مباني علم المعرفة عند العرفاء السيد حيدر الآملي أنموذجا

758

مباني علم المعرفة عند العرفاء السيد حيدر الآملي أنموذجا

السيد يحيي اليثربي (*)

تنبيه

طُرحت نظريَّات وآراء للعرفاء حول مباحث علم المعرفة، وتوزّعت في المصادر والكتب العرفانيَّة المختَلِفَة، ولو أنَّها لم تحمل العنوان ذاته. وفي هذه المقالة سنُعالج نظريَّات ورؤى عارفٍ آخر هو السيِّد حيدر الآملي. وفي سياق هذا الهدف، نعمل على تقديم تعريف مجمل حول شخصيَّة السيّد حيدر الآملي العلميَّة، واستخلاص آرائه وتبويبها وعرضها.

بهاء الدّين حيدر بن علي الحسينيّ (720 787 هـ) (1) من كِبَار العرفاء والمتصوّفة الإسلاميِّين الشيعة. ومن أبرز الشخصيَّات التي قامت بتفسير آراء ابن عربي. وهو لم يقتصر فقط على شرح آراء ابن عربي العرفانيَّة، بل تصدَّى بنفسه في بعض المواطن لتأسيس أصول ومبادئ وتحديد الموقف من بعض المسائل الجديدة. من جملة مؤلَّفاته الشهيرة يُمكن ذكر: جامع الأسرار ومنبع الأنوار، أسرار الشريعة وأطوار الطريقة وأنوار الحقيقة، نقد النقود في معرفة الوجود، المحيط الأعظم، ونصّ النصوص في شرح الفصوص وعشرات الكتب ورسائل مهمّة أُخرى.

________________________________________

(*) باحث متخصص في الدراسات العرفانية، ترجمة نوال خليل.

(1) – من الواضح أنَّ هذا من قبيل أقوال (باربور) ومفكِّرين باحثين آخرين، بحيث يتكرَّر في عدَّة مواضع عدم انسجامها مع أصول الإلهيَّات التوحيدية. ولو أنَّ الأرضيّة لهكذا استنتاج، في اللاهوت المسيحي إلى حد ما أكثر تهيئاً، لكن ينبغي الالتفات إلى أنَّ بعض علماء اللاهوت المسيحي ـ الذين في مجال (العلم والإلهيَّات) أيضاً هم من أصحاب الرأي والدليل ـ يرون أنَّ هذا الاستنتاج لا يمكن القبول به وقابل للخدش. وعلى سبيل المثال يصرّح (جان بوكينك هورن) في أحد كتبه إنَّ هذا النوع من المواقف لا ينسجم مع مباني الاعتقاد بالخلق. راجع:

Science and creation: the search for understanding. London: 889 SPCK.1 : Polkinghone, John (المترجم)

 

وهنا نأتي على خلاصة لآرائه وأقواله، من مؤلَّفه نصّ النصوص، قسم المقدِّمات، فيما يتعلَّق بمباني ومسائل علم المعرفة عند العرفاء. ولقد خصَّص السيّد حيدر الآملي الركن الثالث من القسم الثالث من مقدَّمة شرحه للفصوص لمبحث العلم. وتعرّض فيه لبحث خاص حول معارف العرفاء ومباني علم المعرفة عندهم. فقد كان يسعى للمقارنة بين معارف الصوفيَّة بلحاظ مبانيها، مجالاتها، أهدافها، ماهيتها… وبين علوم المتكلّمين والفلاسفة. وقد أمكنه من تبيين بعض القضايا بشكل واضح.

انطلاقاً من أنَّ قسماً من تلك المباحث مرتبط بمسائل علم المعرفة، عملنا على انتقاء ما هو مناسب من أقواله وكلماته التي جاءت في القسم الثالث من منتخب الفصوص، ومن أقوال العرفاء حول علم المعرفة، ثمَّ قمنا بالجمع بينها والاستنتاج منها.

