأمامية بواسطة جمعية الرابطة في النجف الأشرف في شهر ذي القعدة سنة 1353هـ فردّ عليه علماؤنا وأجابوه عن مسائله أجوبة شافية ومن بينهم المغفور له الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه أجوبة مسائل موسى جار الله(11).
واعترف بالتقية محمد رشيد رضا في تفسير المنار فقال وهو يفسر قوله تعالى: (إِلاّ أَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) بعد نقل الأقوال في التقية: (فمن نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك لا شارحاً بالكفر صدراً ولا مستحسناً للحياة الدنيا على الآخرة لا يكون كافراً بل يعذر كما عُذر عمار بن ياسر الخ) ثم ندّد بالشيعة وعابهم قال: (وينقل عن الشيعة أنّ التقية أصل من أصول الدين جرى عليه الأنبياء والأئمة، وينقل عنهم في ذلك أمور متناقضة مضطربة وخرافات مستغربة)(12) وما أدري ما هذا التناقض والخرافات التي ينسبها للشيعة أليست التقية حكماً قد قرّره الشرع والعقل، والشيعة إنما التزموا بهذا الحكم ولم يحيدوا عنه، أليس ذلك كذلك يا صاحب المنار، نعم الباعث لذلك هو الحقد الدفين والجهل الذميم نسأله تعالى المعافاة بما ابتلى به هذا وأمثاله، والشيعة إنما أخلدوا إلى التقية حفظاً على حياتهم وبقياً على أرواحهم من ملوك الجور وسلاطين السوء من أمويين وعباسيين فصبّ عليهم الأمويون سوط عذابهم وأُصيبوا بوابل من التنكيل والقتل والصلب وقطع الأيدي والأرجل وصلبهم على جذوع النخل وسمل أعينهم للظنة والتهمة وأدنى سبب تافه وهكذا فعل العباسيون وغيرهم من أمراء الجور والملوك الظلمة، ولو ابتلى أهل السنّة بعُشر ما ابتلى به الشيعة من الاضطهاد السياسي لاعتنقوا التقية ولازموها ملازمة الظل للشاخص كما فعلوا أيام هولاكو، وجنگيز خان، وهكذا فعلوا حين دعا المأمون إلى القول بخلق القرآن فأجابه كثير من خيار أهل السنّة مع أنهم يقولون بقدمه فاظهروا خلاف ما يدينون به تقية من المأمون وخوفاً منه.
والتزموا بالتقية أيام الفاطميين فأظهروا خلاف ما يبطنون وغير الفقهاء مذاهبهم تقية من السلطان واستمع إلى محمد كرد علي حيث يقص لنا تلك الحوادث قال وهو يذكر اضطهاد العلماء ونفيهم وتشريدهم وإهانتهم: (ومع هذا فقد لحق الاضطهاد بالفقهاء قليلاً لأنهم كانوا متصلين بأصحاب السلطان وسهل عليهم تغيير مذهبهم خصوصاً إذا كانوا من أهل السنّة حتى لا يستهدفوا لغضب السلطان أو يحرموا مناصب القضاء والفتيا وغيرها من المناصب الدينية كالحسبة والإمامة)(13).
وقال في موضع آخر وهو ينعى على السلطة حجرهم على الأفكار وتحريمهم لبعض العلوم كالطبيعيات والرياضيات والتاريخ وتقويم البلدان: (وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران: أحدهما خوف العارفين ـ مع قلّتهم ـ من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق ولا برح الحق عدواً لأكثر الخلق)(14).
اضطهاد الشيعة
لقد قلنا سابقاً أنّ الشيعة كانوا عرضةً للأذى والظلم والقتل والتشريد وحسبك ما فعله معاوية بحجر بن عدي وأصحابه وعمرو بن الحمق الخزاعي وأمثاله وما فعله ابن زياد من إزهاق الأرواح الطاهرة وقتل النفوس البريئة كرشيد الهجري وميثم التمار الأسدي، ومضت الدولة الأموية تنسج على هذا المنوال، وتتّبع طريقة معاوية في تتبع شيعة علي من قتل وتشريد، ولم يكن نصيب الشيعة من هذا الاضطهاد والقتل في الدولة العباسية بأقل مما أصابهم في الدولة الأموية ففي القرن الخامس في سنة 443 قُتل جماعة منهم ونُبشت قبورهم وأحرقوا عظام رجالهم وفي سنة 574 يقول محمد كرد علي، وقع فيها ما لم يتهيأ منذ نحو مائتين وخمسين سنة(15).
