المعرفة الدينية بين الوظيفة الالهية .. والمتاجرة بالمقدس !

316

المعرفة الدينية بين الوظيفة الالهية .. والمتاجرة بالمقدس !

الشيخ محمود الجياشي

 

لا يختلف اثنان من المتخصصين في علوم الاديان في جميع الديانات والرسالات السماوية في أن المعرفة الدينية – ونقصد بها جميع معطيات الوحي الالهي من العقائد والاخلاق والاحكام – تنتمي في أصلها المعرفي الى حقل العلوم الغيبية أو مايسمى بعلوم اللاهوت ، ومن المعلوم أن معطيات الوحي وحقائق العالم السماوي التي جاء بها رسل الله وانبيائه جميعاً تؤكد حقيقة واحدة تتمثل في أن مصير الانسان النهائي في هذا العالم يتحدد بمعرفة هذه المعطيات والسير وفقاً لها ليضمن سعادته الحقيقية في الدنيا والاخرة …

ومن هنا كانت المعرفة الدينية على درجة كبيرة من الحساسية والخطورة .. الامر الذي انتج ان يكتسب البحث المعرفي الديني اعلى درجات الدقة والعمق والتعقيد … وذلك لسببين :

احدهما : أن البحث في المعرفة الدينية هو في جوهره بحث يستهدف اكتشاف حقائق غيبية لاتنتمي الى عالمنا الدنيوي المحسوس .. ومن هنا اختلفت مناهج البحث في هذا النوع من المعرفة الانسانية بسبب العمق الغيبي الذي يكتنف هذا النوع من المعارف ويؤدي الى صعوبة اقتناصها او الوقوف عليها بصورة صحيحة .. فهناك المنهج العقلي .. والمنهج الكلامي .. والمنهج العرفاني … والمنهج الاخباري .. وغيرها …

ثانيهما : خطورة النتائج المترتبة على هذا البحث بالنسبة الى تحديد المصير النهائي لحياة الانسان في هذه النشأة .. اذ  لاشك أن البعد العقائدي وماينطوي عليه إيمان الانسان يمثل المحور الرئيس الذي تدور عليه جميع تفاصيل حياة الكائن الانساني نفسياً وشخصياً وأخلاقياً وأسرياً واجتماعياً وفكرياً ودنيوياً وأخروياً … الى درجة يصل به الحال أن يضحي بنفسه ووجوده من أجل عقيدته !!

في ضوء ذلك أجمع علماء الكلام والمتخصصون في البحث العقدي على ضرورة تحصيل ( اليقين ) في أصول الدين ، واليقين هو أعلى درجات الكشف والادراك عند الانسان .. ولامجال في ساحة البحث العقائدي للظنون والشكوك واتباع الغير من دون حصول العلم ! ومن هنا ايضاً أجمع علماء الكلام على عدم جواز التقليد في أصول الدين بغض النظر عن عددها واختلافها بين المذاهب.

فاليقين والعلم يمثل الارض الخصبة الصالحة التي تنمو فيها شجرة العقائد ابتداء من أصلها الثابت الذي هو التوحيد وانتهاء بجميع اغصانها وفروعها التي تمثل جزئيات العقيدة الحقة.

في هذا المجال بالذات تأتي الكلمة المشهورة والمنقولة عن الفيلسوف الاسلامي ابن سينا حيث قال : مَن قبِلَ دعوى المدعي بلا بينة ولابرهان فقد خرج عن الفطرة الانسانية !!

اذ لايمكن للفطرة الانسانية أن تنساق خلف الظنون والشكوك في المعارف العقائدية التي تحدد مصير الانسان الى الابد ..

استناداً لذلك جاء الخطاب القرآني منسجماً مع ماتحكم به الفطرة من ضرورة اتبّاع العلم واليقين في أصول العقيدة.