1ـ تعريف المعرفة العرفانيَّة

إنَّ تعريف هكذا نوع من المعرفة هو عمل صعب في الأساس؛ لأنَّ البعض يراه أمرا بديهيّاً ووجدانيّاً، فيما يراه البعض الآخر كسبيَّاً أو ضروريّاً. وبالرغم من عدم إمكانيَّة تعريف مطلق المعرفة، لكن يمكن القول: «المعرفة عند أهل التصوّف، عبارة عمَّا يُكشف لهم من الله خاصّة، بطريق الوحي أو الإلهام أو الكشف» (2).

وينقل السيد الآملي عن بعض المشايخ:

«المعرفة أخصّ من العلم، لأنّها تُطلق على معنيين، كلّ منهما نوع من العلم. أحدهما العلم بأمر باطن يُستدَلّ عليه بأمر ظاهر، كما إذا توسَّمت شخصاً، فعلمت باطن أمره بعلامةٍ ظاهرةٍ منه. ومن ذلك ما خوطب به رسول الثقلين(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) في قوله تعالى: { فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } (محمد، 30). وثانيهما

________________________________________

(2) – الآملي، السيّد حيدر: نصّ النصوص، في شرح فصوص الحكم، القسم الثالث، الركن الثالث، الفصل الأول.

 

العلم بمشهورٍ سبَق به عهدٌ، كما إذا رأيت شخصاً رأيته قبل ذلك بمدَّة، فعلمت أنّه ذاك المعهود، فقلت: عرفته بعد كذا سنة عهدته. فالمعروف على الوجه الأوّل، غائب، والمعروف على الوجه الثاني، شاهد. وهل التفاوت البعيد بين عارفٍ وعارفٍ، إلا لبُعد التفاوت بين المعرفتين؟ فمن العارفين من ليس له طريق الى معرفة الله تعالى إلا الاستدلال بفعله على صفته، وبصفته على اسمه، وباسمه على ذاته: { أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } (فصّلت، 44) ومنهم من تحمله العناية الأزليَّة، فتصعد به إلى حريم الشهود، فيشهد المعروف ـ تعالى جدّه ـ بعد المشاهدة السابقة، في معهد «أَلَسْتُ؟» ويعرف به ذاته وأسماءه وصفاته، عكس ما يعرفه العارف الأوّل. وبين العارفين بونٌ بعيد، إذ الأوّل، لغيْبَة معروفه، هو كنائمٍ يرى خيالا غير مطابقٍ للواقع، والثاني، لشهود معروفه، هو كمتيقِّظٍ يرى مشهودا حقيقيا مطابقا له» (3).

وبعد أنَّ ينقل الآملي هذه العبارات وعبارات أخرى عن الغزالي يقول:

«والمراد أنّ المعرفة عندهم غير العلم، وهي أعظم منه بالنسبة إلى واجب الوجود وغيره. فإنّ العلم لا يخلو من وجهين: إمّا أن يكون بالواجب وما يتعلّق به، وإمّا بالممكن وما يتعلَّق به، لأنّه ليس في الخارج غيرهما بالاتِّفاق. والكلام في الموجودات الخارجيَّة دون المعدومات الذهنيَّة. فالعلم بالواجب، بغير هذا الوجه، مستحيل غير ممكن. فلم يبق إلا (أن يكون العلم بالواجب) بهذا الوجه، أي بالكشف والمشاهدة.

وإن حقّق (في الأمر)، عرف أنّ العلم بالممكن بغير هذا الوجه أيضاً غير ممكن، بل هو مستحيل، فإنّ حقيقة الممكن، كما سبق، ليس إلا هو تعالى وحقيقته لا تُعرَف إلا بهذا الوجه. فرجَع الكل إلى الكشف والمشاهدة. وهذا هو المطلوب» (4).

________________________________________

(3) – آملي، السيد حيدر، ن.م ص 474.

(4) – ن.م، ص 475.

 

وجاء في موضع آخر:

«والحاصل من ذلك وغيره (هو) أنّ العلم أعمّ من المعرفة والمعرفة أخصّ من العلم. ويُطلق على كليهما العلم. والعلم هو الكشف الإحاطيّ، التمييزي، الإنفعاليّ بالنسبة إلينا، وهو الكشف التامّ، الحقيقيّ، الذاتيّ، الفعليّ بالنسبة إلى الواجب، كما تقدَّم ذكرهم» (5).

