النظام العالمي والنظم الحسيني

320

النظام العالمي والنظم الحسيني

سماحة آية الله الشيخ محمد السند (دام ظله)

قال رئيس لموقع كبير لاحد الدول العظمى لمسؤول رفيع المستوى وطني أن أتباع أهل البيت ع الذين يشكلون مجتمع مسيرة الاربعين الحسيني اكثر تمدنا من المجتمع الغربي الذي هو منه، فسأله الثاني: لماذا هذا الوصف والتفضيل، وما  الذي رآه منهم، فأجاب الاول:  إننا نملك أقوى واغنى دولة ولدينا افخم مدينتين أو ثلاث في العالم وفي كل عام  اضطرارا تتعرض تلك المدن الى عطل او عطب كهربائي لمدة ساعات قد تطول او تقصر، وخلالها تتصاعد الحوادث شتى من اعداد القتل او الاغتصاب للنساء والسرقة وازدحام المرور والفوضى في المجالات المختلفة كجو الغابات المتوحشة، ومع اننا كدولة نمتلك اكبر الامكانيات والتجهزيات إلا اننا نعجز عن الوقوف والحيلولة دون وقوع هذه الحوادث، مع ان امكانيات الدولة في تلك المدن هي في ذروة التوافر، هذا حالنا كدولة عظمى، بينما انتم ليس لديكم دولة تتمكن من ادارة البلد بكفاءة ولا تقديم الخدمات الضرورية، ومع ذلك يلاحظ مجتمع مسيرة الاربعين الحسيني الملاييني خلال الثلاث اسابيع خاليا من الحوادث ومن أي اصطدام او عارض يعكر صفو جوه المادي او الروحي فلا تقع حوادث مرورية ولا ازدحام في السير بل الانتظام هو السائد، كما لا يشاهد اي نقص في التموين الغذائي في هذه المدة ولا اي كارثة صحية ولا اية فوضى في النظم العام بل الادارة لهذا التجمع والمهرجان الضخم يتم بأقصى تقنية انسيابية، كما لا يشاهد اي حوادث امنية ولا اعتداء، وهذا رغم كون الغذاء مبذولا مجانا على مدار الثلاث وجبات، ورغم ان الادارة طوعية من الافراد من دون اجهزة تواصل متطورة، ويتم كل ذلك في مساحات واسعة من البراري والقفار والطرق بين المدن ثم داخل مدينة كربلاء بطرقها المتواضعة التي لا تسع للألوف فضلا عن الملايين.

 فهل الافراد تبدلوا الى ملائكة او ان هناك قدرة خفية تدير مثل هذا التجمع الجماهيري الفذ.

وهذا التصريح قد ادلى يه العديد من المراقبين الغربيين، وقامت دراسات بين مسيرة الاربعين الحسيني وبقية التجمعات الاخرى ذات الاقل كمية من جهة التعداد كالحج في مكة مثلا رغم ان غرف العمليات لموسم الحج تستعين بأجهزة النظام ثمة في كل غرفة ادارية بفرق غربية واجنبية من دول العالم وشركات ادارية عملاقة عالمية في غرفة عمليات الامن وغرفة عمليات المرور وغرفة عمليات الصحة وغرفة عمليات التموين الغذائي وغيرها من غرف ادارية خدمية تدير الثلاثة ملايين في موسم الحج، ورغم ذلك فإنه يقع الكثير من الحوادث والخروقات والعطب والعطل للأمور، وقد ادلى فريق من الاعضاء في غرفة التموين الغذائي لموسم الحج ان النظام على مدار سنين يبذل بتوسط الشركات العملاقة الدولية كافة الاستعدادات لإعداد المؤن لئلا يطرأ نقص في موسم الحج في المواد الغذائية لا سيما الاساسية منها، ورغم ان كافة الخدمات المبذولة للحجيج في مكة بعوض وغير مجانية ومع ذلك فإنه في كل عام يحدث نقص حاد في تلك المؤن في اليوم الثامن من ذي الحجة في كافة اسواق البيع ويحدث ارباك للقيام بعلاجه وسد خلله.

 وكذلك الحال في كثير من تجمعات الأولمبياد العالمية حيث يتجمهر بضع مئات الالوف لا تصل في الغالب الى مليون او مليونين، وتتكاتف دول العالم الأول الغنية لإدارته ومع ذلك يقع خلاله الكثير من الحوادث والازمات الخانقة.

