الحوار والدعوة إلى الدين رؤية قرآنية

280

الحوار والدعوة إلى الدين رؤية قرآنية

عبير عقيل (*)

 

اتَّجه المستشرقون والكثير من الباحثين الغربيّين المهتمّين بدراسة دين الإسلام ومنذ زمنٍ بعيد إلى تعريف هذا الدِّين بأنَّه دين القتال والسيف. بل حتَّى أولئك المصنِّفين الذين يُمكن القول إنّهم لم يكن لديهم أهداف خاصّة في دراساتهم فإنَّهم سلكوا طريقاً خاطئاً يخلو من الإنصاف في موضوع التحليل العلميّ لظاهرة الحرب والقتال في الإسلام.

نعم لهذا الأمر جذوره التاريخيّة. فعندما نراجع المصادر التاريخيّة سوف يظهر لنا وبوضوح أنَّ تاريخ الإسلام يَحفل منذ بدايته بالكثير من الحروب، ومن ذلك الغزوات والسرايا التي يصل عدد ما كان منها في عهد رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) إلى ما يقرب من سبعين غزوة وسريّة، ثمّ بعد ذلك نلحظ الفتوحات الإسلاميّة، الحروب التي خاضها الإمام علي (عليه ‏السلام) مع خصومه، مقدِّمات الحرب بين الإمام الحسن(عليه ‏السلام) ومعاوية، ثمَّ استشهاد الإمام الحسين (عليه ‏السلام) في ساح الجهاد. فالنظرة التي يَنظر بها المسيحيُّون وغيرهم إلى دين الإسلام على أنّه دين القتال والسيف قد تمتلك الشواهد التاريخيّة.

ولكن من جهةٍ أُخرى نجد أنَّ هؤلاء يُنكرون الطبيعة الدِّفاعيَّة للحروب التي

________________________________________

(*) باحثة جامعية، من لبنان.

 

 

خاضها النبيّ الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم)، وكذلك الحال في الحروب التي فُرضت على الأئمّة علي وبنيه (عليهم ‏السلام). ومن هنا يظهر أنَّ أساس النقد الموجَّه من قِبَل هؤلاء للإسلام ليس نقداً علمياً يَستند إلى ملاحظة الموضوع من كافَّة جوانبه، ولا يأخذ بعين الاعتبار النظرة الأساس التي يحمـلها هذا الدِّين في كيفيّة الدعوة إليه ونشر تعاليمه. ونسعى في هذه الدِّراسة للبحث في الجوانب المختلفة لهذا الموضوع عبر ملاحظة أصول الدعوة الإسلاميّة، حريَّة العقيدة، عدم الإكراه على الدّين ومحدوديّة دائرة القتال:

1 ـ أصول الدعوة إلى الإسلام وطرقها

إنّ ما يمتاز به الإسلام عن سائر الأديان هو أنّه يُخاطب العقل، الروح والوجدان. وتجد في القرآن الكريم خطاباً خاصّاً ومناسباً للعقل والروح.

ولذا نجد في الآيات القرآنيّة استدلالاً يَعتمد على ذكر البرهان، والمثال وأسلوب المقايسة، والمخاطَب بذلك هو العقل لتمكينه من إدارك تلك المعارف التي توصل الإنسان الى الاعتقاد بالذَّات الإلهيَّة المقدَّسة.

قال تعالى مخاطباً عقل الإنسان: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } (يس، 78ـ 79).

فالقادر على خلق آدم من العـدم هو أقدر على إعادة خلق ما كان موجوداً. وهذا دليل وبرهان قطعيّ يُخاطب به الله (عزوجل)العقل لإثبات مسألة المعاد.

كما يَستخدم القرآن الكريم عنصر الدعوة إلى التأمّل والتدبّر وتحريك الإحساس كأسلوبٍ مناسبٍ لخطاب الروح لكي يَسعى الإنسان لتزكية نفسه لكي يحرِّك فيه روح العشق لله عزّ وجل. يقول تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ }

________________________________________

{وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ الله قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } (النمل، 62ـ 63).

فالخطاب في هذه الآية هو للروح. وفي الآية دعوة للتفكّر والتأمّل في وحدانيّة الله عزّ وجل، وفيها دعوة للروح لكي تتخلَّص من شوائب الشرك وتنجذب للعشق الإلهيّ.

وأمَّا الخطاب الإلهيّ للوجدان الإنسانيّ فيظهر في دعوة الله عزّ وجل الإنسان للرجوع إلى فطرته، وهي العنصر الذي يَعتمد عليه أسلوب مخاطبة الوجدان؛ لأنّ في رجوع الإنسان إلى فطرته إحياءً للوجدان الإنسانيّ الذي يكون حاكماً على سلوك الإنسان وتصرّفاته. وفي خطاب الله عزّ وجل للوجدان يقول تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } (سبأ، 46).

ومن الواضح أنَّ في هذه الآية دعوة للوجدان للنظر الصحيح ـ حيث يكون الهوى والهوس مانعاً من ذلك ـ في أمر النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله).

إنَّ الهدف الأساس من هذه الآيات وما تضمَّنته من خطاب هو إيصال العقل إلى كمالاته وكذلك بثّ ما يبعث في الروح الطمأنينة وإشباع الوجدان بالتوسّل بالأسباب الموجِبَة لذلك، ليصل إلى حدِّ الاعتدال ويتخلَّص بذلك من عذاب الوجدان.

ولذا يُمكن القول إنَّ الدعوة الإسلاميّة هي دعوة إلى هذه الكمالات كافّة، ولأجل الخروج بالإنسانيّة من الظلمات إلى النور. ويُشير الباحث محمد عصمت إلى ذلك فيقول:

«ومن ثمّ فإن الدعوة إلى الإسلام العزيز تعني الدعوة إلى كلِّ تلك

________________________________________

 

المتوازنات عن طريق سياقه الخلق إلى الله خالقهم، وردّهم إلى فطرتهم التي فطرهم عليها. وهذا هو معنى إخراج الناس من الظلمات بجميع معانيها ومصاديقها إلى النور الذي تُرى به حقائق الأشياء» (1).

ولذا يرى القرآن الكريم أنَّ العملَ في مجال الدعوة هو من أشرف الأعمال:

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ المُسْلِمِينَ } (فصلت، 33).

ونظرا لأهميَّة الدعوة إلى الإسلام فقد بناها الله عزّ وجل على أُسس وقواعد علميّة. وهذا ما نجده بوضوح في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ } (النحل، 125).

ويظهر من هذه الآية أنَّ الدعوة إلى الله عزّ وجل ليست عملاً اعتباطياً، بل هي عمل هادف لا يمكن أن يكون تابعاً للقوانين الوضعيّة التي يَضعها البشر (المبلّغون).

إنَّ الدعوة إلى الدِّين وإبلاغ الأحكام الإلهيّة لعباد الله هو من وظيفة كلِّ فردٍ مسلم وهو من الواجبات الاجتماعيّة التي تقع على عاتق الدولة الإسلاميّة. فالدعوة إلى الإسلام هي من الأمور التي حثَّ عليها الكتاب الكريم وحثّت عليها سنّة النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) وهي من البديهيّات والأحكام الواضحة في التشريع الإسلاميّ.

وقد تعدّدت الآيات الورادة في القرآن الكريم والتي تُشير إلى مسألة الدعوة إلى الإسلام. ولكنّ الآية المذكورة أعلاه هي الآية الوحيدة التي تتعرّض لعناصر وقواعد وأُسس الدعوة. وهذه العناصر عبارة عن:

الحكمة، الموعظة الحسنة، الجدال الهادف والعلمي، وهذا ما نتعرّض له في هذه السطور:

________________________________________

(1) – عصمت، محمد، معنى الدعوة في القرآن، مجلة النبأ، العدد 34، ربيع الأول، 1420 هـ . ق.