ومن ثمَّ وبعد بحث موجز حول تعريفات العلم، يقول:

«والحاصل المنقّح من كلامهم عند التحقيق هو أنّ العلم عبارة عن الكشف التامّ عن وجه المعلوم المخصوص بذلك العلم. وهذا موافقٌ لقول العارف باللّه، كما عرّفه بوجوه متعدِّدة» (6).

2ـ موضوع المعرفة العرفانيّة

بعد أن يبيِّن السيّد حيدر الآملي موضوع العلوم العقليَّة الحِكَميَّة، علم الكلام، وسائر العلوم من قبيل الرياضيَّات، الطبيعيَّات والمنطق، يبيِّن موضوع المعرفة العرفانيَّة على النحو التالي:

«وأمّا العلوم الحقيقيَّة فصاحبها الذي هو المتصوّف، عنده موضوع علم التصوّف (هو) معرفة ذات الحقّ تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يتعلّق بذلك من المعارف» (7).

وبعد أن يتعرّض لشرح مختصر حول موضوع العلوم الحِكَميَّة، يقوم بإرجاع علم الكلام والعرفان إلى حقيقةٍ واحدة. ويَعتبر السيّد الآملي أنَّ الاختلاف الأساس بينهما يرجع إلى المنهج المتّبع، وليس إلى تعريف الموضوع (8). ثمَّ تحدَّث عن هذه الأساليب المختَلِفَة بما يلي:

«لأنّ الحكيم يبنى معارفه ومطالبه على براهين عقليَّة ومقدّمات قياسيَّة وترتيبات منطقيَّة، لتحصيل النتيجة الصحيحة، ومن لم يحصل ذلك بذلك (من

________________________________________

(5) – ن.م، ص 476.

(6) – ن.م، ص 477.

(7) – ن.م، ص 479.

(8) – ن.م، ص 479.

 

 

الحكماء)، يبق محروماً محجوباً معارِضاً لغيره، مخاصماً لأهله. والمتكلِّم يبني أيضاً معارفه ومقاصده على الدلائل العقليَّة والشواهد النقليَّة، لتحصيل العقائد الصحيحة والقواعد اليقينيَّة، ومن لم يحصل ذلك بذلك (من المتكلِّمين) يبق محجوباً عن المقصود، ممنوعاً من المطلوب، مجادلاً لغيره، معارضاً لأهله. والمتصوّف يبنى معارفه ومطالبه على الكشف والشهود والوجدان والعرفان، الحاصلة له من الله تعالى بالفيض والتجلّى والإلقاء والقذف المعبّر عنها تارة بالوحي، وتارة بالإلهام، وتارة بالكشف، على أنواع طبقاتها وأصناف درجاتها. فيحصل له (أيّ للمتصوِّف) بذلك مقصوده، و يصل إلى مطلوبه. فلا يُعارِض حينئذٍ أحداً ولا يُخالِف أحداً، لأنّه يَعرف أنّ الكلّ طالبون له ـ أي للحقِّ تعالى ـ وإنَّ ضلّوا، متوجِّهون إليه وان اختلّوا، والطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق.

ومع ذلك استدلالنا على ضلالهم وانحرافهم عن الطريق المستقيم، وعلى اختلالهم في الدِّين القويم، ليس إلا بقولهم، لأنّهم بأنفسهم أقرَّوا بجهلهم وأظهروا عجزهم. أمّا الحكماء، فلأنّ أعلمهم وأعظمهم الذي هو الرئيس ابن سينا، قد أقرّ في أكثر كتبه بجهله وعجزه عن تحقيق شي‏ء من الأشياء، ممكناً كان أو واجباً، بسيطاً كان أو مركّباً، كقوله في بعض تصانيفه: «الوقوف على حقائق الأشياء ليس في قدرة البشر. فإنّا لسنا نعرف من الأشياء إلا خواصّها ولوازمها والأعراض اللازمة لها، و لا نعرف الفصول المقوّمة لكلّ واحد منها، الدالّة على حقيقته، بل نعرف أنّها أشياء لها خواصّ وعوارض ولوازم. فلا نعرف حقيقة الأوّل ولا العقل ولا النفس ولا الفلك ولا النار ولا الهواء ولا الماء ولا الأرض. ولا نعرف حقيقة الأعراض ولا السواد ولا البياض». وكقوله بعبارةٍ أخرى: «نحن لا نعرف حقيقة الأوّل ـ تعالى وتقدّس ـ إنّما نعرف منه أنّه يجب له الوجود أو ما يجب‏ له الوجود، وهذا لازم من لوازمه، لا حقيقته. ونعرف بواسطة هذا اللازم لوازم أُخَر،

