محمد باقر الصدر – قراءة في السيرة والذكريات

267

 

محمد باقر الصدر – قراءة في السيرة والذكريات

عنوان محاضرة الشيخ محمد رضا النعماني في مركز عين للدراسات والبحوث المعاصرة في النجف الأشرف بذكرى استشهاد السيد محمد باقر الصدر(قدس سره)

 

 

 

 

 

تقرير: علي جميل الموزاني

 

 

 

 

كلمة الشيخ محمد رضا النعماني

اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين محمد وعلى اله الطيبين المعصومين.

اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم بخير وعافية.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

طبعاً كل ما اقوله لا يعبر عن حقيقة الشهيد الصدر وانما هي انطباعات شخصية، لأن الله سبحانه وتعالى شاء ان اعيش مع قمة وليس شخصا وانسانا عاديا.

حقيقة حينما استعيد الذكريات مع الشهيد الصدر رضوان الله تعالى عليه وكيف كان يتعامل مع الاحداث وكيف كان يتعامل مع الناس وكيف كان يتعامل مع المواجع وبكل التفاصيل اشعر اننا فقدنا شيئاً لا يمكن ان يعوّض.

وانا اُحاول الآن ذكر اشياء سابقا لم يتاح لنا ذكرها، او البعض اليوم لا يرى لها اهمية, لأنني أرى بان الشهيد الصدر قد قتل مرات عديدة وليست مرة واحدة، فالشجاعة قد تكون طبعاً للإنسان لا يستطيع ان يتحكم فيها, وهنالك نوع اخر من الشجاعة تكون نابعة من العقيدة.

فالحياة جميلة لكل انسان وليس بالهين تركها، ولكن الشهيد الصدر حينما ادرك ان الشعب العراقي يحتاج الى هزة ضمير اخلاقية وسياسية وثقافية، وهذا لا يعني باننا الان قد وصلنا الى القمة بل ربما نحن الان في الحضيض.

وانا اذكر خطابا للشهيد الصدر في أخر حياته قال فيه لبعضهم (اني سوف استشهد ولكن انتم سوف لا تتوفقون بعدي) وفي حينها لم استوعب كلامه بصورة جيدة ولكن ظل هذا الكلام في ذاكرتي وتوالت الاحداث من الحرب العراقية الايرانية وكنت اتصور في حينها انه سينهار نظام صدام في العراق, واُعلن ايقاف اطلاق النار مع العراق ولم يتحقق الحلم، ثم بعد ذلك حدثت الانتفاضة الشعبانية وتصورنا في حينها سقوط النظام في العراق وكنا على استعداد تام لذلك حتى قال لي احدهم لماذا لا تستعد للعودة للعراق فقلت له انني غير مطمئن لما يحدث, وفي حينها قلت له بان الشهيد الصدر قال باننا لا نوفق بعده وبالفعل فبعد مرور عدة ايام اُعلن عن فشل الانتفاضة الشعبانية.

فالشهيد الصدر قد ابتليَّ بأُناس جهلة لا يفهمون كلامه بصورة تامة, ولم اكن استشعر فقدنا للبنى الفكرية والعقائدية والسياسية والعلمية….

ونحن لم نستثمر ما هم اعظم من الشهيد الصدر الاول والثاني, وهم اهل البيت الذين استطاعوا ان يرسموا لنا نظام حياة متكامل.

وبحسب المقاييس العلمية فان الانتفاضة الشعبانية استطاعت ان تهزم النظام البعثي بدرجة كبيرة جداً فلماذا انهارت بهذه السهولة, السبب هو انه لو وصلت ادارة الدولة بأيدينا في حينها لأصبح احد الاحزاب او الحركات او الاشخاص كهارون الرشيد والله سبحانه وتعالى ما اراد لهذه الامة ان يحكمها هارون ثاني, لأننا في مسيرة التمهيد للظهور ان شاء الله تعالى.

فاليوم لا يحق لاحد ان يفتخر ويقول اننا اسقطنا نظام صدام ونحن من عمل على تحرير العراق.

فالحقيقة ان الله تعالى هو الذي هيئ الظروف المناسبة لإسقاط هذا النظام المجرم حيث جاء في حديث قدسي ” الظالم سيفي انتقم به و انتقم منه ”  وهذا ما حدث واقعاً.

