(قراءة في فواتح السور المبدوءة بالحروف المقطعة)

1٬161

 (قراءة في فواتح السور المبدوءة بالحروف المقطعة)

 

محمود محمد حسين

 

بسم الله الرحمن الرحيم وسلام على عباده الذين اصطفى..

 

إن من أبرز المزايا الاعجازية للقرآن الكريم, هو الطاقة التعبيرية التي تتفجر عن جوانب الإبداع في أساليبه البيانية, والتي يعرض من خلالها الرؤية الشمولية المتكاملة لمختلف القضايا التي يقف الإنسان منها موقف الباحث عن حلول لا يجدها إلاّ بين دفتي هذا الكتاب. فهو بهذه الطاقة التعبيرية الهائلة يختزن من المعارف والعلوم التي تعبر عن وحيانيته التي لا  يمكن دحضها مهما سعي ويسعى إلى نقضها من شاء منذ نزوله على قلب النبي الأقدس والى يومنا هذا. ومن تجلياته التعبيرية نجد أنه متكفل بالدفاع عن نفسه وجذب المتعطشين إلى الإيمان, وبلوغ المعرفة الحقة بما يملكه من سحر البيان وصدق المعنى من أيسر سبيل وأقصر طريق. (هناك نقطة مهمة لا بد أن نهتم بها في التحقيق حول القران, وهي أن نتعرف على القران بالاستعانة بالقران نفسه. والغرض من ذلك أنّ مجموعة آيات القران تكوّن مع بعضها بناء متراصا, أي أننا إذا أخذنا آية واحدة من آيات القران, وقلنا إننا نريد فهم هذه الآية فقط, يعتبر هذا أسلوبا خاطئا, وبالطبع يحتمل أن يكون فهمنا لتلك الآية صحيحا, ولكن هذا عمل مخالف للاحتياط. فآيات القران يفسر بعضها بعضا)(1). فضلا عن أنّ القران لا ينغلق على مصطلحات وألفاظ ينفر منها السامع , وهو المرآة الكاشفة لعيوب البلغاء والفصحاء  والدرب المهيع والسبيل القويم لمن ضل عن سبيله. يقول الإمام علي عليها السلام: (ذلك القران فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه, ألا إنّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم)(2). وأما قوله (ولن ينطق) فهو علي سبيل الاحتراز. كي لا يتوهم السامع أنّ المراد من استنطاقه هو النطق المعهود, ولذلك عقب بما رفع به التوهم ببيان أن المراد من ذلك هو أنّ القران فيه ما يخبرنا بلسان الحال عما نريد, ومعرفة ما يلزمنا سواء ما هو من الماضي والمستقبل أم ما هو دواء لأمراضنا الاجتماعية, والنفسية ومشكلاتنا في حاضرنا ومستقبلنا.

وكذلك هو منهج ودستور عمل نسير عليه لبلوغ ما فيه سر تقدمنا, وبناء حياتنا على أسس قويمة إذا أحسنا التواصل معه وعرفنا كيف نستنطقه ليجيب على أسئلتنا. وهذه البيانات التي عرضها (ع) في الإخبار عن القران هي جامعة مانعة لمجمل ما احتواه القران بين دفتيه من آيات اشتملت على المعارف الدنيوية والدينية, ولو لم تكن كذلك لما كان القران يهدي للتي هي أقوم, ولا كان منهجا يخرج الناس من الظلمات إلى النور, وتبيانا لكل شيء. ومن بين مزاياه المتفردة هو كونه غنيا عن حاجة الآخرين إلى الذود عنه. لأنه كلام الله الذي به يستعين المرء المسلم على الدفاع عن إيمانه واعتقاده. فهو يحتكم إليه, ولا يحتكم له. ففي شرح النهج للحائري عن الإمام علي عليه السلام ما نصه: (والله سبحانه يقول: ما فرطنا في الكتاب من شيء  وقال: فيه تبيان كل شيء, وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا << ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. النساء82>>. )(3)وأن القران ظاهره أنيق وباطنه عميق, لا تفنى عجائبه, ولا تنقضي غرائبه, ولا تكشف الظلمات إلاّ به).

 

 

 

 

 

 

 

  • المطهري. التعرف على القران
  • شرح نهج البلاغة. خ158. ص342
  • شرح النهج للحائري. ج2. ص201

 

 

 وليس قصدنا من ذلك أنّ المسلم عليه أن يصرف النظر عن الدفاع عنه والذود عن حياض آياته, بل أن لا يكون منطلقه في التعامل معه تعامل المتفضل عليه والمحامي عن موكله العاجز عن إثبات حقه. وكأنّ القران بما اشتمل عليه من الآيات البينات قاصر عن أداء دوره في هداية الناس. وهذا مفصلٌ مهمٌ يتجلى من خلال الفرق بين المناهج التفسيرية التي تنتظم على تعددها في ما يسمى بالمنهج التجزيئي والمنهج التوحيدي (الموضوعي). ويتبين أثر هذه

المناهج في الجانب العملي في حياتنا, وطريقة تعاملنا مع النصوص القرآنية بحكم خضوعها لاتجاهات عقدية مسبقا تدفعها إلى ممارسة نوع من الإسقاط لانتماءاتها كمرتكزات تحمل في نظر أصحابها قناعة بسلامة وصحة هذه التوجهات وكأنها مسلمات لا تقبل النقض. لذلك فان الخلط بين الأمرين.. أي بين الاحتكام إليه أو الاحتكام له يؤدي وقد أدى إلى الالتباس في فهم وظيفة القرآن من جهة ووظيفتنا تجاهه من جهة أخرى. فهذه الاتجاهات التفسيرية على تعددها والتي تنطلق من متبنيات خاصة بهذا المذهب أو ذاك تتحكم في إخضاع مداليل النصوص بما يخدم هذه المتبنيات فقهيا أو عقديا. ناهيك عن ارتباط قسم غير يسير من أربابها بمصالح السلطة الحاكمة واسترضائها تزلفا وطمعا. كل ذلك أوجد حالة من البلبلة في التراث التفسيري للقرآن وأنتج نظريات تحكمت في مصير الأمة وتوجيهها من خلال ممارسة نوع من الإرهاب الفكري, ومصادرة ما يعارض منطقها وفهمها الذي تراه عين الحق والصواب.

وها نحن اليوم نعيش إرهاصات هذه الأفكار والرؤى, والسفسطات التي أدخلت الأمة في أتون صراع لا ينتهي من خلال تأويلات للنصوص القرآنية يأباها العقل والذوق السليم . وعلى مر التاريخ وجدنا نماذج غير قليلة اجتهدت في استباحة دماء مخالفيها في مسألة هنا أو قضية هناك, وانتهكت حرماتها التي صانها الإسلام بشهادة أن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله. وحجتها هي أنّ الله قال في كتابه كذا وكذا دون فهم وتدبر.. وترى أحدهم قد انتفخت أوداجه وهو يتلو عليك النصوص وكأنك لم تسمعها أو تقرأها من قبل. فإذا أبيت عليه فهمه وتفسيره رأيته أسرع من السهم إذا انطلق عن قوسه ليرميك بالمروق والخروج عن الملة التي لا وجود لها إلا في عقله المريض. وما التكفير الذي سلط سيفه على رقاب الناس اليوم إلا مثال على كون هذا المسخ مازال يتغذى على فكر منغلق, فكر دوغمائي متحجر يريدك أن تكون أصم أبكم تقاد إلى المحرقة كالذبيحة, وتسبح بحمده. هذا الفكر الذي وجد في مقولات ابن تيمية وأمثاله بغيته لينفس عن عقده المريضة, وحقده الدفين تجاه كل ما هو خير, فراح يحرق الحرث والنسل, وليعيد الناس إلى عصور ما قبل التاريخ تحت راية الإسلام الذي هو منه براء..

ويبدو أنّ المنهج التجزيئي كان له وما يزال مدخلية في تنامي هذه الظاهرة بقصد أو بغير قصد, والتي طبعت تاريخ المجتمع الإسلامي بطابع الحدة والتطرف من جهة, والتناقض والتباين في الأطروحات المتعلقة سواء بنظام الحكم بنحو أخص أم غيره من المسائل, كما نراه في المدارس الكلامية والمذاهب الفقهية التي راح كل منها ينادي بأنه صاحب الشرعية في تفسير النصوص. وأن قوله الفصل وما عداه باطل وقبض ريح.. والتاريخ بين أيدينا شاهد على تعدد هذه الاتجاهات التي تمذهبت تحت مسميات شتى, حيث احتكر مناصروها لمذهبهم حق التفرد بتنظير المفاهيم والأحكام بما يوافق مزاجها الفكري واتجاهها العقدي, وهو ما جرّ إلى معارك كلامية خالطها العنف واستباحة الدماء, ناهيك عن الفتاوى التي كانت تصدر من هذا الطرف أو ذاك هدفها إلغاء الآخر. وكم كفَّر بعضها بعضا وبدّع بعضها البعض الآخر؟. والذي يؤخذ على هذا المنهج فضلا عن ما تركه من آثار وتداعيات سلبية رغم فوائده أيضا, هو أنه يرتبط  بهدف تجزيئي يقوم على فهم محدد  للنص لا يتخطاه. وهو ما يجعلنا نخرج بحصيلة كمية وعددية من المعطيات والمعارف المتناثرة  دون القدرة على ربطها يبعضها والكشف عن الرابط العضوي بينها. بينما نجد الاتجاه التوحيدي.. أي الاتجاه الذي يقوم على أساس وحدة الهدف من خلال إيجاد شبكة من العلاقات المعرفية تنتظم في نسق جدلي محكم ينتهي إلى نتيجة تتسم بالشمولية على مستوى يتناسب ودور النصوص القرآنية في كونها رسالة هداية للبشر في كل زمان ومكان. وهو ما يمكن تسميته بالنظرية, لتكون قادرة على الإجابة على التساؤلات التي تؤرق الباحث الذي يجلس بين يدي القران حاملا همومه ومشاكله في حوار معه تحت عنوان:(أنت تسأل والقران يجيب). والمراد بالنظرية وفق التفسير الموضوعي ليس مجرد مجموعة أفكار نخرج بها وكفى, بل  التأسيس لسياقات واقعية وعملية في حياة الأمة والفرد تشكل أطرا منهجية تستجيب لحاجات الفرد والمجتمع في كل زمان ومكان بنحو تتماهى هذه الأطر مع المستجدات التي تطرأ في حياة المجتمع والفرد على حد سواء. ولا يعني هذا إلغاء دور المنهج التجزيئي من ميدان البحث التفسيري, بل إنه يتخطاه في الطريقة التي يسلكها والهدف الذي يتوخاه. لذلك فهو يرمي إلى (تحديد موقف نظري للقران الكريم وبالتالي للرسالة الإسلامية من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة أو الكون)(1).  