كالوحدانيَّة وسائر الصفات. وحقيقته إن كان يُمكن إدراكها، هي الموجود بذاته، أي (أنّه هو) الذي له الوجود بذاته.

________________________________________

 

ولكن معنى قولنا: «الذي له الوجود بذاته» إشارة إلى شي‏ء لا نعرف حقيقته، وليس حقيقته نفس الوجود ولا ماهيَّة من الماهيَّات، فإنّ الماهيَّات يكون لها الوجود خارجاً عن حقائقها، وهو في ذاته علَّة الوجود.

وله (أي لابن سينا) في ذلك قاعدةٌ أُخرى كليّة، وهي قوله: «الاطِّلاع على حقائق الأشياء ليس في قدرة الإنسان، لأنّ الأشياء إمّا بسائط أو مركّبات، فالبسائط لا يُمكن معرفتها، فإنّ معرفة الشيء على الحقيقة تكون بالجنس والفصل، والبسائط لا جنس لها ولا فصل، فلا يمكن معرفتها، لأنّه لو كان لها جنس أو فصل لم تكن بسائط، وقد ثبت بساطتها.

والمركّبات كذلك، فإنّ معرفة المركّب موقوفة على معرفة أجزائه، وأجزاؤه بسيطة، فلا يُمكن معرفتها أيضاً. فلا يتمكن الإنسان أن يعرف شيئاً أصلاً حقيقة، بل (يعرفه) باللوازم و العوارض»(9).

وبعد نقده لنظرية ابن سينا بشأن قِدَم العالم وعلم الواجب بالجزئيَّات، يقول:

«والحكماء على قسمين: فلسفيّ وإشراقيّ، يكفي للفلسفيَّ ما يقول فيه الإشراقيّ» (10).

ومن ثمَّ عَمِلَ على نقد أهل الكلام وعلماء الظاهر، وجعل من عقائد الإمام فخر الرازيّ محوراً للنقد وتسجيل ما يراه من ملاحظات واختياره له لكونه أعلم وأبرز شخصيَّة في هذا المجال، التي جاءت في مورد زيادة وجود الواجب على ماهيَّته، وأيضاً عقيدته وعقيدة الأشاعرة في مورد زيادة صفات الواجب على ذاته، فيقول:

«والغرض أنّ كلام هؤلاء إذا كان، في معرفة وجود الحق ومعرفة صفاته، هذا، ففي معرفة أشياء أُخرى كيف يكون؟ وقد تقرَّر أنّ من عَرِفَ الحقّ عَرِفَ الأشياء كلّها، ومن جهل الحقّ جهل الأشياء كلّه» (11).

________________________________________

(9) – ن.م، ص 480 481.

(10) – ن.م، ص 481.

(11) – ن.م، ص 484 485.

 

ومن خلال نقده لنظريَّات المتكلِّمين وما يقتضي أسلوبهم بعدم إمكانيَّة تحصيل المعرفة، يقول:

«فإنّ المتكلِّمين كالحكماء على قسمين: أشعريِّ ومعتزليّ، يكفي للأشعريِّ ما يقول فيه المعتزليّ، وللمعتزليِّ ما يقول فيه الأشعريّ، فضلا عمّا يقوله فيهما الحكيم والصوفي. وقد نقل عن فخر الدين الرازي أنّه كان ذات ليلة قاعداً يبكى، فسأله بعض تلامذته عن سبب البكاء. فقال: أبكي على مسألة كنت‏ عليها منذ ثلاثين سنة، فلاح لي الآن أنّها غير صحيحة. فقال تلميذه: يا شيخ! لم لا يجوز أن تكون، بعد ثلاثين سنة أُخرى، يلوح لك أنّ هذه المسألة أيضاً غير صحيحة؟ ولم لا يجوز أن تكون جميع معلوماتك على هذا الوجه، أعني يلوح لك بالكشف الصحيح التامّ أنّ جميع معلوماتك كذلك؟