ولم يسلم الشيعة من الأذى حتى في أيام الفاطميين فقد روى ابن الأثير مذبحة عظيمة في جميع بلاد أفريقية مُنيت بها الشيعة ففي حوادث سنة 407 إذ قُتل منهم كثيرون واُحرقوا بالنار ونُهبت ديارهم وقُتلوا في جميع بلاد إفريقيا واجتمع جماعة منهم أمام قصر المنصور الفاطمي قرب القيروان فحصرهم العامة وضيّقوا عليهم حتى اشتدّ عليهم الجوع فصاروا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قُتلوا عن آخرهم ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقُتلوا كلهم)(16).
ويقول محمد كرد عليّ: لمّا قدم المعز في القرن الرابع عطّل مذهب الفاطميين وأمر بقتل الشيعة في أفريقية حواضرها وبواديها، فلم يبقَ منهم أحد، وحمل الناس على مذهب الإمام مالك ومنع ما عداه)(17).
وأكثر الشعراء من ذكر هذه المأساة بين حزين تؤذيه قسوتها ومبتهج يستخفه أمرها(18) ويعلّق فرح انطون على هذه الحادثة بقوله أنها شبيهة بمذبحة سان بارثليو(19).
هذا العرض من المآسي الفظيعة والمذابح التي تدمي العيون وتقشعر لها الجلود هو قليل من كثير مما مُنيت به هذه الطائفة، فهل يستطيع أحد والحال هذه أن يصرّح بعقيدته ويعلن بحرية عن آرائه وأفكاره فما له إلاّ أن يقبع برداء التقية ويرتدي رداء الكتمان، لذلك كان الأئمة من أهل البيت يأمرون شيعتهم بالتقية فيقول الإمام الصادق (عليه السلام): ((التقية ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له وإنّ المذيع لأمرنا كالجاحد به))، وقال (عليه السلام) لجماعة من أصحابه كانوا عنده يحدّثهم: ((لا تذيعوا أمرنا ولا تحدّثوا به فإنّ المذيع علينا سرّنا أشد مؤنة من عدونا انصرفوا رحمكم الله ولا تذيعوا سرّنا))(20) وقال (عليه السلام): ((اتقوا على دينكم واحجبوه بالتقية فإنّه لا إيمان لمن لا تقية له ولو عَلم الناس أنكم تحبوننا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ونحلوكم في السر والعلانية رحم الله عبداً منكم كان على ولايتنا)).
ولم يكن الأمر بالتقية وليد عهد الصادق (عليه السلام) بل أمرَ أمير المؤمنين (عليه السلام) شيعته ونبّههم على فوائدها كما يروي ذلك لنا الطبرسي في الاحتجاج: ((وآمرك أن تستعمل التقية في دينك ـ إلى أن يقول ـ وتصون بذلك مَن عُرف من أوليائنا وإخواننا فإنّ ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك وتنقطع به عن عمل في الدين وصلاح إخوانك المؤمنين، وإياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها فإنك شاحط بدمك ودماء إخوانك، متعرض لنفسك ولنفسهم الزوال، وذل لهم في أيدي أعداء الدين، وقد أمرك الله بإعزازهم، فإنك إن خالفت وصيتي كان ضررك على إخوانك ونفسك أشد من ضرر الناصب لنا الكافر بنا)).