وعودا على بدء, نقول : إنّ المتأمل في نصوص القران بنظر ثاقب, وروح منفلتة من عقال الموروث يجد نفسه أنّه أمام كيان من البنيان المرصوص, يتسم بشمولية تتجلى فيه الروح الإلهية التي تتمظهر في آياته وسوره. وتملك عليه مشاعره لما لها من سلطان آسر يحجب عن القلوب مسارب الشك ودخائل الزيغ. فكم من روح حيرى ضربت يمينا وشمالا وشرّقت وغرّبت, وهي تلهث سعيا وراء الحقيقة لتنشد الرّاح والرّوح عند هذه العقيدة أو تلك, لكنها لم تظفر من أي منها بركن وثيق. بيد أنها في نهاية المطاف ألقت عصا الترحال والتطواف وأستقر بها النوى عند من لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, لتقرّ بذلك عينا.. والتاريخ حافل بالشواهد على اعتناق الإسلام من قبل كثيرين من كافة الملل والنحل, وكان رائدهم في ذلك القران نفسه, لا ما عليه الأمة من حالٍ أبعد ما تكون عليه عن القران وهديه. فهم إنما آمنوا به عندما حكَموا فطرتهم السليمة وعقولهم المتوثبة إلى معرفة الحقيقة, فوجدوه على غير ما ألفوه مما يخرج من أفواه البشر, بل هو وحي منزل (أفلا يتدبرون القران ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)(2). أذن؛ هو بما هو عليه يخاطب الناس بآياته قائلا: أن تعالوا وتدبروني. ولم يقل أقرأوني. وستعرفون أنني أنا الوحي المنزل من عند الله تعالى. من هنا فإنّ القرآن الكريم يقدم لنا في كل مسألة طريقة ننتهجها في التعاطي مع ما بين أيدينا مما هو بحاجة إلى حل. فعلى سبيل المثال يعرض بين أيدينا صورة واقعية وعقلائية للتعامل مع من ينتهج أسلوبا فظا في المحاججة والجدال: (ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدوا بغير علم. الأنعام)(3). أنّ المقابلة بالمثل هنا سيجر إلى التطاول على الذات الإلهية, لأن الاستفزاز بدوره سيثير مكامن الشعور بالعصبية للموروث المقدس لديه, بل المطلوب هو جره إلى ميدان الحوار بمنطق العقل والفكر السليم.. بل انه في قبال ذلك يؤسس لمنهج عقلاني في الحوار يقوم على أساس من المنطق مؤيد بالحجج والبراهين, لتكون جسرا للتواصل بين طرفي النزاع وصولا إلى تحديد نقطة الخلاف من جهة ومن ثم المضي في إلزام الصم بالدليل إلي هو (أحسن). أي أن يكون الجدال بأوضح ما يمكن من البراهين التي لا شوب فيها ولا شبهة فيها, لتقطع بذلك الطريق على من لا حجة

  • مقدمات في التفسير الموضوعي للقران الكريم.ص14
  • النساء/82

3-الأنعام/108

 

 

ولا عذر مسوّغ له.. وتأسيسا على ما تقدم, فقد وجدت من المناسب  الإشارة بنحو مجمل إلى بيان جملة من خصائص القران الكريم, من خلال النصوص التي وردت في مفتتح السور المبدوءة بالحروف المقطعة, وذلك بالاحتكام إلى سياق الآيات, لنلقي الضوء على ما فيها من جوانب مهمة تاركين النصوص تتحدث عن نفسها وتنطق عن خصائصها بأجلى بيان وأروع خطاب. وسنعرّج باختصار على بيان المراد من جملة من المفردات وردت في سياق النصوص موضوعة البحث, لنستجلي خصائص هذه النصوص. لأنّ هذه المفردات بمجوعها مهمة للسير في آفاق النصوص وسبر أغوارها. وسنقوم بعرض مبتسر لبيان مراتب القران التي ستتضح عبر ظاهرة تعدد الوصف وتنوعه من جهة, وأساليب البيان الخاص كأسلوب القسم والذي تكرر في أكثر من آية. كذلك سنعرض وجه الارتباط بين ما ورد من الصفات في النصوص موضوعة البحث وصفات الذات في ذيل الآيات. ودور القران في عملية الهداية باعتبارها الخطوة الأولى على مسار الوصول إلى الهداية المنوطة بالوظيفة العملية للنبي والإمام معا. فالأول يمثل دوره اراءة الطريق والثاني الوصول إلى الطريق. لتكتمل بذلك دورة الهداية في بعدها النظري والعملي على النحو الذي رسمه القران في جملة من نصوصه بهذا الخصوص. كما سنذكر طرفا من الشواهد الحديثية التي وردت على لسان المعصومين (ع) أيضا كونها تمثل رافدا مهما في بيان ما للقران من خصوصيات مؤثرة في توجيه سلوك الفرد على وجه الخصوص, والأمة على وجه العموم وتحقيق مبدأ الهداية كغاية مثلى سعت إليها إرادة السماء من خلال إنزال الكتب وبعث الأنبياء بين حين وآخر.. وأنوّه أخيرا بأننا قد عرضنا في ثنايا البحث إشارات خاطفة حول العلاقة العددية بين الحروف المقطعة والبسملة يستطيع القارئ أن يكون فكرة عنها ويفهم خصوصية هذه العلاقة بالقدر الذي أوردناه. وأما التفصيل فقد أوكلناه إلى بحثنا عن الإعجاز العددي وفلسفة العدد في القران الكريم وصلة ذلك بقامات أهل البيت (ع). 

أما طريقتنا في عرض الموضوع فستكون كالتالي:

أولا: 1- عرض النصوص القرآنية وتصنيفها.

      2- أقوال المفسرين في المراد من الحروف المقطعة.

    3- علاقة الآيات بالحروف المقطعة.

     4- السمات المشتركة لكل مجموعة.   

ثانيا: خصائص ومزايا القرآن

ثالثا: أوجه الارتباط بين الخصائص القرآنية وصفات الذات.

رابعا: دلالة القسم بالكتاب.

خامسا: شذرات من أقوال المعصومين (ع) .

سادسا: الآثار الوضعية لخصائص الكتاب ودورها في الهداية.

 خاتمة بالنتائج. 

 

 

 

 

 

أولا:1- عرض النصوص القرآنية وتصنيفها:

وردت النصوص موضوعة البحث في (25) سورة, والتي تشتمل على بيان وذكر مزايا القران وخصائصه. ومرة واحدة في سورة الزمر, فيكون المجموع (26) سورة. وهذا التصنيف سيسهم في بيان وتجلية الخصائص القرآنية من جهة, والكشف عن العلاقة بينها وبين مراتبها الوجودية ومن ثم وجه الارتباط بأسماء الصفات التي جاءت في ذيل بعض الآيات.

  • الآيات التي ابتدأت باسم الإشارة وهي تسع آيات:

 

  • البقرة (ذلك الكتب لا ريب فيه هذى للمتقين)
  • يونس (تلك ايت الكتب الحكيم)
  • يوسف (تلك ايت الكتب المبين)
  • الرعد (تلك ايت الكتب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)
  • الحجر (تلك ايت الكتب وقران مبين)
  • الشعراء (تلك ايت الكتب المبين)
  • النمل (تلك ايت القران وكتاب مبين)
  • القصص (تلك ايت الكتب المبين)
  • لقمان (تلك ايت الكتب الحكيم)

 

  • الآيات التي ابتدأت بكلمة (تنزيل) وهي ثمان آيات:
  • آل عمران (نزل عليك الكتب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل)
  • طــه (ما أنزلنا عليك القران لتشقى- إلاّ تذكرة لمن يخشى)
  • السجدة (تنزيل الكتب لا ريب فيه من رب العلمين)
  • الزمر (تنزيل الكتب من الله العزيز الحكيم)
  • غافر (تنزيل الكتب من الله العزيز العليم)
  • فصلت (تنزيل من الرحمن الرحيم)
  • الجاثية (تنزيل الكتب من الله العزيز الحكيم)
  • الأحقاف (تنزيل الكتب من الله العزيز الحكيم)

 

 

 

 

ج- الآيات التي ابتدأت بواو القسم وهي خمس آيات:

 

  • يس ( والقران الحكيم)
  • ص (والقران ذي الذكر)
  • الزخرف (والكتب المبين)
  • الدخان (والكتب المبين)
  • ق (والقران المجيد)

 

د- الآيات التي ابتدأت بكلمة (كتاب):

 

  • الأعراف (كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين)
  • هود (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)
  • إبراهيم (كتب أنزلنه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صرط العزيز الحميد).

 

هـ – ما ورد في سورة الشورى ابتدأت بالتوكيد (كذلك) (حم- عسق- كذلك يوحي إليك والى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم).

 

ونلفت النظر هنا إلى أننا قد التزمنا الرسم القرآني في كتابة الآيات وليس الرسم الإملائي حفاظا على خصوصية النصوص في إطارها الفني وصلته بالمضامين التي تترتب على هذه العلاقة بينهما.

 

2- أقوال المفسرين في المراد من الحروف المقطعة:

 

اختلف المفسرون القدامى والمحدثون في المراد من الحروف المقطعة في فواتح السور التي تصدرتها. ومنشأ الخلاف هو أنه لا يوجد إجماع قطعي متسالمٌ عليه بخصوص الروايات ذات الصلة بها. وعندما تتعدد موارد الحديث, تتعدد القراءة كذلك. فإذا كانت القراءة تتعدد في مورد واحد, فإن تعددها وتباين تشخيص فحواها أوضح.

وقد اكتفينا هنا بعرضٍ موجزٍ لما اختلف فيه من الآراء نقلا عن أهم تفسيرين معاصرين. ونترك للقارئ أن يتمعن فيها ويتأملها بحسب ذوقه المعرفي.

أولا: ما ذكره العلامة الطبطبائي في تفسيره الميزان نقلا عن الطبرسي في مجمع البيان.

(وقد اختلف المفسرون من القدماء والمتأخرين في تفسيرها. وقد نقل عنهم الطبرسي في مجمع البيان أحد عشر قولا في معناها:

أحدها: أنها من المتشابهات التي استأثر الله سبحانه بعلمها لا يعلم تأويلها الا هوز

الثاني: أنّ كلا منها أسم للسورة التي وقعت في مفتتحها.

الثالث: أنها أسماء القران, أي لمجموعه.

الرابع: أنّ المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى, فقوله: (ألم) معناه أنا الله أعلم, وقوله: (ألمر) معناه أنا الله أعلم وأرى, وقوله: (المص) معناه أنا الله أعلم وأفصل, وقوله: (كهيعص) معناه الكاف من الكافي, والهاء من الهادي, والياء من الحكيم, والعين من العليم, والصاد من الصادق, وهو مروي عن ابن عباس, والحروف المأخوذة من الأسماء مختلفة في أخذها, فمنها ما هو مأخوذ من أول الاسم كالكاف من الكافي, ومنها ما هو مأخوذ من وسطه كالياء من الحكيم, ومنها ما هو مأخوذ من آخر الكلمة كالميم من أعلم.

الخامس: أنها أسماء الله تعالى مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم. تقول: الر وحم ون يكون الرحمن وكذلك سائرها الا أنّا لا نقدر على تأليفها وهو مروي عن سعيد بن جبير.

السادس: أنها أقسام أقسم الله بها, فكأنه هو أقسم بهذه الحروف على أنّ القران كلامه وهي شريفة لكونها مباني كتبه المنزلة, وأسماءه الحسنى وصفاته العليا, وأصول لغات الأمم على اختلافها.

السابع: أنها إشارات الى آلائه وبلائه ومدة الأقوام وأعمارهم وآمالهم.

الثامن: أنّ المراد بها الإشارة الى بقاء هذه الأمة على ما يدل عليه حساب الجمل.

التاسع: أن المراد بها حروف المعجم, وقد استغنى بذكر ما ذكر منها عن ذكر الباقي كما يقال: ا ب ويراد به جميع الحروف.

العاشر: أنها تسكيت للكفار, لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا للقران وأن يلغوا فيه كما حكاه القران عنهم بقوله: (لا تسمعوا لهذا القران والغوا فيه لعلكم تغلبون) الآية, فربما صفّروا وربما صفقوا وربما غلطوا فيه ليغلطوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلاوته, فأنزل الله تعالى هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها استغربوها واستمعوا اليها وتفكروا فيها واشتغلوا بها عن شأنهم فوقع القران في مسامعهم.

الحادي عشر: أنها من قبيل تعداد حروف التهجي, والمراد منها أنّ هذا القران الذي عجزتم عن معارضته هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم, فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله تعالى, وإنما كررت الحروف في مواضع استظهارا للحجة, وهو مروي عن قطرب واختاره أبو مسلم الأصبهاني وإليه يميل جمع من المتأخرين.

وبعد أن ينتهي العلامة من سرد هذه الأقوال, يشير في خاتمة القائمة الى ما نقل عن ابن عباس في (الم) أن الألف إشارة الى الله واللام الى جبرئيل والميم الى محمد صلى الله عليه و آله وسلم, وما عن بعضهم أنّ الحروف المقطعة في أوائل السور المفتتحة بها إشارة الى الغرض المبين فيها, كأن يقال: إنّ (ن) إشارة الى ما تشتمل عليه السورة من النصر الموعود للنبي صلى الله عليه وآله وسلم, و (ق) إشارة الى القرآن أو القهر الإلهي المذكور في السورة, وما عن بعضهم أنّ هذه الحروف للإيقاظ)(1).