وقد كتب له الشيخ الأعظم محيى الدين بن العربي كتاباً مطولاً، إرشاداً له إلى طريق المحقِّقين من أهل الله، في لباس النصيحة والشفقة والاستهزاء، بمعلوماته ومعارفه، ومنعه من المعقولات الغير المفيدة في الآخرة، والبرهانيَّات الغير الموصلة إلى حضرة العزّة، وتحريضاً له على الأخذ من الله بطريق الكشف والشهود على قاعدة الصوفيَّة، والأكل من الإنعامات الإلهيّة وعطاياه، لا من كسب اليد كالصنَّاع والمحترفة وأمثالهم، وغير ذلك من الكلمـات المبنيَّة على جهله» (12).

فيما بعد تناول أبياتاً شعريَّة منقولة عن فخر الرازيّ يَظهر من مضمونها إقراره بالعجز عن إحراز المعرفة الحقيقيَّة. ثمَّ يدعم نظريَّته بنقل أقوال عن ابن عربي، فطريق اليقين مقفلٌ إلا لأهل الكشف والشهود. وفيما يَلي ينقل عن الإمام علي(عليه السلام) أقوالاً في هذا المجال: «أيُّها الناس وأرباب العقول! كائناً من كان، أحمركم وأسودكم، قاصيكم ودانيكم…إنَّما مَثَلكم كمثل حمارٍ معصوب العين،

________________________________________

(12) – ن.م، ص 486.

 

 

مشدودٍ في طاحونة، يدأب ليله ونهاره فيما نفعه قليل، وعناؤه طويل. ومع هذا يَعتقد أنَّه قد قطع المراحل، وبلغ المنازل حتَّى إذا كشفت عيناه وقد أصبح فرأى أنَّه من مكانه لم يبرح».

وأيضاً:

«الشريعة نهر، والحقيقة بحر. فالعلماء الفقهاء على النهر يطوفون، والحكماء الأذكياء في البحر على الدر يغوصون. والعارفون الواصلون على سفن النجاة يسيرون». (13).

وبعد هذه المقدِّمات يعمل السيِّد الآملي على تقديم تعريفٍ كلي حول موضوع العلوم ومسائلها ومبادئها. وينقل عن صدر الدِّين القونويّ ما يلي:

«العلم الإلهي (يعني العرفان) له الإحاطة بكلّ علم، إحاطة متعلّقه ـ وهو الحقّ ـ بكلِّ شي‏ء. وله ـ أيّ وللعلم الإلهيّ ـ موضوع ومبادئ ومسائل. وموضوع كلِّ علم ومباديه ومسائله فروع موضوع العلم الإلهيّ وفروع مباديه وفروع مسائله. وموضوعه الخصيص به وجود الحقّ تعالى. ومباديه أمّهات الحقائق اللازمة وجود الحق، وتسمّى أسماء الذات، فمنها (أي من أمّهات الحقائق) ما تعيّن حكمه في العالم وبه تعلم، إمّا من خلف حجاب الأثر، وهو حظُّ العارفين من الأبرار، وإمّا أن تدرك كشفاً وشهودا بدون واسطة ولا حجاب، وهو وصف المقرّبين والكمّل.

والقسم الآخر، من الأسماء الذاتيَّة، ما لم يتعيّن له حكم في العالم، وهو الذي استأثر الحقُّ به في غيبه، كما أشار إليه(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) بقوله في دعائه «أو استأثرت به في علم غيبك» الحديث. وتلى هذه الأسماء ـ أعني أسماء الذَّات ـ أسماء الصفات التابعة، ثمّ أسماء الأفعال والنسب والإضافات، التي بين‏ أسماء الذَّات وأسماء الصِّفات وبين أسماء الصِّفات وأسماء الأفعال. والمسائل هنا عبارة عمَّا يتّضح بأمّهات الأسماء التي هي المبادي، من حقائق متعلّقاتها والمراتب والمواطن،

________________________________________

(13) – ن.م، ص 486.

