الإسلام وثقافة تحرير العقل

700

الإسلام وثقافة تحرير العقل

 

يسري عبد الغني عبد الله

 

مدخل

عندما نتحدَّث عن الإسلام وثقافة

 تحرير العقل والفكر، أو بمعنى آخر: منهج الإسلام في تحرير العقل والفكر، يجب أن نضع في الاعتبار أنَّ الإسلام حرَّر الإنسان من أغلال الحجر العقلي، وربَّاه على حرِّية الفكر واستقلال الإرادة، كما حرَّره من أصفاد الجهل وظلمته، لأن الجهل يقتل مواهب الفكر والنَّظر، ويميت عناصر الحياة والقوَّة في الأفراد والأمم، كما دعاه إلى عدم طاعة الأهواء، والانقياد الأعمى إليها.

وعبر هذه السُّطور، سنحاول أن نوضح أهم الدعائم التي أقام الإسلام عليها منهجه في تحرير العقل والفكر.

ونرى أن هذه الدَّعائم ثلاث، وهي:

الدُّعامة الأولى: في مواجهة الحجر العقلي

لقد حرَّر الإسلام الإنسان من أغلال الحجر العقلي، وسيطرة التبعيَّة العمياء المقيتة، وربَّاه على حرِّية الفكر، واستقلال الإرادة، ليكمل بذلك عقله، ويستقيم تفكيره، وتكتمل له شخصيته وإنسانيته، فإن كمال العقل، واستقامة التفكير، واستقلال الإرادة، هي أسس صحَّة العقائد، واستقامة التديُّن، ورقيُّ الأخلاق،

ومعرفة الحق الذي يجب أن يُتَّبع، ومعرفة الباطل الذي يجب أن يجتنب، وقد أشار إلى ذلك رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، في حديثٍ متفق عليه، حينما قال: “ما اكتسب رجل مثل فضل عقل، يهدي صاحبه إلى هدى، ويردُّه عن ضلال” [متفق عليه].

فالإيمان لا يتمُّ عند الإنسان، وكذلك الدين لا يستقيم، حتى يكمل العقل، وقد عني الإسلام ببناء هذه الدعامة عناية كبرى، وذلك من عدَّة زوايا:

أوَّلاً – البرهان أساس الإيمان

لقد جعل الإسلام البرهان أساساً للإيمان الصَّادق، والعقيدة الصَّحيحة، وبيَّن أن كل اعتقاد، أو عمل، لا يقوم على دلائل الحق مردودٌ على صاحبه، كما أنذر بشدَّة الذين يجادلون في الله، وفي آياته بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير.

يقول سبحانه وتعالى: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له، فإنمَّا حسابُه عند ربِّه، أنه لا يفلح الكافرون }[المؤمنون: 17].

وقال تعالى: {ومن النَّاس من يُجَادلُ في الله بغيرِ علمٍ ولا هُدَى، ولا كتابٍ مُنير، ثَانِيَ عطْفِه، ليُضِلَّ عن سبيل الله، له في الدُّنيا خزي، ونُذيقه يوم القيامة عذابَ الحَريق } [الحج: 8 – 9].

هذا، وقد وردت كلمة “برهانكم” في القرآن الكريم أربع مرات.

ثانياً – ضلال القادة

وكشف الإسلام عن ضلال القادة الدِّينين، الذين انحرفوا عن العهود والمواثيق المأخوذة عليهم، وافتروا على الله الكذب، وتاجروا بالدِّين والعقيدة، وانتحلوا لأنفسهم حقَّ التشريع والتحليل والتحريم، إرضاءً لأهوائهم، وتحقيقاً لمصالحهم الدنيويَّة، وإشباعاً لشهواتهم، وتلبيساً على الناس في دينهم.

قال الله تعالى: {وإذ أخذَ الله ميثاقَ الذين أُوتوا الكتاب لَنُبَيِّنَه للنَّاس، ولا تكتمُونه، فَنَبَذُوه وراء ظُهورهم، واشتَرَوا به ثمناً قليلاً، فبِئْس ما يَشْتَرُون } [آل عمران: 187].

وقـال عزَّ وجل: {فويلٌ للذين يكتبُون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عندِ الله، ليشتروا بِه ثمناً قليلاً، فويلٌ لهم ممَّا كتبت أيديهم، وويلٌ لهم ممَّا يكسبُون } [البقرة: 79].

ويقول جل شأنه: {ولاَ تقُولُوا لما تَصِفُ ألسنتُكم الكذب هذا حلالٌ، وهذا حرامٌ، لتَفْتَروا على الله الكذبَ، إن الذين يَفْتَرون على الله الكذبَ، لا يُفْلِحُون } [النحل: 116].

وقال تعالى: {ولا تلبسوا الحَق بالباطِل، وتَكتُموا الحقَّ، وأنتُم تَعْلمُون } [البقرة: 42].

ثالثاً – الدَّعوة إلى الحقّ

ودعا الإسلام البشر جميعاً إلى كلمة الحق، وهي جوهر الخيرية، يستجيب لها كلُّ ذي قلب سليم، وعقل رشيد، وتردَّدت على لسان كلِّ نبي مرسل، وفي كلِّ كتاب منزل.