الصادق والتقية
ولم يكن العمل بالتقية مقصوراً على أصحابه فحسب بل كان هو نفسه يعمل بها ويتّقي شرّ السلطة الحاكمة آنذاك، لأنّ السلطة الجائرة كانت تراقبه أشدّ المراقبة وتخشى منه لأنهم يرون الناس ينظرون إليه بعين الإكبار والإعظام ويرونه الشخص اللائق للقيام بأعباء الخلافة إذ هو المرشّح لها وعليه تعقد الآمال وتتحقق الأماني فكانت السلطة الجائرة تضيّق عليه الخناق وتطارده وتطارد أصحابه، كان العباسيون يختارون من الولاة أشدّ ما يكون قسوة وانحرافاً عن الصادق (عليه السلام)، هذا داود بن علي كان والياً على المدينة فأرسل خلف المعلّى بن خنيس مولى الصادق وهو أشدّ الناس مواصلة للصادق وأكثرهم خدمة له وأراد أن يدلّه على أصحاب الصادق وخواصه فتجاهل عليه المعلّى بمعرفتهم فألحّ عليه ثم هدّده بالقتل، فقال له المعلّى: أبالقتل تهددني والله لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم إن أنت قتلتني تُسعدني وأشقيتك فلمّا رأى داود شدّة امتناع المعلّى قتله واستلب أمواله.
وكان المنصور قد وضع الرصد عليه وبثّ حوله العيون وكان يبعث هدايا وأموالاً للصادق مع مَن يثق به ليجعل من ذلك مستمسكاً عليه ووثائق يدينه بها ولكنّ الإمام كان يحتاط أشدّ الاحتياط من أعمال هؤلاء وينظر لهذه الأمور نظرة عميقة ويتخلص منها بلباقة، يقول جعفر بن محمد بن الأشعث لصفوان أتدري ما كان سبب دخولنا في هذا الأمر ـ يعني التشيع ـ ومعرفتنا به وما كان عندنا منه ذكر ولا معرفة شيء مما عند الناس؟ قال: قلت له ما ذاك؟ قال: إنّ أبا جعفر ـ يعني الدوانيقي ـ قال لأبي محمد بن الأشعث: يا محمد ابغ لي رجلاً له عقل يؤدي عني فقال له إني قد أصبته لك هذا فلان بن المهاجر خالي، قال: فأتني به، قال فأتيته بخالي فقال له أبو جعفر: يا بن المهاجر خذ هذا المال وائت المدينة وائت عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمد وجماعة آخرين وادفع إليهم هذا المال وقل لهم هذا من شيعتكم بخراسان فإذا قبضوا المال فقل إني رسول وأحب أن يكون معي خطوطكم يقبضون ما قبضتم فأخذ المال وأتى المدينة، فقال له الدوانيقي: ما وراءك؟ فقال: أتيت القوم وهذه خطوطهم بقبضهم المال خلا جعفر بن محمد فإني أتيته وهو يصلّي في مسجد الرسول فجلست خلفه وقلت ينصرف فاذكر له ما ذكرت لأصحابه فتعجّل وانصرف ثم التفت إليّ فقال: ((يا هذا اتق الله ولا تغر أهل بيت محمد فإنهم قريبو عهد من دولة بني مروان وكلهم محتاج)) فقلت: وما ذاك أصلحك الله؟ قال: فأدنى رأسه مني فأخبرني بجميع ما جرى بيني وبينك حتى كأنّه كان ثالثنا فقال له أبو جعفر: يا بن المهاجر اعلم أنّه ليس من أهل بيت نبوة إلاّ وفيهم محدِّث، وإنّ جعفر بن محمد محدّثنا اليوم.
وهذا الاعتراف منه بأنّه يحدّثهم لم يخفف من غلوائه ويطفئ جذوة عداوته بل كان يرقبه ويحصي أنفاسه، وكان يوقفه بين يديه ويسلقه بلسان حديد ويوجّه إليه الكلم القارصة والألفاظ الخشنة لأهانته والحط من كرامته فكان يتّقي شره ولا يخالفه ويؤكد على أصحابه بالكتمان كما تقدّم من وصاياه.
