الدين .. بين الفطرة الالهية ومتاهات الفكر البشري
الدين .. بين الفطرة الالهية ومتاهات الفكر البشري
الشيخ محمود الجياشي
لماذا الدين ؟ لِمَ يضاف الى ثقة الانسان بنفسه الثقة بالله تعالى ؟ ولِمَ يضاف الى العمل الصلاة أيضاً ؟ ولِمَ يضاف الى العقل كتب الوحي ؟ ولِمَ يضاف الى هذا العالم عالم مابعد الموت ؟!
هذه ( حزمة ) من الاسئلة والاثارات الجادّة التي ظلّت تفرض نفسها في جميع مراحل التفكير الانساني ، ومن المؤكد أن جميع أو أغلب أفراد الانسان وبجميع مستوياتهم الفكرية قد واجهوا هذه الاسئلة أو طرحوها أو فكّروا بها مع أنفسهم ، وهي تدور حول مضمون جوهري واحد بالرغم من اختلاف صياغاتها وتعدد القوالب الفكرية التي تطرح من خلالها.
إذ أجمع مؤرخو الاديان على أنه ليست هناك جماعة إنسانية ظهرت وعاشت ثم مضت دون أن تفكّر في مبدأ الانسان ومصيره ، وفي تعليل ظواهر الكون وأحداثه ، وعلاقة الانسان ودوره في هذا العالم ، ودون أن يكون لها فيه رأي سواء أكان يقيناً أم ظناً.
بالتأكيد ليس هناك قوة في الكون تستطيع منع الانسان ( الكائن العاقل المفكر ) من التفكير بهذه الاسئلة وسلب حقّه المعرفي والوجودي في طرحها والبحث عن جواب شاف وكاف عنها ، لانها تتعلق بتحديد مصيره النهائي بشكل مباشر ! ومن هنا قلنا في مقالة سابقة أنه لامجال في ساحة البحث العقائدي للظنون والشكوك واتّباع الغير من دون حصول العلم واليقين الذي يمثل أعلى درجات الكشف والادراك عند الانسان.
ولاشك أن الرسالات السماوية بجميع انبيائها ورسلها ومضامينها الكونية والروحية والاخلاقية والعقدية وأحكامها الفرعية إنما جاءت لتبيّن للانسان ملامح اللوحة المتكاملة التي تتكفل الاجابة عن الاسئلة المذكورة.
السؤال المهم هنا : كيف يتحقق ذلك ؟
إن وصول الانسان الى مرحلة اليقين واستقرار النفس الكامل ، وسكون الروح ، واطمئنان القلب ، والخروج من ساحة القلق النفسي والظمأ الوجودي ، لايمكن أن يتحقق إلا بوجود جهة معيّنة في حقيقة الانسان وكينونته يمكنها أن تتماهى أو يكون لها انسجام تكويني مع معطيات الرسالة السماوية … مَثَلُ ذلك مَثَل بذرة النبات التي تدفن في الارض ، فلولا وجود عنصر تكويني في كينونة البذرة يمكنه التماهي والانسجام مع عناصر التربة والماء والهواء لما أمكن لهذه البذرة النمو والوصول الى كمالها النباتي بل ستندثر في أعماق التربة وتتحول الى كائن آخر لايمت للنبات بصلة !
بعبارة أخرى إن الرسالة السماوية هي الماء الذي أرسل الى الانسان المدفون في مزرعة الدنيا لكي يحيى وينمو ويصل الى كماله وتورق أغصانه وتتدلى ثماره التي تقتضيها عناصر بذرته الانسانية ..
في ضوء هذه الحقيقة التكوينية يمكن القول : إن ( الماء السماوي ) أي ( الدين ) ليس شيئاً غريباً على جوهر البذرة الانسانية ، فعندما يلتقي بها ضمن الشروط الصحيحة سوف يبعث فيها الحياة لتنفلق ثم تشق طبقات التربة ثم تنبت ثم تورق ثم تثمر في مسيرة تكاملية نحو مصدرها الالهي اللامتناهي .
استناداً لذلك ينفتح البحث حول موضوع ( الفطرة ) التي تمثل جوهر الحقيقة الانسانية وبذرتها المحتاجة للماء السماوي ، إذ يقرر القرآن بوصفه الرسالة السماوية الخاتمة أن الدين في جوهره ليس شيئاً غريباً عن الفطرة الانسانية .
