في ظلال آلايات (10)

210

في ظلال آلايات (10)

الشيخ عبد الرزاق النداوي

(وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) النساء: 100.

فحوى الآية الشريفة: أن كل من يحمل فكرة فإنه يحب لفكرته أن تنمو وتتحرك على الأرض، ولذلك عليه إذا اصطدمت فكرته بمعوقات في مكان ما أن يغير مكانه، ويبحث عن مجتمع آخر يتأمل فيه أرضا خصبة لنمو حركته وفكرته…

وفيها ثلاثة مفاصل:

المفصل الأول: قوله تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً)، (مَنْ) أداة شرط، يعقبها فعل وجزاء، مثل: (من يزرع يحصد)، و(من يدرس ينجح)، يعني من يفعل هذا الفعل يحصل على هذه النتيجة، وإذا عدنا للآية أن الفعل هو (الهجرة) والنتيجة (المراغمة والسعة)، وبتعبير آخر أيها المصلح أيها المؤمن بقضيتك إن أرغمتك الظروف وحاصرتك في مكان ما فهاجر الى مكان في سعة حيث تستطيع أن ترغم الظروف، وأرغمه أو أرغم أنفه يعني صرعه…

وهذه هي سنة الحياة فمثلا تجد أن التاجر الذي لا يجد رواجا لبضاعته في مكان ما يهاجر ويبحث لها عن سوق آخر، والعامل الذي لا يجد لصنعته قبولا إما يغيرها أو يهاجر الى مكان آخر يفعّلها فيه…

والهجرة سنة كونية غير خاصة بالإنسان فكثير من الحيوانات تهاجر للبحث عن ظروف ملائمة لعيشها.. كبعض أنواع الطيور وبعض أنواع الأسماك… بل حتى الزواحف ـ مثلا ـ التي تتواجد في المزارع، إذا تحولت تلك المزارع الى مناطق سكنية فإنها تهاجر بعيدا عن الإنسان الى مناطق أكثر أمناً..

وهكذا على الدعاة والعاملين في سبيل الدعوة الإلهية أن يبحثوا عن مواقع تتحرك فيه أفكارهم وتصوراتهم، ولهذا نقرأ في سيرة الكثير من الأنبياء أنهم هاجروا، كإبراهيم (عليه السلام) الذي ولد في ذي قار، ثم هاجر الى بابل، ثم الى فلسطين ولا تزال هناك منطقة الخليل تأخذ إسمها منه، ثم الى مكة حيث ترك ابنه اسماعيل وأمه هاجر…

وهكذا أن نجد رسول الله صلى الله عليه وآله عندما واجهه أهل مكة بالإعراض والصد والحرب الاعلامية هاجر منها الى المدينة…

ويقول بعض العرفاء، كما أن هناك هجرة مادية وهي انتقال الجسد من مكان الى آخر توجد هجرة معنوية وهي انتقال الروح من المعاصي الى الطاعات، ويؤيده ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ويقول الرجل هاجرت، ولم يهاجر، إنما المهاجرون الذين يهجرون السيئات..).      

المفصل الثاني: قوله تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، وفيه نقطتان:

النقطة الأولى: في سبب النزول، فقد ذكر المفسرون أنها نزلت في ضمرة بن جندب وهو أحد الصحابة الأوائل في مكة، حيث اشتد الضغط على المسلمين فأمرهم النبي بالهجرة، ولكن ضمرة تخلف، ثم مرض وندم على ذلك فأمر أولاده بأن يحملوه ويهاجروا به من مكة، وفي الطريق أدركه الموت، فنزلت الآية في شأنه…

النقطة الثانية: في من هم المهاجرون في سبيل الله.

عندما يكون الهدف من الهجرة هو الله، ورضا الله وإعلاء كلمة الله، فإن هذا هو سبيل الله، لهذا قالت الآية (مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ)… ومن مصاديق ذلك:

(1) الهجرة من الوطن حفاظا على الدين، ومن الطبيعي أن الإنسان عزيز عليه وطنه والأرض التي هي مسقط رأسه، ومأنس نفسه، وعلاقة المرء بالأرض التي يحيى عليها عضوية، لأنه يأكل من ثمرها ويشرب من مائها ويشم هوائها، ولكن هذه العلاقة العضوية تتحول بالتدريج الى علاقة عاطفيه، ولهذا بعض المهاجرين يصابون بمرض اسمه الحنين الى الوطن، وقد أحسن من قال:

نقل فؤادك ما استطعت فإنه ** مالحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنينه أبدا لأول منزل

ولهذا ورد الحديث في تعظيم أجر من هجر وطنه، فعن النبي (صلى الله عليه وآله): (من فر بدينه من أرض الى أرض، ولو شبرا، استوجب الجنة، وكان رفيق محمد وإبراهيم).

(2) الهجرة لطلب العلم، فقد ورد في الحديث القدسي: (جعلت العلم في الغربة)، وفي الحديث النبوي: (من سلك طريقا يطلب فيه العلم سلك الله به طريقا الى الجنة).

(3) الهجرة لأداء مناسك الحج، فالسفر الى بيت الله الحرام من مصاديق الهجرة الى الله ورسوله، وكان الكثير من الناس يموتون في العهود السابقة، لأن السفر يكون بقطع البراري والصحاري والقفار، فقد ينفذ ماءهم أو طعامهم، أو يضلون الطريق، أو تهاجمهم الوحوش… فهؤلاء يقع اجرهم على الله.

(4) الهجرة لأجل الجهاد… فالمهاجرون من أجل الجهاد في سبيل الله حتى لو لم يقتلوا في سبيل الله وماتوا حتف انفهم، فهؤلاء وقع أجرهم على الله…

وهكذا كل سفر غايته رضا الله تعالى، فهو هجرة في سبيل الله…

المفصل الثالث: قوله تعالى: (ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، وهاهنا لفظان ينبغي بيانهما:

الأول: (يُدْرِكْهُ)، أي يلحق به، فمثلا: لو كان هناك شخصان يتسابقان، وأحدهما متخلف، ثم إن المتخلف لحق بالمتقدم نقول أدركه، وفي هذا التعبير كناية جميلة، فحواها: أنك أيها الإنسان دائما تهرب من الموت، ولكنه خلفك وسيأتي اليوم الذي يدركك فيه، كما قال تعالى في آية أخرى: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) النساء: 78.

الثاني: (وَقَعَ)، والوقوع هنا معناه الثبوت، لأن الشيء ــ عادة ــ إذا وقع على الأرض فقد ثبت عليها..

أما قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، ففيه إشارة الى أن الإنسان لو حصل منه التقصير ثم تدارك ذلك بالتوبة والعمل والطاعة، فقد ثبت أجره وغفر له ذلك التقصير، كما فعل ضمرة بن جندب… 

والخلاصة: أيها العاملون في سبيل الله حاولوا أن ترغموا الظروف وتصنعوا التاريخ، ولا تتقاعسوا، ولو اضطررتم للسفر والهجرة، فبها.. ولو أدرككم الموت، فإن الله أعد لكم مقاما محمودا.. ففي كل الحالات أنتم فائزون.