قال الله تعالى: {قُلْ يا أهلَ الكتابِ تَعالُوا إلى كلمةٍ سواء، بيْننا وبينكم، ألاَّ نَعبُد إلا الله، و لا نشركُ به شيئاً، ولا يتَّخذُ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن توَّلَوا فقولوا اشهدوا بأنَّا مُسلمون } [آل عمران: 64].

رابعاً – النَّظر في عوالم السماوات والأرض

طلب الإسلام، من كلِّ ذي عقل، أن ينظر ويتأمَّل في عوالم السماوات والأرض، وما فيها من الدلائل الواضحة على وحدانية الله سبحانه وتعالى في ألوهيَّته، وربوبيته.

فعلى الإنسان أن ينظر إلى السماء التي فوقه، كيف بُنِيَت، وكيف زُيِّنَت، وإلى الأرض كيف مُدَّت، وكيف ألقيت فيها الرواسي، وكيف أنبت فيها من كل زوج بهيج، وما هذا الخلق العظيم إلا تذكرة لكلِّ قلب يشعر ويعي، ولكلِّ عقل يدرك ويفهم.

يقول تعالى: {أفَلاَ ينظرُون إلى الإبل كيف خُلِقَت، وإلى السَّماء كيف رُفِعَت، وإلى الجبال كيف نُصِبَت، وإلى الأرض كيف سُطِحَت } [الغاشية: 17].

وعلينا أن نعي جيداً أن في خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله تعالى من السماء من ماء، فأحيا به الأرض بعد موتها، وبثَّ فيها من كل دابة، وكذلك تصريف الرياح، والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض…، أنَّ في كل ذلك آيات لأهل العقل والرَّشاد، الذين يمشون في طريق النور والمعرفة.

إن الإنسان، إذا نظر إلى نفسه، وعرف ممَّا خُلِق، وأنه خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب.

وإذا نظر الإنسان إلى الأرض التي هي مصدر الحياة، ونظر إلى طعامه، يجد أن الله تعالى بقدرته صبَّ الماء صبَّاً من السُّحب، ثم شقَّ الأرض شقَّاً، فأنبت فيها حبَّاً، وعنباً، ورطباً، وزيتوناً ونخلاً، وحدائق وافرة الثمر، وفاكهة ومرعى، خلق كلَّ هذا متاعاً لنا ولإنعامنا، وبهذا التأمل المقترن بالتدبُّر والنظر العقلي، يزداد الإنسان علماً ومعرفة، ومن ازداد علماً ازداد إيماناً، ومن ازداد إيماناً ازداد رقياً وأخلاقاً وتحضُّراً.

لقد دعانا الله، سبحانه وتعالى، إلى أن نمعن الفكر في هذا الكون الفسيح، ونمعن النظر في ما حوى من موارد عديدة، وطلب منا أن نسعى لمعرفة أسراره الكثيرة، وأسباب الحياة فيه.

قال تعالى: {قُلْ سيرُوا في الأرض فانظرُوا كيف بدأ الخلق } [العنكبوت: 20].

ويجدر بالذكر هنا أن قوله تعالى: {سيروا في الأرض } ذكر في القرآن الكريم أربع مرات.

وقـال تعـالى: {وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تنظرون } [الذاريات: 20].

 

خامساً – الدعوة إلى استنهاض العقول

استنهض الإسلام العقول، ووجَّه الأفهام، وأيقظ الحواس، ونبَّه المشاعر، وذلك بالتعقيب على بيان الآيات الكونية والتشريعية، وذلك بمثل قوله تعالى: {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } [الروم: 24]، وقال تعالى: {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } [الرعد: 3]، وقال: {إن في ذلك لآيات لأولي النهى } [طه: 54]، تعبير “أولي النهى” ورد في الآية (128) من سورة طه أيضاً.

ويقول تعالى: {إنَّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون } [يونس: 67]، وقال: {ويبيِّن آياته للنَّاس لعلَّهم يتذكَّرون } [البقرة: 221]، وقال: {إنَّما يتذكَّر أولو الألباب } [الرعد: 19]، و”أولوا الألباب” هم أصحاب العقول الرَّاجحة، الفاهمة، الواعية، المدركة، وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم (16) مرة.

سادساً – نظرة الناقد البصير

لقد دعا الإسلام البشر جميعاً إلى أن ينظروا إلى ما يستمعون من أقوال نظرة الناقد الواعي البصير، الذي يستطيع أن يقيِّم الأمور تقييماً عقلياً سديداً، فيتَّبعون منها ما يدل على الحق ويهدي إلى الخيرية، وإلى الرُّشد، هؤلاء هم الذين يستمعون إلى القول، فيسيرون على طريق الهدى، ولمَ لا ؟، وقد هداهم الله، لأنهم أصحاب العقول الراجحة.

قال تعالى: {فبشِّر عبادي الذين يستَمِعُون القولَ فيتَّبعون أَحْسَنه، أولئك الذين هَدَاهم الله، وأولئك هم أولو الألباب } [الزمر: 18].