 

1ـ 1ـ الحكمة

ذكر أهل اللغة أنَّ أصل مفردة الحكمة هو من (حَكَمَ) بمعنى مَنَع (2)، وهو المنع الذي يكون لأجل الإصلاح (3)، ولذا يُطلق على لجام الفرس الحكمة، لأنَّه يمنعه من الحركة (4). ويرى بعضهم أنّ الحكم اشتق منه لأنّه بمعنى الشيء الذي يَمنع من الظلم. وعلى هذا الأساس وطبقاً لهذا القياس فإنَّ الحكمة هي الأمر الذي يَمنع من الجهل (5). ويذكر أحمد بن محمد الفيوميّ في كتابه (المصباح المنير) ضمن تأييده للقول المذكور أعلاه أنّ الحكمة تمنع صاحبها من أخلاق الأرذال (6).

ويذكر صاحب كتاب (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) واستناداً إلى الكتب اللغويّة المعتَبَرة كالمصباح المنير، معجم مقاييس اللغة، صحاح اللغة ولسان العرب أنَّ : «الأصل الواحد في هذه المادّة هو ما يحمل على موضوع ويلحقه وما به يتحقق الأمر والنهي إذا كان عن بتّ ويقين» (7).

نصل ممَّا تقدّم إلى أنَّ جذر هذه الكلمة يرجع إلى وضع الشيء في موضعه مع المنع من الخلل والضياع. ويُلحظ هذا المعنى من بُعدين بُعد نظريّ وآخر عمليّ. فالحكمة في بُعدها النظريّ هي التي تمنع من الجهل، وتدعو إلى العلم وتحرص عليه، والحكمة في بُعدها العمليّ تمنع الإنسان من مساوئ الأخلاق، وتدعوه إلى محاسن الأخلاق.

مضافاً إلى المعنى اللغويّ لمفردة الحكمة فقد ذكروا لها معانيَ متعدِّدة ترجع جميعها إلى المعنى الجذريّ لهذه الكلمة وهو عبارة عن المنع ووضع الشيء في موضعه. وحذراً من الإطالة في هذا المجال نتعرّض لبعض هذه التعاريف بنحو الإشارة فقط:

أ ـ إصابة الحقّ والوصول إليه عن طريق العلم والعقل (8).

________________________________________

(2) – ابن فارس، أحمد، مادة حكم؛ الطبرسي، الفضل بن حسن، مجمع البيان فی تفسير القرآن ج6 ص 605.

(3) – الراغب الاصفهاني، حسين بن محمد، ذيل حكم.

(4) – ابن فارس، أحمد، مصدر سابق، مادة حكم.

(5) – م. ن.

(6) – الفيومي، احمد بن محمد،‌ المصباح المنير، 1ج،ص145، ذيل الحكم.

(7) – مصطفوي، حسن، مادة حكم.

(8) – الراغب الاصفهاني، حسين بن محمد، مصدر سابق، ص249.

 

ب ـ العلم الدقيق والمحكَم الذي يكون تعلّمه سبباً للكمال العلميّ والعمل به موجب للكمال العقليّ(9).

ج ـ الحكمة على نوعين: حكمة علميّة وحكمة عمليّة. أمَّا الحكمة العلميّة فهي عبارة عن الاطِّلاع على حقائق الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بالمسبِّبات، وأمَّا العمليّة فهي وضع الشيء في موضعه (10).

دـ كلُّ ما يكون موجباً لتصفية العلوم الإنسانيّة في طريق مسيرها التكامليّ (11).

1ـ 1ـ 1ـ الحكمة في آراء المفسّرين

وردت مفردة الحكمة في القرآن الكريم في عشرين موضعاً. وأمّا كلمة (حكم) التي تعود إلى نفس هذا الجذر فقد وردت في مائة موضع. كما أنّ مفردة (حكيم) وردت في تمام الآية كصفةٍ من صفات الله عزّ وجل، كما ورد وصف القرآن الكريم بها في أربعة مواضع، وورد في موضعٍ واحدٍ وصف الأمر بأنّه حكيم.

وقد تعرّض المفسِّرون لتفسير هذه المفردة في ذيل الآيات التي ورد الحديث فيها عن الحكمة، وأهمّ آرائهم تتلخّص في التالي:

ألف ـ ذكر بعضهم أنّ الحكمة هي بمعنى النبوّة والقرآن، كالسمرقنديّ في بحر العلوم (12). ولكن بعضهم ذكر أنّها بمعنى النبوّة فقط كصاحب دقائق التأويل وحقائق التنزيل (13).

ب ـ الحكمة بمعنى القرآن. فقد تبنّى كثيرٌ من المفسّرين هذا الرأي ومنهم: الطبريّ (14)، الثعلبيّ في الكشف والبيان عن تفسير القرآن (15)، والطبرسيّ في مجمع البيان (16)، البغويّ في معالم التنزيل (17)، السيوطيّ في تفسير الجلالين (18)، الحائريّ في مقتنيات الدرر وملتقطات الثمر(19)، الهويديّ في التفسير المعين للواعظين والمتّعظين (20) وغيرهم من المفسِّرين.

________________________________________

(9) – العيني، محمود، عمدة القارئ، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ج2، ص249.

(10) – الشرباصي، احمد، موسوعة الاخلاق القرآن، بيروت، دار الرائد العربي، 1971م، ج 3، ص 94.

(11) – جعفري، محمد تقي، ترجمة وتفسير نهج البلاغة، طهران، دفتر نشر فرهنگ اسلامی، 1376، ج2، ص 187.

(12) – السمرقندي، نصر بن محمد، بحر العلوم، ج2، ص297.

(13) – الحسني أبو المكارم، محمود بن محمد، دقائق التأويل وحقائق التنزيل، طهران: نشر ميراث مكتوب، 1381ش، ص 368.

(14) – الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان فی تفسير القرآن، بيروت، دار المعرفه‏، 1412ق، ج14، ص131.

(15) – الثعلبي، احمد بن ابراهيم، الكشف والبيان عن تفسير القرآن، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1422 ق، ج6، ص51.

(16) – الطبرسي، الفضل بن حسن، ج 6، ص605

(17) – البغوي، حسين بن مسعود، معالم التنزيل في تفسير القرآن، بيروت، دار المعرفة، ج3، ص103.

(18) – السيوطي، جلال الدين، تفسير الجلالين، بيروت، مؤسسه النور للمطبوعات، 1416ق، ج1، ص 284.

(19) – الحائري الطهراني، مير سيد على، مقتنيات الدرر وملتقطات الثمر، طهران، دار الكتب الاسلامية، 1377ش، ج6، ص 204.

(20) – الهويدي، محمد، التفسير المعين للواعظين والمتعظين، ‏قم، انتشارات ذوى القربى، ص 281.

 

ج ـ الحكمة أن لا تخالف أفعال المبلِّغ أقواله. وقد ذكر ذلك القشيريّ في لطائف الإشارات (21).

د ـ ذكر الشيخ الطوسي في التبيان: «الحكمة هي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن والقبح والصلاح والفساد. وقيل لها : حكمة، لأنَّها بمنزلة المانع من الفساد، وما لا ينبغي أن يُختار، والأصل المنع» (22).