قال سبحانه وتعالى :(( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لايعلمون )) الروم : 30 .
الدين القيّم بحسب منطق القرآن هو الدين المستند الى الفطرة التي لاتبديل لها ، ومن هنا ستكون الفطرة حاكمة على جميع تفاصيل الدين القيّم الذي يأمرنا الله بالتوجّه إليه .. فأقم وجهك للدين ..
في ضوء هذه الحقيقة نستنتج سبب التركيز القرآني على أن أهم وظيفة للانبياء والرسل هي ( التذكير ) .
قال سبحانه : (( فذكّر إنما أنت مذكّر )) الغاشية :21.
وقال :(( ولقد وصلّنا لهم القول لعلهم يتذكرون )) القصص: 51 .
وقال : (( فذكّر إن نفعت الذكرى ، سيذكّر من يخشى )) الاعلى : 9-10.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة : فبعث فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسيّ نعمته ، ويثيروا لهم دفائن العقول .
إذ لامعنى للتذكير إلا أن يكون ثمة شئ كان موجوداً وتم نسيانه ! وليس هو إلا الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها ، وهي التي تمثل جوهر الجهة السماوية في كينونة الانسان ، وعلى أساسها يخاطب الانسان بالرسالة السماوية ، ومن بابها يصل إليه النداء الالهي .
إن القرآن الكريم يؤكد من خلال آية الفطرة أن هناك تطابقاً كاملاً بين الدين وبين الانسانية في معناها العميق الذي يجعل من الانسان خليفة لله سبحانه وتعالى في العالم الارضي ، بل سيداً للمخلوقات جميعاً ، وليس ثمة شك في أن الخلافة الالهية هي أمر تكويني من الله عزّوجل على تمام الخلق وموجودات هذا العالم ، ولايمكن لهذه الخلافة أن تتحقق الا إذا أمكن للانسان أن يكون قابلاً لحمل صفات المستخلَف عنه وهو الحق سبحانه ! وينتج من ذلك أن بذرة الفطرة ( سماوية الاصل ) لايمكنها أن تنبت وتتكامل الا بالارتواء من ماء سماوي ، وعلى حدّ تعبير القرآن : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما ( يحييكم ) .
فالانسان كما يصفه السيد موسى الصدر : هو العطاء الالهي ، والمخلوق الذي خلق على صورة خالقه في الصفات ، خليفة الله في الارض ، الانسان أساس الوجود ، وبداية المجتمع ، والغاية منه ، والمحرك للتاريخ .
وحيث أن الفطرة الانسانية واحدة لاتتبدل فيكون الدين المستند إليها واحداً أيضاً لاتعدد فيه ، بعبارة أخرى إن وحدة الدين أو وحدانيته ( لانقصد هنا وحدة الشرائع لان الشريعة متعددة وهي تختلف عن الدين اصطلاحاً ) تستند الى أساس فلسفي في خلقة الانسان ، لان الدين فطري وماكان كذلك لاتتغير فيه الخلقة ولايتبدل حكمها .
بناء على ذلك سوف يكون الدين الالهي رافعاً للاختلاف الذي يقع بين أفراد الانسان بحسب قوله تعالى : (( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه )) البقرة : 213 .
فإن هذا النص القرآني يبيّن السبب في تشريع أصل الدين ومخاطبة النوع الانساني به ، حيث يخبرنا الله سبحانه من خلال هذا النص أن الاختلاف في الحياة الانسانية رُفِعَ أول مارفع بالدّين ، وأن الدين هو المنادي الاول برفع الاختلاف المذكور.
في ضوء ذلك نطرح السؤال التالي لنخلص الى احدى النتائج الجوهرية من منظور هذا البحث :
إذا كان الدين قائماً على أساس الفطرة الانسانية فكيف أصبح دين الفطرة دين القتل والخطف والتفخيخ وقطع الرقاب وحرق الجثث والتمثيل بها ؟!
خصوصاً وأننا نعيش اليوم أمام هذا التناحر الطائفي والانهيار الذي لاسابق له في البنية الاجتماعية الدينية ، والذي بلغ أقصى درجات القسوة والوحشية والدناءة وبأساليب يأباها الشرف والمرؤة وكرامة الانسان !
ترى أيّ فطرة هذه التي تقضي على نفسها ؟!