سابعاً – الذم للغافلين

لقد ذمَّ الإسلام الغافلين المتبلِّدين، ونعى عليهم غفلتهم، وإعراضهم عن دلائل الآيات الكونية التي يشاهدونها، ويرونها رؤية العيان، في كل لحظة، وهم عنها غافلون، معرضون. هذه الآيات الكونية المعجزة تطالعهم بدلائلها في كل آونة، وهم كما يقال: “لا حياة لمن تنادي!”، وهم معرضون عن كل آيات الله، ألم

يسيروا في الأرض الممتدة، ليروا نعم الله التي لا تحصى، فتكون لهم قلوب يعقلون بها، وآذان يسمعون بها؟ حقاً وصدقاً: إن الأبصار لا تعمى، ولكن القلوب التي في الصدور، التي هي أساس المشاعر والأحاسيس، هي التي تعمى.

هؤلاء الذين في غفلة وإعراض عن دلائل الله الكونية لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان صمَّاء لا يسمعون بها، حقاً إنهم كالأنعام، بل هم في غفلتهم أضلُّ منها.

قال تعالى: {وكأيِّن من آية في السماوات والأرض، يمرون عليها، وهم عنها معرضون } [يوسف: 105].

ثامناً – في مواجهة أسرى التقليد

لقد عاب الإسلام على أسرى التقليد إعراضهم عن الحق الذي جاء به أنبياء الله، ورسله، وجمودهم على اتِّباع ما وجدوا عليه آباءهم، وأجدادهم، وهم إذ يرتكبون الفواحش باسم الدين، فهم يفعلون ذلك تعصُّباً للجمود والتبعية العمياء المخالفة للعقل والمنطق السليم.

قال تعالى: {وإذا قِيْلَ لهم تَعالَوا إلى ما أنزل الله، وإلى الرَّسول، قالوا حسبُنا ما وجدنا عليه آباءنا أَوْ لَوْ كان آباؤُهم لا يَعْلَمُون شيئاً ولا يَهْتَدُون } [المائدة: 104].

وهؤلاء النفر من النَّاس، إذا قيل لهم اتَّبعوا منهج ما أنزل الله، منهج الهدى والرَّشاد، ردُّوا قائلين: بل نتَّبع ما ألفينا عليه آباءنا، حتى لو كان هؤلاء الأباء لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.

وإذا فعلوا فاحشة، كرَّروا القول: أنَّ الآباء والأجداد كانوا يفعلون ذلك، وكانوا يأمرونهم بها. وعليهم أن يدركوا جيِّداً أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء، إنهم يقولون على الله ما لا يعلمون!!.

والله، سبحانه وتعالى، يوضح لنا عاقبة التبعيَّة العمياء ومدى جنايتها على الناس.

يقول تعالى: {يَوْمَ نقلِّبُ وُجوهَهم في النَّار يقولون: يا ليتنا أطعنا الله، وأَطَعْنا الرسول. وقالُوا: ربَّنا إنَّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلُّونا السبيلا. ربَّنا آتهم ضعفين من العذاب، والعنهم لعناً كبيراً } [الأحزاب: 66 – 68].

ظاهرة التقليد الأعمى

إنَّ التقليد الأعمى أكبر شرٍّ يُبتلى به الأفراد والجماعات، لأنَّه يُميت مواهب الفكر والإبداع والابتكار، ويقف حجر عثرة في طريق النظر الواعي، والتفكير السليم، فهو يجمِّد قدرات الإنسان الفكرية ، وطاقاته الإبداعية، ويجعلها راكدة، آسنة غير متحرِّكة أو متطوِّرة.

إنَّ التقليد الأعمى يجعل الإنسان لا يميِّز بين الحق والباطل، ولا بين الصواب والخطأ، ولا يفرِّق بين التقليد في الخير والتقليد في الشر، ويحمل أهله على الإعراض عن الحق، ومعاداة أهله.

إنَّه يدعوهم إلى الوقوف في طريق الإصلاح والمصلحين، ويدعوهم إلى الجمود على العقائد، والمذاهب الموروثة. أضف إلى ذلك التعصُّب الجماعي لحمايتها، وذلك لأن قيام العقائد على أساس الوراثة، وتقليد الأباء والأجداد، من دون وعي وإدراك، يضفي عليها قداسة تستحوذ على عواطف الوارثين لها، وتصرفهم عن التفكير السليم في صحتها، أو بطلانها.

إنَّ التقليد الأعمى يدفعهم دفعاً إلي التعصُّب الجماعي لحماية المذاهب والأفكار الموروثة، والإبقاء عليها، ومعارضة كل إصلاح جديد يخالفها أو ينتقص من قداستها، حتى لو كان هذا الإصلاح أساسيّاً وجوهريّاً لخير الناس وصالحهم.

وقد أشار القرآن الكريم إلي هذه الحقائق في آيات كثيرة، كقوله تعالى في شأن معاداة الأمم الماضية لدعوة رسلهم:

{وكذلك ما أَرْسلنا من قبلك في قريةٍ من نذير، إلا قال مُتْرَفُوها: إنَّا وجدنا آباءنا على أمَّة، وإنَّا على آثارها مقتدون. قال: أو لو جئتكم بأهدى ممَّا وجدتم عليه }

{آباءكم؟ قالوا: إنا بما أرسلتم به كافرون } [الزخرف: 23 – 24].