هـ ـ الحكمة بمعنى الكلام الصحيح والمحكَم الذي يتضمَّن الدلائل المبيِّنة للحقّ والمزيلة للشُبهة. وقد اختار هذا الرأي الكثير من المفسِّرين منهم الطبرسيّ في جوامع الجامع (23)، أبو الفتوح الرازيّ في روض الجنان (24)، الراونديّ في فقه القرآن (25)، الزمخشريّ في الكشاف (26)، فخر الدّين الرازيّ في مفاتيح الغيب (27)، البيضاويّ في أنوار التنزيل (28)، البغداديّ في لباب التأويل(29)، الآلوسيّ في روح المعاني (30)، ووهبة الزحيلي في التفسير الوسيط (31)، وغيرهم من المفسِّرين.

و ـ ذكر الميبديّ في تفسيره (كشف الأسرار) أنّ الحكمة هي بمعنى السنّة (32). وأمَّا ابن كثير فقد فسَّر الحكمة بمعنى السنّة والقرآن (33).

ز ـ الحكمة بمعنى القول الصحيح والمحكَم، وهو عبارة عن الدلائل المبيِّنة للحقّ والمُزيلة للشبهة وما يُستخدم لدعوة خواصِّ الأمّة. وقد اختار هذا التفسير كلٌّ من الكاشاني في منهج الصادقين(34)، النيشابوريّ في تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان (35)، الفيض الكاشاني في الأصفى(36) والكاشاني في تفسير المعين (37).

ح ـ الحكمة تُطلق على العلوم الواصلة للأنبياء. وقد اختار هذا الرأي ابن عاشور وانفرد بذلك(38).

ط ـ الحكمة بمعنى وضع الشيء في موضعه. وبعبارةٍ أُخرى، أن تتّصف الدعوة بالحكمة في الأسلوب، ومناسبة الظروف الزمانيّة والمكانيّة. وقد تبنّى هذا

________________________________________

(21) – القشيري، عبد الكريم بن هوازن، لطايف الاشارات، مصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج2، ص 329.

(22) – الطوسي، محمد بن حسن، التبيان فی تفسير القرآن، ج6، 440.

(23) – الطبرسي، الفضل بن حسن، جوامع الجامع، ج2 ص 313و 314.

(24) – أبو الفتوح الرازي، حسين بن علي، روض الجنان وروح الجنان فى تفسيرالقرآن،، ج 12، ص 119 مشهد، بنياد پژوهشهاى اسلامى آستان قدس رضوى.

(25) – الراوندي، سعيد بن هبة الله،، ج 1، ص365 ‏مصدر سابق.

(26) – الزمخشري، محمود، الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل،، ج 2، ص644 بيروت‏، دار الكتاب العربي، 1407ق.

(27) – فخر الدين الرازي، محمد بن عمر، مفاتيح الغيب، بيروت، ج20، ص287، دار احياء التراث العربى، 1420ق.

(28) – البيضاوي، عبد الله بن عمر، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج 3، ص245، بيروت، دار احياء التراث العربی، 1418 ق.

(29) – البغدادي علاء الدين، علي بن محمد، لباب التأويل في معاني التنزيل، ج3، ص 107، كتاب المحبر. الطبعة الحجرية، 1661ق.

(30) – الآلوسي، السيد محمود، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم،، ج 7، ص 487 بيروت‏، دارالكتب العلمية، 1415.

(31) – الزحيلي، وهبة بن مصطفى‏، تفسير الوسيط،، ج 2، ص1319، دمشق، دار الفكر، 1422ق.

(32) – الميبدي، أحمد بن أبي سعد، كشف الأسرار وعدة الأبرار، ج5، ص469، طهران، انتشارات أمير كبير، 1371ش.

(33) – ابن كثير، اسماعيل بن عمرو، تفسير القرآن العظيم، ج 4، ص 526، بيروت، دار الكتب العلمية، 1419هـ . ق.

(34) – الكاشاني، ملا فتح الله، تفسير منهج الصادقين في إلزام المخالفين، ج5، ص،233، طهران، الناشر محمد حسن علمى، 1336 ش.

(35) – النيشابوري، حسن بن محمد، تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان، ج4، ص316 ‏بيروت، دار الكتب العلمية، 1416ق.

(36) – الفيض الکاشاني، ملا محسن، الأصفی فی تفسير القرآن، ج1، ص667، قم، مركز انتشارات دفتر تبليغات إسلامي، 1418ق.

(37) – الكاشاني، محمد بن مرتضى، تفسير المعين، ج2، ص694 قم، مكتبة آية الله مرعشي نجفي، 1410ق.

(38) – ابن عاشور، محمد بن طاهر، التحرير والتنوير، ج13، ص263.

الرأي أصحاب التفاسير التالية: تقريب القرآن إلى الأذهان (39)، تيسير الكريم الرحمن (40)، وفي ظلال القرآن (41).

ي ـ عرّف بعضهم الحكمة بعد بحثٍ مفصَّل وطويل بالتالي:

«المراد بالحكمة ـ فيما نفهمه منها ـ هو السير على الطريقة الواقعيّة، ونعني بها تلك التي تلاحظ الواقع الخارجيّ للمجتمع الذي تعيش فيه وتدرس ظروفه العقليّة والفكريّة والنفسيّة والاجتماعيّة، وتضع كلَّ ذلك في حسابها قبل بداية العمل» (42) ).

وهذا البيان طبقاً لما يذكره هو كتعريف البلاغة أي ما كان يُطابق مقتضى الحال.

إنَّ ما نصل إليه من خلال ملاحظة ما تقدّم من أقوال المفسّرين هو:

1ـ أنَّ للمفسّرين في حقيقة الحكمة رأيين:

أ ـ الحكمة بمعنى الحجّة، المعرفة، القول الصحيح والكلام المحكم، وهو رأي مشهور المفسّرين. ويرى هؤلاء أنَّ هذه الصفة فيها نظرٌ إلى المضمون، أي هي صفة للقول الذي يَعتمد على الدليل، البرهان والذي يمتلك أساساً منطقيّاً وعقلانيّاً. ومن هؤلاء المفسِّرين الشيخ الطوسي، الشيخ الطبرسي والزمخشري.

ب ـ لا يرى بعضٌ آخر من المفسِّرين كالسيّد قطب والسيد محمد حسين فضل الله أنّ الحكمة صفةٌ فيها نظرٌ إلى المضمون، بل هي صفة فيها نظرٌ إلى أسلوب الدعوة، أي إنّ طريق الدعوة لا بدّ أن يكون عن طريق الحكمة من خلال وضع كلِّ شيء في موضعه والعمل بمقتضى الحال.

ولكن بشيء من التأمّل والنظر يُمكننا التوصّل إلى عدم وقوع التنافي بين الرأيين، فالحكمة تشمل المضمون حيث يقوم على البرهان وتشمل أسلوب الدعوة والحكمة في رعاية المخاطب ومقتضى الحال. ولا تنحصر الحكمة في

________________________________________

(39) – الحسيني الشيرازي، السيد محمد، تقريب القرآن إلى الأذهان، ج2، ص278، ‏بيروت، ‏دار العلوم، 1424ق.

(40) – آل سعدي، عبد الرحمن بن ناصر، تيسير الكريم الرحمن، ج1، ص526، بيروت، مكتبة النهضة العربية، 1408ق.

(41) – قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج 4، 2202، بيروت ـ القاهرة، 1412ق.

(42) – فضل‌ الله، السيد محمد حسين، أسلوب الدعوة فی القرآن، ص 55، بيروت، دار الملاک، 1418ق.