 

  • تفسير الميزان. ج3. ص6-8

و مما تقدم عرضه, يتبين لنا أن مجمل الأقوال في هذه المسألة أربعة عشر قولا, ويبدو أنّ  وجهة نظر العلامة الطبطبائي والذي أورده في الجزء الثامن عشر من تفسيره قريب من الرأي الذي عرض له في النقطة الحادية عشرة. وسيوافيك من قوله في ما سيأتي ما يوقفك على ما قلناه.

 ثانيا: أما السيد السبزواري, فإنّه يجمل المسألة في سبع نقاط عرض لها في تفسيره مواهب الرحمن. وهي باختصار:

  • الإشارة الى حساب الجمل.
  • ما عن جمع من مفسري الصوفية, تفسيرها بالقطب والولي والأوتاد, وغاية ما ادّعوه في اثبات ذلك الكشف والشهود.
  • أنها إشارة الى إعجاز القران. فإنّ ما يستعمل في التكلم والتخاطب إنما هو المركبات دون المقطعات, ومع ذلك فإنّ في هذه المقطعات لطافة لا تكون في غيرها, وحلاوة لا توجد في سواها, فإعجازها في الفضاحة والبلاغة نحو إعجاز خاص.
  • إنّ استعمال الرموز بالحروف المقطعة كان شائعا عند العرب, وقد يعد لذلك من علم المتكلم وحكمته, والقران الكريم لم يتعدّ عن هذا المألوف.
  • أنها ذكرت لأجل جلب استماع المخاطبين, فإنهم إذا سمعوها تهيأوا لسماع البقية, فهي تشويق وتنبيه لاستعداد تفهم شيء جديد.
  • إرشاد الناس الى أنّ وراء كل ظاهر باطن.
  • أنها تشير الى بعض الحقائق, ورموز الى بعض العلوم التي سترها الله تعالى عن العباد لما رآه من المصالح.

 

  • علاقة الآيات بالحروف المقطعة:

ونحن هنا نسجل تحفظنا على تسمية الحروف المقطعة بهذا الاسم, والذي التصق بها ترسما على ما درج عليه قدامى المفسرين دون التحقيق في صوابية التسمية وملاءمتها للنحو الذي هي عليه, فضلا عن السجال الذي ملأ صفحات كتب التفسير دون أن ينتهوا إلى طائل. ونحن قد ألمحنا في بحثنا عن فلسفة العدد في القران الكريم إلى جملة من النقاط أوردناها حول ما يسمى بالحروف المقطعة. ونقول هنا أن الأولى أن تسمى بالمكونات الحرفية أو بالمركبات الحرفية, ولا مشاحة في اعتبار أحدهما. والسبب هو أنّ الحروف من حيث هي لا تنتظم في سياق ما لم تكن صادرة عن قصد أو غير قصد. كالذي يمثل له النحاة بكلمة (ديز). فإنها وأن انتظمت في مركب لكنها لا تفيد معنى. فالحروف في أصل اعتبارها قائمة بحد ذاتها. فكل حرف غير مرتبط بقسيمه, أي هي غير متصلة ببعضها اتصالا عضويا بنحو يمكن عدّها كيانا مركبا قائما بذاته, كما في الأجسام المركبة من مجموعة أعضاء متصل بعضها بالبعض الآخر. ولكن منشأ ارتباط الحرف يقوم على الغرض الذي يجعل له بضمه إلى ما سواه. فالحروف بهذا اللحاظ تتركب باجتماع بعضها إلى بعض لتأليفها كلمة أو جملة…

وإلا لماذا نجد مثلا أن سورة البقرة ابتدأت بــ (الم) وليس بـ (الر), ما لم يكن لاجتماع هذه الحروف الثلاثة في مقدمة هذه السورة أو تلك غرض مهم وإن كنا لا ندركه؟. ولماذا نجد سورة تبدأ بحرف وأخرى بحرفين أو أربعة وأكثر؟. ثم إنّ جهلنا بالشيء لا يخل بقيمته فضلا

  • مواهب الرحمن.ج1.ص79

 

 

عن نفيه, مع الأخذ بنظر الاعتبار أننا هنا في سياق الحديث عن ما هو بين دفتي الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهو شامل لجميع ما فيه من ألفه إلى يائه كما يقال دون استثناء. وهذا ما يقودنا بالتالي إلى نتيجة تتلخص في أنّ هناك صلة وشيجة بين هذه المكونات الحرفية والآيات التي تليها من حيث اشتمالها على ذكر إما كلمة الآيات أو الكتاب أو القران, وبيان مزاياه في خصوص هذه السور دون ما سواها من سور القران. ويمتد هذا الأثر في باقي آيات السورة (ثم انك إن تدبرت بعض التدبر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات والراآت والطواسين والحواميم وجدت في السورة المشتركة في الحروف من تشابه المضامين وتناسب السياقات ما ليس بينها وبين غيرها من السور, ويؤكد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ)(1) (ويؤيد ذلك ما نجد أن سورة الأعراف المصدرة بالمص في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات وص وكذا سورة الرعد المصدرة بالمر في مضمونها كأنه جامعة بين مضامين الميمات والراآت)(2) ويؤكد صاحب الميزان ما أشار إليه بالقول: (ويستفاد من ذلك أنّ هذه الحروف رموز بين الله سبحانه وبين رسوله صلى الله عليه واله وسلم خفية عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلاّ بمقدار أن نستشعر أن بينها وبين المضامين المودعة في السور ارتباطا خاصا. ولعل المتدبر لو تدبر في مشتركات هذه الحروف وقايس مضامين السور التي وقعت فيها بعضها الى بعض تبين له الأمر أزيد من ذلك)(3). كما أنّ وجود عدد محدد من الحروف في مفتتح هذه السورة أو تلك تارة على نحو التكرار وأخرى منفردة يؤكد ما نذهب إليه من الصلة بينها وبين مضامين الآيات التي تليها وما سواها من آيات السورة.

 أما ما هو وجه العلاقة من حيث المضمون فهذا ما وقع الخلاف فيه, واجتهد كل بحسب نظره  دون القطع والجزم برأي أو قول. ولكنها تبقى مع ذلك مثار جدل تدفع الباحثين إلى الفضول والرغبة  في الكشف عن أسرارها وخباياها, كالبحوث التي عرضتها وفق حساب العدد مثلا بقصد الكشف عن أمور مستقبلية وغيبية ونحو ذلك حينا, وحينا أخر التأكيد على كونها تمثل بعدا اعجازيا للهندسة البيانية لنظم القران بما اختزنته من معارف وأسرار. ومن ذلك ما ورد عن الإمام الحسين عندما سأله سائل عن معنى (كهيعص), فقال الأمام (ع): لو فسرتها لك لمشيت على الماء. ومن جهتنا فقد توصلنا في بحثنا فلسفة العدد إلى بعض من خصوصيات العلاقة بين هذه المكونات الحرفية ومضامين عدد محدد من الآيات في كل سورة لها دلالاتها, وذلك عبر عملية إحصائية أجريناها. وقد وجدنا أنّ كل سورة من هذه السور تشتمل على نسبة معينة من الآيات التي تحتوي على عدد معين من كل حرف من الحروف التي ابتدأت بها بالنحو الذي ينتج لنا رقما يقبل القسمة على (7). وهي بمجموعها في السور الـ (29) تبلغ (406) آية. وهذا الرقم

بدوره أيضا يقبل القسمة على (7). وإذا ما قسمناه على عدد الأحرف الـ (14) التي هي خلاصة المكونات الحرفية, والتي تبلغ (78) حرفا مكررا وغير مكرر نحصل على الرقم (29).

 

  • الميزان. ج18.ص9
  • م. ن. ج18. ص9
  • م. ن.ج18. ص9

 

وهو عدد السور التي ابتدأت بهذه المكونات فضلا عن صلة هذه الحروف الـ (14) بسورة الفاتحة

 والتي هي أم الكتاب, وهو ما يصطلح عليها بالحروف النورانية. لأن سورة الفاتحة تتكون من (140) حرفا . وبإسقاط المكرر نحصل على (21) حرفا. (14) منها هي خلاصة الـ (78) حرفا. أما الأحرف السبعة ألأخرى فهي ما يطلق عليها بالحروف الظلمانية. وليس هذا محل التفصيل في ماهية هذين الإطلاقين والصلة بينهما. وهذا الذي نذكره هنا لإلقاء الضوء على جانب من هذه العلاقة التي أشرنا إليها بداية الكلام كمثال يقودنا إلى مزيد من التمعن في استجلاء هذه الخصوصية من العلاقة. تأمل من باب المثال سنخ العلاقة التي تتجلى بالحساب العددي بين الآيات الـ (406) في السور المقطعة وتطابق هذا العدد كنتيجة لإجمال عدد حروف البسملة بعد إسقاط المتكرر منها, حيث أن المتبقي منها (10) أحرف. وعددها بحساب الجمل الكبير هو (406) أيضا. وأنت تعلم أن عدد الحروف المقطعة بعد إسقاط المتكرر هو (14) حرفا. (9) منها في البسملة. عدا (ص, ط, ق, ك, ع). لاحظ أنّ مجمل عدد هذه الحروف الخمسة بحساب الجمّل الكبير هو (289). وبجمع مراتب العدد (9+8+2=19) وهذا الناتج هو عدد حروف البسملة. وتأمل كيف أن أول وآخر حرف في البسملة شفويان. أي أن مخرجهما واحد. وكمثال أخر على ذلك فإن سورة الشعراء والتي عدد آياتها 227 آية نجد أنّ الآية (182) هي الوحيدة التي تتوفر على نسبة عددية لحروف (طسم) بحيث تنتج رقما يقبل القسمة على (7). والآية هي: (وزنوا بالقسطاس المستقيم). وسنعلق عليها لاحقا. لاحظ أن ّ حرف الطاء ورد مرة واحدة فنعطيه العدد (1). والسين (3) مرات, وأما الميم فقد تكرر (2). إذن؛ العدد الحاصل هو (231) وهو رقم يقبل القسمة على (7). (7×33).. وهذه الظاهرة تختص بآيات معينة دون أخواتها في السور الـ (29) مما ينبغي التدبر في خصوصياتها الدلالية والسر في توافقها العددي, وما هي الحصيلة المعرفية التي يمكن الحصول عليها من خلال حصرها, ومن ثم تصنيفها وفق ما بينها من قواسم مشتركة سواء على نحو الخصوص أم العموم.