قال سبحانه وتعالى : {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا. الاسراء 36

وقال : {شهد الله أنه لاإله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لاإله إلا هو العزيز الحكيم}. آل عمران 18.

وفي قبال ذلك نهى سبحانه عن إتباع الظن في اصول الايمان والعقيدة.

قال سبحانه :{مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ‏}. النساء‏:‏157‏.

وقال : {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً‌‌‌‏} ‏النجم‏:‏ 28‏‏.

وقال:‏{‌‏ ‏وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ‌‌‌‏} يونس‏:‏66‏.

‌‏وقال:‏{‌‏‏أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‌‌‌‏} ‏يونس‏:‏ 35- 36‏.

في ضوء هذه المعطيات العقلية والقرآنية سوف تكون مهمة الوعظ الديني وبيان حقائق الايمان وربط الناس بعلوم السماء ومعارف الوحي الالهي والتي هي وظيفة الرسل والانبياء عليهم السلام في اعلى درجات الحساسية والخطورة .. بل هي أخطر وأهم من جميع المعارف والعلوم الانسانية والطبيعية الاخرى كالطب والفيزياء والكيمياء وغيرها .. اذ ان الخطأ والاشتباه في هذه العلوم والنتائج المترتبة عليه لايرقى الى الخطأ والاشتباه في قضايا المعرفة الدينية .. فإن الخطأ في هذا الحقل من المعرفة سوف يكلف الانسان خسارة مصيره النهائي وقد يؤدي الى هلاكه الابدي !

ومن هنا نرى شدة الخطاب القرآني عندما يتحدث عن نقل حقائق الوحي ومعارف السماء .. حيث يقول:{تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِين(46)َ}  الحاقة.

اذن  ! عندما يصل الحديث الى بيان التنزيل الالهي وحقائق الغيب والتصدي للقيام بوظيفة الانبياء فلا مجال للاقاويل ! وهي الاقوال التي لاتستند الى العلم واليقين .. بل سيكون العقاب على نقلها شديداً وعسيراً … لقطعنا منه الوتين !

في ضوء ذلك كله … فإن من المؤسف والمخجل مانراه اليوم من الاستهانة بشأن القيام بوظيفة الارشاد والوعظ الديني والعقائدي والتصدي لصعود منبر الوعظ من قبل اشخاص لاعهد لهم بأدنى مستويات المعرفة الدينية ولايفقه احدهم من كتاب الله آية واحدة !! الامر الذي تسبب في هذه الفوضى العقائدية التي يشهدها مجتمعنا اليوم ، والتي ستكون لها نتائج خطيرة في قابل الايام لامحالة !

ولو أردنا التمثيل لهذا الخطر  ونتائجه الوخيمة لتصورنا شخصاً لايحمل شهادة الدراسة الابتدائية ويرتدي لباس الطبيب ويدخل الى غرفة العمليات الكبرى في المستشفى لكي يقوم بإجراء العمليات للراقدين في هذه الغرفة !!!!

أو نكلّف نفس الشخص المذكور بإعداد خريطة هندسية لبناية تتالف من عشرة طوابق مثلاً !!!

فماذا تكون النتيجة ياترى ؟؟!!

ان التصدي للوعظ الديني من شخص فاقد للمعرفة الدينية الحقة أشد خطراً من تصدي هذا الشخص الجاهل لمهنة الطب أو الهندسة .. لامحالة .. اذ الواعظ الجاهل سيُضيع مصير مجتمع بأكمله ! دنيوياً  وأخروياً ..

قال سبحانه وتعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} الأعراف33.

تؤكد هذه الاية الكريمة على الحرمة الشديدة للقول على الله بغير علم .. فنراها تعطف هذه الحرمة على حرمة الشرك بالله !!

فهل من متعض ؟! من الذين يتقمصون وظيفة الانبياء ويتاجرون ب( المقدّس ) … وهم لم ( يتفقهوا ) في الدين .. …. لعلهم يحذرون ..