الإفطار المعنوي للصائمين… الحلقة الثانية

289

الإفطار المعنوي للصائمين… الحلقة الثانية

 

بقلم : الشيخ عبد الحكيم الخُزاعي

كنا قد ذكرنا أن هناك مفطرات معنوية، وان هناك أناس ناجحون في الصوم الفقهي، وراسبون في الصوم المعنوي، ولا باس أن نقول أن الصوم الفقهي هو مقدمة للصوم المعنوي ولعله المعني بقوله تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) فأول مراتب التقوى هو عمل الواجبات وترك المحرمات، ومن اولها الصلاة والصوم وباقي الفروع الأخرى، ففلسفة الصوم أن يتخلص الإنسان من الرذائل الأخلاقية وبالتالي يتكامل ويسير سيرا معنويا نحو الله، لذا ورد عن النبي ص (من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم القيامة ) ولا باس أن نذكر بعض هذه المفطرات المعنوية الأخرى

خامسا: سوء الخلق وهو في قبال حسن الخلق، وقد عرفه الجرجاني بقوله (وسوء الخلق عبارة عن: هيئة راسخة في النفس، تصدر عنها الأفعال القبيحة بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية)

فهو ملكة راسخة في النفس تجعل النفس الإنسانية قريبة دائما من الشر لذا تصدر منها الأفعال السيئة بسرعة، من شتم وسب وقذف بل وجميع الموبقات، فأي صوم لصاحب الخلق السيء، لذا ورد ان رسول الله (ص) أمر جارية بالإفطار لأنها سبت أخرى، وأسباب سوء الخلق كثيرة، لكن جمعها بعض العلماء بقوله (ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان: (الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب).

فالجهل يريه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، والكمال نقصًا، والنقص كمالًا.

والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضا، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويبذل في موضع البخل، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع.

والشهوة تحمله على الحرص، والشح، والبخل، وعدم العفة، والنهمة، والجشع، والذل والدناءات كلها.

والغضب يحمله على الكبر، والحقد، والحسد، والعدوان، والسفه.

وشهر رمضان فرصة للتخلص من هذه الأسباب، لأنه يوفر فرصة للتعلم وفرصة لحسن الخلق وعدم الظلم والغضب، لأن الشهر يقوى إرادة الإنسان ويكون أقرب للتقوى.

ولابأس ان نذكر روايات اهل البيت عليهم السلام عن سوء الخلق ،قال النبي صلى اللّه عليه وآله: «أبى اللّه لصاحب الخلق السيئ بالتوبة، قيل: فكيف ذلك يا رسول اللّه؟ قال: لأنه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه»

وقال الصادق عليه السلام: «إنّ سوء الخلق ليفسد العمل كما يُفسد الخل العسل»

وقال عليه السلام: «من ساء خلقه عذّب نفسه»

ان هدف بعثة النبي ص هو قوله (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) والشهر فرصة كبيرة للتخلق بها، وترك الأخلاق السيئة، لذا ربط النبي ص بين تحسين الخُلق وبين شهر رمضان، (ومن حسن منكم في هذا الشهر خُلقه كان له جواز على الصراط يوم القيامة)

واذا ضممنا فكرة أن القرآن كتاب هداية (هدى للمتقين ) وشهر رمضان ربيع القرآن، فكان الزمن وهو الشهر والمضمون الذي فيه القرآن، سببان وباعثان للتخلق والوصول إلى الغاية الحقيقية والتي قال عنها النبي ص (اقربكم مني منزلا احسنكم اخلاقا)

سادسا: الغش وغلاء الأسعار مع شديد الأسف مع كل شهر رمضان نلاحظ اما غلاء الأسعار أو اختفاء بعض المواد الضرورية للإنسان، ونحن نعرف كثرة الفقراء في المجتمع، فمع انه شهر الرحمة والشياطين فيه مغلولة لكن يبدو أن شياطين الإنس لا يغلها شيء، ما أبشع قسوة القلب وما أجمل رقته ورحمته، والغش والاحتكار مواضيع بحثها الفقهاء كثيرا ويحرمها العقل قبل النقل، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك لابأس أن ننقل بعضها لعل البعض ينتهي عن الغش والخديعة والتلاعب بمصير ملايين الناس، ونحن نعرف جيدا اتفاق التاجر مع السياسي، لذا كثير لدينا ما يسمى تجار الأزمات.

عن الإمام الباقر «عليه السلام» أنه قال: (مر النبي «صلى الله عليه واله» في سوق المدينة بطعام فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلا طيبا وسأله عن سعره، فأوحى الله عز وجل اليه ان يدس يده في الطعام ففعل فأخرج طعاما رديئا، فقال لصاحبه: ما أراك إلا وقد جمعت خيانة وغشا للمسلمين)

وأيضا عنه «صلى الله عليه واله»: (من غش مسلما في شراء او بيع فليس منّا، ويحشر يوم القيامة مع اليهود لأنهم أغش الخلق للمسلمين) «الوسائل».

 وقال «صلى الله عليه واله» : (من بات وفي قلبه غش لأخيه المسلم بات في سخط الله، واصبح كذلك وهو في سخط الله حتى يتوب ويرجع ـ أو يراجع ـ وان مات كذلك مات على غير دين الإسلام. ثم قال «صلى الله عليه واله» ألا ومن غشنا فليس منا ـ قالها ثلاث مرات ـ ومن غش أخاه المسلم نزع الله بركة رزقه وأفسد عليه معيشته، ووكله الى نفسه) «الوسائل».