انا لا اُحب ان اتحدث عن ظلامة الشهيد الصدر وحصاره وماذا جرى له ونرقق القلوب له فهذا ليس دوري فالله تعالى قد تكفل بزراعة حب الأولياء في قلوب الصادقين والا فبعد مرور اربعين عاماً ولازالت تجري في كثير من انحاء الكرة الارضية مجالس ذكر وتأبين وندوات بيوم ذكرى استشهاد الصدر رضوان الله تعالى عليه([1])

ومن ابرز الظلمات التي تعرض لها الشهيد الصدر ليس الحجز او ان تقتل اخته امام عينيه او ان تُحاصر عائلته فحسب، بل الاهم من ذلك وبحسب اعتقادي هو عدم فهم الحوزة العلمية له ولم تكن المرجعية النجفية تولي اهتمامها لهذه القضايا التي تشكل العمود الفقري في حوزة النجف, والسبب واضح فنحن اليوم وفي وقتنا الحالي اذا جاءوا لنا اهل الحل والعقد من رجالات السلطة وارادوا من الحوزة والعلماء وطالبوهم بنظام سياسي واقتصادي وثقافي وكل ما نستطيع ان نطبقه في العراق بما يتلاءم مع وضع العراق الاسلامي.

وخصوصا ونحن ارض المقدسات والائمة والذي يفترض ان تفوح منه المعرفة والتنظير الاسلامي الاصيل، فاذا لم تكن لديّك القُدرة على التنظير وامكانية تحويل الفتاوى الشرعية الى قوانين ودستور فانت بلا شك فاشل ولستَ بعالم.

واما الشهيد الصدر ومنذ السبعينيات حينما كنت معه وانا لازلت صغيراً وملازماً له الى يوم حجزه رضوان الله تعالى عليه وبقيت معه في الحجز، وانا في الحجز ولا مناص من النجاة في حينها كان يفكر بما لا يفكر به الاخرون وكان يضع الخطط المستقبلية للامة مما لا يخطر على بال احد، ومن تلك المشاريع التي كان يفكر بها هي انشاء حوزات علمية في اوربا من الاوربيين انفسهم وليس من العرب وكان يهدف الى ايجاد مبلغين من الاجانب والسبب في ذلك يقول هو رحمه الله ان هؤلاء اعرف بأعراف ولغة وطبائع اقوامهم. تصور معي من الذي كان يفكر في ذلك الوقت بمثل هكذا مشاريع حية.

واما بالنسبة الى الحوزة فقد كان الشهيد الصدر يجيب على من يسأله عن الأعلمية وتسببها في انقسام المقلدين بعد موت مرجع الدين العام بسبب تعدد اقوال واراء اهل الخبرة في معرفة من هو الاعلم وكلاً يشير الى استاذه في الأعلمية والتقليد.

فالشهيد الصدر كان يقول بان الاعلم هو من يستطيع من خلال وسائل الاستنباط ان يستكشف الحكم الواقعي او القريب منه وهذه كلمة معقدة جداً وليست بالأمر السهل.

فانتم تعلمون من ان الاحكام الشرعية تنقسم الى قسمين واقعية وظاهرية, وغاية المجتهد ان يصل الى الحكم الواقعي من خلال الوسائل المتاحة امامه.

وانا شخصياً سالته حينها كيف يستطيع الانسان الاعتيادي ان يميز ذلك فقال رضوان الله تعالى عليه يُنظر الى رسالته العلمية فان كان كثير الاحتياط والتردد فهو لم يصل الى الاحكام الواقعية واذا كان قليل الاحتياط والتردد فهذا هو الاعلم, وذلك لان المجتهد اذا وصل الى الحكم الشرعي بحسب الادلة فانه يكون وصولا الى الحكم الواقعي بحسب قناعته، واما اذا كان دائم الاحتياط والتردد فهو لم يصل الى مرحلة الاعلمية وهذا ليس عيباً في الاجتهاد بل يدل على ورع وايمان المجتهد بعدم القطع بالحكم الشرعي من دون جزم وتأكيد.

وكان يهتم بوحدة المرجعية وتعلمون كم من الضروري ان تكون المرجعية على راية واحدة يكون المرجع خلالها قويا كما في زمن مرجعية السيد الحكيم قدس سره وانا كثيرا ما اكرر ذلك حتى تنفذ الى الاعماق.

وكان رضوان الله عليه مهتما بمناهج الدراسة بالنسبة الى طلاب الحوزة العلمية

وانتم لاحظوا ذلك وكل يفسره بحسب وجدانه وقراءته للتاريخ الحوزوي.