القرآن بالبراهين المنطقيّة والفلسفيّة، بل تشمل كلا القسمين ـ أي الحكمة بمعنى البرهان والاستدلال والحكمة بمعنى رعاية المخاطب ومقتضى الحال ـ . ويؤيِّد هذا المدَّعى ما ورد عن الأئمّة المعصومين (عليهم ‏السلام) وبعض التفاسير الروائيّة كما فيما ورد عن الإمام الصادق(عليه ‏السلام) من أنَّ المراد من الحكمة هو القرآن الكريم، كما ورد إطلاق صفة الحكمة في بعض الآيات على مجموع القرآن الكريم كقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ }(هود، 1)، وقوله تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ } (آل عمران، 58).

فلا تنحصر حكمة القرآن ببُعدٍ خاص. فالقرآن منزَلٌ من عند الله الحكيم وهو يشتمل على الحكمة والبراهين والأدلَّة، وفيه بيان طريق المعرفة والأسوة في الحكمة النظريَّة والعمليَّة، وتجد فيه المفاهيم العامّة، ولذا كان القرآن نموذجاً للدعوة بالحكمة.

2ـ إنّ الرأيين الأخيرين (ط و ي) هما من أكثر الآراء ذات الانسجام المنطقي وهما من أنسب الآراء وذلك لأجل:

ـ تطابق هذين الرأيين مع المعنى اللغويّ لهذه الكلمة.

ـ ملاحظة اقتران صفة الحكمة بالدعوة. ويُستنتج من ذلك أنَّ الله عزّ وجل أراد من هذه الآية تحذير أهل الدعوة من استخدام غير هذا الأسلوب في عملهم الدَعَويّ، بل إنَّ عليهم استخدام أسلوب الحكمة بنحوٍ يتناسب مع ظروف الدعوة وينسجم مع تعاليم الدين. وبعبارةٍ أُخرى، ينبغي لهم مراعاة المخاطب ومقتضى الحال. وعليه فلا بدّ من أن يكون العمل الدَعَويّ مطابقاً للظروف الزمانيّة والمكانيّة، وكذلك الحالات النفسيّة للمخاطب؛ أي إنّ الحالة قد تقتضي أحياناً استخدام لغة العقل والمنطق، وأحياناً لغة العواطف والأحاسيس، وأحياناً أسلوب المواجهة مع الأفراد المعاندين. ومن الطبيعيّ أن لا يتمّ التعامل مع هذه الحالات المختلفة بنمطٍ واحد، بل لا بدّ من العمل بمقتضى الحال، أي العمل في كلِّ حالةٍ

________________________________________

بما يتناسب مع تلك الحالة. فالحكمة هي عبارة عن الدِّراسة الدقيقة للفكرة وملاحظة كافّة أبعادها بعمقٍ، وتقديمها من خلال اعتماد الأسلوب المناسب، والبحث في طريقة تفكير المخاطب الذي يُراد دعوته للإيمان بها، وذلك باستخدام العناصر والأسباب التي تحيي العقل والقلب.

ونصل من خلال ذلك إلى أنَّ الآية الكريمة هي في مقام بيان الأسلوب العمليّ للدعوة لأجل هداية الناس وإرشادهم إلى الدِّين، وهي تُشير إلى حقيقةٍ مفادها أنَّ إلقاء الحقائق مجرَّدةً عن الظروف المحيطة غير ممكنٍ، ولذا فإنَّ المراد من الحكمة العمل طبقاً للظروف المحيطة من خلال الأخذ بعين الاعتبار الظروف العقليّة، الفكريّة، الروحيّة والاجتماعيّة للأفراد، وذلك قبل القيام بأيِّ عمل. ولذا نجد اختلاف الأساليب التي اعتمدها الأنبياء (عليهم ‏السلام) في دعوتهم إلى الله عزّ وجل، بل نجد أنَّ النبيّ الواحد يستخدم أساليب مختلفة ملاحظاً في ذلك اختلاف الناس؛ لأنّ الداعية إلى الله عزّ وجل لا بدّ وأن يبحث في الظروف المحيطة ناظـراً في ذلك إلى طبيعة المخاطبين ونوع الاعتقـاد الذي يحملونه، نعم لا بدّ وأن يعتمد في ذلك على القواعد الأخلاقيّة التي تشكِّل قواعد عامّة للدعوة.

وبناء عليه فإنَّ الخصوصيَّة التي امتازت بها الدعوة الإسلاميّة هي أنَّها دعوة تعتمد على الحكمة أي دعوة الناس إلى الحقِّ بما يتناسب ومقتضى الحال الفكريّ، الاعتقاديّ والاجتماعيّ لهؤلاء الناس. وهذا بنفسه يشكِّل أسلوباً مؤثِّراً في جذب المخاطب وازدياد عدد المؤمنين (43). وبعبارةٍ أُخرى، الهداية باعتماد الحكمة تعني مخاطبة عقل وفكر الناس وإيقاظ العقول النائمة.

1ـ 2ـ الموعظة

الأسلوب الثاني في الدعوة إلى الحقَّ هو الموعظة الحسنة. وقد جعلت الآية الموعظة في قِبَال الحكمة والجدَال. وحيث كان على النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) أن يدعو الناس

________________________________________

(43) – م. ن، ج 13، ص 392.

 

بالحكمة وبالموعظة الحسنة، فإنّ مؤدّى ذلك أنّه ثمّة اختلاف بين الحكمة والموعظة الحسنة.

الموعظة من مادة (وعظ) ويذكر الفراهيديّ أنّ الوعظ هو : «تذكيرك إيَّاه الخير ونحوه مما يرقّ له قلبه» (44)، وذكر ابن فارس أنّ الوعظ هو التخويف (45).

ويُشير الراغب في المفردات إلى هذا المعنى ويذكر بعض الآيات كشاهدٍ على هذا المعنى؛ فيذكر التالي: « الوعظ زجر مقترن بتخويفٍ قال تعالى : (يعظكم لعلّكم تذكّرون ـ قل إنّما أعظكم ـ ذلكم توعظون ـ قد جاءتكم موعظة من ربِّكم ـ وجاءك في هذه الحقّ وموعظة وذكرى ـ وهدى وموعظةً للمتّقين ـ وكتبنا له في الألواح من كلِّ شيء موعظة وتفصيلا ـ فأعرض عنهم وعظهم )» (46).

ويذكر الزبيدي أنّ الموعظة هي : « ذكره ما يلين قلبه من الثواب والعقاب ، فاتّعظ به» (47).

ويعرِّفها صاحب مجمع البحرين ملاحظاً في ذلك المصاديق فيرى:

«والموعظة أيضاً: عبارة عن الوصيّة بالتقوى والحثّ على الطاعات والتحذير عن المعاصي والاغترار بالدنيا وزخارفها ونحو ذلك» (48).

إذاً، يتّفق أهل اللغة على تعريفٍ واحدٍ لمفردة الموعظة، ولكن الذي يبدو هو أنّ الأصل الواحد لهذه المفردة هو عبارة عن التذكير لأجل الإرشاد إلى الحق، وأمَّا المعاني المذكورة من قبيل رقّة القلب، التخويف، توجيه القلوب إلى الخيرات فهي من آثار الموعظة.

1ـ 2ـ 1ـ الموعظة في كلام المفسّرين

تكرّرت مفردة الموعظة في تسعة مواضع من القرآن الكريم، ولو ضممنا إلى ذلك الصيغ الأخرى المتضمِّنة لهذه المادّة لوصلت الموارد إلى خمسة وعشرين من أسماء وأفعال.

________________________________________

(44) – الفراهيدي، الخليل بن أحمد، مصدر سابق، مادة وعظ،

(45) – ابن فارس، أحمد، مصدر سابق، مادة وعظ.