 

ونسبة تفاصيل أحكام كلّ قسم منها ومحلّه، وما يتعيّن بها و بآثارها من النعوت والأوصاف والأسماء الفرعيَّة وغير ذلك. ومرجع كلّ ذلك إلى أمرين، وهما معرفة ارتباط العالم بالحقّ، والحقّ بالعالم، وما يمكن معرفته من المجموع وما يتعذّر» (14).

3 ـ طريقة ورود العرفان

يقول السيد حيدر الآملي بشأن طريقة الدخول إلى عالم العرفان:

«وهذه المبادي ـ أعني مبادي العلم الإلهيّ ـ والمسائل، أيضاً يأخذها من لا يعرفها مسلّمة من العارف المتحقِّق بها، إلى أن يتبيّن له وجه الحقّ والصواب فيها فيما بعد، إمّا بدليل معقول، أن تأتّى ذلك للعارف المخبر واقتضاه حكم حاله ووقته ومقامه الذي أقيم (ذلك العارف) فيه، وإمّا أن يتحقَّق السامع صحّة ذلك، ويلوح له وجه الحقّ فيه بأمر يجده في نفسه من الحقّ، لا يفتقر فيه إلى سبب خارجي كالأقيسة والمقدِّمات ونحوهم» (15).

4 ـ ميزان ومنطق المعرفة العرفانيَّة

يقول السيِّد حيدر الآملي في هذا المجال:

«ولكلِّ علم أيضاً معيار به يُعرف صحيح ما يختصّ بذلك العلم من سقيمه، وخطأه من صوابه، كالنحو في علم العبارة، والعروض في معرفة أوزان الشعر وبحوره، والمنطق في العلم النظريّ، والموسيقى في معرفة النغم، هذا إلى غير ذلك ممَّا لا حاجة إلى التمثيل به.

ولمَّا كان شرف كلّ علم إنَّما هو بحسب شرف معلومه ومتعلّقة، كان العلم الإلهيّ أشرفها لشرف متعلَّقة وهو الحقّ، وكانت الحاجة إلى معرفة موازينه وتحصيل ضوابط أصوله وقوانينه أمسّ. وإنّه وإن قيل فيه أنّه لا يدخل تحت حكم ميزان، فذلك لكونه أوسع وأعظم من أن ينضبط بقانون مقنّن، أو ينحصر في

________________________________________

(14) – ن.م، ص 488 489.

(15) – ن.م، ص 489.

 

ميزان معيّن، لا لأنّه لا ميزان له، بل قد صحّ عند الكمّل ذوى التحقيق من أهل الله أنّ له بحسب كلّ مرتبة واسم من‏ الأسماء الإلهيَّة ومقام وموطن وحال ووقت- نعم!- وشخص، ميزاناً يناسب المرتبة والاسم وما عددنا، وبه يحصل التمييز بين أنواع الفتح والعلوم الشهوديَّة واللدنيَّة والإلقاءات والواردات والتجلّيات، الحاصلة لأهل المراتب السنيّة والأحوال والمقامات، وبه يتمكَّن الإنسان من التفرقة بين الإلقاء الصحيح الإلهيّ والملكيّ، وبين الإلقاء الشيطانيّ ونحوه ممَّا لا ينبغي الوثوق به». هذا آخر كلام الشيخ المذكور في هذا الباب، من بيان الموضوع والمبادي والمسائل.