وكان الأمر نفسه يحدث في شأن معاداة قريش للدعوة المحمَّدية، فقد كان عجبهم أن جاءهم منذر منهم، فما كان منهم إلا أن اتهموا محمداً(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بالكذب والسحر، وسخروا منه أشد السخرية، مدافعين عن آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع، رافضين طريق الهدى والرشاد.

ما يترتَّب على التقليد الأعمى

وهكذا – كما أوضحنا في الجزئية السابقة – يفعل التقليد الأعمى الضار للأفراد والجماعات، والذي تقدَّس فيه المعتقدات القائمة على الوراثة، لقد كان أهل قريش يعرفون الرسول الكريم محمداً(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) معرفةً جيدة، بل يعرفونه حق المعرفة، ويعلمون صدقه، وأمانته حق العلم. أضف إلى ذلك درايتهم الكاملة بحسن أخلاقه، وطيب معشره، ولكن التعصُّب الجماعي القائم على التقليد الأعمى وتقديس ما وجدوا عليه الأباء والأجداد، حملهم حملاً على أن يتعجَّبوا من دعوته، ويتنكَّروا لها، ويسخروا منه.

وهذه الحقيقة التي ذكرناها، مقرِّرين إياها، وهي: إن قيام المذاهب والعقائد على أساس الوراثة والتقليد الأعمى، من دون درس أو تمحيص، يضفي عليها هالة من التقديس الزائف، فالذي ينجم عن استحواذها على عواطف الوارثين، انصرافهم عن التفكير الواعي السليم في فسادها وبطلانها، ومن ثمَّ يأتي تعصُّبهم الأعمى الجماعي من أجل حمايتها من كل دعوة تخالفها، أو تنتقص من قداستها.

وقد علَّمنا الإسلام التسامح، وعدم التعصب، وقبول الآخر، لأن الجميع في حق الحياة سواء، كما علمنا احترام الرأي والرأي الأخر، والحوار بالتي هي أحسن.

كما أن الإسلام يؤمن بالتعدُّدية الفكرية، ويرفض آحادية الرأي، في الوقت نفسه الذي ينادي فيه بالأخذ والعطاء، والحوار المفيد بين الثقافات، فقد خلقنا الله تعالى لنتعارف ونتفاهم، من أجل واقع أفضل للبشرية جمعاء، ويكون ذلك من

طريق تبادل الأفكار والآراء، والمنافع والخبرات، وليس من طريق الصدام والخلاف.

إن الأمم والطوائف والجماعات التي تتمسك بالعقائد والمذاهب الموروثة، رغم أنَّها لا تستند إلى نظر صحيح، ورؤية سليمة واعية، يكون مصيرها الجمود والتخلُّف والتأخُّر، لأن ما تتمسَّك به لا يقوم على أساس من الحق، وقصارى ما تعتمد عليه هو التقليد القائم على التبعية العمياء، وتقديس مواريث الآباء والأجداد، من دون أدنى إعمال للعقل والفكر.

القضاء على سلطة المتألِّهين

وبهذه الدُّعامة المهمة المنطلقة من تحرير الإنسان من الحجر العقلي، وسيطرة التبعية العمياء، وتربيته على حرية الفكر، وعلى الإرادة الحرة، قضى الإسلام الحنيف على سلطة المتألِّهين من أصحاب القيادات الضالَّة المضلِّلة، وخلع عنهم رداء القداسة التي انتحلوها لأنفسهم، وموَّهوا على الناس بأنها رفعتهم فوق النقد أو الجرح والتعديل، وأجرى عليهم من أحكام المسؤولية والجزاء ما أجراه على سائر الأفراد.

هذا، وقد بيَّن الإسلام أن ربوبية العبادة والتشريع إنما هي حق خالص لله تعالى وحده، وأهاب بأسرى التقليد والتبعية العمياء، أن يحرِّروا أنفسهم من هذه الأغلال الجاثمة على عقولهم وأفهامهم، وتلك الغشاوة المعقودة على أسماعهم وأبصارهم.

وقرر الإسلام، بوضوح وجلاء، حق الإنسان في حرية الفكر والاعتقاد، وحرية الرأي، واستقلال الإرادة، كما فتح له في كل زمان ومكان، طريق التحرُّر الفكري، والاستقلال الإرادي، وبوَّأه المنزلة اللائقة بإنسانيته وكرامته.

كما عرَّف الله، سبحانه وتعالى، الإنسان بأنه لم يخلقه عبداً يقاد، كما تقاد بهيمة الأنعام، وفي الآن نفسه لم يجعل لمخلوق مهما كان، حق السيطرة على عقله

وفكره وإرادته، وإنما خلقه حرَّاً مالكاً لقياد نفسه، وعبداً لربه الواحد الأحد فقط. جعله يفكر بعقله، ويسترشد بمواهبه وقدراته التي منحها إياه، ويعمل باختياره وإرادته، ويهتدي بنور العلم في مسيرته الحياتية، وفي اتخاذ قراراته المصيرية، وفي أداء أعماله.

