الانسجام الدلالي الداخلي (وحدة النص) والخارجي (واقعية النص ) في النصوص الأدبية والقرآنية (الحلقة الاولى)
الانسجام الدلالي الداخلي (وحدة النص) والخارجي (واقعية النص ) في النصوص الأدبية والقرآنية (الحلقة الاولى)
الشيخ علي العبادي
بسم الله الرحمن الرحيم
اتجهت عناية الباحثين في مجال الدلالة وفقه اللغة نحو دراسة النص بوصفه وحدة واحدة. فدرسوا العناصر التي من شأنها أن تقوم هذه الوحدة وتجعلها أمرا” ممكنا” ليتسنى لهم التفريق بين ما هو نص وما هو ليس بنص.
يقول لارسون:
( تضفي وسائل عدة التماسك على النص.وتختلف الوسائل المستخدمة، بل وطرق استخدامها اختلافا” كبيرا” ) (1).
إذ ليس كلما يكتب يصدق عليه نصا” أدبيا”، بل لابد أن يكون منسجما” متماسكا”.
وهذا الانسجام والتماسك قد يتحقق وفق وسائل البنية السطحية كالضمائر وأدوات العطف وأسماء الإشارة وغيرها. أو على أساس البنية العميقة للنص، وذلك بإتحاد المضامين أو كون بعضها يؤدي إلى بعضها الآخر. أو يتوافق معها من حيث المضمون. متجاوزا” حدود المكان الذي حل فيه النص. وهذا ما يطلق عليه الانسجام الداخلي أو وحدة النص .
ومن جهة أخرى بحث الدارسون في اللغة والدلالة المرجعيات اللغوية وما تحيل إليه من أشياء في الخارج . وهل من الضرورة أن تكون تلك المرجعيات واقعية أم لا؟ . ويطلق على هذا النوع من الانسجام الانسجام الخارجي أو واقعية النص .
وقد تبعهم في القسم الثاني الأدباء والنقاد سواء أكان البحث يخص الأدب الإنشائي (الإنتاجي) أو الفن التشكيلي.
فهل يعتني الأدباء والكتاب بكلا الأمرين؟ وهل هذا من أولويات اهتماماتهم؟
لاشك أن القسم الأول ( وحدة النص) له جل اهتمامهم . إذ لا يصدق على نتاجاتهم أنها نصوص أدبية ما لم تكن منسجمة ومتماسكة بالشكل الذي بيناه وفق الوسائل التي أشار إليها أعلام هذا الفن الرائع.
أما القسم الثاني فالذي يظهر من كلامهم أن الأدب بوصفه كلاما” إبداعيا” لايتقيد بالمرجعية الواقعية. سواء أكان على مستوى الإنتاج ، فقد ذكر( رولان بارت ) إن الأديب يبدأ بالكلمات لينتهي إلى المعنى (2).
ويقول الدكتور فائق مصطفى :
( إن وظيفة الفنان ليست تسجيل الواقع الموضوعي، بل تصوير انفعاله وإحساسه تجاه هذا الواقع ) (3).
وهذا يعني أن الفنان لايهتم بمطابقة فنه للواقع ، إنما يريد أن يسجل انفعالاته تجاه الواقع. بل ذهب البعض إلى تسميته بالكذبة . وهذا ما نلاحظه جليا” وواضحا” وصريحا” في كلمات بعض كبار الفن: يقول بيكاسو :
( إننا لنعرف جميعا” أن الفن ليس هو الحقيقة، إنما هو كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة. أو على الأقل تلك الحقيقة التي كتب لنا أن نفهمها ) (4).
أو كان الأدب على مستوى التحليل فهو بحسب رأي أومبرتو إيكو _وهو فيلسوف وروائي وباحث إيطالي ومن أهم النقاد الدلاليين في العالم _ والذي يوافق رأيه رأي تودوروف
( فالنص نزهة يقوم فيها المؤلف بوضع الكلمات ليأتي القراء بالمعنى ) (5).
