الانسجام الدلالي الداخلي (وحدة النص) والخارجي (واقعية النص ) في النصوص الأدبية والقرآنية (الحلقة الثانية)

216

الانسجام الدلالي الداخلي (وحدة النص) والخارجي (واقعية النص ) في النصوص الأدبية والقرآنية (الحلقة الثانية)

الشيخ علي العبادي

وهذا القسم يبحث في الأدعية المباركة للنبي الخليل عليه السلام من حيث بعدها العمودي وانسجامها مع المضامين القرآنية الأخرى، بقطع النظر عن ارتباطها الأفقي .

فهو بحث في العلاقات الطولية في أدعيته المباركة مع أدعية الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وباقي المضامين القرآنية الأخرى.

    ويمكن أن نلحظ تلك التجليات في عدة مواضع منها:

أولا”:

    الانسجام بين دعائه عليه السلام والذي جاء بصيغة الطلب وبين ما ناله بعض الأنبياء عليهم السلام . وقد يكون هذا واضحا” في دعائه الوارد في قوله تعالى:

{ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } الشعراء83.

    فها هو عليه السلام يطلب من الباري عز وجل أن يهب له حكما. وهو نفس المعنى الذي ناله نبي الله موسى عليه السلام في قوله تعالى:

{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } القصص14

{ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } الشعراء21.

    وكذلك ما ناله الصديق يوسف عليه السلام فيما ذكر الباري عز وجل في قوله:

{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } يوسف22.

    وهو ينسجم مع ما تفضل به الله تبارك وتعالى على عبده ونبيه لوط عليه السلام في قوله عز من قائل:

{ وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ }الأنبياء74.

    وينسجم كذلك مع ما أعطى الله تعالى نبيـيـه داوود وسليمان عليهما السلام.

 قال تعالى:

{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ }ا لأنبياء79.

 

ثانيا”:

    ويمكن أن نرى ذلك الانسجام والذي جاء بصيغة الطلب أيضا” عند دعائه الله تعالى بطلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات في قوله تعالى:

{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } إبراهيم41.

    مع دعاء نبي الله نوح عليه السلام والذي تضمنته الآية المباركة في قوله تعالى:

{ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً } نوح28.

    فاتحاد المضامين يكشف لنا وجه الانسجام بين مقالاته وباقي الأنبياء عليهم السلام أجمعين. وهذا بدوره يكشف لنا الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم. أي أن وحدة مضامين أدعية الأنبياء عليهم السلام دال على انسجام مقالاتهم وهو بدوره كاشف عن الوحدة الموضوعية لجميع آيات القرآن الكريم. بل وسوره المباركة ككل.من أدعية وغيرها مما تضمنه كتاب الله العزيز. بحيث لا يمكن أن نجد تعارضا” أو تهافتا” إطلاقا”. وهذا من أسراره العجيبة الخالدة. فتبارك الله رب العالمين.

 

ثالثا”:

    ولعل من أجمل صور هذا الانسجام ما نجده في التطابق بين اسمه عليه السلام ( إبراهيم ) والمضامين المحورية في أدعيته المباركة. فلا يخفى على كل من يطلع عليها والمتمعن في معانيها أن يرى ما فيها من تجل واضح للبعد العاطفي والأبوي. فقلما نجده يدعو بدعاء خاص لنفسه فقط ولا يذكر فيه ذريته أو غيرهم من المؤمنين. بل حتى من ابتعد عنه وجافاه، فإنه عليه السلام يعرض له بالدعاء. فمن أدعيته عليه السلام في هذا السياق ما جاء في قوله تعالى:

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } إبراهيم35.

إذ نراه عليه السلام يدخل بنيه في دعائه المبارك ليشملهم اجتناب عبادة الأصنام.

    ثم نراه عليه السلام يدعو لذريته بأن يكون للصلاة الأثر البارز في حياتهم، وذلك بإقامتها وهو الدوام عليها كما جاء في قوله تعالى:

  { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء } إبراهيم40.

وكذلك طلبه الإسلام لذريته بعدما طلبه لنفسه ولولده إسماعيل حيث قال:

{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } البقرة128

    بل وصل به الحال أن يطلب في دعائه لذريته أن ينالوا أسمى وأرفع درجة ممكن أن ينالها بشر على الإطلاق بعد النبوة ،ألا وهي الإمامة. فبعد أن بشره المولى تعالى بهذا المنصب الخطير بادر بالدعاء لذريته من الله تعالى أن لا يحرمهم منها كما جاء في قوله عز وجل:

 { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي } البقرة124.