وأمّا الميزان الإلهيّ، فقد ورد في اصطلاحهم تعريفه بأوضح من ذلك (المنقول عن صدر الدّين القونوي). وهو قولهم: «الميزان ما به يتوصّل الإنسان إلى معرفة الآراء الصائبة والأقوال السديدة والأفعال الجميلة، وتميّزها عن بعضها. وهو العدالة (التي) هي ظلّ الوحدة الحقيقيّة، المشتملة على علم الشريعة والطريقة والحقيقة، لأنّها لم يتحقَّق بها صاحبها إلا عند تحقّقه بمقام أحديّة الجمع والفرق. فإنّ ميزان أهل الظاهر الشرع، وميزان أهل الباطن هو العقل المنوّر بنور القدس. وميزان الخصوص هو علم الطريقة، وميزان خاصّته هو العدل الإلهي الذي لا يتحقَّق به إلا الإنسان الكامل.

ومن هذا قالوا في تعريف الشيخ أيضاً: «الشيخ هو الإنسان الكامل في علوم الشريعة والطريقة والحقيقة، البالغ إلى حدّ التكميل فيها، لعلمه بآفات النفوس وأمراضها وأدوائها ومعرفته بدوائها وقدرته على شفائها، والقيام بهدايتها إن استعدَّت ووفقت لاهتدائها، لأنّ (الإنسان) الكامل لا يكون كاملا في الحقيقة إلا إذا كان كذلك، أعني جامعاً للشريعة والطريقة والحقيقة، بحكم الميزان الإلهيّ والقانون الكلّىّ» (16).

________________________________________

(16) – ن.م، ص 489 490.

 

 

 

5 ـ العلوم والمعارف الإرثيَّة الصوفيَّة

يقول السيِّد حيدر الآملي:

«اعلم أنّ علوم أهل الله وخاصّته هي منقسمة إلى وحي وإلهام وكشف. وكلّ واحدٍ من هذه الأقسام ينقسم إلى خاصّ وعامّ، لأنّ الوحي خاصّ بالأنبياء والرسل، عامّ بالنسبة إلى غيرهم، من السماء والنحل وغيرهما من الموجودات. والإلهام خاصّ بالأولياء والأوصياء، عامّ بالنسبة إلى غيرهم، من المشايخ والعارفين. والكشف خاصّ بأهل السلوك من أهل الله، عامّ بالنسبة إلى غيرهم من الناس، حقّا كان (ذلك) أو باطلا: حقّا بالنسبة إلى أهل الله والعارفين، باطلاً بالنسبة إلى السَحرة والكهنة وأمثالهم» (17).

ويتابع:

«اعلم أنّ علوم أهل التصوّف المعبّر عنهم بأهل الله وخاصّته، عبارة عن العلوم الحاصلة لهم من الله تعالى بالكشف، المعنويّ والإرث الحقيقيّ، من دون الكسب والاستفادة من الغير» (18).

ومن ثمَّ يقسِّم هذه المعارف الإرثيَّة إلى قسمين: العلوم التي تحصل للعرفاء من الله تعالى بغير واسطة. والتي تحصل لهم من خلال الواسطة من قبيل العقل الكليّ، النفس الكليّة، آدم الحقيقي. ومن هنا يسمَّونها (أي العلوم الصوفيَّة) بالعلوم الإرثيَّة. لأنَّها تصل إليهم من أبيهم المعنويّ (آدم) وأمّهم المعنويَّة (حواء)، أي العقل والنفس الكليَّة بالإرث المعنويّ الحقيقي. وليس مقصود الرسول الأكرم(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) من العلماء ورثة الأنبياء إلا هذا. وفي مثل هؤلاء ورد في الكتاب العزيز «وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم».

ويقول النبيّ عيسى (عليه السلام) أيضاً:

«يا بنى إسرائيل! لا تقولوا: العلم في السماء، كلُّ من يصعد إليه يأتي به، ولا

________________________________________

(17) – ن.م، ص 491.

(18) – ن.م.

 

في تخوم الأرض، كلّ من ينزل إليه يأتي به، ولا من وراء البحار (كلّ) من يعبِّره يأتي به. العلم مجبولٌ في قلوبكم، مركوزٌ في نفوسكم. تأدَّبوا بين يدي الله بآداب الروحانيِّين، وتخلّقوا بأخلاق الصدِّيقين، يَظهر لكم العلم حتَّى يغطيِّكم» (19).