(46) – الراغب الأصفهاني، حسين بن محمد، مصدر سابق، ص876.

(47) – الزبيدي، محمد مرتضى، مصدر سابق، ج 10، مادة وعظ.

(48) – الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، ج4، ص522، مادة وـ ع ـ ظ.

اتّجه تفسير المتكلّمين لهذه المفردة إلى تفسير تركيبها الوصفيّ أي تفسير (الموعظة الحسنة)، ولم يفسِّروا الكلمة بشكل منفرد. وأشاروا في تفسيرهم وبيانهم للمراد منها إلى المعاني التالية:

ـ أوامر القرآن ونواهيه (49).

ـ القرآن نفسه (50).

ـ النصيحة (51)، مواعظ القرآن (52).

ـ ما يصدر عن علم ولا يتضمن تعنيفاً ولا تهديداً.

ـ النصحية بما يكون فيه الصواب فيما كان مخفيّاً على السامع عند نصح الناصح له.

ـ الموعظة الحسنة تعني ترغيب الناس وحثَّهم على ترك القبائح والإتيان بالأعمال الحسنة، بنحو تنفر منه نفوسهم عند النظر إلى المساوئ وتقبِل إلى المحاسن والخيرات. فصاحب الموعظة الحسنة يجعل في قلوب الناس الرقّة ويزرع فيهم بذرة الخشوع والخضوع (53).

ـ الكلام المقترن باللين والرفق (54).

ـ المراد من الدعوة بالموعظة الحسنة هو إثبات المراد بالمقدِّمات المشهورة أو المسلَّمة بأسلوب ليّن وبرفق لا عن غلظةٍ أو عنف (55).

ـ الكلام الموجب للاقتناع والعبرة النافعة التي تؤثّر على العوام (56).

ـ وهي الخطوة الثانية في طريق الدعوة إلى الله ، بالاستفادة من عمليّة تحريك الوجدان الإنسانيّ، وذلك لما للموعظة الحسنة من أثر دقيق وفاعل على عاطفة الإنسان وأحاسيسه، وتوجيه مختلف طبقات الناس نحو الحقّ (57).

بعد عرضنا لأقوال المفسرين يُمكننا القول إنّ الوجه الجامع بين الأقوال والذي يمكن تبنّيه فيما يرجع إلى الوصف التركيبيّ (الموعظة الحسنة) والمنسجم

________________________________________

(49) – ابن سليمان، مقاتل، ‏تفسير مقاتل بن سليمان، ج‏2، ص494، بيروت‏، دار إحياء التراث العربی، 1423ق.

(50) – السمرقندي، نصر بن محمد، مصدر سابق، ج 2، ص297.

(51) – السور آبادي، عتيق بن محمد، تفسير سور آبادى، ج 2، ص1329، طهران‏، فرهنگ نشر نو ،1380ش؛ أبو الفتوح الرازي، حسين بن على، مصدر سابق، ج 12، ص119.

(52) – الثعلبي، أحمد بن ابراهيم، مصدر سابق،ج 6، ص51؛ البغوي، حسين بن مسعود، مصدر سابق، ج‏3، ص 103.

(53) – الطوسي، محمد بن حسن، مصدر سابق، ج 6، ص605.

(54) – السيوطي، ‏جلال الدين‏، مصدر سابق، ص 284.

(55) – الحسيني الجرجاني، السيّد أمير أبو الفتوح، ج2، ص90، آيات الأحكام، طهران‏، انتشارات نويد، 1404ق.

(56) – الفيض الکاشاني، ملا محسن، مصدر سابق، ج ‏1، ص 667.

(57) – مكارم شيرازي، ناصر، الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج ‏8، ص 364، قم، ‏مدرسة الإمام على بن أبى طالب (ع)، 1421ق.

 

مع المعنى اللغويّ هو عبارة عن التالي:

(الموعظة هو البيان الذي تلين به النفس ويرقّ له القلب لما فيه من صلاح حال السامع من العبر وجميل الثناء ومحمود الأثر ونحو ذلك) (58).

وأسلوب الموعظة هو أسلوب قديمٌٍ ومعروفٌ بين الناس يُستفاد منه لأجل التأثير المعنويّ والروحيّ على الناس. وقد وصف الله عزّ وجل نفسه بأنّه واعظ للناس: {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } (النساء، 58).

ثمَّ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ }(يونس، 57).

ويَنسب بعد ذلك هذا المنصب للنبي الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله):

{ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } (سبأ، 46)

إذاً، فالموعظة الحسنة تجدها لدى أناس كالنبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) قبل غيره من الناس. فالنبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) يتحدّث عن جبرائيل فيقول: ما أتاني جبرئيل (عليه ‏السلام) قط إلا وعظني (59). ولذا نجد أنّ الأسـلوب الرئيس الذي اعتمـد عليه النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) والأئمّة المعصومون(عليهم ‏السلام) كان أسلوب الموعظة الحسنة لأجل إرشاد الناس ودعوتهم إلى الحقّ. وهو الأسلوب الذي أوصى به أمير المؤمنين ولديه الحسنين وسائر الناس. فهذه السيرة إلى جانب حثِّ أولياء الدين عليها تحدِّد أسلوب الموعظة بشكل أكثر دقة. ففي الرواية عن علي (عليه ‏السلام): (أحيِ قلبك بالموعظة) (60).

وفي هذا الكلام تأكيد على أهميّة وقيمة ومستوى التأثير الذي تحمله الموعظة.

إذاً، الطريق الثاني الذي جعله الله عزّ وجل لأجل سلوكه في طريق الدعوة هو الموعظة الحسنة، «إن تقييد (الموعظة) بقيد (الحسنة) لعلّه إشارة إلى أنّ النصيحة والموعظة إنّما تؤدِّي فعلها على الطرف المقابل إذا خلّيَت من أيّة خشونة

________________________________________

(58) – الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج‏12، ص371.

(59) – الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج 3، ص 1846، قم، دار الحديث، 1375 هـ . ش.

(60) – المصدر نفسه، ج 4، ص3576.

 

أو استعلاء وتحقير التي تُثير فيه حسَّ العناد واللجاجة وما شابه ذلك . فكم من موعظة أعطت عكس ما كان يُؤمَل بها بسبب أسلوب طرحها» (61).

ولكي تكون الموعظة مؤثِّرة لا بد وأن تمتاز بخصائص متعدِّدة وأهمّها عبارة عن:

1ـ أن يكون محور الموعظة هو الآيات الشريفة وروايات أهل البيت (عليهم ‏السلام)، وقد ورد عن الإمام علي(عليه ‏السلام) قوله: (إنَّ الله سبحانه لم يَعظ أحداً بمثل هذا القرآن) (62).

2ـ أن يكون الواعظ متّعظاً بما يعظ الناس به، فقد ورد في الحديث:

(أحسن المقال ما صدّقه حسن الفعال) (63).

3ـ أن لا تعظ أحداً أمام سائر الناس؛ لأنّ ذلك يجرح شخصيّته ويؤدّي إلى التأثير عليه سلباً, وقد ورد عن الإمام علي (عليه ‏السلام) قوله: (من وَعَظَ أخاه سرَّاً فقد زانه ومن وعظه علانيةً فقد شانه) (64).

ومن جهةٍ أُخرى فالناس صنفان إمَّا أخٌ لك في الدين أو شريك لك في الخلق.

فالموعظة لا بدّ وأن تكون أسلوباً معتمَداً مع الناس كافّة، سواء منهم المسلم أو غير المسلم.