فإننا لا يوجد لدينا عالماً او مجتهداً يكتب مناهج دراسية لطلبة الحوزة توصلهم الى مرحلة البحث الخارج.

فاغلب الكتب الدراسة التي يدرسها الطاب لم تكن قائمة على اساس منهجي رصين يمرن الطالب بحسب المراحل الدراسية بل فرضتها الحاجة او الصدفة فمثلا كتاب الرسائل “فرائد الاصول” والكفاية وهي ليست كتب منهجية  تُراعى فيها ذهنية الطالب والتدرج بالمستويات الى ان يصل الى البحث الخارج.

فما هو السبب الذي دعا السيد الشهيد الصدر الى كتابة تلك الحلقات في الاصول  والدافع من وراء ذلك هو ان يستثمر الطالب وقته فيما يريد وان يصل الى مرحلة البحث الخارج بوقت قياسي، وان يحرر الطالب من تضييع عمره في فك عبائر المؤلف وارجاع ضمائر الكتاب.

ان صياغة العبارة والقدرة على التأليف وعلى اقناع المقابل وتبيين المطلب فنٌ لا يراعى في مصنفات الاعلام ويهتمون بالمطالب العلمية وصياغة العبارة بما هو يفهمه، وهنا يقع الطالب في حيرة فلابد اولا من معرفة مراد المتكلم ثم بعد ذلك معرفة المطلب وهذه العملية وان كانت لا تخلو من فائدة في تحريك الذهن الا ان فيها قتل لوقت الطالب، فمن هنا انطلق السيد بكتابة حلقاته الاصولية، وبكتابة مسودة دروس في علم الفقه. وقد فسر هذا العمل من قبل الاخرين بان السيد يُريد ان يقضي على تراث العلماء السابقين وعلى بركة مؤلفاتهم ويزيل وجودهم ويحتل هو مكانهم.

أليس هذا قتلاً للشهيد الصدر، مثل هكذا انسان يعيش في مجتمع ويريد ان يقدم له خدمة والمجتمع لا يفهم ذلك الامر ولا يفهم هذا المنطق.

فالشهيد الصدر رضوان الله عليه حينما بدأت ارهاصات الثورة الاسلامية والسيد الخميني رحمه الله كان في الكويت او في باريس بادر رضوان الله عليه بكتابة دستور الجمهورية الاسلامية واصدر حلقات  منه.

وانا حينها سالته وقلت له سيدنا ماهي الفائدة من كتابة هذه الحلقات في الدستور الاسلامي فقال ان المتظاهرين لا يفهمون ماذا يريدون, فحينما يُسأل احدهم ماذا تريد فيقول اريد حكم اسلامي، وما هو الحكم الاسلامي يكون جوابه لا اقل بان هذا اقتصاد اسلامي وهذا دستور اسلامي ولا يحصل لديه فراغ.

وهذه الكتب من جملة الكتب التي ساهمت بقتله ولم تكن هذه الكتب بالعملية السهلة.

لأنه طبع كتاب فلسفتنا واقتصادنا وقد اثارت هذه الكتب السلطة ولكنها غضت الطرف عن ذلك لان ليس لها ميدان فعلي في العراق في ذلك الوقت.

وحينما بدأ بكتابات على مستوى التطلع وكان يتأمل خيراً بكتابته لحلقات الاسلام يقود الحياة وما تحمله من اعماق الفكر الاسلامي بما لا نظير له في تأريخنا المعاصر، وهي لم تكن موضوعة على شكل كتاب وهو رضوان الله عليه عادة حينما كان يريد ان يؤلف كتابا مُعيناً وانا قد رأيته بعيني يتناول دفترا صغيراً ويباشر بكتابة البحث ورؤوس النقاط الاساسية ثم بعد ذلك يباشر بكتابة الكتاب واذا به موضوعاً وكتاباً متكاملاً.

وهذه الحلقات التي قدمها كمشروع الاسلام يقود الحياة، وحتى هذا العنوان لم يخلو من ذكاءٍ في انتقائه, والسلطة قد شعرت بان هذا الرجل هو الوحيد القادر على كتابة نظام سياسي عملاق يهدد الطغاة ويزرع الامل في المشروع الاسلامي فيما لو اتيح له ذلك والاعداء قد قرأوا الشهيد الصدر بهذه اللغة. ولم تقدم السلطة بيّنة او حجة تدين الشهيد الصدر وتشرع لهم قتله غير ان السيد الخميني بعث ببرقية اليه.

