اولويات المجابهة

296

اولويات المجابهة

الشيخ عبد الكريم صالح

   قبل البدء بالنظر في الاسباب الذاتية للابتعاد عن الدين او حتى معاداته, لابد ان ننظر الى الاسباب الموضوعية, التي يتمسك بها بعض الافراد ويجعلها حجة لبطلان الدين, وعدم امكان تطبيقه والنزول به الى ارض الواقع, وانا هنا لستُ بمعرض استقصاء تلك الاسباب الموضوعية وحصرها في هذه العجالة, وانما اريد ان اتناول احد تلك الاسباب فقط, وهو فساد وانحراف معتنقي الدين او القيمين عليه, وهو سبب مهم جدا, قد يكون اهم الاسباب جميعا, فأن السلوك السوي وغير المتناقض, يغري كثير من الناس في الاقتداء بصاحبه وجعله مثلا اعلى للاحتذاء, وهكذا بدأت دعوات الانبياء عليهم السلام, كما ورد على لسان شعيب عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود88).

   كما ان السلوك المناقض لما يدعيه صاحب القيم والمبادئ يكون سبباً للطعن في تلك المبادئ والقيم, وليس فقط طعن في الاشخاص غير الملتزمين بها, ويوجب ايضا تنفر الناس منه ومما يدعيه, وهو بهذا السلوك لا يجني على نفسه فحسب بل جنى على كل تلك المبادئ التي كان يدعيها, وجعلها في معرض الرفض والتشكيك والعداوة, وهذه اكبر جناية يرتكبها.

فما اعظم جناية من يجعل الدين وسيلة ومطية للوصول الى اغراضه ومصالحه الخاصة, فهو اكبر جرما بكثير ممن يرتكب جرائم باسمه هو, لا باسم الدين, فان الاخير لا يمكن السكوت عليه, لكونه لم يرتكب جريمة بحق نفسه فقط, فان من يسرق او يزني او يقتل لحاجة او لدافع شخصي, يُحاسب على هذه الافعال فقط, اما من يأتي بهذه الافعال باسم الدين والمبدأ, فهذا ارتكب جريمتين, ثانيتهما اعظم بكثير من الاولى, فهو اعطى مبرر للطعن والتشكيك في الدين بل ومعادات الدين واهله, وهذا ما يحصل في مجتمعاتنا مع الاسف.

فان غالبية الناس لا تميز بين النظرية والتطبيق, وبين الدين والمتدين, فالسلوك عندهم هو المهم, وهو الذي يكون على تماس معهم, اما الامور الجوّانية في الشخص فلا علاقة مباشرة للناس معها, لذا يحكمون عليه ظاهرا وباطنا من خلال سلوكه بينهم.

وحتى يتضح لنا مدى اهمية هذا الجانب, لننظر الى اصحاب الرسالات السماوية, حتى ننظر الى اهم صفة من صفتهم التي بسببها تم نجاح دعواتهم, وانتشر دينهم ودخلته الناس افواجا, وتلك الصفة والميزة هي العصمة والمصونية من الزلل قولا وفعلا واعتقادا, فهؤلاء الرسل لم يناقض قولهم فعلهم ولم يأمروا الناس بشيء لم يأتمروا هم به, وكانوا مثلا اعلى بالخُلق السامي, فوقع حبهم في قلوب الناس قبل ان يسمعوا حججهم ومضامين رسالتهم, فكانوا مقبولين لدى عامة الناس, وكان من يعاديهم ولا يقف في صفهم يُرفض من قبل الناس ويتهم بأنه لا اخلاق له ولا قيم ولا مبادئ, وهكذا انتصر اصحاب الرسالات والمصلحون بصدقهم وامانتهم وخُلقهم السامي.

فنحن قبل ان ننتقد الخارجين من الدين والمعادين له, لابد ان نعري المنتفعين باسم الدين ونوضح للناس ان هؤلاء مخادعون ومنافقون ولا يمتون للدين بصلة, وهم اكبر واشد الجناة على الدين, لكونهم يصورون الدين للناس بانه دين خداع ودجل ونفاق, وليس دين صدق وامانة وعدل ورحمة.

فان الذي يُظهر العداء للدين ويجاهر به, اقل خطراً ممن يرتدي لباس الدين ويجعله وسيلة لمطامعه الشخصية, ويتصيد به المناصب والوجاهة والاموال, لكون العدو الخارجي يعطي الدين صلابة وتماسك وقوة, اما العدو الداخلي فهو يفتك بالدين وينخره من الداخل حتى يكون هشا يتناثر عند اقل ريح تهب عليه.