فالأمر واضح إذا” في العلاقة بين الأدب ومرجعيته الواقعية إذ لايلتزم أحد منهم بضرورة ذلك الانسجام . بل لا يرون له قيمة وقد يؤثر على الإبداع إذا ما تقيدوا به. هذا ما يخص الأدب .
أما ما يخص القرآن الكريم فإننا وبالتأكيد ومن خلال متابعة سوره المباركة واستقراء آياته الكريمة نراه رائدا” ومهتما” في كلا القسمين وسنقف على عناصر الانسجام الداخلي في نصوصه المبارك ، ونأخذ أدعية نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام أنموذجا” بوصفها عنصرا” مهما”حقق الانسجام في النص القرآني. كما سنقف لبيان الفرق الجوهري بين الأدب بشكل عام والقرآن الكريم وذلك من خلال اهتمام القرآن الكريم بالمرجعيات اللغوية الواقعية، وكونه يعبر عن واقع فعلي حقيقي لا كما هو الحال في باقي النتاجات الأدبية. حيث بينا عدم التزامها بالمرجعيات الواقعية.
ومن هنا سنقسم البحث الذي بين أيدينا إلى قسمين رئيسيين . نتناول في القسم الثاني انسجام أدعية نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام مع الواقع الخارجي. بينما نتناول في القسم الأول الانسجام الداخلي بين أدعيته عليه السلام و وحدات النص القرآني الأخرى لنرى مقدار ذلك الانسجام وكيفية تبلوره في النصوص المباركة.
ولأن القسم الأول يتطلب بحثا” مفصلا” وطويلا” لذا سنكتفي في هذا البحث الذي بين أيدينا ببعض المحاور على أن نعود بعد ذلك بالمزيد إن شاء الله تعالى.
الانسجام الدلالي الداخلي ( وحدة النص )
_________________________
مما لاشك فيه أن القرآن الكريم وعلى الرغم من اختلاف موضوعاته ومضامينه من جهة، وتنجيمه من جهة أخرى ، وهو نزوله متفرقا” ولسنوات ليست بالقليلة، إلا إنه يعد وحدة واحدة منسجمة أيما انسجام. يأخذ بعضه بحجر بعض، ويؤيد بعضه بعضا. فلا ترى فيه اختلافا” ولاتعارضا” . وما ذلك إلا لوحدة جهة الصدور المقدسة. إذ أن صنعة الأديب تتطلب منه ذلك الفن والرصانة والتناسق، فكيف إذا كان الصانع هو الله تعالى، ملهم الإنسان تلك الموهبة التي إذا ما وجدت عند أحد من البشر أشير له بالبنان والإبداع.
وهذا التناسق والانسجام بين النصوص المباركة الشريفة على اختلاف موضوعاتها وتنوع متعلقاتها إنما يدل على اهتمام المولى تبارك وتعالى بجمالية النص الصادر منه تعالى اهتماما” جعل الرعيل الأول للأدب العربي يشهدون بسحر عباراته ، وروعة جمله ،فوقفوا عاجزين أمامه . حتى صار هذا الفن هو المعجز الذي تحدى به الله تعالى البشر على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم على أن يؤتوا بمثله .
{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }الإسراء88
أو بعشر سور:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } هود13
بل بسورة واحدة :
{ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } البقرة23.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }يونس38.
أو حديث واحد فقط:
{ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ } الطور34
وقد تكفل بدراسة هذا الإعجاز القرآني عدد كبير من العلماء وفي مختلف العصور. وألفوا فيه عشرات بل مئات الكتب والمجلدات.
كما ودل هذا التناسق والانسجام على وحدة المصدر والذي هو الله تعالى . وأكد أن هذا الكم الهائل من العبارات والجمل والأخبار لو كانت من غير عند الله لوجدوا فيه اختلافا” كبيرا. فقال جل وعلا:
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }النساء82.