 وكتطبيق لهذه الآلية العددية أذكر مثالا قمت بتطبيقه على الرواية التي ذكر فيها أمير المؤمنين علي (ع) أنّه (صاحب الطواسين). وهي سورة الشعراء والنمل والقصص, التي تبدأ بـ (طسم, طس, طسم). حيث وجدت من خلال تطبيق الآلية العددية الانفة الذكر (8) آيات في السور الثلاث تلقي ضوءً على ما للإمام من مقامات على نحو التجلي. وهي بدورها تكشف عن بعد سيميائي ترمز إلى أنّ ما في هذه الآيات من خصوصيات اعجازية إنما تمَت بلحاظ النشآت الوجودية للأمام, والمتمثلة بنورانيته القسيمة لنورانية النبي (ص) وآله وسلم. هذه النورانية التي تصاحب الأنبياء وتكون مددا لهم بما أخذ عليهم من الميثاق بالأيمان به وبولاية علي (ع) وبنصرته من خلال دعوة كل نبي قومه إلى إيمانهم بنبوة محمد (ص) وآله وسلم وولاية علي (ع) أيضا. (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا.. الأحزاب)(1). ولما أقرت الأنبياء بذلك جرت المعاجز على أيديهم, ومنها على يد

 

 

  • الأحزاب/7

 

 أوصيائهم كآصف ابن برخيا مثلا, والذي ما كان له أن يصنع ما صنع دون إذن من نبيه سليمان (ع) وإقراره بالميثاق. وهذا مبحث يعسر على الكثيرين هضمه وتقبله, لكن الحق لا يدركه كل من

شاء. (إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يطيقه إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان)(1). لأن الولاية التكوينية إنما تتحقق بالأذن ممن له حق الولاية. فولاية الوصي تقع في طول ولاية النبي والتي هي في طول ولاية الباري عز وجل وهكذا.. فالآية من سورة الشعراء (وزنوا بالقسطاس المستقيم)(2) كما ذكرنا آنفا هي تجل لكونه (ع)  بمنزلة القسطاس المستقيم, والذي حقيقته هذا القران المتجسد فيه سلوكا وتطبيقا ومعرفة, فكان بذلك ميزانا لأعمال الناس  وهو بعد سيميائي. كأنّ (ع) يريد أن يقول أنّ حقيقة الميزان ليست هذه الآلة المعدنية ذات الكفتين, لأنها بدون الميزان الحقيقي للسلوك الأخلاقي الذي يمكن وزنه بسيرته لا قيمة لذلك الميزان, وأنه هو ذلك الميزان. علما أن عدد آيات هذه السور الثلاث عند ضمها إلى بعضها تنتج لنا رقما يقبل القسمة على (7). (8893227÷7= 120461) وهذا الذي أوردته هنا مما يخص البحث العددي ليس إثباتا لنظرية علمية كي يشكل علينا فيما بيناه. بل إن هناك دراسات وبحوث اختصت بهذا الجانب لاعتبارات تتعلق بالكشف عن الأمور المستقبلية أو تطبيقا لروايات ونحو ذلك. وأشير ختاما بالسؤال عن وجه تسمية الفاتحة بأم الكتاب من جهة كونها تتألف من (7) آيات, وتكرار وتنوع الوصف للقرآن وتعدد مراتبه ونزوله في خصوص هذه السور موضوعة البحث؟, حيث تكررت كلمة كتاب (20) مرة, وكلمة قرآن (5) مرات. هل هي علاقة إجمال وتفصيل نضع من خلالها أيدينا على إجابات من خلال هذا الترابط العضوي بين الفاتحة وهذه السور, ومن ثم انطلاقا إلى آفاق أرحب في مديات النصوص القرآنية في السور الأخرى, والتي تشتمل على بيان جوانب إضافية لبيان خصوصيات القران ومزاياه الاعجازية؟ هل هي علاقة جفرية تشكل مفاتيح لآفاق معرفية يختص بها المعصوم فقط, وأنّ أمرها منوط به لحكمة خفيت علينا؟. قد يكون هذا أو ذاك. ولكن القدر المتيقن هو أنّ هناك سنخ علاقة بينها تحتاج إلى بحث وتدقيق. ولكن إلى أي مدى يسعنا الخوض في الكشف عن هذه العلاقة؟ فذلك كما قال تعالى (وما يلقها إلا ذو حظ عظيم)(3). كما سنستأنس إتماما للفائدة بإشارة إلى نماذج من التفسير, والتي تبين العلاقة بين مجمل آيات السورة ومفتتح كل منها باعتبارها عتبة الولوج إلى فضاءات النصوص في هذه السورة أو تلك. ولقائل أن يقول: إنّ هذا جار في جميع السور, فأي خصوصية للسور المبدوءة بالمكونات الحرفية دون غيرها؟.. إنّ الخصوصية تتجلى تحديدا في حاكمية هذه الصفات الواردة في الآيات موضوعة البحث على ما للقرآن من خصوصيات ذكرت على نحو التفصيل, وأثرها في استجلاء وجوه الإعجاز من جهة, وما يترتب على هذا التفصيل من آثار وضعية في حياة الفرد والمجتمع معا في الجانب العملي تحديد وضبط إيقاعه الإيماني في مضمار السلوك من حيث العلم والعمل .. وخلاصة ما تقدم:

  • هناك علاقة وشيجة بين المكونات الحرفية والآيات التي تليها
  • يمتد أثر هذه العلاقة إلى جميع السور المشتركة في هذه المكونات الحرفية.
  • إن اجتماع الحروف في هذه السورة أو تلك على نحو الاشتراك تارة والانفراد تارة أخرى يدل

على أنها لم تتركب بالنحو الذي عليه لمجرد الفات النظر كما ذهب اليه البعض. بل إنما له صلة

  • أصول الكافي.ج1. كتاب الحجة. ص251
  • الصافات/182
  • فصلت/35

 

بالنظم الهندسي للبناء الفني للسورة من جهة ومضمونه من جهة أخرى وان كان فوق إدراكنا له. فوجود (الم) مثلا في البقرة له وظيفة غير التي لـ (حم ) . وهكذا في الباقي.

  • هناك علاقة جفرية بين هذه السور تحديدا وبين سورة الفاتحة ألمحنا إلى جانب منها عدديا.
  • هذه العلاقة المعرفية تكون لها الحاكمية على ما في القران بنحو يختص المعصوم بها, كونها حسب فهمنا المتواضع تشكل واحدا من مصادر المعرفة لديه. إذ وفق حديث الثقلين فأن أحدهما ملازم للآخر لا يفترقان. فلا مانع من القول أن هذه الآلية المعرفية لا تختلف على سبيل المثال عما نجده اليوم في مصادر القرار التي تستأثر قياداتها العليا بمنظومة جفرية من المعلومات تفضي منها على قدر الحاجة إلى من هو دونها. ولمقتضيات الحكمة لا يطلع عليها إلاّ من كان لذلك أهلا..
  • كما أنّ هناك صلة جلية بين هذه المكونات الحرفية وخصائص القران الواردة في الآيات التي تليها من جهة وصفات الذات من جهة أخرى.

 

  • السمات المشتركة لكل مجموعة:

أولا: المجموعة (1):

في هذه المجموعة التي تصدرت آياتها باسم الإشارة للبعيد (تلك) و (ذلك) نجد ما يلي:

  • تكرار اسم الإشارة (تلك) في (8) آيات. حيث أضيف إلى (آيات الكتاب) (7) مرات. ومرة واحدة إلى (آيات القران). ولعل هذا التكرار هو إشارة إلى أصل الكتاب في مرتبته التي هي في اللوح المحفوظ. فهو بهذا اللحاظ موجود بنحو لا يمكن قراءته. هذا من جهة, ومن جهة أخرى هو إشارة إلى أن مرتبة كونه (كتاب) متقدمة على مرتبة كونه (قران) والذي هو من القراءة. فما لم تكن آياته مكتوبة لا يمكن قراءتها.
  • إنّ إطلاق لفظ كتاب تارة وقران تارة أخرى يمثل صورة لتجلياته الوجودية التي تتمظهر بها مع أن حقيقتهما واحدة. فهو في مرتبة العقل كتاب أحكمت آياته وفي مرتبة النزول (فصلت آياته). أي أنّ هناك علاقة إجمال وتفصيل. (كالملخص في قوله << والكتاب المبين إناّ جعلناه قرانا عربيا لعلكم تعقلون وانه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم>>. الميزان ج12ص48).
  • ونجد في الآيات التي ابتدأت بالإشارة إلى آيات الكتاب أنها قد وردت على نحو البيان للمراد من (ذلك الكتاب) في سورة البقرة. لأن الكتاب إنما يعرف بآياته المشتملة على مظاهر إعجازه ونحو ذلك مما قصد له.
  • هناك تغاير في العطف بين إضافة الآيات إلى الكتاب كما في سورة الحجر (تلك ايت الكتب وقران مبين) وبين ما جاء في سورة النمل (تلك ايت القران وكتب مبين). وبعطف أحدهما على الآخر نجد أن الآيتين تفسر أحداهما الأخرى. فينتج لدينا أنّ الكتب هو القران المبين والقران هو الكتاب المبين, وأنّ أحدهما عين الآخر و تجل له. وكما في مجمع البيان في تفسير الآية: (قران عطف على الكتاب وإنما عطف عليه وان كان الكتاب هو القران

 

 

 

 

 

  • لاختلاف اللفظين وما فيهما من الفائدتين وان كانا لموصوف واحد لأن وصفه بالكتاب يفيد أنه مما يكتب ويدون ووصفه بالقران أنه مما يؤلف ويجمع بعض حروفه إلى بعض. ج6.ص87).
  • كما نجد ظاهرة التنكير لمفردة الكتاب مرة والقران مرة في سورة الحجر والنمل. فمما هو معلوم كما أسلفنا أن الكتاب هو القران على نحو التجلي لذلك الكتاب الذي هو في كتاب مكنون. لأن القران منه: (وانه لقران كريم في كتاب مكنون)(1) (بل هو قران مجيد في لوح محفوظ)(2). وسيأتي الكلام عن ذلك في بيان مراتب التنزيل. ويعلل العلامة الطبطبائي ظاهرة التنكير بالقول: (وتنكير القران للدلالة على عظم شأنه وفخامة أمره كما أن التعبير بتلك وهي للإشارة إلى البعيد لذلك. والمعنى هذه الآيات العالية المنزلة, الرفيعة درجة التي ننزلها إليك آيات الكتاب الإلهي وآيات قران عظيم الشأن فاصل بين الحق والباطل على خلاف ما يرميها الكفار بما يرمونك بالجنة مستهزئين بكلام الله)(3).
  • كما نجد ظاهرة التنكير لمفردة الكتاب قد تصدرت ثلاث سور هي (الأعراف, هود, إبراهيم). فمن جهة نجد أنّ سورة إبراهيم والرعد قد اشتركتا في حروف الألف واللام والراء. وهو ما يرشدنا إلى علاقة الكتاب في مرتبة الإحكام بمرتبة التنزيل, والذي وصف في سورة هود بأنه قد فصلت آياته, وأنّ تنزيله من الله. ثم نجد بعد ذلك أن ذيل الآية في سورة إبراهيم تبين الغاية من هذا النزول وهو الهداية بأنه تعالى . أما في سورة الأعراف فنجد أنها اشتركت مع سورة هود بحروف الألف واللام والميم ومع سورة إبراهيم بحرفي الألف واللام. ومعنى هذا أن الفعل (أنزل) في سورة الأعراف جاء مبنيا للمجهول ولهذا نجد ذيل الآية خلت من ذكر الأسماء الحسنى, واقترنت بالإشارة إلى مسألة الحرج. بينما نجد الآية في سورة إبراهيم قد جاء فيها فعل الإنزال مبنيا للمعلوم ليرفع الغموض عن جهة الإنزال ومصدره وأن الحرج الذي قد يكون مانعا لم يعد له من مقتضٍ, حيث ذيّلت الآية باسمي العزيز الحميد وبذلك تكون الآية لها الحاكمية على نظيرتها في سورة الأعراف. وبلحاظ هذا التقابل نجد أن الآية في سورة هود هي حاكمة على الآيتين الباقيتين كما هو حاكمية الآية في سورة الأعراف على الآية في سورة (ص) فتدبر..

 

ثانيا: المجموعة (2):

أولا: النزول لغة واصطلاحا:

وهذه المجموعة من الآيات تتصدرها مفردة (التنزيل) في (6) مواضع, و (نزّل) مرة واحدة

 

 

  • الواقعة/78
  • البروج/22
  • الميزان. ج12. ص48

 

 

 

في سورة آل عمران. وسنبين هنا أوجه الفرق بين الإنزال والتنزيل وما هو المراد من النزول وما هو مراتبه طبقا لما هو عليه القران من كينوناته الوجودية في كل مرتبة.