عرف الله الإنسان وعلَّمه أن لا يظهر بمظهر العبودية إلا لخالقه الأعظم، ولا يدين في عقائده وسلوكه إلا بدين الحجَّة والبرهان.

ولا يفوتني، في نهاية حديثي عن هذه الدعامة الأولى من دعائم المنهج الإسلامي في تحرير العقل والفكر، أن أوضح حقيقتين مهمَّتين، قد يقع الخلط من بعضهم في فهمهما:

الحقيقة الأولى: التقليد الذي نقصده

إنَّ التقليد الذي نقصده، هو ذلك التقليد الذي ذمَّه الإسلام، وشدَّد النكير على أهله، والذي أوضحنا مفاسده، وآثاره السيئة في الأفراد والجماعات، عبر سطورنا الفائتة، هذا التقليد هو: التقليد الأعمى الذي ينطلق من الجمود، والثبات على القديم الموروث من دون إعمال الفكر فيه، مع التبعية العمياء، ومحاربة كل جديد يخالفه، ولو كان هذا الجديد فيه صالح الناس وخيرهم، أو هو أقوم طريقة وأهدى سبيلاً.

التقليد الذي نعنيه هو الذي لا يميِّز بين التقليد في الخير، والتقليد في الشر، وعليه فهو لا يفرِّق بين اتباع الحق من الأئمة الراشدين، والعلماء الصالحين، والمفكرين الهادين، والقادة المصلحين، وأتباع أهل الباطل من أصحاب القيادات الضالَّة المضلِّلة، والأهواء الجامحة، وأصحاب النزعات التي تسيطر عليها الأنانية والمصالح الخاصة.

هذا هو التقليد الذي ذمَّه الإسلام، وشدَّد النكير على أصحابه. أما تقليد أهل الخير والصلاح، والحق والفلاح، من الأئمة الراشدين، والعلماء العقلاء المعتدلين،

الراسخين في العلم والمعرفة، والمتميزين بالأخلاق الصالحة، هؤلاء الذين استمدوا أفكارهم، وعلومهم، ومذاهبهم من هدى كتاب الله المجيد، والسنة النبويَّة المطهَّرة، واستقاموا على الطريقة المثلى، والمحجة البيضاء، تقليد هؤلاء ليس من قبيل التبعيَّة العمياء التي لا تنظر، ولا تفكِّر في ما تقلد، وإنما اتِّباع هؤلاء من قبيل القدوة الواعية المستبصرة، فمن واجبنا أن نتبع أهل العلم والمعرفة إن كنا لا نعلم أو لا نعرف.

يقول تعالى: {فاسأَلوا أهْل الذِّكر إن كُنتم لا تعلمون } [النحل: 43]. ويجدر بالقول هنا: إنَّ تعبير “أهل الذكر” ورد في القرآن الكريم مرتين، أما كلمة “الذكر” فقد وردت (19) مرة.

ونحن نعرف قول الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) الذي جاء في حديث العرياض بن سارية: “فإنه من يعش منكم بعدي، فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين”.

نقول: إنّ طريق العصمة من ضلال الرأي، وطغيان الهوى والنجاة من شرور التفرق، والاختلاف، والتمزُّق، والخروج من ظلمة الجهل وضلاله، ويتمثَّل في الاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله الكريم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، وسؤال أهل العلم والمعرفة الذين عرفوا بالرسوخ والأمانة في العلم، والاعتدال في القصد والتفكير.

الحقيقة الثانية: الحرية التي نقصدها

إن حرِّية الفكر التي جعلها الإسلام رائداً للتفكير السليم، ونبراساً للعقول والأفهام في الاهتداء إلى معالم الحق والخيرية، هي الحرية التي تطلق عقولنا وأفكارنا من أغلال الحجر العقلي، والكبت الفكري، وتحرِّرها من سيطرة التقليد والتبعيَّة العمياء، وتجلو لها معالم الحقائق التي كانت محجوبة عنها.

الحرية التي نقصدها، والتي دعا إليها الإسلام، تتمثَّل في أن الإنسان حر دائما وأبداً ما لم يضر الآخرين، مع مراعاة أن قيادة التوجيه والإرشاد يجب أن تكون قيادة بناء وإصلاح وتربية وتعليم، لا قيادة هدم وإفساد وتضليل،قيادة

تستمد مقوِّماتها العلمية من هدي الإسلام، وتعاليمه، من نضوج العقل واستقامة التفكير، من الاعتماد على قضايا الحق والمنطق، وتحكيم الحجَّة والبرهان، مع التحرِّي الواعي في فهم نصوص كتاب الله المجيد والسنة النبوية المطهَّرة، والاستدلال بهما على قوانين النظر والفكر.