ففي الموعظة أمران مهمّان لا بدّ من إيلائهما الأهميّة القصوى وهما: الأوّل، أن يكون مضمون كلام الواعظ مستلزِماً لإيقاظ وعي المخاطب والآخر أن يكون الواعظ مخلِصاً في كلامه (65).

إنّ الموعظة الحسنة هي طريقة في التبليغ، وأسلوب في الدعوة، يحبِّبها ولا ينفّر منها، يقرّب إليها ولا يبعّد عنها، ييسرها ولا يعسّرها، وأخيراً ـ لا آخراً ـ هو الأسلوب الذي يَشعر المخاطب معه بأنّ دورك معه دور الرفيق به الناصح له،

________________________________________

(61) – المصدر نفسه، ج 8 ص 370.

(62) – الشريف الرضي، محمد بن حسين، نهج البلاغة (خطب الامام علي(ع))، ص 254، قم، دار الهجرة.

(63) – الكراجكي، محمد بن علي، كنز الفوائد، ج 1، ص 93، قم، انتشارات دار الذخائر، 1410 ق.

(64) – الشريف الرضي، محمد بن حسين، مصدر سابق، ص 427.

(65) – فضل الله، السيد محمد حسين، مصدر سابق، ص57.

الباحث عمّا ينفعه ويسعده… يُشعر الإنسان بإنسانيّته، ويُوحي له ـ بطريقةٍ عفويّة ـ بأنّه أمام دعوة تفيض بالحبِّ والحنان والحياة النابضة بالروح، الإيمان والخير (66).

فالموعظة هي بيانٌ للخير الذي يكون مؤثِّراً في نفوس السامعين، فتدعوهم إلى الكفّ عن ارتكاب القبائح وترغبهم بتركها. كما تدفع النفوس إلى الرغبة في فعل الخير والإحسان. ولغة الموعظة هي التي توجب رقّة القلب وإيجاد حالة من الخشوع، وحسن الموعظة هو في حسن أثرها في إحياء الحق، وحسن الأثر إنّما يترتّب متى كان الواعظ متّعِظاً بما يَعظ به الناس، وأن يظهر ذلك في حسن خلقه لكي يكون كلامه مؤثِّراً في قلوب الناس.

«في الموعظة جانبان مهمّان لا بد من ملاحظتهما: أولا: أن يتوفَّر في فحوى كلام الواعظ عنصر التوعية والتنبيه. ثانياً: أن يقرن كلامه بالإخلاص» (67).

ولا شكّ في أنّ الدعوة التي تقترن بالرفق والمحبّة تنفذ إلى القلب وترسخ في الذهن.

1ـ 3ـ الجدال بالتي هي أحسن

الجدل هو الذي يصل إلى شدّة الخصومة، وذكر في الصحاح التالي: «الجدل وهو شدّة الخصومة . وجدلت الحبل أجدله جدلاً، أي فتلته فتلاً محكماً» (68).

وأمَّا في الاصطلاح فالجدال مشتقٌّ من الجدل وهو فتل الخصم في استدلاله، كأنّ كلَّ واحدٍ من الخصمين يروم إلقاء صاحبه على الجدالة (69).

وعلى الرغم من اختلاف الاشتقاقات من مادة الجدل، ولكنها ترجع إلى معنىً واحد هو الثبات والاستحكام والشدّة (70).

والذي يَظهر ممَّا تقدّم أنّ لهذه المعاني أصلاً واحداً هو عبارة عن الحجَّة المحكمة والبالغة. والدليل على ذلك ما ورد في الرواية عن الإمام الرضا (عليه ‏السلام) من وصفه الجدال بالتي هي أحسن بالحجّة البالغة، فقد ورد عنه قوله:

________________________________________

(66) – م. ن، ص 57.

(67) – فلسفي، محمد تقي، فنّ سخن و سخنورى، ص 265، انتشارات حديث، 1368ش، بتصرف.

(68) – الجوهري، اسماعيل بن حماد، مصدر سابق، ج4، مادة جدل.

(69) – الطبرسي، الفضل بن حسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج8، ص449.

(70) – مصطفوي، حسن، مصدر سابق، ج2، ص64.

«والإمام يحلّ حلال الله ويحرم حرام الله، ويُقيم حدود الله، ويذبّ عن دين الله ويدعو إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجّة البالغة» (71).

والجدل في الاصطلاح هو عبارة عن معرفة قواعد وحدود وآداب الاستدلال الذي يتمكّن الإنسان من خلاله من الدِّفاع عن الاعتقادات أو إثبات بطلانها؛ سواء كان ذلك الاعتقاد من الفقهيّات أو من سائر العلوم (72).

الجدال هو علم يُعرف به كيفيّة آداب إثبات المطلوب نفيه أو نفي دليله (73).

وقد وردت مفردة الجدل ومشتقَّاتها من أسماء وأفعال فيما مجموعه تسعة وعشرون موضعاً في القرآن الكريم، ولكنّه لم يُمدح سوى في أربعة مواضع (74)، بل ورد كأسلوبٍ للتبليغ والدعـوة ووسيلة يتّبعها النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) فخوطب بقوله تعالى:

{ وَجَادِلهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل، 125).

بل عدَّه في آيةٍ أخرى الوسيلة الوحيدة لمواجهة أهل الكتاب فقال تعالى:

{ وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (العنكبوت، 46).

وأمَّا الأشكال الأخرى من الجدال فقد ذمّها القرآن الكريم وحذّر منها:

{ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (غافر، 56).

وقد ورد التعبير في القرآن الكريم عن الجدال بالتي هي أحسن بالمراء الظاهر، قال تعالى:

{ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً } (الكهف، 22).

والمراء الظاهر يكون بالاستفادة من الحجّة والدليل القاطع الذي يكون متّفقاً عليه والواضح بنحو لا يتمكّن الطرف الآخر من مواجهته.

________________________________________

(71) – الكليني، محمد بن يعقوب، مصدر سابق، ج ‏1، ص200.

(72) – ابن خلدون، عبد الرحمن، مصدر سابق، ص 439.

(73) – تهانوي، محمد، كشاف اصطلاحات فنون، ج 2، ص1391، طهران، انتشارات خيام، 1967م،.

(74) – هود/74، النحل/125، العنكبوت/46، المجادلة/1.

 

1ـ 3ـ 1ـ الجدال من وجهة نظر المفسّرين

يرى المفسِّرون أنَّ الجدال بالتي هي أحسن وأفضل أسلوب في المناظرة هو الأسلوب الذي يبتعد بالخصم عن المزيد من العداوة والعناد، والذي يجعله يحترز عن الخروج عن الأدب في الكلام أو يلجأ به إلى إهانة مقدَّسات الخصم، وحيث يكون غرض كلا الخصمين الوصول إلى الحقّ (75).

إذاً الطريق الثالث هو الدعوة إلى الحقّ من خلال الجدال بالتي هي أحسن. وهو عبارة عن الاستفادة من عقيدة الخصم والاستدلال بنحوٍ يُبطل تلك العقيدة. نعم زيادة قيد (أحسن) إلى الجدال يدلُّ على أنّ سبيل الله عز وجل هو الاعتقاد بالحقّ والعمل بالحقّ، وأنّ الجدال إنَّما يكون أحسن إذا لم يلجأ الداعي إلى إيراد الكلام الموجِب لتثوير الخصم وجعله مجبراً على العناد أو الوقوع في الغضب الذي يَخرج به عن حدِّ الاعتدال في الكلام، وذلك من خلال الاجتناب عن الكلام المسيء وعدم إهانة مقدّسات الخصم أو ذكر ما لا يرضى به (76).