والنزول لغة في الأصل هو (انحطاط من علو. يقال: نزل عن دابته ونزل في مكان كذا: حط رحله فيه)(1). وأما باصطلاح القران فهو في مقام الفعل (أوحى). فقوله تعالى (نزّل عليك الكتاب بالحق…. الآية) بمعنى أوحى به إليك عن طريق جبرائيل (ع). وقد تكرر لفظ النزول في موارد كثيرة وبصيغ متعددة. مثل (نزل, انزل, تنزّل,

تنزيل..). والفرق بين الإنزال والتنزيل أن الإنزال أعم. فالإنزال يعم ما كان صدوره من الله. (هو الذي أنزل عليك الكتب منه ايت محكمات هن أم الكتب وأخر متشبهات)(2). وما كان باقتراح من الكفار والمشركين إذ كانوا يقترحون على النبي (ص) واله وسلم جملة من التشهيات التي تنم عن عناد ومكابرة واستهزاء.( وقالوا لولا نزّل هذا القران على رجل من القريتين عظيم)(3). وجيء به هنا مبنيا للمجهول وهو من الفعل (أنزل). وقد ورد

الفعل (نزل) وما اشتق منه (287) مرة في (60) سورة. وهذا الرقم من مضاعفات العدد (7). (أما التنزيل لغة فهو الترتيب. والتنزل هو النزول في مهلة, ومنه تنزيل الكتاب أي نزوله في مهلة كما في المعجم الوسيط)(4). (تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر)(5). و(التنزيل يختص بالموضع الذي يشير إليه إنزاله مفرقا ومرة بعد أخرى)(6). وهذا يختص بكون التنزيل هو ما كان نزوله من البيت المعمور, وهو النزول الدفعي من اللوح المحفوظ. فإذا ما أريد إنزال آياته للنبي (ص) واله وسلم عدّ ذلك تنزيلا. (وقرانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه تنزيلا)(7). بعبارة أخرى أن آلية النزول هنا تتم في مهل وترتيب. ويؤيد ذلك قوله تعالى (ورتلنه ترتيلا). والحكمة في ذلك هو ما أشارت إليه الآية  من سورة الفرقان: (وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القران جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلنه ترتيلا)(8). أي أن الغاية من نزوله بهذه الكيفية هو لتثبيته في الفؤاد وترسيخه فلا يعتريه زوال ولا سهو وغير ذلك مما سنذكره في محله.

 

ثانيا: مراتب نزول القران:

تعدد مراتب القران بما له من الكينونات الوجودية بحسب الاستقراء لمراتب نزوله إلى ثلاث مراتب. وهي: (مرتبة العقل ومرتبة المثال ومرتبة التنزيل بنحو التقطيع والتفصيل في عالم النشأة المادية).

 

 

  • مفردات الراغب.ص509
  • ال عمران/7
  • الزخرف/31
  • المعجم الوسيط. ج2.ص75
  • القدر/4
  • مفردات الراغب.ص510 7- الإسراء/106 8- الفرقان/32

 

وهذه المراتب ترتبط فيما بينها على نحو العلية والسببية. أي أن وجود اللاحق متوقف على وجود السابق. وهذا الوجود هو على نحو التجلي لا التجافي. كما قد يلتبس فهمه على كثيرين. لأنّ التجافي هو نحو نزول يقتضى خلو الشيء من مكانه وموطنه الذي هو فيه وانتقاله إلى موضع آخر, إما بنحو الاختيار أو الاضطرار. لذا فإنّ وجوده على نحو التجافي ممتنع, لأنّ القران الذي بين أيدينا صورة تحكي ما هو في مرتبة الإحكام (مرتبة العقل). (كتب أحكمت آيته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)(1). فهو في عالم التفصيل عينه في عالم الإحكام, ولكن بنحو آخر من الوجود يتناسب والنشأة الوجودية التي يتنزّل فيها لا أنه غيره. هذه المرتبة التي أشار إليها القران بأنها في (كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون)(2) و (في لوح محفوظ)(3). أذن وجوده بهذا النحو لا يمكن لأفهام البشر أن تناله. ولمّا كان الغرض منه هو هداية الناس كان لا بد أن يلبس لباسا عربيا تتفصل آياته ليمكن تدبره وتعقله. كما أن تعدد نزوله  إنما يرجع إلى خصوصية الكتاب وتمظهره بحسب الظرف الذي يتنزل فيه. فهو وجود على نحو (الحقيقة والرقيقة). أي وجود بنحو أشرف ووجود بنحو أضعف. وهو ما نجده في أنفسنا مما هو من سنخ عالم الأذهان حيث تكون الفكرة على نحو الإجمال (الإحكام) ولكنها تتفصل في عالم المادة بالكتابة أو النطق. فهما وجودان من حيث الظاهر مختلفان ولكن حقيقتهما واحدة, و لكن بما يتناسب والظرف الوجودي الذي يتنزل فيه.

ويمكن إيجاز ما تقدم في النقاط التالية:

  • إنّ الإنزال أعم من التنزيل.
  • تعدد مراتب النزول بحسب النشآت الوجودية التي تتسانخ وماهية الكتاب بنحو يمكن فيه  أن تتلبس بالوعاء المكاني بما يحقق المقصود من الإنزال.
  • إنّ النزل هو على نحو التجلي وليس على نحو التجافي.
  • إنّ التنزيل هو نحو ترتيب ونزول على مهلة.
  • إنّ الكينونة الوجودية للقران هي على نحو (الحقيقة والرقيقة). أي وجود بنحو أشرف ووجود بنحو أضعف.
  • ثنائية العلاقة بين الإنزال والتنزيل. فهي علاقة مكانية- زمانية. فالإنزال سنخ علاقة ترتبط بالموضع الذي منه يكون النزول مرة بعد مرة, أما التنزيل فهو سنخ علاقة ترتبط بالدواعي والغايات عبر آلية يتحقق بها النزول (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ….الآية)(4).
  • وكما يكون التنزل في ما هو خير مطلق, كذلك يكون في ما هو شر مطلق. وما أورده الراغب في معجمه من اختصاص التنزيل بما هو من الشيطان غير سديد: (ولا يقال في المفترى والكذب وما كان من الشيطان الا التنزل)(5)

 

  • هود/2
  • الواقعة/78-79
  • البروج/22
  • النحل/2
  • مفردات الراغب. ص510
  • فمن الأول قوله تعالى: (تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر)(1). ومن الثاني (وما تنزّلت به الشياطين)(2). وقد استعمل في الموردين. والحكمة من هذا التقابل في ورود التنزل في كليهما بحسب المتحصل هو أن لكل من الخير والشر مدده الخاص به, والذي يمده بأسباب المواجهة والقدرة على التواصل في ميدان الصراع. وهو ما يقتضي في كل طرف منهما الحاجة إلى عنصر الزمان لتلقي المدد, ومن ثم التهيؤ والاستعداد وبعث الهمة والعزيمة للمضي إما النصر أو الشهادة في طرف الخير, وأما الهزيمة والموت في طرف الشر.
  • وتبين الآية (32) من سورة الفرقان أنّ الغاية من النزول على مهل وفي مراحل لتثبيت الفؤاد وعصمه من دواعي السهو والنسيان ردا على من تساءلوا عن السبب من عدم نزول القران دفعة واحدة. (وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القران جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلنه ترتيلا)(3). والرتل لغة هو: (اتساق الشيء وانتظامه على استقامة. والترتيل: إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة. مفردات الراغب)(4).

      

ثانيا: خصائص ومزايا القران:

تتنوع خصائص ومزايا القران التي أجملناه فيما يلي من خلال النصوص التي وردت في مفتتح السور المبدوءة بالمكونات الحرفية (المقطعة). وسنعلق على هذه الخصائص بقدر ما هو ضروري, والإشارة إلى حاكمية هذه الخصائص على ما سواها التي وردت في غيرها من سور القران, وهي ترسم علاقة المجمل بالمفصل إذا جاز التعبير.

  • لا ريب فيه. وقد تكرر مرتين (البقرة/ السجدة). والريب هو أقبح الشك. وهو أخص منه.
  • هدى للمتقين. وقد قرن وصف الهداية بالمتقين لأنهم أعلى درجة ممن وصفوا بالمؤمنين. فالإيمان درجات ومراتب. والمتقون لهم من خصائص التقوى ما لا تكون في عامة المؤمنين. وقد وصفهم أمير المؤمنين علي (ع) في نهج البلاغة بما يدلك على علو شأنهم وعظيم منزلتهم وما هم عليه من شدة المجاهدة والمراقبة لصغير الأمور وكبيرها في حق أنفسهم. وقد حاطوا أنفسهم بزكي الأعمال فصارت لهم جنة ووقاية عن الوقوع في مهاوي العصيان فاستحقوا بذلك وصف المتقين..
  • للإنذار والتحذير. وهو لعامة الناس كونهم في الغالب لا يذعنون إلاّ بالزجر والعقوبة, وذلك انفع لهم كي يتدبروا حالهم ويعودوا إلى حظيرة الإيمان.
  • ذكر للمؤمنين. وقد خص المؤمنون بالذكر لأنهم على حال من الاستقامة والتسليم لما أنزل الله على رسوله, فتذكيرهم زيادة في تثبيتهم وتنبيههم من الغفلة والوقوع في ما يسلب عنهم ما هم عليه من الثبات على محجّة الإيمان.
  • كتاب مبين (7) مرات وقران مبين (1) مرة.

 

  • القدر/4
  • الشعراء/221
  • الفرقان/32
  • مفردات الراغب. ص192

 

  • أنزل بالحق. وهو وحي من الله. (والظاهر أن الباء في قوله بالحق للمصاحبة وا
  • لمعنى نزل عليك الكتاب تنزيلا يصاحب الحق ولا يفارقه فيوجب مصاحبته الحق أن لا يطرأ عليه ولا يخالطه باطل فهو في أمن من جهة ظهور الباطل عليه)(1).
  • كتاب حكيم (4) مرات. أما المراد من الحكيم (هو الكتاب الذي استقرت فيه الحكمة وربما قيل: إنّ الحكيم من الفعيل بمعنى المفعول والمراد به المحكم غير القابل للإنثلام والفساد.
  • قد فصلت آياته ليمكن تعقله وتدبره)(2).
  • له مراتب وجودية متعددة. وجود بنحو أشرف ووجود بنحو أضعف.
  • نزوله على نحو التجلي لا التجافي. والمراد من التجلي هو أنّ الكتاب في مرتبة الإحكام هو عينه لم يزل عن مرتبته, وان ّ هذا الذي بين أيدينا هو من سنخ المفاهيم والألفاظ والتي تبتنى على شكل مقدمات ينتهي بعضها إلى بعض كأمور تصديقيه كما نجده في الآيات القرآنية. وبعبارة أخري أنّ مرتبة الإحكام هي نظير ما هو مجمل من الأمور الذهنية التي لا يمكن أن يكون لها ظهور في الواقع الخارجي إلا بنحو من الإشارة والتمثيل لها بالكتابة والنطق ونحو ذلك, وهي مع ذلك لا تنافي بقاء ما في النفس والذهن من المدركات والمعقولات التي هي من سنخ عالم الإجمال. أما الحكمة من نزوله نجوما فقد ذكر له العلماء أسبابا منها:

أولا: تثبيته في قلب النبي (ص) واله وسلم كما في قوله تعالى: ( وقال الذين كفروا لولا   نزل عليه القران جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا)(3).

ثانيا: الرد على الشبهات ودحض الحجج: (ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيرا)(4).

ثالثا: تيسير حفظه وفهمه.

رابعا: التدرج في تطبيقه والقدرة على استيعاب مقاصده لأن المسلمين كانوا حديثي عهد بالإسلام ولم يتخلصوا من رواسب الجاهلية.

خامسا: كما كان ينزل بحسب الدواعي أو ردا على أسئلة السائلين.

  • يخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم. وهو خروج نظري يتمثل بالإقرار والتسليم.
  • وخروج عملي بالسير على صراط العزيز الحميد يتحقق به الإيمان. وبذلك فأن ذيل الآية يكون جامعا لبعد القول وبعد العمل. وهو مفاد الحديث: (الإيمان معرفة بالقلب, وقول باللسان وعمل بالأركان)(5). وأما نسبة الإخراج إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم فباعتباره أحد الأسباب الظاهرية في تحقق الهداية, مع أن حقيقة الإخراج تنتهي إليه تعالى أصالة ولكنها لا تنفي مطلق الهداية ولذلك نجد أن الآية قد قيدت (بأذن ربهم)
  • أنّه ذو ذكر. (والمراد بالذكر ذكر الله تعالى بتوحيده وما يتفرع عليه من المعارف الحقة من المعاد والنبوة وغيرها)(6).
  • الميزان.ج3
  • ن. م. ج3. ص3
  • الفرقان/32
  • الفرقان/33
  • حديث الايمان 6- الميزان.ج17.92-ج2.ص366
  • أنّه مجيد. والمجد هو: (السعة في الكرم والجلال ووصفه بالمجيد لسعة فيضه وكثرة جوده. وأما قراءته بالكسر كما عن حمزة والكسائي وخلف فلجلالته وعظم قدره والتمجيد من العبد لله بالقول وذكر الصفات الحسنة ومن الله للعبد بإعطائه الفضل. ووصفه بالمجيد لكثرة ما يتضمنه من المكارم الدنيوية والأخروية)(3). وبالتأمل في ما أورده العلامة من أقوال يمكن أن تكون بمجموعها تعريفا للمراد من وصف القران بالمجيد.