وعلى من يتصدَّى للرأي والحل والعقد أن يفهم القرآن والسنة جيداً، انطلاقاً من فهمه ووعيه بدلائل اللغة العربية، والثقافة الإسلامية وخصائصهما وأوضاعهما بوجه عام، لأنه إذا وكَّل الأمر إلى الناس ليفهموا ويستنبطوا، كما يريدون ويشتهون، لاختلَّت موازين الصواب والخطأ، في الفهم والاستنباط، وغابت الحقائق عن الأفهام في غمرة الأهواء، لأن العقول والأفهام متفاوتة، والأهواء والنوازع متحكِّمة، وأهل الكمال، أو الذين يشتاقون إلى الكمال، أو يتطلعون إليه، في كل زمان ومكان، قليلون.

هذه هي حرية الفكر التي نادى بها الإسلام، وجعلها نبراساً للعقل ورائداً للفكر، فهل آن لنا أن نعيها ونتدبرها ؟!

الدعامة الثانية: عندما يقتل الجهل مواهب الفكر

الدعامة الثانية من دعائم المنهج الإسلامي، في تحرير العقل والفكر، تتمثَّل في تحرير الإنسان من أصفاد الجهل وظلمته، فالجهل قاتل محترف للمواهب الفكرية وللرؤى العقلية، فهو يطفئ نور القلوب، ويعمي الأبصار، ويخلخل عناصر الحياة، ويضعف القوَّة في الأمم، ويفسد على جماهير الناس مناهج الدِّين والتديُّن، ومبادئ الأخلاق القويمة.

الجهل هو الذي يجعل النفوس مستعدَّة ومهيأة لقبول ما يحدث في الدِّين من خرافات، وبدع، وضلالات، لأن أهل الأهواء والبدع الذين يظهرون بين الناس بمظهر العلماء، والزعماء الدينيين، يجدون في الجهل بتعاليم الدين الحنيف مرتعاً خصباً، ومجالاً رحباً، لنشر الخرافات والبدع باسم الدين. وبكل أسف، فإن أكثر

الناس يسارع، بدافع الجهل، والأمية الدينية، والثقة العمياء بهؤلاء الأدعياء، إلى اعتناق أفكارهم الضالَّة المضلِّلة، ويعمل بها بوصفها من لباب الدين، وهو لا يعلم أن الدين منها براء.

وهنا يأتي دور أهل الذِّكر، من العلماء الذين يتحلَّون بالاعتدال، والاستنارة، والقدرة على الوصول إلى عقول الناس وقلوبهم، يأتي دور هؤلاء في التصدِّي لأولئك الأدعياء وأفكارهم المضلِّلة.

ويأتي أيضاً دور أولياء الأمور في نشر الوعي الديني في جميع أماكن تواجد الناس، ولا يسمح بأن يتصدَّى للوعظ والإرشاد والفتوى والاجتهاد إلاَّ من تتوافر فيه الصفات المؤهلة لذلك، وكفانا تركاً لحبالنا على الغارب !.

لقد عني الإسلام عناية كبرى بهذه الدعامة، دعامة تحرير الإنسان من ظلمات الجهل،فذم الجهل والجاهلين. قال الله تعالى: {يظنُّون بالله غير الحق ظنَّ الجاهلية } [آل عمران: 154]، وقال: {أفحكم الجاهلية يبغون؟ } [المائدة 50].

لقد علَّمنا الإسلام أن الذين يوقنون بالله حقَّ اليقين، هم الذين يتَّبعون الحقَّ الإلهي، وهم الذين لا يعبدون إلا الله الواحد الأحد، وبذلك يكونون من أهل الحق ولا يكونون من الجاهلين.

كما أنحى الإسلام باللاَّئمة على الذين يتبعون الظنون والأوهام في عقائدهم، لأن من يتَّبع الظَّن يطرق باب الضلال، والظَّن لا يغني من الحق شيئاً، والله يعلم ما نفعل، وبما نعتقد.

والله، سبحانه وتعالى، يطلب منا ألاَّ نقف ما ليس لنا به علم، فالسمع والبصر والفؤاد كل أولئك كانوا عنا مسؤولين يوم الموقف العظيم.

العلم والحكمة في مواجهة الجهل

لقد عظَّم الإسلام شأن العلم، وحثَّ على طلبه في كل زمان ومكان، وجعله فريضة على كل مسلم ومسلمة.

يقول الله سبحانه وتعالى: {بل هو آياتٌ بيِّناتٌ في صدور الذين أوتوا العلم، وما يجحد بآياتنا إلاَّ الظَّالمون }[العنكبوت 49].

والمقصود، في الآية، هو القرآن الكريم، ويجدر بالذكر أن جملة “أوتوا العلم” وردت في القرآن الكريم (11) مرة.

ويطلب القرآن الكريم من رسولنا(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) أن يدعو ربَّه ليزيده علماً.

ويقول الرسول(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم): “من يرد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين، ويلهمه رشده”.

ويقول: “من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له طريقاً إلى الجنة”.

هذا، وقد وردت كلمة “علم” في القرآن الكريم (60) مرة، كما ذكرت كلمة “اقرأ” ثلاث مرات، كما ذكرت كلمة “يتفكرون” عشر مرات، وكلمة “تتفكرون” ثلاث مرات، وكلمة “يتفكروا” مرتان، وكلمة “فكر” مرة واحدة، وكذلك كلمة “مفكر” مرة واحدة، ونحن نعلم أن الفكر هو جزء لا يتجزأ من العلم والمعرفة، ومهما كان علمنا فهو قليل جداً بالنسبة لبحر كلمات الله الذي لا ينفد أبداً.