من المعلوم ان طابع الحضارة والتمدن هو نظم الادارة ونظام التدبير كما هو مقاس العلوم الانسانية والعلوم الباحثة عن الحضارات، وعلى ضوء ذلك نلاحظ المقارنة بين المجتمع الحسيني في مسيرة الاربعين مع المجتمعات البشرية الاخرى التي تحت ادارة الانظمة البشرية للعالم الاول للدول الغنية المتطورة فضلا عن العالم الثاني المتوسط فضلا عن العالم الثالث الفقير، فنلاحظ ان الدول العظمى الغنية عاجزة في الوقت الراهن عن منافسة ادارة مجتمع مسيرة الاربعين الحسيني في جميع المجالات الخدمية والادارية والاخلاقية والروحية وهذا استمر منذ عام 2003 الى عامنا هذا اي ما يقارب الثلاثة عشر مرة وفي كلها تتجلى التقدم الباهر لمجتمع الاربعين الحسيني (المدينة الفاضلة) على المجتمعات البشرية اكثر فأكثر وفي الحقيقة لو اردنا ان نتعرف ونتتبع المجتمع الحسيني فإنه لا يقتصر على مسيرة الاربعين فقط بل إن التجمعات الحسينية في المآتم والحسينيات والمواكب مهما صغر حجمها فإنها تجسد جانبا مصغرا من النموذج المجتمعي الحسيني بحسب ما يلتزم أفراده باللون والنهج الحسيني .

قد كثر رصد المراقبين الدوليين في الخفاء كل عام لما يجري في مجتمع مسيرة الاربعين وتزداد آليات الرقابة والمتابعة بغية الوقوف على سر النجاح الاداري وقوة التدبير فيه الفائق لكل موازيين الادارة البشرية حيث لم تتوصل الى هذا المستوى، وقد ذكر احد السادة المطلعين عن وقوفه المباشر لتأسيس لجنة خاصة معنية من قبل  احد رؤساء الدول الكبرى وذكر العديد من ذي الشأن أن كل عام تأتي وفود غربية وباحثون لاستطلاع مسيرة الاربعين عن كثب بل يذكر كثير من المؤمنين المقيمين في المهجر ان في كل عام يلتقي بذوي الشأن الكثير من المسؤولين الغربيين يستحفون بالسؤال متابعة كيفية ادارة المسيرة الاربعينية.

لا ريب ان الموروث من الشعائر الحسينية رغم الحرب عليها طوال قرون سواء من انظمة حكام الجور او من استهزاء الاعداء او تراجع بعض الموالين، لها دور كبير في خلق الجو المثالي لمجتمع مسيرة الاربعين الحسيني، وان هذه الروح المتكونة في مجموع الافراد التي تدير وتتفاعل مع الاداء لا شك انها صقلت بمواصفات خاصة تصنع وتستوعب هذا النظام المثالي لإدارة هذا التجمع والتجمهر، فمن تلك الصفات الفاعلة لذلك: الإيثار وهي صفة عظيمة كفيلة مع انتشارها ان ترفع العداوة عن بني البشر وتنتظم ادارة امورهم بأحسن وجه ، وينتهي ملف الاجرام والعدوان بين بني البشر، ولا غرو في الاهمية البالغة لهذه الصفة الى درجة ان انزل الله تعالى سورة بكاملها في شأنها عندما تجلت هذه الصفة بأعلاها في أصحاب الكساء ع وهي سورة الدهر (الإنسان)، نظرا لآثار هذه الصفة على سعادة الأواصر الإنسانية وتكوين المدينة الفاضلة التي يطمح البشر للعيش في ظلها الظليل. وهذه الصفة منبع لصفات درر كثيرة من التنكر للذات ونبذ العصبية وانقلاع الحرص والشره وهفوت قوة الغضب واسترخاص النفس وبذلها فداء للدين والمُثُل والمبادئ وكل هذه الصفات حواجز عن العدوان والعداوات، وهذا سر عظيم ينطوي عليه النهج الحسيني وتشتمل عليه الشعائر الحسينية.

ومن تلك الصفات: شدة المودة للقربى للحسين ع ولأهل البيت ع الى درجة الذوبان، فإن هذا الانشداد كفيل بصهر نفوس المحبين في نموذجية مُثُل وقيم واخلاق الحسين ع، مما يوجب تبدل الطبايع الى فضائل. وبذلك يتحول تجمهر معسكر الحسين ع الى افراد يتعايشون في إطار خلقي شفاف يصفو عن الكدورة والإحن والأغلال.