خطبتا صلاة عيد الأضحى المبارك 1444

14

بسمه تعالى

الخميس – العاشر من ذي الحجة الحرام – 1444 الموافق 29 – 6- 2023 أقام سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) صلاة عيد الأضحى المبارك بمكتبه في النجف الاشرف، والقى سماحتُهُ خطبتي صلاة العيد على جموع المؤمنين الذين وفدوا لزيارة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكانت الخطبتان من قبسات الآية الكريمة 28 من سورة الكهف {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}. وأوضح سماحته (دام ظلّه) في مستهل حديثه في الخطبة الأولى أن الآية الكريمة بصدد الأمر بحبس النفس وتوطينها على مجالسة الصالحين وملازمة مجالسهم، لما يحملون من صفة الصدق وإخلاص النيّة مع الله تعالى، فلا همَّ لهم إلاّ العمل في ما يحب ويرضى؛ ولذا يلزم علينا التقرب إليهم والاستماع إلى مشاكلهم وقضاء حوائجهم؛ لأنهم انقطعوا إلى الله تعالى وكرسوا حياتهم بكل تفاصيلها له سبحانه، واستوعبوا رسالة الإسلام عقيدةً وفكراً وسلوكاً فكانوا القوة الحقيقية لهذا الدين الحنيف في مواجهة الأخطار والفتن، لافتاً إلى أنَّ التعبير بالغداة والعشي كنايةً عن ذكرهم المستمر لله تعالى وحضور الصدق بكل تفاصيل حياتهم؛ ولذا رفعت الآية الكريمة من منزلتهم حينما وصفتهم بأنهم يريدون وجهه. وأكّدَ سماحته (دام ظلّه) على توخي الحذر من الإعراض عن هؤلاءِ الصالحين؛ مجاملةً للأغنياء والمتكبرين الذين يستنكفون من مجالسة هؤلاء المستضعفين؛ طمعاً في إصابة شيء من دنياهم، مشيراً إلى أن الآية الكريمة لا تدعُو إلى مقاطعة المترفين وعدم إيصال صوت الحق إليهم وعدم الاستفادة من إمكانياتهم لنصرة الدين وتحسين أوضاع المظلومين، ولكن تنهى عن مجاملتهم ولو على حساب الحق طمعاً في الدنيا. وذكر سماحته (دام ظلّه) أن آية سورة الأنعام عدّت من يفعل ذلك من الظالمين، قال تعالى { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حسَابكَ من شيءٍ فتطردَهُم فتكونَ من الظالمين} (الانعام:52)، مبيناً أن المروي في سبب نزول الآية هو ما عرضه مشركو قريش على النبي (صلّى الله عليه وآله) بإبعاد أصحابه من الطبقة المتدنية حسب نظرتهم كعمار وبلال وخباب حتى يجلسوا إليه ويسمعوا منه، والأمر بالصبر يكشف عن تعرض النبي (صلّى الله عليه وآله) للضغط من قِبل المترفين لإبعاد الفقراء والمستضعفين. وبيّنَ سماحته(دام ظله) أن الآية الكريمة ترشد إلى أدب من آداب القرآن يُربى عليه قادة الإسلام في نظرتهم إلى الناس وفي نفس الوقت علاج لأكثر من مشكلة.:

١-إجتماعية : وهي التمايز الطبقي حيث يُصنف المجتمع الواحد إلى طبقة متعالية من أهل الثراء والترف وهم قلّة، وطبقة متدنية لا تملك ما عند أولئك وهم كُثُر، وتميز الطبقة الأولى نفسها عن الثانية في مجالسها ونمط حياتها في المأكل والملبس وواسطة النقل وسائر شؤونها حيث يعتادون الإسراف والتبذير، بينما تعيش الطبقة العامة في ضنك من العيش وصعوبة في تدبير احتياجاتها الأساسية مما يولد شعوراً بالانتقام من الذين يعتاشون على دمائهم وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله:(فما جاعَ فقيرٌ إلاّ بما مُتِعَ به غني) وهذه مشكلة معقّدة واجهها جميع الأنبياء (عليهم السلام).

2- دينية وأخلاقية: وهي مشكلة الضياع وسط تجاذبات الفتن فقدّمت السورة عدة عواصم منها ومثبتات على الهدى والاستقامة منها الإخلاص لله تعالى كما في الآية الأخيرة من السورة، ومنها التحذير من الدنيا والانخداع بزخارفها التي هي وهمٌ تزول لذته وتبقى تبعته.

وفي ختام خطبته الأولى أوضح سماحته (دام ظله) أن المتأمل في سورة الكهف يجد أنها عرضت أشكالاً من الفتن من خلال قصص أصحابها، فورود الآية ضمن السورة فيه إرشاد لبعض وسائل مواجهتها، وقد ذكرت السورة فتن عدة منها:

1- الفتنة التي عاشها أصحاب الكهف وهي فتنة الدين المزيف الذي يضعه بعض المتاجرين المتسترين بالدين ويستعينون بالدجل والخداع ليصنعوا لهم زعامة على الناس وليتسلطوا على أموالهم وأعراضهم ويتحالفون مع السلطات الظالمة لترسيخ نفوذهم واستئصال خصومهم، لكن أصحاب الكهف لم يُغرِهم ترف القصور ولم يرعبهم بطش الطواغيت فوقفوا ونطقوا بالحقيقة الكبرى أمام الناس ليزيلوا الغشاوة عن بصائرهم.