ولم يكن عمله بالتقية مقصوراً أيام المنصور فحسب فقد كان أيام أخيه أبي العباس السفاح يخشى عاديته ويتّقي بطشه ويعمل بفتواه ولو كانت على خلاف رأيه، يحدّثنا المجلسي في البحار عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: ((دخلت على أبي العباس السفّاح بالحيرة فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت: ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا، فقال: يا غلام عليّ بالمائدة فأكلت معه وأنا أعلم والله أنّه يوم من شهر رمضان فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر علي من أن تضرب عنقي ولا يعبد الله)) بهذا وأمثاله استطاع (عليه السلام) أن ينشر معارفه ويبثّ فقه أهل البيت وتستضئ البشرية بأنوار علومه(21).
أما فوائد التقية وأثرها في خدمة الدين فلا أخال أنّ أحداً له حصاة يجهلها، فلولا التقية لما استطاع حفظ نفسه وأصحابه ولما بقي من شيعته أحد، وببقائهم حفظ شريعة محمّد وتركيز العقيدة الإسلامية، فإنّ مَن سبر غور التاريخ ودرس عصر الصادق يعلم مواقف الإمام تجاه الزنادقة وأهل البدع والإلحاد، ويعرف كيف كان الإمام يصد هجمات هؤلاء بحجج ناصعة، ويناضل عن القرآن وعن الشريعة الغرّاء بكل طوقه وجهده لا يثنيه شيء عن ذلك، ومَن قرأ توحيد المفضّل واحتجاج الطبرسي والبحار عرف صحة ذلك ولولا التقية لما استطاع أن يخرّج للناس مئات العلماء كزرارة وهشام والمفضّل بن عمر وغيرهم، وبعد فلا ينكر فوائد التقية إلاّ مكابر معاند.
النجف الأشرف عبد الحسين الحجّار العوادي
ــــــــــــــــ
(1) الشيعة والتشيع ص48 وما بعدها.
(2) انظر: الشيخ الطوسي. التبيان ج1، ص357، طبع إيران. والطبرسي. مجمع البيان ج1، ص430، طبع صيدا.
(3) المستدرك ج2 ص357 وأورده الذهبي في التلخيص.
(4) نفس ج2 ص291 وأورده الذهبي في التلخيص أيضاً.
(5) ولقد كتب أصحابنا في التقية فانظر التبيان للشيخ الطوسي ومجمع البيان للطبرسي والإمام شرف الدين في أجوبة مسائل موسى جار الله (والشيعة والتشيع) لمغنية، والإمام الصادق للمظفري، وألّف شيخنا الأنصاري (رحمه الله) رسالة مستقلة في التقية وهي منشورة في آخر كتابه المكاسب.
(6) انظر تفسير الرازي ج2 ص436 المطبعة الخيرية.
(7) انظر الأشباه والنظائر ص76.
(8) أحكام القرآن ص10.
(9) انظر السيرة الحلبية ج3 ص61 مطبعة مصطفى محمّد.
(10) انظر علي الوردي. وعّاظ السلاطين ص389.
(11) هذا الكتاب جليل القدر عظيم الفائدة مطبوع بصيدا أجاب فيه عن مسائل جار الله ورده بأدلة ناصعة راجع منه بحث التقية من ص78 إلى 87.
(12) انظر تفسير المنار ج3 ص281.
(13) انظر محمد كرد علي: الإسلام والحضارة العربية ج2 ص78.
(14) نفس المصدر ص90 ينقل ذلك عن كتاب إيثار الحق على الخلق للمرتضى اليماني.
(15) الإسلام والحضارة العربية ج2 ص85.
(16) انظر ابن الأثير التاريخ الكامل ج2 ص85.
(17) انظر الإسلام والحضارة العربية ص76 نقلاً عن كتاب المؤنس في أحبار أفريقية وتونس لابن أبي دينار.
(18) انظر الدكتور توفيق الطويل. قصة الاضطهاد الديني ص154.
(19) مذبحة سان بارثليو جرت في فرنسا فقد قتل الكاثوليك من البروتستانية ما يقرب من نيف وعشرين ألفاً (قصة الاضطهاد الديني ص90).
(20) البحار ج1 ص88.
(21) لقد استوفينا البحث عن سياسة الإمام الصادق في العهدين في بحث لنا (الصادق والسياسة) نشرته مجلة الدليل النجفية في سنتها الأولى في العددين 1 و2 قبل 18 عاماً.