هذا، وقد نوَّه الإسلام بفضل الحكمة، وما فيها من الخير الكثير كما في قوله تعالى: {يُؤْتي الحِكْمَة من يشاءُ ومن يُؤْتَ الحكمةَ فقد أُوْتي خَيْراً كثيراً } [البقرة: 269].

وقد تكرَّرت كلمة “الحكمة” في القرآن الكريم خمس مرات.

وقال رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم): “لا حسد إلاَّ في اثنين: رجل أتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها الناس”.

إن الله، سبحانه وتعالى، رفع العلماء إلى أعلى الدَّرجات، فدماء الشهداء تعادل مداد العلماء، والملائكة ترحِّب بهم في يوم الموقف العظيم، وتحملهم على ظهورها، و أجنحتها ترفرف لهم تقديراً واحتراماً.

والعلماء هم أهل خشيته تعالى، وقرن شهادتهم بشهادته عزَّ وجل وشهادة

ملائكته، فمن المحال أن يستوي أهل العلم والمعرفة بأهل الجهل والضلال.

والعلماء هم أصحاب العقول الراجحة، وهم أهل الذِّكر، هم ينابيع العلم، وموارد العرفان، وروَّاد الحق، ودلائل الهدى، فعلينا أن نسألهم ونطلب رأيهم إن كنَّا لا نعلم، ولا ضرر ولا ضرار في ذلك لأن الله خصهم بالعقل والفهم.

رؤية الإسلام لدور العلم في تنمية المجتمع

لقد عرف المسلمون الأوَّلون منزلة العلم وفضله، وأدركوا مبلغ الحاجة إليه في تديُّنهم، وبناء مجتمعاتهم، وتنميتها في جميع النواحي، وكذلك دعم سلطانهم.

لقد أدرك المسلمون أن العلم هو الطريق الوحيد للتنمية الشاملة، فهو الذي يوضح لهم معالم السير على النهج القويم، ويفتح لهم آفاق الحياة العزيزة الكريمة، ويكشف لهم عن أسرار العوالم الكونيَّة ونواميسها.

أدرك المسلمون أن العلم هو الذي يقيم لهم وسائل الحياة والقوَّة، ويبني لهم قواعد السيادة والمجد والتقدُّم. عرفوا هذا كله فوجَّهوا عزائمهم إلى طلب العلوم والمعارف والفنون على اختلاف أنواعها، ولم يشغلهم عن طلبها ترف الحضارة، ونعماؤها، ولا أثنت عزائمهم عنها بأساء الحياة وضراوتها، وبحثوا عنها بعزيمة لا تكل، وبرغبة لا تمل، في آيات الله التشريعية، وآياته الكونية، فأقاموا لها في كل قطر إسلامي مناراً عالياً، وحملوا مشاعلها المضيئة، إلى مشارق الأرض ومغاربها.

أجدادنا من المسلمين لم يقفوا بجهودهم عند نتاج عقولهم وأفهامهم ، بل اتجهوا بها إلى علوم السابقين، فاستخرجوها من زوايا الإهمال والنسيان، وأخذوا إبريزها بعد أن زادوه نقاءً وصفاءً، وردُّوا زائفها، بعد أن تبيَّن لهم زيفه وفساده، لأنهم كانوا يطلبون هذه العلوم طلب الناقد البصير، لا طلب التابع المقلِّد، واكتمل لهم من ملكات العلوم والفنون في جيل واحد، ما لم يكتمل لأمَّة من الأمم الناهضة في عدَّة أجيال.

وفي هذا يقول بعض المؤرِّخين الاجتماعيين، من علماء الغرب: إن ملكة الفنون لم يتم تكوينها، في أمّة من الأمم الناهضة، إلا في أجيال ثلاثة: جيل التقليد، وجيل الخضرمة، وجيل الاستقلال والاجتهاد واستثنى من هذا الواقع العرب وحدهم، فقد استحكمت لهم ملكة الفنون في الجيل الأول الذي بدأوا فيه مزاولتها.

والباحث المدقِّق، في تاريخ حضارتنا العربية الإسلامية، يعجب من هذه النهضة العلمية التي تخطَّت مراحل النهوض في الأمم، ويعجب أيضاً كيف أنهم قاموا بهذه النهضة على الرغم من الأحداث العاتية التي حملوا أعباءها، والحروب الطاحنة التي خاضوا غمارها، لأن الأحداث والخطوب، وإن بلغت من العنف ما بلغت، لا تستطيع أن تقف في طريق العقائد التي انطوت عليها القلوب، وانفعلت بها النفوس، ولا أن تمنع العزائم القوية، من الوصول إلى أغراضها وأهدافها النبيلة، من دون صدام أو عراك، ولكن وعياً وإدراكاً بأهمية العلم والمعرفة، وسعادة البشرية جمعاء.