 وروي عن الإمام الصادق «عليه السلام»: (دخل عليه رجل يبيع الدقيق، فقال :اياك والغش فانه من غَشَّ غُشَّ في ماله فان لم يكن له مال غش في أهله) الوسائل

فهل بعد ذلك يأتي من يصوم وهو يغش ويتلاعب بقوت الفقراء، انهم الذين عناهم أمير المؤمنين عليه السلام بقوله (كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)

سابعا: مشاكل التواصل الاجتماعي، مع شديد الأسف أصبحت آفة تهدد الفرد والعائلة والمجتمع، وانتشرت فيها أنواع الموبقات، حتى تجارة البشر، والأعضاء البشرية وترويج المخدرات، والجنس وكل ما يتصور من فواحش، ولا ننكر أنها سلاح ذو حدين، فها نحن إنما نوصل صوتنا عبرها، لكننا نريد أن نقول أصبحت من المفطرات المعنوية، بحيث انشغل الفرد بها عن المساجد وعن الصلاة وعن المحاضرات وعن ما ينفعه، فأي صائم هذا الذي يقضي نهاره وليلة في مواقع التواصل الاجتماعي، يعلق لهذا ويسب ذاك، وينشر اي خبر دون التثبت، ويسقط العلماء، ويبحث عن الرذيلة، اي صائم هذا الذي كل عقله في الواقع الافتراضي، ويترك الواقع العيني بما يحمل من هداية ونور وخير، ولو راجعنا ما ينشر في الجرائد من تحقيقات حول الجريمة والطلاق والمخدرات وخراب البيوت نجد أن نسبة هذه المواقع ومشاركتها في ذلك تصل نسبة عالية جدا، وما هذا إلا لأن المجتمع لم يهضم هذا الأمر ولم يقتبس الاقتباس الواعي، ولم يسخرها للعلم والمعرفة، والتخلص من التخلف المجتمعي.

ثامنا: من مصاديق المفطرات المعنوية، وهو الابتعاد عن البرنامج العملي الذي اختطه الإسلام للمسلم في هذا الشهر الفضيل، من صيام وقيام، وتلاوة قرآن وتعلم العلم وصلة الأرحام، والمشاركة الفعلية في إحياء المجالس وليالي القدر وغيرها من الطاعات، ومن أبرز مصاديق ذلك، الانشغال بالألعاب التي تأتي في شهر رمضان المبارك، مثل المحيبس وغيرها، بل اليوم جاءت الالعاب الاكترونية وشغلت الشعوب فضلا عن الافراد، وهكذا الجلوس طويلا في صالات البليارد والكوفشوبات وغيرها، إن الإنسان الذي يبتعد عن أجواء شهر رمضان المبارك وينشغل بهذه الأمور فأي شهر آخر أو زمن اخر يمكن أن يصلحه يا ترى وقد ورد (المحروم من حرم غفران هذا الشهر) لأنه شهر الرحمة والمغفرة.

تاسعا: الانشغال بالبرامج المعدة سلفا للشهر الكريم، وبينما كان ينبغي أن تكون المادة المعروضة مناسبة للشهر كالمسلسلات الدينية أو الاجتماعية الهادفة، نجد سيطرة الفن الهابط، بل والعري وتعليم المجتمعات كسر العادات والتقاليد الحميدة التي تربوا عليها، وهذه البرامج وان كانت تدخل في ضمن اللهو، لكنني افردتها لأنها مهمة جدا، بل هي مخطط لها من قبل المفسدين، مع شديد الأسف أن ينساق المجتمع إلى هذه السفاسف وهذا الهبوط الكبير في التصور والأخلاق، وقد شاهدنا وسمعنا جيدا الدراما العراقية في هذا الشهر الفضيل، فقد كتب ضدها ممن هم في الوسط الفني واعتبرها خادشة للحياء، بل وخروج عن خط الفن العراقي في الدراما والمسلسلات، فتصور أن فنانا يكتب ضدها فكيف بمن هو غيره، ممن يحمل غيره على مجتمعه، إن أدنى مطالبة هو الكف عن مشاهدة هذه المسلسلات واستبدالها ببرامج هادفة نافعة فمتى يتعلم الإنسان إذا كان في الشهر الفضيل مبتعدا عن الله ؟؟

عاشرا: واختم كلامي واحيل القارئ إلى الكتب الأخلاقية الكثيرة، اقول أختم كلامي بموبقة خطيرة وآفة كارثية أصبحت تسلب الناس دينهم ومبادئهم واخلاقهم، الا وهي الخداع الديني والرياء وعبادة الله في هذا الشهر فقط، وكأن الله موجودا فقط في شهر رمضان، وهو رب العالمين ورب الازمان والامكنة، فويل لمن يكون مع الله متقلبا، ومرائيا ومنافقا، وقد ورد لعن الله عبادة رمضان، اي انهم عبدوا الشهر ولم يعبدوا الله ، عجبا الإنسان الغافل الذي يتصور ان الله محتاجا لعبادته، وهو الغني عن العالمين (يا أيها الناس انتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله الطاهرين