بل يمكن القول : إن القرآن كالكلمة الواحدة * . وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام هذا المعنى ** .
وينقل الزركشي عن القاضي أبي بكر بن الغربي القول:
( ارتباط آي القرآن بعضا” ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني منتظمة المباني ) (6).
وهذا الحكم ليس مخصوصا” بلحاظ الآيات المتعاقبة أو المتفرقة في السورة الواحدة. بل يعم جميع آيات القرآن الكريم المتفرقة في عدة سور. بل أكثر من ذلك إذ سيبقى هذا الانسجام حتى لو أخرجناها من سياقها التعاقبي وأدخلناها في علاقات مع آيات أخرى. ولكن هذا الانسجام لايعني بالضرورة اتحد مضامين الآيات أو تشابهها. بل يعني كون الكلام الصادر من جهة معينة يصدق عليه الوصف بأنه نص تتحقق فيه الانسيابية في ذكر المعاني وتناغمها، وعدم التعارض فيما بينها. لا أنه كلام غير خاضع لمعيارية معينة في رصف معانيه، ولا هيمنة العشوائية وربما التناقض الذي من شأنه إبعاد النص عن نصيته. وبالتالي إضفاء صفة الاستغلاق عليه بسبب عدم وجود ترابط منطقي بين دلالاته.
وتأسيسا” على ما تقدم فإن جريان هذه القاعدة على أدعية نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام بوصفها آيات من القرآن الكريم أمر لايشك فيه. لذا سنصب بحثنا على إبراز تصور مقبول في الربط بين مضمون ادعيته المباركة عليه السلام. أو قل: عن عمق الترابط القائم بين هذه الأدعية والمضامين القرآنية الأخرى سواء كان على المستوى الأفقي أو المستوى العمودي.
وسيكون ذلك ضمن ثلاثة محاور:
الأول: الانسجام الدلالي الداخلي السياقي
الثاني:الانسجام الدلالي غير السياقي
الثالث:الانسجام الدلالي غير المباشر
وسنبدأ بالانسجام الأول في هذا البحث على أن نعود في الحلقات اللاحقة بإكماله إن شاء الله تعالى.
المحور الأول: الانسجام الدلالي الداخلي السياقي.
___________________________
يلحظ هذا القسم من الانسجام العلاقات الترابطية ذات البعد الأفقي بين وحدات النص. ونقصد به تلك العلاقات بين الجمل والعبارات الجارية على لسان إبراهيم الخليل عليه السلام. أو ضمن المحاورات الواقعة بينه وبين الله تبارك وتعالى.
فهذا المحور يدرس التعاقب وأثره في تكوين الوحدة والانسجام النصي. ويعد هذا القسم هو الأشهر في الدراسات القرآنية القديمة. وكان يسمى بعلم المناسبة (7). حتى عده الرازي وجها” من وجوه الإعجاز القرآني(8).
وكان لأدعية الخليل عليه السلام صورة واضحة في تحقيق هذا البعد. إذ أنها جاءت منسجمة في سياقاتها، مؤدية مقدماتها إلى نتائجها.ومن ذلك :
أولا”: ما نجده في قوله تعالى: { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } البقرة124 . فنجاح الخليل عليه السلام بالابتلاء صار مقدمة” وعلة “وسببا” لاختيار المولى تعالى له بجعله للناس أماما.
ثم بعد النجاح بالابتلاء وتتويجه بالإمامة صار مقدمة” لتكليفه عليه السلام وذلك بالعهد إليه وابنه إسماعيل بتطهير البيت الشريف ليكون مكانا” للعبادة من طواف واعتكاف وركوع وسجود، كما في قوله تعالى : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } البقرة125.