وأي كمال يتحقق بهذه الاعمال الشنيعة ؟!
وأين هو الدين الذي يمثل علاقة الانسان بالانسان ، وعلاقة الانسان بالحياة والكون لينير عليه أطراف هذا العالم اللامحدود ؟
لاشك أن الدين الحقيقي الذي يمثل جوهر الفطرة الانسانية والذي نادى برفع الاختلاف بين البشر في أشد عصور الانسانية ظلمة ليس هو الدين الذي يدعيه الان مدعوا التدين من أصحاب فتاوى التكفير ورموز التطرف ودعاة العنف من جميع الاديان والمذاهب .
إن القرآن نفسه يقرر بأن الاختلاف الذي نشأ في الدين أوجده حَمَلَة الدين ممن أوتي الكتاب بغياً بينهم وظلماً (( وما اختلف فيه الا الذين أوتوه )) في حين يقول سبحانه في آية أخرى : (( أقيموا الدين ولاتتفرقوا فيه )) !
وبالتالي يتضح أن هناك ديناً لايقع الاختلاف فيه بل هو رافع للاختلاف بين الناس ، وهو الدين المستند الى مقتضيات الفطرة الانسانية ، وديناً وقع فيه الاختلاف بغياً وهو سبب الاختلاف والتناحر .
فالاختلاف مستند الى البغي دون الفطرة ،لان ماكان مستنداً الى الفطرة الانسانية يستحيل أن يختلف فيه إثنان من أفراد الانسانية.
استناداً لذلك فإن كل دين يؤدي الى إبادة الفطرة الانسانية وهلاكها فهو بغي وظلم وإن سمّى نفسه ديناً ، وهذا ملاك قرآني صريح في تحديد حقانية الدين وطبيعة دوره في حياة الانسان .
في هذا المجال يؤكد المتخصصون في المعرفة الدينية أن تعريف الدين قد تم التركيز فيه غالباً على مفهوم النظام والنسق ، أي على البعد الجمعي للدين ، فيهتم الفلاسفة وعلماء اللاهوت بمسائل العقائد والوجود ، من حيث أنها أنساق معرفية أو قضايا إيمانية ، ويكون تركيز الفقهاء بصفة خاصة على الدين بوصفه نسقاً من الاوامر والنواهي ، وعلى أساس طاعة الاوامر واجتناب النواهي يتحقق كمال الانسان فرداً كان أو جماعة ، أما علماء الاجتماع وعلوم الانسان فيهتمون بالدين بوصفه ظاهرة إجتماعية إنسانية ، لكن يبقى الدين بوصفه تجربة روحية عظيمة تتجلى فيها معاني الغيب والملكوت والنور الالهي في الذات الانسانية محط اهتمام كل العرفاء وعلماء الاخلاق على مستوى جميع الاديان ، وهذه الجهة من البحث هي التي تستحق التركيز والبحث في الظرف الراهن ، وهي التي تستطيع الاجابة عن الاسئلة التي افتتحنا بها هذا المقال.
ويترتب على ذلك : ضرورة تأصيل الخطاب الديني في ضوء مبدأ الفطرة الذي يؤسسه القرآن لبيان العلاقة بين الدين والانسان ، وضرورة بيان الاهداف العليا للدين لكي يتسنى توجيه جميع الاحكام الفرعية نحو تلك الاهداف وتحقيق الانسجام معها ، أي ضرورة تأسيس خطاب ديني قائم على التصوّر القرآني لكرامة الانسان.
وبالتالي نحن مدعوون جميعاً لتحرير الدين المختطف وتخليصه من شبكات الضلال والانحراف ومتاهات العنف والتطرف والتكفير ! وإعلاء مقولة ( كرّمنا بني آدم ) على مقولات التكفير واستباحة دماء الابرياء وهدر الكرامة الانسانية ، وتكثيف البحوث التخصصية في طرح المقولات الدينية مع عمقها الروحي وأصولها الفطرية والاخلاقية التي تتبناها جميع الرسالات السماوية الحقّة. والتأكيد على أن شجرة ( التديّن ) لا يمكن أن تكتب لها الحياة والنمو الا في أرض الانسانية بمعناها العميق الذي يتجلّى في قوله تعالى (( ونفخت فيه من روحي )) … ذلك الدين القيّم … ولكن أكثر الناس لا يعلمون.