نقول: إنه بهذه النهضة العلمية استطاع الأجداد عبر حضارتنا العربية الإسلامية أن يعملوا عمل الأقوياء لدينهم، ولوطنهم، ففي رأينا: إنّ العمل لبناء المجتمعات القوية، في دينها ودنياها، لا يصدر إلا عن إرادة قوية دافعة واعية، والإرادة القوية الدافعة تنبثق من العلم والمعرفة، فالأمة التي أفقدها الجهل والتراخي والتسيُّب وعدم الانتماء، قوَّة الإرادة وصدق العزيمة، لا يمكن لها على وجه الإطلاق أن تعمل لا لدينها ولا لوطنها، وتظل دائماً في أسر التبعية للآخرين من الأقوياء مادياً، كما تسهل الهيمنة عليها، وبالتالي من المحال أن تملك قرارها أو إرادتها.

فلنعِ ذلك جيِّداً، ولنبدأ من حيث انتهى الأجداد، ولنتحلَّ بحب العلم والمعرفة، كي نكون بحق من أصحاب الإرادة القوية الدافعة، ومن أصحاب العزائم الصادقة، من أجل ديننا وأوطاننا.

الدعامة الثالثة: التحرُّر من طاعة الأهواء

إهتم الفكر الإسلامي، وهو يؤكد ثقافة تحرير العقل والفكر، بتحرير الفكر الإنساني من طاعة الأهواء، والانقياد الأعمى لوحيها، لأن طاعة الأهواء من أقوى عوامل انحراف السلوك الإنساني، كما يؤدي إلى التوائه في نظره، وتفكيره، و يؤدي إلى ضلاله في عقائده وتدينه.

إن الهوى، إذا دخل في شأن من شئون الدين والدنيا، أفسده على الفور، أمَّا عباد الأهواء والميول والنزعات والرغبات، فمن المحال أن تسلم لهم طويَّة، ولا يستقيم لهم رأي أو فكر، ولا تعتدل لديهم موازين الحكم على الأمور، ولا يخضعون لحق ليس في جانبهم، وكأن الحق تابع لأهوائهم وأغراضهم، فإذا سألوا عن حكم شرعي، أو رأي فيه صالح للجميع، سألوا عنه وصدورهم منطوية على هوى دفين، فإن أجابهم أحد أهل العلم والفكر المشهود له بالصلاح والاعتدال، أجابهم بما لا تهوى أنفسهم، سخطوا وأعرضوا، وإذا حاول أن يقنعهم بالدليل والبرهان وبالتي هي أحسن، ركبوا رؤوسهم، ولجُّوا في عتوٍّ ونفور، ودخلوا معه ومع غيره في جدال سقيم عنيف، لا يقف عند حد، ونقاش عقيم لا ينتهي إلى غاية أو نتيجة، لأنهم ليسوا طلاب حق يخضعون له، ويسلكون سبيله، وإنما هم أصحاب ميل وهوى، يسيرون وراءه، ويبغون تحقيقه.

ومن هنا عُنِي الإسلام بالتحذير البالغ من اتِّباع الهوى والميل والانقياد الأعمى، فذمَّ العاكفين على عبادة الأهواء والأغراض، ونعى عليهم ضلالهم وانحرافهم عن الحق، إرضاءً لأهوائهم، فهم لا يتَّبعون إلاَّ الظنَّ، ولا يسيرون إلا وراء أهواء نفوسهم، رغم أن هدى ربِّهم قد جاءهم واضحاً جلياً.

هذا الصنف من الناس جعل من هواه إلهاً له، وكانت النتيجة أن ختم الله تعالى على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة.

وقال تعالى: {فإنْ لم يستجيبُوا لك فاعْلَمْ إنَّما يتبعون أهواءهم، ومن أضلَّ ممن }

{اتَّبع هواه بغير هدى من الله، إن الله لا يهدي القوم الظَّالمين } [القصص: 50].

ويقول معلِّمنا رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم): “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به”. وقال: “ثلاث مهلكات: شحٌّ مطاع، وهوى متَّبع، وإعجاب المرء بنفسه”.

وهكذا طالبنا الإسلام الحنيف، وهو يعلن ثقافة تحرير عقل الإنسان وفكره، بأن نطهِّر نفوسنا وسلوكنا من الأغراض الخفيَّة، والأهواء الدفينة، ونحرِّر عقولنا وأفها منا من الخضوع لسلطانها، والانقياد الأعمى لوحيها، وأن نجعل أهواءنا دائماً وأبداً تبعاً لحكم الله وشرعه الحكيم، ولا نجعل بأيِّ حال من الأحوال أحكام الله تبعاً لأهوائنا.

وختاماً

نقول: إن الدَّعائم التي سبق وأوضحناها – في رأينا – تعدُّ من أكبر العوامل في اعتدال النظر، واستقامة التفكير، وصحَّة العقائد وكمال الأخلاق، وصلاح الأعمال، وهي تعكس بجلاء كيف دعا الإسلام إلى ثقافة تحرير العقل والفكر، قبل أن تدعو لها المذاهب الفلسفية والنظريات الحديثة والمعاصرة.