والجدل هو من العناوين التي ورد ذمّها أحياناً في القرآن الكريم وفي الروايات، كما أوصى الله عزّ وجل بها للردِّ على من يَعتمد هذا الأسلوب من المعاندين ومن أعداء الإسلام، لكي يسلك بهم طريق الجدال بالتي هي أحسن. وبهذا يأخذ الجدل شكل أسلوب الهداية وطلب الحق، ولذا كان وصف الجدال بالتي هي أحسن دليلاً على أنَّ من الجدال ما هو أحسن ومنه ما هو ليس بأحسن.

فالجدال من وجهة نظر الإسلام هو ما كان لأجل معرفة الحقيقة لا معاندة الخصم وإفحامه. ولذا كان لهذا الأسلوب الدَعَويِّ أثره العظيم في معرفة حقّانيّة الشريعة المحمديّة وبيان لزوم اتّباعها، لمن لم يكن في جداله غرض. فالجدال بالتي هي أحسن قد يبلغ في تأثيره حداً يَجعل من هارون الرشيد بعد استماعه لمجادلة هشام يقول: «فوالله للسان هذا أبلغ في قلب الناس من مئة ألف سيف»(77).

________________________________________

(75) – راجع، الطبري، محمد بن جرير، مصدر سابق ،ج7، ص663؛ الآلوسي، السيد محمود، مصدر، ج 8، ص376؛ الطبرسي، فضل بن الحسن طبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن،ج6، ص 605 ؛ والقرضاوی، يوسف، غير المسلمين في المجتمع الاسلامي، ج3، ص 6، القاهره، مکتبة وهبة، 1413ق.

(76) – الطباطبائي، محمد حسين، مصدر سابق، ج12، ص 372.

(77) – الصدوق، محمد بن علي، كمال الدين وتمام النعمة، ج2، ص 368، قم، دار الكتب الاسلامية، 1395ق.

 

والجدل في القرآن الكريم، وكما لاحظناه سابقاً، ينقسم إلى ما هو أحسن وما هو ليس بأحسن، والجدال بالتي هي أحسن طبقاً لوصف القرآن الكريم هو الذي يعتمد على مقدّمات حقيقية ولا يكون الهدف منه مجرَّد الغلبة على الخصم، بل إحقاق الحقّ، إقناع الغير، وهدايته وهو المطلوب والممدوح. وأمّا الجدال الذي يكون حسناً ولا يكون أحسن فهو الذي يقترن باللجاج والعناد والاستهزاء والعصبيّة والمغالطة لإخفاء الحقّ وإقامة الباطل وهو ما نهى عنه القرآن الكريم.

ولأجل مزيد توضيحٍ وبيان لهذين المفهومين نستعين بالرواية الواردة عن الإمام الصادق (عليه ‏السلام) وقد ورد فيها:

«قال أبو محمد الحسن بن علي العسكري (عليه ‏السلام): ذكر عند الصادق (عليه ‏السلام) الجدال في الدّين وأنّ رسول الله(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) والأئمّة (عليهم ‏السلام) قد نهوا عنه، فقال الصادق(عليه ‏السلام): لم ينه عنه مطلقا، ولكنّه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أمَا تسمعون الله يقول: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) وقوله: (ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)؟ فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدّين، والجدال بغير التي هي أحسن محرّم حرَّمه الله على شيعتنا. وكيف يحرّم الله الجدال جملةً وهو يقول: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) وقال الله تعالى: (تلك أمانيّهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)؟ فجعل الله علم الصدق والإيمان بالبرهان، وهل يؤتى ببرهان إلا بالجدال بالتي هي أحسن؟ قيل: يا بن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن وبالتي ليست بأحسن؟ قال : أمّا الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجادل به مبطلاً فيورد عليك باطلاً فلا تردّه بحجّةٍ قد نصبها الله ولكن تجحد قوله أو تجحد حقّاً يريد بذلك المبطل أن يُعين به باطله، فتجحد ذلك الحقّ مخافة أن يكون له عليك فيه حجّة؛ لأنّك لا تدري كيف المخلَص منه، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنةً على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين، أمّا المبطلون

________________________________________

فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف في يدّه حجّةً له على باطله، وأمّا الضعفاء منكم فتغمّ قلوبهم لِمَا يرون من ضعف المحقّ في يد المبطل. وأمّا الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيّه أن يُجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحيائه له، فقال الله له حاكياً عنه: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) فقال الله تعالى في الردّ عليه: (قل )يا محمد( يُحييها الذي أنشأها أوّل مرّةٍ وهو بكلِّ خـلقٍ عليم. الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون) إلى آخر السورة، فأراد الله من نبيّه أن يُجادل المبطل الذي قال: كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم؟ فقال الله تعالى : قل (يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة) أفيعجز من ابتدأ به لا من شيء أن يُعيده بعد أن يَبلى؟ بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته، ثمّ قال: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) أي إذا أكمن النار الحارّة في الشجر الأخضر الرطب ثمّ يستخرجها فعرّفكم أنّه على إعادة ما بلى أقدر، ثمّ قال: (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي، فكيف جوّزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم والأصعب لديكم ولم تجوّزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي. قال الصادق(عليه ‏السلام): فهو الجدال بالتي هي أحسن؛ لأنّ فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شبههم. وأمّا الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجحد حقاً لا يمكنك أن تفرّق بينه وبين باطل من تجادله، وإنّما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحقّ، فهذا هو المحرّم لأنّك مثله جحد هو حقاً وجحدت أنت حقا آخر» (78).

فاختيار الأحسن هو شعار كلِّ مسلم في حياته الإيمانيّة والقرآنيّة؛ لأنّ ذلك هو دعوة القرآن الكريم للإنسان ليسلكه في جميع ساحات الحياة:

{ وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ }

________________________________________

(78) – الطبرسي، احمد بن علي، الاحتجاج على أهل اللجاج، ج 1، ص21و22، مشهد، نشر مرتضى، 1403ق، والشيخ الصدوق والشيخ المفيد، اعتقادات الإمامية وتصحيح الاعتقاد، ص 68، قم، مؤتمر الشيخ مفيد، 1414ق، لمزيد تفصيل حول موضوع الجدال راجع، الشرقاوي، حسن، الجدل في القرآن، الاسكندرية،‌ منشأة المعارف؛ حميدي مقدم، هالة، نقد و بررسی جدل در قرآن کريم، رسالة دكتوراة في علوم القرآن والحديث، طهران، دانشکاه آزاد (جامعة آزاد) 1381ش؛ خزائلي، محمد علي ؛ جدل و استدلال در قرآن كريم ؛ قم، انتشارات گنج عرفان، 1382 هـ.ش؛ قوجيل، محمد علي نوح ؛ أصول الجدل وآداب المحاجة في القرآن الكريم ؛ ليبيا، جمعية الدعوة الاسلامية العالمية، 1430 هـ.ق. و فضل الله، السيد محمد حسين، الحوار في القرآن، قواعده، اساليبه، معطياته ؛ بيروت: الدار الإسلامية، 1403هـ.ق.

 

{عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } (فصلت، 34).

{ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً } (الإسراء، 53).

{ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ الله كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } (الزمر، 55).

{ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } .

ومن الواضح أنّ اختيار الأحسن في أداء الرسالة وبيان الوحي هو من مصاديق هذه الدعوة العامّة التي دعا إليها الإسلام في شتّى مجالات الحياة الاجتماعيّة، وهو ما اتَّبعه النبيّ الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) في مهمّته عند بيان رسالة الله عزّ وجل، وهو واجبنا في مسير الدعوة إلى الله عزّ وجل وإلى الخير والإحسان.