 

 ثالثا: أوجه الارتباط بين خصائص القران وصفات الذات:

وردت الأسماء الحسنى في الآيات موضوعة البحث (11) مرات. منها ما هو مكرر في آيتين أو أكثر. وهذه الأسماء هي (الله, الحي, القيوم, الحكيم, الخبير, رب العالمين, العزيز, العليم, الرحمن, الرحيم, الحميد). وعلى النحو التالي:

  • (الله) (6) مرات (آل عمران/ الزمر/ غافر/ الشورى/ الجاثية/ الأحقاف).
  • (العزيز) (6) مرات. ( إبراهيم /الزمر/ غافر/ الشورى/ الجاثية/ الأحقاف).
  • (حكيم) (5) مرات (الزمر / الشورى/ الجاثية/ الأحقاف/ هود).
  • (العليم) (1) مرة. (غافر).
  • (خبير) (1) مرة.           (هود).
  • (رب العالمين) مرة واحدة (السجدة).
  • (الرحمن الرحيم) مرة واحدة (فصلت).
  • (الحي القيوم) مرة واحدة (آل عمران).
  • (الحميد) مرة واحدة (إبراهيم).

 

وتنقسم الأسماء التي وردت في ذيل الآيات موضوعة البحث إلى أسماء ذات وأفعال. ولخواتم الآيات دور تفسيري مهم في استجلاء مضامينها. فالنظر في علاقة ذيل الآيات بأوائلها يعد من القواعد التفسيرية المهمة لفهم الآية وما تكتنزه من معطى معرفي يسهم في إثراء العملية التفسيرية بشكل علمي إلى جانب القواعد التفسيرية الأخرى. وهذا يقودنا بالتالي إلى ماهية الصلة بين هذه الأسماء الواردة في ذيل الآيات وما تقدمها للخروج بنتيجة مبرهنة من داخل سياق النص عبر استنطاقه من دون تكلف أمور طارئة عليه من خارج السياق ما لم يكن ذلك مما لا محيد عنه. فمن بين ما يربو على المائة وعشرين أسما من أسماء الله الحسنى الواردة في القران اختصت هذه الأسماء بالآيات الفواتح في السور التي تصدرت بالمكونات الحرفية كما أسميتها وهي التي تعرف بالحروف المقطعة. وفي ضوء ذلك سندرس هذه العلاقة ونبرزها وفق ما يعطيه السياق من جهة وربط هذا المعطى بنظيره في الآيات الأخرى للخروج بفهم شمولي يرسم شبكة من الدلالات المتناغمة في أطار من التفسير الموضوعي, رغم أننا فيما عرضناه من البيانات لكل مجموعة قد حددنا الخصوصيات المشتركة بين الآيات التي تتسانخ فيما بينها من حيث المفردات المنتظمة في سياق يكاد متطابقا تماما لمن تأمل فيها. وبدء سنعرض بإيجاز تقسيما للأسماء الحسنى في ضوء ما هو معروف في علم الكلام وما ذهب إليه العلماء والمفسرون في تقسيمهم للأسماء إلى ثبوتية وسلبية والى ذاتية وفعلية وهكذا, من أجل أن يسهم هذا العرض في الكشف دلاليا عن خصوصيات النصوص التي نحن بصددها. ومن المهم التنبه إلى أنه (لا فرق بين الصفة والاسم غير أنّ الصفة تدل على معنى من المعاني يتلبس به الذات أعم من العينية والغيرية, والاسم هو الدال على الذات مأخوذة بوصف, فالحياة والعلم صفتان والحي والعالم اسمان. الميزان)(1). فالصفات المشتملة

على معنى الكمال تفيد معنى ثبوتيا كالعلم والحياة وما يدل منها على معنى سلبي كالسبوح والقدوس لأنها تنفي وتسلب عنه كل ما يعتريه من شوب النقص والعجز. وأما الصفات الفعلية فهي الصفات التي لا يمكن ثبوتها وتحققها في الخارج إلا بفرض ثبوت الذات أولا. ومن المعلوم أنّ الصفات تنقسم بحسب نسبتها إليه تعالى إلى أقسام وهي:

  • ثبوتية وسلبية 2- ذاتية وفعلية 3- نفسية وإضافية

 فالوصف بالثبوتية باعتبار أنها ثابتة له لا يمكن تصور سلبها عنه, وأما كونها ذاتية     فلأنها عين الذات متلبس بها. وأما النفسية فهي لها هذا الاعتبار كونها لا إضافة في معناها إلى الخارج عن مقام الذات كالحياة. وأما الإضافية فهي سواء كان لها معنى نفسي ذو إضافة كالصنع والخلق, أي هي ذاتية ثابتة له ولكنها في عين الوقت مضافة إليه بلحاظ صحة صدورها عنه. وأما أن تكون معنى إضافيا محضا كالخالقية والرازقية.  وعلى أساس ما تقدم سنحدد الصفات من حيث ذاتيتها وفعليتها في كل آية, ليتضح لنا دور هذه الصفات مجتمعة بنزول الكتاب ومراتبه وخصائصه.

إنّ الأسماء الحسنى لها آثارها التي تحاذيها من حيث السعة والضيق بحسب ما لها من خاصة التأثير في نظام الوجود, كوسائط فيض بين الذات ومصنوعاته. وبعبارة أخرى, هناك علاقة

ذات بعدين: بعد هرمي وبعد حاكمي. فالبعد الهرمي يتمثل في أنّ(للأسماء الحسنى عرض عريض تنتهي من تحت إلى اسم أو أسماء خاصة لا يدخل تحتها اسم آخر ثم تأخذ في السعة والعموم ففوق كل اسم ما هو أوسع منه وأعم حتى تنتهي إلى اسم الله الأكبر الذي يسع وحده

جميع حقائق الأسماء وتدخل تحته شتات الحقائق برمتها, وهو الذي نسميه غالبا بالاسم الأعظم)(2). والمتحصل من هذا الكلام هو أن اسم الله الأكبر هو الاسم الذي يمكن وصفه بجميع بهذه الأسماء بما لها من خواص وآثار تصدر عنه, فتتجلى بها إلوهيته وربوبيته وتدبيره لهذا العالم. فأنت يمكن أن تقول (الله سميع بصير) ولكن لا يصح أن تقول (سميع الله بصير). لأنه متفرد من دون باقي الأسماء بكونه موضوعا للصفات التي يخبر بها.   فكلما كان الاسم أوسع كان أثره أكبر دائرة وأوسع نطاقا, من هنا نجد أن الاسم الأعظم هو الاسم الذي ينتهي إليه كل أثر ويخضع له كل أمر. وهذا هو مبدأ حاكمية الأسماء بعضها على البعض الآخر. هذه النتيجة ستسهم في بيان وتشخيص العلاقة بين الأسماء التي وردت في مفتتح الآيات موضوعة البحث واقترانها بكلمة الكتاب في صدر كل آية من جهة, وتوسط مفردة التنزيل من جهة أخرى. ولأجل أن تكتمل صورة البحث سنلقي نظرة تعريفية موجزة على هذه الأسماء من أجل بيان حاكمية هذه الأسماء التي تميط اللثام عن سر ثنائية العلاقة في ورود الصفات في ذيل الآيات.

 

 

 

  • الميزان. ج8. ص196
  • م. ن. ج8. ص 198

 

 

  • الله: هو اسم الذات الجامعة لصفات الكمال المطلق. ولا يوصف بها أحد غيره. وهو مشتق من الإله, ولأنه اجتمعت فيه لامان حذف الأصلي منها استثقالا لأن فيما بقي دلالة عليه. فاجتمعت لامان أولاهما ساكنة فأدغمت في الأخرى فصارت مشددة في قولنا الله. أي اجتمعت همزتان بعد دخول الألف واللام على لفظ أله. (كتاب التوحيد بتصرف). وللعلماء والمفسرين أقوال أطنبوا في سردها فيما يخص اشتقاق اسم الذات من حيث العلمية فيه هل هي بالأصالة أو الغلبة, وخواص الاسم ونحو ذلك. وقد أورد السيد محمد الغروي في كتابه (الاسم الأعظم. باب الاشتقاق)(1) تسعة أوجه لاشتقاق اسم الذات, وسأذكرها روما للاختصار, ومن شاء المزيد يراجعها في مظانها من الكتاب.
  • أنه مشتق من (الهت اليه). أي سكنت اليه, والله تعالى تسكن العقول والقلوب والارواح اليه.
  • أو أنه مشتق من (أله) كفرح إذا تحيّر لتحير العقول في كنه ذاته وصفاته.
  • أو أنّه مشتق من الوله وهو ذهاب العقل.
  • أو أنّه مشتق من (لاه يليه ليها) بمعنى الارتفاع وهو المرتفع عن ادراك الخيال.. وقرأ شاذا: (وهو الذي في السماء لاه).
  • أو أنّه مشتق من (لاه يلهو) اذا احتجب,
  • أو أنّه مشتق من (أله الرجل) إذا فزع من أمر نزل به, فألهه أي أجاره.
  • أو أنّه من (إله) بمعنى عبد فهو مألوه أي معبود ككتاب فهو مكتوب فهو صفة مشبهة بمعنى اسم المفعول. فأله يأله وإله وألوهة وألوهية مثل عبد يعبد عبادة وعبودة وعبودية, لا أنّه مصدر كما توهم.
  • أو أنّه مشتق من (أله الفصيل) إذا ولع بأمّه والخلائق مولوعون بالتضرّع اليه في الشدائد طوعا وكرها.
  • أو أنّ أصله كما قيل: الكناية لأنها للغائب وهو سبحانه الغائب عن أن تدركه الابصار أو تحيط به الأفكار.

 وفي الاحتجاج مرسلا عن هشام بن الحكم ( قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أسماء الله عز ذكره واشتقاقها فقلت: الله مما هو مشتق؟ قال يا هشام: الله مشتق من إله وإله يقتضي مألوها, والاسم غير المسمى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا, ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين, ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد أفهمت يا هشام؟ فقلت: زدني فقال: إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما فلو كان الاسم

هو المسمى لكان كل اسم منها إلها ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره, يا هشام الخبز اسم المأكول والماء اسم المشروب والثوب اسم الملبوس والنار اسم المحرق. أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل به أعداءنا والمتخذين مع الله غيره)(2).

  • الغروي. الاسم الأعظم. باب الاشتقاق. ص132-140
  • الطبرسي. الاحتجاج. ج1. باب أسماء الله تعالى. ص17

 

 

 وفي التوحيد زيادة مع تغيير في بعض الألفاظ في ذيل الرواية:

 (والملحدين في الله والمشركين مع الله عز وجل غيره؟ قلت: نعم, فقال: نفعك الله به وثبتك يا هشام, قال هشام, فو الله ما قهرني أحد في التوحيد حينئذ حتى قمت مقامي هذا)(1).

 

 ومن خواص كلمة (الله) نشير بإيجاز إلى بعض منها كما ورد في كتاب الإسم الأعظم(2). من ذلك؛

أولا: عدم جواز التسمية بها لأنها علم خاص وليس مشتقا ليكون معناه كليا بنحو يصح فرض صدقه على الغير.

ثانيا: ليس في أسماء الله الحسنى اسم جامع لجميع الصفات والأفعال مع الدلالة التامة على ذاته المقدسة غير لفظ الجلالة.