2- فتنة المال من خلال قصة الرجلين الذين رزقهما الله تعالى {جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (الكهف:32) فاغترّ أحدهما وكفر بنعمة الله تعالى وقال: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} (الكهف:34)

3- فتنة العلم من خلال قصة موسى (عليه السلام) والعبد الصالح {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (الكهف:65) فتواضع موسى (عليه السلام) وهو الرسول الكريم من أولي العزم لعلم العبد الصالح ولم يغتر بما عنده، وسعى للاستفادة منه.

4- فتنة السلطة من خلال قصة ذي القرنين {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} (الكهف:84) فلم يشغله هذا الملك العظيم عن ذكر ربّه ولم ينسبه إلى نفسه، بل يردّد إنه من فضل ربّه والاعتراف بفضله. وفي الخطبة الثانية حثَّ سماحته (دام ظلّه) المؤمنين والمؤمنات عامةً على زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) في النجف الأشرف بمناسبة عيد الغدير؛ استجابةً لنداء الأئمة المعصومين (عليهم السلام) على لسان الإمام الرضا (عليه السلام) قائلاً لأحد أصحابه المقربين (يا ابن أبي نصر أينما كنت فأحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين (عليه السلام) فأن الله يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة ويعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر والدرهم فيه بألف درهم لإخوانك العارفين).

وأكّد سماحته (دام ظلّه) على أهمية هذا اليوم العظيم؛ لأنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة بنص القرآن الكريم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا} (المائدة:3) لافتاً إلى أن الاحتفال بعيد الغدير والتذكير بواقعته ليس قضية طائفية ولا تستهدف أحداً مخالفاً لنا في المذهب أو الدين وإنما هو بيان لأساس قضايا الإسلام المحمدي الأصيل وجوهرها وروحها.

و تطرق سماحته (دام ظله) إلى كثرة البيانات التي جاءت عن المعصومين (عليهم السلام) لتأكيد هذه القضية في وقائع متعددة حتى أصبح ذلك واضحاً لدى الصحابة، وعُرف عن جماعة من صادقي الايمان منهم التشيع والولاء لعلي (عليه السلام) في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى إذا جاء يوم الغدير قام النبي (صلى الله عليه و آله) أمام ذلك الملأ الذي بلغ عشرات الآلاف  لتبليغ رسالة الله تعالى، تتويجاً لتلك البيانات وإعلاناً واضحاً وصريحاً لما يريده (عليه السلام) من أن علياً (عليه السلام) هو ولي أمر المسلمين جميعاً من بعده، وبذلك أفشل مؤامرات الأعداء الداخليين وهم المنافقون والحاسدون وطلاب الدنيا، والخارجيين من الأمم الأخرى كالروم والفرس المتحالفة للقضاء على الإسلام، مبيناً فقضية الغدير أهم قضايا الإسلام ؛ لأن الإسلام النقي الناصع حُفِظَ بها، وإن ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ضمان لوحدة الأمة، كما ورد في خطبة السيدة الزهراء (عليها السلام) (وجعل إمامتنا نظاماً للملة) وأضاف سماحته (دام ظله) إن النبي وآله المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) يُسرُّون بتواجد الحشد المليوني عند أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الغدير ؛ لأن ذلك يلفت  أنظار العالم إلى هذه القضية الكبرى التي رسمت مستقبل الأمة وحددّت لها طريقها في ذلك المفصل التاريخي المهم حتى لا تضيع الأمة بعد رحيل نبيها (صلى ألله عليه وآله) كما ضاعت الأمم الأخرى، مشيراً إلى ما في هذا الإحياء المليوني من الإنصاف لأمير المؤمنين (عليه السلام) ورفع بعض الظلامة عنه وشهادة بحقه المضيَّع، وفيه أيضاً اعلاء لذكر أهل البيت (عليه السلام) وتمهيد للظهور الميمون وسيكون الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) على رأس المرحّبين بالزوّار الموالين والداعين لهم بكل خير وتوفيق، إن شاء الله تعالى. و وجّه سماحته (دام ظله) الدعوة إلى كل الميسورين وأصحاب المواكب لتوفير الطعام، وسائر مستلزمات الخدمة، والدعم اللوجستي، والنقل للزوار الكرام، وعدم الغفلة  عن كل الشعائر والاعمال التي حثّ الائمة المعصومون (عليهم السلام) على إقامتها في هذا اليوم المبارك، كإطعام الطعام، وتوزيع الهدايا و (العيديات) خصوصاً على الأطفال لتعريفهم بأهمية هذا اليوم، وإظهار الموّدة بين الموالين، واسقاط الحقوق والمظالم مع المؤمنين، وإظهار علائم الفرح والسرور ،والصدقة، وخروج مواكب الفرح والسرور مرددة أهازيج الولاء لأهل البيت الطاهرين (عليهم السلام)، وإقامة المجالس التي تبّين للناس التفاصيل التاريخية لواقعة الغدير. وفي ختام خطبته الثانية تعرض سماحته(دام ظله) إلى مسألة فقهية وهي اعتذار بعض المؤمنين عن القدوم إلى زيارة أمير المؤمنين عليه السلام في هذا اليوم  بأنه يريد أن يصوم  لما فيه من الأجر العظيم والسفر ينافي الصوم، مبيناً أن أجر الزيارة أعظم، وموضحاً أن  الزائر يمكنه ان يُمسك عن المفطرات خلال سفره ويجدد نية الصوم حين عودته إلى أهله ولو قبيل الغروب بلحظة؛ لأن الصوم المستحب لا يشترط فيه ان يكون حاضراً في بلده عند الزوال باعتبار امتداد نيته إلى غروب الشمس.