إذاً بيَّنَ القرآن الكريم طرقاً ثلاثة لإبلاغ الدعوة إلى الناس مراعياً في ذلك مختلف الظروف النفسيّة والفكريّة للإنسان فقال تعالى:

{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل، 125).

ففي هذه الآية وجِّه الأمر للنبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) بأن يسلك واحداً من هذه الطرق الثلاثة (الحكمة، الموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن). والحكمة تعني الكلام المحكم الذي لا مجال فيه للشكّ والترديد؛ والموعظة الحسنة تعني الموعظة التي تنفذ إلى القلب والتي يكون لها تأثيرها في النفوس؛ والجدال يعني المناظرة بما يكون مقبولاً لدى المخاطب، ويستفاد منه في مقابل من لا يكون هدفه من المواجهة معرفة الحق، فلا بدّ من استخدام أسلوب الجدال بالتي هي أحسن معه، ولا ينبغي الخروج عن طريق الحقّ والحقيقة(79).

________________________________________

(79) – مطهري، مرتضی، ده گفتار، ص 198 ـ 1960، طهران : انتشارات صدرا ، 1375ش.

 

نعم لا دلالة في هذه الآية الشريفة على موارد استخدام كلِّ واحدٍ من هذه الطرق الثلاثة، ولذا كان تحديد مورد استخدام كلِّ واحدٍ من هذه الطرق بيد الداعية إلى الله عزّ وجل. فلا بدّ له وأن يَستخدم الطريق الأكثر تأثيراً والذي يكون موجباً لإظهار الحق (80). فيعمد في المجامع العلميّة إلى الاستفادة من الأسلوب العلميّ والطريق الاستدلاليّ؛ ولكن حيث لا يمتلك المخاطب القدرة العقليّة بنحو يؤدّي اعتماد الأسلوب العلميّ والاستدلاليّ إلى الوقوع في خطأ الفهم فلا بدّ من اعتماد أسلوب خطاب القلب والوجدان، ولو دَعَت الحاجة إلى استخدام الاستدلال فليكن ذلك من خلال اعتماد الأسلوب المنطقيّ السهل والبسيط، ولا بدّ للداعية إلى الله عزّ وجل من أن يمتلك الخبرة في فنون الجدال إذا كان يُقيم في مجتمعٍ مملوٍّ بالمناظرة ونحوها، لكي يتمكّن من مواجهة الأفراد الذين يَسعون لبثِّ الشبهات في أذهان الشباب، ولكي يتمكّن بذلك من الدِّفاع عن تعاليم الإسلام، أو ليرفع بعض الإشكالات المثارة في هذا المجال.

إنّنا وبالتأمِّل قليلاً نجد أنّ هذه الطرق الثلاثة في الدعوة ترتبط بأسلوب الدعوة والكلام، وهي بذلك تشكّل أساساً للحوار والمناظرة. ومن هنا يُمكن القول إنّ الأصل في الرؤية الإسلاميّة هو للحوار لا الحرب ولا السلام، وأهمُّ أهداف هذا الحوار رفع الظلم وإقامة السلام. وحيث كانت الآية في صدد بيان وتعداد طرق الدعوة إلى الله ولم تأت على ذكر الإجبـار والقهر كبـابٍ من أبواب الدعوة فإنّ من الممكن أن نستنتج أنّ الإجبار والإكراه ليسا من طـرق الدعوة إلى الإيمان والإسلام.

والدعوة إلى الحـوار تُستفاد من الكثير من آيـات القرآن الكريم. وقـد أَمَرَ الله عزّ وجل نبيّه الكريم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) بمراعاة الأخلاق الحسنة والكرامة الإنسانيّة؛ فقال تعالى:

{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } (الحجر، 88)

________________________________________

(80) – الطباطبائي، محمد حسين، مصدر سابق، ج 11، ص373.

وقال تعالى:

{وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } (فصلت، 34).

كما أمر النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) باستخدام كافّة الأساليب المُتاحة من فنون البيان، الحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن باختلاف الأفهام والاستعدادات لدى الأفراد.

وقد اعتمد الإسلام أسلوب الحوار والمفاوضات (والذي يَعتمد على العناصر الثلاثة الحكمة، الموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن) لأجل نشر تعاليمه. وفي تاريخ الإسلام والسيرة السياسيَّة للنبيّ الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) الكثير من النماذج التي تحكي عن الحوار والمفاوضات التي خاضها مع مخالفيه لأجل دعوتهم إلى الإسلام أو المنع من وقوع الحرب بينه وبينهم؛ وكمثالٍ على ذلك نتعرض لما ورد من الحوار الذي دار بين النبيّ وتلك الجماعة التي جاءت من يثرب في موسم الحجّ وقبل الهجرة بسنوات، والتي كانت السبيل الذي فتح الباب أمام دخول طوائف من الأوس والخزرج في الإسلام في بيعة العقبة الأولى والثانية (81). والنموذج الآخر هو الحوار والمفاوضات التي جرت بين النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) وبين قبائل بني غطفان في معركة الأحزاب حيث سعى النبيّ(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) لجعلهم يَقفون على الحياد مقابل تقديم مزايا اقتصادية لهم في المدينة. مضافاً إلى ذلك الحوار الذي دار بينه وبين ممثل قريش سهيل بن عمرو الذي أدى إلى توقيع صلح الحديبيّة، أو المفاوضات التي جرت بينه وبين يهود بني النضير في دية الرجلين اللذين قتلا بيد أحد المسلمين خطأ، وحواره مع أبي سفيان إبّان فتح مكّة للحدِّ من القتال وقتل الناس، وهذا كلّه يشهد على أن الأساس في تعاليم هذا الدين هو اعتماد أسلوب الحوار(82).

وفيما يرجع إلى المصدر المثبِت لكون الحوار هو الأساس مضافاً إلى السيرة السياسية للنبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) نجد أنّ بعض الآيات القرآنيّة تؤكِّد على ذلك كقوله تعالى:

________________________________________

(81) – الزحيلي، وهبة، المفاوضات فى الإسلام، نقلاً عن: مفيد شهاب، المفاوضات الدولية، ص 19، الرياض، معهد الدراسات الدبلوماسية، 1993 م.

(82) – شتا، احمد عبد الونيس، الاصول العامه للعلاقات الدولية في الإسلام وقت السلم، ص 16، القاهرة، المعهد العالمىّ للفكر الاسلامي، 1996م.

 

 

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران، 64)، والاستدلال بهذه الآية حيث تتحدّث عن أمر الله عز وجل لنبيِّه(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) بأن يَستجيب لطلب العدو للصلح وذلك يتفرَّع على الحوار الذي يدور مع العدو لحلِّ ما يكون سبباً للنزاع والحرب. ومن جهةٍ أُخرى لا شكّ في أنّ إقامة الصلح تتوقَّف على الحوار والتفاوض للتوافق على شروط الصلح ومجالاته وحدوده وزمانه. ولذا لم يجعل النبي(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله) أيَّ شرطٍ للحوار مع أهل الكتاب، بل كان المحور الأساس في حركته هذه الإقرار بالتوحيد الذي يشكِّل أصلاً مشتركاً بين الإسلام وبين أهل الكتاب.

إذاً، لا يرتضي الإسلام أيَّ وسيلةٍ من وسائل القهر والغلبة، كما لا يَفرض رأيه على الناس. وهذا شرط رئيس في الحوار. فالإسلام يدعو الناس للايمان به، ولكنّه لا يلجأ إلى فرضه على أحد.

{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ } (البقرة، 256).

* * *

________________________________________