فترى الآيات المباركة تنساب في سياق جميل وأنيق ، في عبارات رائعة يكون أولها سببا” لما بعدها ، وآخرها غاية” لما قبلها .وكأنها نصا” واحدا” مترابطا” متجانسا”.
ثم إن هذا العمل الذي كلف به إبراهيم الخليل عليه السلام كان مبررا” لما دعا به في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرُ } البقرة126. فهذا الدعاء كان نتيجة طبيعية للمقدمات التي مهدت له. وفيه يظهر الانسجام والترابط بين السابق واللاحق لهذه الأدعية المباركة التي تضمنتها الآيات القرآنية الكريمة الحاكية عن لسان النبي الخليل عليه السلام.
ثانيا”: ومثله مانجده في قوله تعالى:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }البقرة127
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }البقرة128.
{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }البقرة129.
فالآيات الكريمة 127 و128 و129 من سورة البقرة المباركة جاءت متناسقة ومترابطة بشكل يصدق عليها بأنها كالجملة الواحدة. ففي الآية الأولى يمهد النبي وولده عليهما السلام بما قدماه من عمل ببناء البيت المبارك وجعله قبلة” للعالمين كمقدمة لما طلباه من الله تعالى .
يقول الأستاذ الشيخ جعفر السبحاني:
( ترى أن إبراهيم عليه السلام و ولده إسماعيل قدما إلى الله تعالى وسيلة وهي بناء البيت، فعند ذلك طلبا من الله تعالى عدة أمور) (9).
وهذه الأمور هي التي تضمنتها الآيتين المباركتين 128 و129. ومن الواضح أن تداعي المعاني شد الخليل عليه السلام إلى التوجه بالدعاء. وهذا الوجه لاتخفى جهة الانسجام والارتباط فيه.
ثالثا”: ومنها أيضا” ما نجده في تذييل الآيات الكريمة بالأسماء الحسنى لله تبارك وتعالى المناسبة لكل آية. فإن هذه الأسماء تكشف عن صورة الانسجام والترابط بين مضامين الأدعية المباركة ومعاني تلكم الأسماء الحسنى.حيث يختار الخليل عليه السلام بعد كل دعاء اسما” لله تعالى يتناسب مع ذلك الدعاء.
فنجده بعد قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } يذيل هذا الدعاء بقوله { إِنَّك أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } البقرة127.
فمجيء ( السميع ) هنا إنباء بترتب الأثر وتحقق الجزاء. مثلها مثل ( سمع الله لمن حمده ). وكذلك ذكر ( العليم ) إشارة إلى إنه تعالى يعلم بتحقق شرائط استجابة الدعاء.والتي أهمها الخلوص والانقطاع إليه عز وجل. وقد أجاب الله تعالى دعوته.
وكذلك ذيل (عليه السلام) دعاءه في قوله تعالى: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا } بقوله تعالى:{ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } البقرة128. إذ ناسب طلبه التوبة أن يختم بهذين الاسمين الشريفين ( التواب الرحيم ).
وأيضا” نجده ( عليه السلام ) يختم دعوته بطلب بعثه تعالى رسولا” فيهم بالاسمين الكريمين ( العزيز الحكيم ) وذلك في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } البقرة129. إذ يرى السيد عبد الأعلى السبزواري أن هذين الاسمين هما المناسبان مع مضمون الطلب الذي دعا به إبراهيم عليه السلام، حيث يقول:
( ختم للدعاء بالثناء عليه تبارك وتعالى وهذا من أدب الدعاء. وقد ذكر من أسمائه المقدسة ما يناسب سؤاله، فوصفه بالعزيز الذي لا مرد لأمره. والحكيم فيما يفعل ولا معقب لحكمه ) (10).