ثالثا: إنّه أدل اسم على الربط بين الخالق والمخلوق وأقربه إلى إثارة المحبة في القلوب والوفاء والحياء والتقوى وغيرها من أصول الفضائل, لا سيما إذا قلنا إنّ أصله (اله)  فدخل عليه (أل) أي المعبود وهو يقتضي وجهة العبد إلى سيده والعابد إلى معبوده والربط بينهما وغاية التكوين العبادة, وقد قال جل جلاله: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(3).

ونزيد هذه النقطة إيضاحا ما دلت عليه الآية من سورة الرعد (الذين امنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)(3).

 حيث قيدت الاطمئنان وحصوله في النفس بذكر الله, فصدر الآية لها صلة بذيل الآية السابقة على ما يفيده السياق (ويهدي إليه من أناب)(4). فحاصل المعنى مما تقدم هو أن الله يهدي إليه الذين أنابوا وامنوا وتطمئن قلوبهم بذكره بأن يوصلهم إلى الغاية من إيمانهم. فيكون قوله تعالى (الذين امنوا) عطف بيان. ونجد أنّ ذيل الآية (28) يؤكد بما يفيد الحصر أنّ الاطمئنان لا يتحقق إلا بذكره سواء دون باقي أسمائه كما هو ظاهر أو دون غيره ممن عدهم الجاهلون من أصحاب الملل والنحل آلهة واتخذوهم أربابا من دون الله.

رابعا: أن الإقرار بالشهادتين لا تخرج المرء من حد الكفر إلى الإسلام إلا بذكر (الله).

  • الحي: انه الفعال المدبر, وهو حي لنفسه لا يجوز عليه الموت والفناء وليس يحتاج إلى حياة يحيى بها. أو هو( ذو الحياة الثابتة على وزان سائر الصفات المشبهة في دلالتها على الدوام والثبات. ومن هنا يعلم أن القصر في قوله تعالى هو الحي لا اله إلا هو   قصر حقيقي غير إضافي, وأنّ حقيقة الحياة التي لا يشوبها موت ولا يعتريها فناء وزوال هي حياته تعالى)(5).
  • الطبرسي. الاحتجاج. ج1. باب أسماء الله تعالى. ص17
  • الغروي. الاسم الأعظم. ص127-129
  • الذاريات/56
  • الرعد/28
  • الميزان. ج3. ص2

 

 

  • القيوم: أما القيومية فهي (قيامه تعالى أتم القيام على أمر الإيجاد والتدبير. فنظام الموجودات بأعيانها وآثارها تحت قيمومة الله لا مجرد قيمومة التأثير كالقيمومة في الأسباب الطبيعية الفاقدة للشعور بل قيمومة حياة تستلزم العلم والقدرة, فالعلم الإلهي نافذ فيها لا يخفى عليه شيء منها والقدرة مهيمنة عليها لا يقع منها إلا ما شاء وقوعه وأذن فيه)(1)
  • العزيز: معناه أنّه لا يعجزه شيء ولا يمتنع عليه شيء فهو قاهر للأشياء غالب غير مغلوب. فالعزة منحصرة فيه ولا توجد عند غيره إلا بفيض منه.
  • الحميد: على وزن فعيل بمعنى المفعول من الحمد أي هو المحمود, والثناء على الجميل الاختياري. لأن كل جميل ينتهي إليه لذا كان الحمد له دون غيره. وهو غني غير محتاج إلى الناس.
  • العليم: الله عالم لذاته, وعالم بالسرائر. فلا يقال أنه يعلم الأشياء بعلم كما لا يثبت معه قديم غيره. وهكذا في جميع صفاته.
  • رب العالمين: الرب معناه المالك, وكل من ملك شيئا فهو ربه. ولا يطلق معرفا إلا عليه سبحانه وتعالى. وأما على غيره فيطلق مضافا ومجردا من الألف واللام فيقال: رب البيت ورب العمل وهكذا.
  • الحكيم: معناه أنّه عالم, والحكمة في اللغة العلم. والوصف دال على كونه سبحانه وتعالى حكيم في أفعاله متقن لها, لا يعتريها لوث الفساد ولا شوب النقص.
  • الخبير: وهي أيضا من الصفات الدالة على العلم ولكن بنحو أخص. فالخبر هو نحو علم ببواطن الأمور فضلا عن ظواهرها والإحاطة بجزئيات الأمور الكائنة ومصالحها.
  • الرحمن: معناه الواسع الرحمة على عباده يعمّهم بالرزق والإنعام عليهم, والرحمن شامل لجميع الخلق.
  • الرحيم: وهو الرحمة بنحو أخص. (بالمؤمنين رؤوف رحيم). فكلاهما مشتق من الرحمة. وفي الدعاء نجد أن أسم الرحمن مقدم على الرحيم (يا رحمن يا رحيم……) لأن الأول يفيد العموم بنحو يتضمن الثاني. فكأنّ اقتران اسم الرحيم به هو للتأكيد ومزيد عناية بمن يدعى لهم.

وفي ضوء ما قدمناه نجد ما يلي:

أولا: إنّ اقتران الأسماء الحسنى بالكتاب يدل على العناية الإلهية وتجلي قدرته ورحمته بعباده, والذين خلقهم لغاية أسمى من وجودهم في هذه الدنيا, ألا وهو تحقيق كمالهم وترقيهم في مدارج الفضيلة والتكامل في طريق الهداية

ثانيا: إنّ الأسماء الحسنى جاءت لوصف اسم الذات الأكبر (الله) والتي تؤطر بخصوصياتها وآثارها ما لهذا الكتاب في مرحلة نزوله من مزايا جعلته كتابا يستحق أن يكون هاديا للتي هي أقوم. فهذه الصفات قد تجلت في الكتاب نفسه.

  • الميزان. ج3. ص2

إنّ وجود اسم الذات الأكبر بين الأسماء في هذه الآيات هو لبيان أنّها صفات تختص بهذه الذات الجامعة لصفات الكمال وحده دون غيره.

ثالثا: إنّ بقاء الكتاب في مرتبة الإحكام لا يحقق الوظيفة والغاية من وجوده, فكان لا بد لنزوله على النبي صلى الله عليه واله وسلم ومن ثم تبليغه إلى الناس كي تتحقق الغاية به, وهو إخراجهم من ظلمات العدم إلى نور الوجود, وتظهر آثار فيضه بما لهذه الأسماء من تجليات في هذا الوجود وبكونها وسائط فيض بينه وبين مصنوعاته بما يعرضه من الشواهد القرآنية ويدلهم بها إلى النظر في حقيقة وجودهم تارة والى العالم الذي هم فيه تارة أخرى ليعلموا أن ذلك كله من آثار فيضه وتجلّ لعظيم قدرته وسعة رحمته.

رابعا: إنّ هذه الأسماء الحسنى قد اختصت دون ما سواها بذكر الكتاب أولا وبنزوله وتفصيله ثانيا. وهذا الاختصاص يتجلى تارة في صفة الحكمة والإتقان والعلم بدقائق الأمور وأن الذي أنزل الكتاب غالب غير مغلوب لأن إرادته نافذة فيما يشاء لا يعجزه شيء. وهو غني عن خلقه منعم عليهم بالوجود الذي أفاضه على مخلوقاته. وهو في الوقت عينه مالك أمورهم (رب العالمين) ومدبر شؤونهم. فله بذلك حق العبادة والطاعة عليهم وذلك بإنزال ما يهديهم بما شرعه لهم في كتابه وعلى لسان رسوله. وهذا التدبير دليل قيمومته وإحاطته بجميع ما يلزم من الغاية من وجودهم وكمال هدايتهم, وهذه الأمور التدبيرية لا تتحقق إلاّ لمن له الحياة الدائمة والخبير العالم بغير علم.

خامسا: وقد تقدم الكلام في أنّ الأسماء الحسنى بينها خصوص وعموم من حيث آثارها التي تحاذيها. فيكون الأخص محكوما بالأعم أي أنّ الأضيق دائرة محكوم بالأوسع منه. وهكذا حتى تنتهي إلى الاسم الذي يسع كل هذه الأسماء التي يتصف بها ولا تتصف به. (فالعلم اسم خاص بالنسبة الحي وعام بالنسبة إلى السميع البصير الشهيد اللطيف الخبير, والرزاق خاص بالنسبة إلى الرحمن وعام بالنسبة إلى الشافي الناصر الهادي وعلى هذا القياس)(1).  وتأسيسا على ما تقدم:

  • نجد أن أسماء الذات (الله الحي القيوم العزيز الحميد رب العالمين الرحمن الرحيم الحكيم) قد اختصت بذكر الكتاب في مرتبة النزول. وهي صفات تنقسم ما بين نفسية لا إضافة في معناها إلى الخارج (الله الحي ) أي أنها ذاتية محضة, وما بين نفسية لها إضافة في معناها إلى الخارج.
  • أما كل من الأسمين (حكيم خبير) فقد اختصتا بذكر الكتاب في مرتبتي التنزيل والتفصيل. وأن التفصيل ملازم للتنزيل تلازما ذاتيا لاينفك عنه بحال. لأن القران في مرتبة الإحكام له نحو وجود لا يتسانخ مع عالم التفصيل, فكان لا بد لنزوله من إلباسه لباس التقطيع والتفصيل كي يمكن تعقله وتدبره. وهنا نجد اقتران صفة (خبير) بالفعل (فصلت) وصفة (حكيم) بالفعل (أحكمت) للدلالة على أن هذا الإحكام هو فعل صادر عن ذات فعلها موصوف بالحكمة, وقد فصّله عن خبرة وعلم بدقائق الأمور, لأنّ التفصيل هو نحو هندسة وتنظيم يقتضيان علما بجزئيات الموضوع على نحو يكون التفصيل بين هذه الأجزاء وترتيبها كاشفا عن إحاطة بما هو أبعد من مجرد كونه علما, بل علم بنحو لا يعزب عنه شيء مهما دقّ ولطف.
  • الميزان. ج8. ص197
  • أن التفصيل في نزول الكتاب أعم من التدرج الذي هو صفة لآلية إنزال الكتاب. بل هو المخطط والرسم البياني لمنظومة الكتاب وبنائه الفني بما يحقق الغاية منه (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون)(1). إذن: فهذا الكتاب من دون تفصيل لا تتحقق الهداية والرحمة, كما أن هذا التفصيل منشؤه العلم الدال على حكمة التنزيل والتفصيل معا. وهذه النتيجة تؤدي بنا بالتالي إلى دحض ما قيل بخصوص جمع القران بعد النبي (ص) واله وسلم.
  • وألفت هنا إلى ما هو شائع من الروايات في فضل القران لدى الفريقين من قبيل (عدد الآيات, كالمائة آية, أو على نسبة معينة كثلث القران, أو جاء فيه كلمة <ختم> أو كلمة مصحف وما يشبه ذلك؛ فهو دليل واضح على وجود القران الكامل في زمان ذلك الحديث)(2).
  • إنّ المراد من الكتاب في هذه الآيات هو الكتاب في مرتبة التنزيل حيث جاء القسم بلفظ القران ثلاث مرات وبلفظ الكتاب مرتين. وعطف الكتاب على القران والقران على الكتاب يتحصل لدينا أن الذي يقسم به الباري عز وجل هو هذا الكتاب النازل على نحو التجلي. لأن القسم بما هو غير ممكن تناوله ومعرفته بالنسبة للناس ومجهول طبيعته في مرتبة إحكامه يجعل الغرض المطلوب من القسم غير مؤثر في المتلقي. فلابد والحالة هذه أن يكون المقسم به معروفا وذا شأن واعتبار لدى الطرف الآخر بما يجعله مصدقا لما يقوله ومؤثرا فيهو وإلاّ كان سالبا بانتفاء الموضوع. اللهم إلاّ أن يقال أن الخطاب هنا خاص بين الله ونبيه الذي قد اطلع على حقيقة هذا الكتاب لأنه من أظهر مصاديق قوله تعالى (وانه لقران كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلاّ المطهرون)(3). ولكن الخطاب مع كونه خاصا بالنبي باللحاظ الأول إلاّ أنه يعم غيره باللحاظ الثاني لكونهم معنيين بما في الكتاب من البيانات من أوامر ونواهي وغيرها.
  • إنّ دوران القسم وتكراره بين الكتاب تارة والقران أخرى جاء لبيان العلاقة بين مراتب نزوله من جهة وبين كونه مبينا ومذكرا وأنه مجيد ذو سعة في فيضه وكثرة جوده وما يتضمنه من المكارم الدنيوية والأخروية. وهو بما له من هذه المزايا حقيق أن يقسم به لرفعة شأنه وجليل قدره أولا, ولألفات الناس إلى مزيد الاعتناء به. ولأنه لو لم يكن على هذا القدر العظيم من الشأن لما كان موردا للقسم من قبله تعالى. ولم يتحقق التكرار في القسم لشيء من الأشياء بما ذكر الله في القران إلا بالقران نفسه. وما ذلك إلا للتأكيد كذلك على أهمية هذا الكتاب في كونه حبله الممدود بينه وبين الناس أنزله على نبيه هاديا ونذيرا.
  • ولظاهرة الثنائية في الأسماء الحسنى دور مهم في فهم الآيات, فهذا الاقتران والتلازم الذي نجده تقريبا في معظم الآيات التي تختم بأسمائه تعالى ترتبط بمضمون الآية من جهة وبالعلاقة التفسيرية لكل من الاسمين. كالسميع البصير, العزيز الحكيم, الغني الحميد… الخ. ففي الآية (1) من سورة إبراهيم نجد أن اسم العزيز قد اقترن باسم الحميد. وهذا الاقتران وارد لبيان أن الله مع كونه غالبا غير مغلوب, قاهر لما سواه ولكنه محمود في فعله.
  • الأعراف/52
  • كلمة دفاع عن القران الكريم
  • الواقعة/78