وهذا يمثل أعلى مراتب الحب للغير. وأشرف مصداق لقول المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

فلا نبالغ لو قلنا بأن الخليل عليه السلام قد تسامت نفسه وروحه المباركة حتى وصلت إلى مرتبة تلاشت فيها ( الأنا ) ليس في حضرة الربوبية فقط بل حتى مع أبناء جنسه البشري . لأن الرحمة والرأفة والعاطفة والأبوة من أبرز الملامح الدلالية التي أشارت إليها الآيات المباركة سالفة الذكر. وهذا ينسجم تماما” مع الدلالة المعجمية لاسم ( إبراهيم ) . فقد جاء بالبحر المحيط عنه:

( قيل ومعناه بالسريالية  _ قبل النقل إلى العلمية _ أب يرحم ) (1).

وقال صاحب المنار: ( وعلى هذا يكون جزءاه عربيين بقلب الحاء هاء كما يقلب جميع الأعاجم الذين لا ينطقون بالحاء المهملة كالفرنج. وتركيبه مزجي ) (2).

    وقيل أن معناه ( بريء من دون الله . فهام قلبه بذكر الله ) (3). هذا ما نقله الفيروز آبادي.

وعلى هذا القول فإن لاسمه الشريف دلالة تنسجم والبعد المحوري الأهم في أدعيته المباركة والمتمثل بالمحور التوحيدي كقوله: { …… وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } إبراهيم35.

 

رابعا”:

    ومن صور الانسجام الأخرى ما نجده من تناغم ملفت للنظر بين طبيعة الشخصية الإبراهيمية والمكشوف عنها بدلالة الاسم وطبيعة الابتلاء الذي ابتلي به عليه السلام.

فقد تقدم فبل قليل ما في البعد العاطفي من تجل واضح في الشخصية الإبراهيمية .          إذ ابتلي النبي إبراهيم عليه السلام ببلاء مباشر بما يتعلق بهذا الجانب البارز والتي دل عليها اسمه المبارك كما أسلفنا الذي عني ( الأب الرحيم ). حيث يطلب الباري عز وجل منه عليه السلام أن يذبح ابنه؟؟؟ قال تعالى:

{ فلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى   قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } الصافات102.

    فأمام هذا الموقف الرهيب ماذا يفعل ( الأب الرحيم ) ؟؟ وهو يتعرض إلى أشد موقف ممكن أن يتعرض له أي إنسان على الإطلاق. مهما كانت مرتبته متدنية. كيف وإبراهيم الخليل ذلك الأب الرحيم الحنون؟؟ . إضافة” إلى إن المأمور بذبحه نبيا” من الصالحين.

    فهذا الابتلاء يبدو صدوره غريبا”من المولى تعالى،لأنه تعالى أرأف من جميع الخلق على خلقه. وهو الذي يأمر بالعطف بين عباده .فكيف يأمر بذبح الآباء لأبنائهم؟؟ وكيف يأمر هذا الأب الكثير الرحمة بأن يذبح ولده؟؟ وخاصة” إذا ما لحظنا طبيعة الشخصية الإبراهيمية العاطفية كما أسلفنا. إذ ليس كل الآباء يستوون من الناحية العاطفية تجاه أبنائهم. وعلى هذا فكلما قلت العاطفة لم يكن الابتلاء يشكل قيمة كبرى يستحق في ضوءها الإنسان بلوغ الكمال. ولكن نبينا الخليل عليه السلام مع ما ذكرنا من كبر العاطفة من جهة الأبوة النسبية والأبوة الإبراهيمية نراه يأتمر بأمر المولى تعالى ويقدم على ذبح ولده العزيز إسماعيل عليه السلام واصفا” القرآن الكريم فعله هذا بقوله تعالى:

{ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } الصافات103. عندئذ يكون الخليل عليه السلام قد بلغ أعلى درجات الكمال فعلا”. ولذلك وصف الله تعالى هذا الابتلاء بالبلاء المبين 

 { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ } الصافات106.

    وبهذا ندرك ذلك التناغم الكبير بين كبر العاطفة الأبوية وشدة الابتلاء، وكيف حصلا معا” في شخصية النبي الخليل إبراهيم عليه السلام دون أن تصادر أحدهما الأخرى.

    وبهذا ينتهي المحور الثاني . وسيكون لنا موعد قريب مع الحلقة الثالثة والمحور الثالث وهو الانسجام الدلالي الداخلي غير المباشر بإذن الله تعالى .

     والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

____________________

(1) تفسير البحر المحيط : أبو حيان محمد بن حيان الأندلسي: 1 \ 372.

(2) تفسير المنار : محمد رشيد رضا : 7 \ 534.

(3) بصائر ذوي التمييز في لطائف  الكتاب العزيز: الفيروز آبادي : 6 \ 32.