وانتم الآن تلاحظون الاضطراب الفكري في مجتمعاتنا, وقد فشلت الاحزاب الاسلامية الحاكمة فشل ذريع ولم تُوجد حلولاً حقيقة، والبدائل الموجودة بدائل هزيلة قائمة على متبنيات عقائدية, ولم نستطع الخروج من دائرتنا المحدودة الى دائرة الاسلام والفكر الحضاري.

وكان رضوان الله تعالى عليه يقول لي في ايام الاعتقال انت تقوم ببعض الاعمال العبادية وتزور زيارة عاشوراء اربعين مرة لكي لا أُقتل. قلتُ له نعم والله سيدنا. فقال رضوان الله ان القتل لي لذة وليس شيئاً مخيفاً.

ولم تكن شجاعته قائمة على اساس النزعة الهاشمية العنيدة, بل كانت شجاعته تضحية من اجل الدين من اجل تحريك ضمائر المسلمين.

ونحن الآن بالوجدان نشعر حينما نتذكر واقعة الطف وما فيها من مآسي على اهل البيت عليهم السلام ولكن دمائهم هي التي جعلتنا نبقى شيعة الى الآن وهي الضمان الحقيقي التي جعلت من خط اهل البيت ان يستمر ويستسهلون التضحية بدمائهم من اجل الاسلام، ولو أُلغيت من قاموسنا واقعة كربلاء لانتهى كل شيء فينا، وهذا هو معنى قول الامام المعصوم للإمام الحسين عليه السلام اشهد ان دمك قد سكن في الخلد فالمراد من الخلد هذا المعنى ولا نتصور بانه صعد الى السماء فقط, وهذا ناتج عن التفكير البسيط

فان دم الحسين قد سكن الخلود في الدنيا والاخرة, والا كيف تفسر ما يقوم به الملايين من الموالين بخدمة الامام الحسين عليه السلام ومن التضحية بالنفس والمال وهذا لم يأتي اعتباطا وانما جاء نتيجة هذه الدماء الطاهرة، فكذلك السيد الشهيد الصدر بدمائه الطاهرة جعلنا نعيشه طوال هذه السنين ولا ننساه.

وكلنا يعلم بان الشهيد الصدر لم يخلف اموالا ولا بيت له لا في النجف ولا كربلاء حتى يستثمر كمدرسة دينية، فحينما يقول بالنسبة الى دنيا هارون الرشيد وقسوته على الامام موسى بن جعفر عليهما السلام ولم يكن الخطاب حينها عاما بل كان يخاطب الكبار والعلماء وكيف ان البعض يتصارع على امور تافهة وان المرجعية ليست منصباً بل هي مسؤولية وكذلك رئاسة الوزراء ليست بمنصب وانما مسؤولية (وقفوهم انهم مسؤولون) ومن ولي شيئا من امور المسلمين فلم يعدل اكبه الله على منخريه في النار

فيقول لهم نحن نتصارع على اشياء تافه وفي لحظة ما يُسلب هذا الامر من عندنا فلماذا لا نتوحد ونتفق على العمل المشترك, ولذلك هو وضع اطروحة المرجعية الموضوعية او المرجعية الصالحة او عبر عنها بما شئت فان الهدف منها هو توحيد المرجعية وان تقوم على اساس مؤسساتي، لأن المرجعية متقومه بشخص المرجع فاذا ما مات كلنا نقع في حيرة والى من الرجوع بعده ولمن نقلد واي كلام نتبع

فنحن الان وفي وقتنا الحالي في اشد الخطر لان حياتنا معلقة بالمرجعية مادام المرجع حيّاً وبعده الله اعلم ما سوف يحدث فالشهيد الصدر اراد ان يزرع الاطمئنان في المنهج ويعطيه قوة في سبيل ان يقف الطالب في الحوزة العلمية وهو يعلم ان حياته غير مهددة بوفاة مرجعية بل هي قائمة على اساس الاسلام… فهل استطعنا اليوم ان نصل الى هذا المستوى وهل استطاعت الحوزة ان تبني أسس البقاء على أسس اسلامية صحيحة او لا…

في الختام انا لا احب ان اطيل عليكم فأرجو المعذرة واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وسلامٌ على المرسلين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 



[1]))  وانا بعد هذه الندوة لديَّ محاضرة عبر الانترنت لتجمع شبابي في اوربا ينتظرون ان يسمعوا ويعرفوا شيئا عن حياة الصدر المقدس.