وكذلك أشار نبيّنا(صلى‏ الله ‏عليه ‏و ‏آله ‏و سلم) إلى هذه المعارف بقوله:

«من أخلص للَّه تعالى أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه إلى لسانه» (20).

ثمَّ يبيِّن انحصار العلم الإرثيّ بالعرفاء بتوجيهٍ آخر فيقول:

«الإرث لا يخلو من وجهين: إمّا أن يكون صوَرياً وإمّا أن يكون معنوياً، وعلى كلا التقديرين، ليس لعلماء الظاهر فيهما حظٌّ ولا نصيب أصلا. أمّا (الإرث) الصوَري، فليس لهم دخل فيه، لأنّه إمّا أن يكون من الله أو من النبيّ، فإن كان من الله، فليس له تعالى إرث صوَري، وإن (كان الإرث الصوَري) من النبيّ، فالإرث الصوَريّ من النبيّ ـ على تقدير التسليم (به) بزعم البعض ـ لا يكون إلا لأولاده وعترته من أهل بيته، بحكم الكتاب والسنّة، وأمّا (الإرث) المعنويّ، فعلماء الظاهر خارجون عنه بحكم الحديث، وبزعمهم أنّ علومهم كسبية لا إرثيَّة» (21).

وفي الختام وبعد بحثٍ مطوَّل يعرض هذا الموضوع ببيان آخر هكذا:

«العلوم الإرثيَّة ليست بكسبيَّة، لأنّ الكسبيَّات لا تسمّى إرثاً، لا في اللغة ولا في الاصطلاح. فكلّ علم يَحصل بالكسب ويكون موقوفاً عليه، لا يكون إرثياً ولا يصدق على صاحبه أنّه وارث. فالعلوم الرسميَّة الكسبيَّة تكون خارجة عن حكم الإرث، وصاحبها كذلك، وهو المطلوب. وبوجهٍ آخر:

المكتسب ليس بإرث، لأنّ (العلم) المكتَسَب عبارة عن علم محصّل من غيره، كالمال الحاصل بالكسب والاجتهاد. والميراث ليس كذلك، فإنّه عبارة عن علم يحصل من غير كسب ولا سعي. فينتج أنَّ الميراث ليس بمكتسب، ولا

________________________________________

(19) – نص النصوص، ص 493- 494.

(20) – ن.م.

(21) – ن.م. ( تلخيص)

 

المكتسب بميراث. وعلم العلماء الرسميّين كلّه مكتسب بإقرارهم، فلا يصدق عليها (أي على علومهم) أنّها إرثيّة، ولا على‏ صاحبها أنّه وارث» (22).

ثمَّ تناول السيِّد حيدر بنحوٍ موجز، أهمُّ مسائل العرفان، الحكمة وعلم الكلام في مجال معرفة الوجود، إثبات الواجب، صفات الواجب، صدور الموجودات، ترتيب الموجودات، حدوث العالم، المقولات، حقيقة الجسم و.. (23) ولمزيدٍ من توضيح مسائل كلٍّ منها رَسَم ونَظَم جدولاً خاص(24)، وفيما يتعلَّق بهدفه ودافعه من هذا التقرير الإجماليّ يقول:

«أن لا يتوهَّم أحد منهم أنّ أهل الله وخاصّته ما لهم اطلاع على أصولهم وقواعدهم، ولا يتمكَّنون من إقامة البرهان على مطلوبهم، ولا إثبات الدليل على مقصودهم، ويتحقّق أنّ لهم التمكّن من ذلك كلّه. لكن لعلمهم‏ بأنَّ (هذه الأصول والقواعد) ما لها تحقّق ولا ثمرة ولا نتيجة يوثَق بها، يتركون ذلك ويتوجّهون إلى الله تعالى طلباً للكشف، والتماساً للشهود ذوقاً ووجداناً من دون البحث دليلاً وبرهانا، لأنّ العيان لا يحتاج إلى البيان» (25).

الهوامش:

________________________________________

(22) – ن.م، ص 500 501.

(23) – ن.م، ص 501- 526.

(24) – ن.م، ملحق الجدوال، الرقمان 27-29.

(25) – ن.م، ص 526- 527.