وهذه الأمور كما هو واضح تتوزع بين الرجاء في قبول هذا العمل والثبات على الإسلام ، والإخلاص في العمل، إلى آخر ذلك من بعث النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولاشك أن هنالك صلة واضحة بين ما قاما به من عمل وبين ما طلباه (عليهما السلام). حيث يقول الشيخ السبحاني بعد ذكر ذلك:
( إن دعاء إبراهيم في الظروف التي كان يرفع فيها القواعد البيت مع ابنه ليرشدنا إلى طلب الدعاء في ذلك الظرف لم يكن أمرا” اعتباطيا”، بل كانت هنالك صلة بين العمل الصالح والدعاء ) (11).
رابعا”: ومنها أيضا” ما نجده في دعائه عليه السلام على ما حكاه القرآن الكريم حيث يتبين وبشكل عجيب ذلك التناسق الرائع الذي جاء في الآيات الكريمة في قوله تعالى:
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }الشعراء78.
{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ }الشعراء79.
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }الشعراء80.
{وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ }الشعراء81.
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ }الشعراء82.
وبعد ذلك قال:
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }الشعراء83.
فطلبه عليه السلام أن يهب له الله تعالى حُكْماً وأن يلحقه بِالصَّالِحِينَ جاء كما هو واضح في سياق ترتيب أدعيته المباركة بعد ما ذكر أنعم الله تعالى المتراكمة والمستمدة عليه. إذ أخذته جذبة الرحمة الإلهية الملتئمة بالفقر العبودي. فبعد ذكره عليه السلام لكل تلك الصفات والقدرات الإلهية والإقرار بها رأى من الملائم جدا” أن يطلب منه تعالى الحكم ومن ثم إلحاقه بالصالحين. وما ذلك على الله بعسير.
بل حتى طلبه إلحاقه بالصالحين مترتب على وهبه الحكم. لأن ( الحكم ) هو التسديد والهداية. ولازمه الإلحاق بالصالحين. بل هو فرعه المترتب عليه كما قال صاحب الميزان ثم أضاف موضحا”:
( فيعود معنى قوله { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } إلى مثل قولنا: رب هب لي حكما” وتتم أثره في، وهو الصلاح الذاتي ) (12). ***.
نكتفي بهذا المقدار من المحور الأول من محاور الانسجام الدلالي الداخلي وهو الانسجام الدلالي السياقي. وستكون حلقتنا الثانية إن شاء الله تعالى في المحور الثاني وهو الانسجام الدلالي غير المتقيد بسياق. ومن الله السداد والتوفيق والحمد لله وصلى الله على جميع الأنبياء والأولياء لاسيما الخاتم محمد وآله الأصفياء.
____________________________
(1) ينظر :لارسون الترجمة القائمة على المعنى: 2\258 وما بعدها.
(2) ينظر : محي الدين محسن: علم الدلالة عند العرب ، الرازي أنموذجا”: 5
(3) الدكتور فائق مصطفى والدكتور عبد الرضا علي: في النقد الأدبي الحديث منطلقات وتطبيقات: 19.
(4) زكريا إبراهيم: مشكلة الفن: 65. نقلا” من المصدر أعلاه.
(5) أومبرتو إيكو :التأويل بين السيميات والتفكيكية : 22
* ينظر التفسير الكبير:الرازي: 2\159. ** أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي: العدة في أصول الفقه : 1\333.
(6) بدر الدين الزركشي: البرهان في علوم القرآن : 2 \282.
(7) المصدر السابق : 2 \ 56.
(8) ينظر: فخر الدين الرازي: نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز : 3\35.
(9) الشيخ جعفر السبحاني : في ظلال التوحيد : 583.
(10) السيد عبد الأعلى السبزواري : مواهب الرحمن: 2 \ 44.
(11) الشيخ جعفر السبحاني : المصدر السابق: الجزء والصفحة.
(12) السيد الطبأطبائي: تفسير الميزان : 15 \ 285.
*** حيث أن ذكر الصلاح من غير قيد العمل يراد منه الصلاح الذاتي. وإن كان صلاح الذات لا ينفك عن صلاح العمل.