 

 

 

وأن ّعزته ليست من سنخ الجبروت الذي يتعزز به الطغاة والجبارون. إذ ليس في ساحة قدسه ما يشوب فعله بما يخل بربوبيته وألوهيته, فجاء هذا الاقتران ليزيل أي تصور مغلوط عن مدلول العزة التي هي مظهر قدرته المطلقة. فهي سنخ عزة محمودة مقرونة بالغنى عنى الغير. وأن ّهذا الإنزال للكتاب لا يحول دون إنزاله حائل من قوة أو سبب من أي كان, فإرادته تعالى لا يقهرها شيء.

أما عزة غيره فهي غير مستقلة ولا محمودة وهي مقهورة بمن هو أعلى وهكذا, ما لم تكن مستمدة منه تعالى كما دلت الآيات على ذلك بأن من يريد

العزة بمعناه الحقيقي فليلتمسها عند الله (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا)(1). فمنشأ كل عزة ومظهرها تبدأ منه وتنتهي إليه. والأمر ذاته في الأسماء (العليم, الحكيم) والتي اقترنت باسم العزيز لتشكل الآيات الخمس بمجموعها بضميمة الآية في سورة هود التي ورد فيها اسم الحكيم صورة متكاملة لعلاقة الكتاب في مرتبة الإحكام بمرتبة التنزيل, وأن هذه الثنائية المتكررة في اقتران كل من اسم العليم والحكيم تنم عن أن العزيز في ذاته إنما يجري إرادته في الأشياء بعلم وحكمة وغنى عن غيره. وعلى هذا القياس يمكن فهم ظاهرة الثنائية في ورود الأسماء الحسنى في ذيل الآيات.

(فالملاحظ في الصيغة التي تتألف منها آيات القران أنها تختم في الأعم الأغلب باسم أو أسمين, في دالة تفيد أنّ مضمون تلك الآية إنما يتحقق من خلال ذلك الاسم أو ذينك الاسمين, بتعبير منطقي: تعد الأسماء الإلهية التي تنطوي عليها الآيات القرآنية حدا وسطا لإثبات مضمون الآيات)(2).

 

رابعا: دلالة القسم بالكتاب: 

تكرر القسم في الآيات التي تصدرت السور موضوعة البحث في خمس آيات. حيت تكرر القسم بالكتاب بكونه موصوفا في (2) آية, وبالقران في (3) آيات. إذ اقترن لفظ القران بكونه موصوفا بأنه ذو ذكر وأنه مجيد. ومما لا شك فيه أن القسم بالشيء إنما يؤتى به لشرافة المقسم به من حيث اشتماله على مرتبة  في نفسه استحق به أن يكون موضوعا للقسم بنحو يكون دليلا على صدق المدعى واثبات المقسم له فضلا عن تقرير البرهان والحجة في نفس المتلقي كي يلقى منه الرضا والقبول بأنّ دعوى المدعي هي حق لا مراء

فيه. ولفظة القسم (تعادل الحلف واليمين في لغة العرب, ولها معادل في عامة اللغات وإنما يؤتى به لأجل تأكيد الخبر والمضمون)(3). (وأما أدواته فأربع؛ الواو, الباء, التاء, اللام. وأما أركانه فهي أربعة؛ الحالف وما يحلف به وعليه والغاية من الحلف)(4).

  • فاطر/10
  • الاسم الأعظم. حقيقته ومظاهره. ص18
  • الإقسام في القران الكريم. ص9
  • م. ن. ص25

 

 

 

كما أن الحلف أو القسم على ضربين: (ما طلق عليه الحلف المفرد من غير ضم حلف آخر , سواء تكرر في سور أخرى أو لا, مثلا: الحلف بعمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحياته مرة واحدة ولم يقرن به حلفا آخر, بخلاف لفظ الرب فقد لف به مفردا ولكنه تكرر في بعض السور. وأما النوع الآخر فهو الحلف المتعدد, والمراد منه ما إذا حلف سبحانه بأمور مختلفة جمعها في آية واحدة أو آيتين, وجعل للجميع جوابا واحدا, كالحلف بالشمس والقمر إلى أن يصل إلى النفس الإنسانية)(1).

نذكر منها على سبيل المثال  قوله تعالى: (وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولّوا مدبرين)(2). (ص والقران ذي الذكر)(3). (وأقسموا بالله جهد أيمانهم… )(4). (فبعزتك لأغوينهم أجمعين)(5)

وللقسم في القران شواهد كثيرة أقسم بها الله سبحانه وتعالى. وأما القسم بالكتاب تارة وبالقران تارة أخرى فبلحاظ  كون الموصوف به له بعدان؛ بعد يتمثل في أنه كتاب مبين لا ترى فيه عوجا ولا أمتا. وبعد تنزيلي يتمثل في أنه بقراءته وتلاوته والاستماع له والإنصات إليه والتدبر في مضامينه العالية تتجلى بوضوح المقاصد والغايات وسبل الهداية التي يرسمها في آياته كمنهج يستقيم السالك على هداه, وهذا معنى أنه (ذو ذكر).

وأنه يشكل منبعا ثرا وزادا لهدايته فيزداد رسوخا في إيمانه و يكون مثراة له في علمه, لسعة فيضه وكرمه وجوده وهذا معنى أنه (مجيد). وهو بمرتبة من الحكمة ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليها الطير, لا يعتريه ثلم ولا فساد, ما تملّى من آياته أحد إلاّ وازداد فيه رغبة واستفاد منه حكمة وانتفع به موعظة.

 

خامسا: شذرات من أقوال الأئمة المعصومين (ع):

من المهم أن نستوفي جانبا مما ورد على لسان الأئمة الأطهار (ع) في ما يخص القران الكريم, كونهم عدل الكتاب ولسانه الناطق, فهم ترجمانه والمبلغون عنه بصدق البيان بلطيف العبارة ودقيق الإشارة, والدالون على ما في بحره من كنوز المعارف والعلوم. وكما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: (لا يقاس بآل البيت أحد من هذه الأمة, ولا يسوّى من جرت نعمتهم عليه أبدا, هم أساس الدين, وعماد اليقين, إليهم يفيء الغالي, وبهم يلحق التالي, ولهم خصائص حق الولاية, وفيهم الوصية والوراثة)(6).

وجدير بالذكر قبل أن نورد ما جاء على لسان الأئمة الأطهار من روايات في منزلة القران, أن الله تعالى قد سمى القرآن بأربعة أسماء نوردها بإيجاز.

  • الإقسام في القران الكريم. ص82
  • الأنبياء/57
  • ص/1
  • النحل/38
  • ص/82
  • الحائري. شرح النهج. ج1. ص95

 

وقد ذكرها الشيخ الطوسي في المجلد الأول من تفسيره.(1)

  • سماه قرانا في سورة الزخرف. الآية (3).
  • سماه فرقانا في سورة الفرقان. الآية (1)
  • سماه الكتاب في سورة الكهف. الآية (4)
  • سماه الذكر في سورة الحجر. الآية (9)

وأما وجه تسميته بالقران فعلى قولين أنه من مصدر قرأت قرآنا كما عن ابن عباس, أو أنه مصدر قرأت الشيء إذا جمعت بعضه إلى بعض.

والوجه في تسميته بالفرقان, لأنه يفرق بين الحق والباطل. والفرقان هو الفرق بين الشيئين, وإنما يقع الفرق بين الحق والباطل بأدلته الدالة على صحة الحق وبطلان الباطل.

وقد اعتنى الأئمة الأطهار ببيان ما للقران من مزايا وفضائل, فهم أدرى بما فيه وأعلم بما في مطاوي ألفاظه من جليل المعارف ودقائق الأمور. وقد وجهوا طوال حياتهم التي كرسوها لخدمة الدين إلى كيفية الإفادة منه, والطرق التي تؤدي إلى فهمه, والكشف عن غوامضه وما اشتبه على الآخرين معرفته. وقد قرروا لذلك منهجا لدراسته وقواعد لاستنباط الأحكام منه.  فمن جملة ما حددوا في هذا الباب هو أن تعرض أحاديثهم على كتاب الله, فما وافقه فهو منهم وما خالفه فهو زخرف يضرب به عرض الجدار. من هنا وجدت من المفيد إيراد الماعة من أحاديثهم وطرفا مما روي عنهم في عظمة القران وفضله.

  • قال النبي (ص) واله وسلم: (القران مأدبة الله, فتعلموا مأدبته ما استطعتم, إنّ هذا القران هو حبل الله, وهو النور المبين, والشفاء النافع, فأقرأوه فانّ الله يأجركم على تلاوته بكل

حرف عشر حسنات, أما إني لا أقول: الم حرف واحد ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة)(2).

  • قال الإمام علي (ع): (القران ظاهره أنيق , وباطنه عميق)(3).
  • عن الإمام الصادق(ع): (فيه خبركم وخبر من قبلكم, وخبر من بعدكم, وخبر السماء والأرض, ولو أتاكم من يخبركم عن ذلك لتعجبتم)(4).
  • عن الحسن (ع): (من قرأ القران كانت له دعوة مجابة, إما معجّلة وإما مؤجلة)(5).
  • عن الصادق (ع): (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القران أو أن يكون في تعلمه)(6).

ومما لا شك فيه أن هذه الروايات تنبئ عن حقائق ما ورائية لا يمكن نيلها إلاّ لمن قرنهم الله في كتابه وجعلهم أمناء على وحيه. وهي لها آثار مهمة في حياة الفرد وضبط سلوكه ووضعه على خط الشروع في مسيرة التكامل الروحي, وأن يدرك أنّ هناك هدفا جديرا بأن يحيا له خلق من أجله,

  • الطوسي. التبيان. ج1. ص17-19
  • جامع الأخبار. ص114
  • م. ن. ص117
  • حول القران. ص36
  • في رحاب القران.ص3
  • م. ن. ص3

 

 

 

 

وهو أعمار هذه الأرض التي يعيش عليها ليكون كما أراده الله خليفته في أرضه, وبالتالي تكون تجربته التي يمر بها هنا ميراثه الذي يجزى عليه وبرهانا على ما سعى له من خير أو شر. ففي ما تقدم من الروايات نجد أمثلة على دور القران في

حياة المسلم, سواء ما كان موردا لاستجابة الدعاء وسببا للشفاء من العلل النفسية والجسدية, وأنّ تعهده بالقراءة والعمل به يزيد في بصيرة الإنسان لأنه نور مبين يهتدى به وهو بمنزلة المأدبة التي فيها ألوان وأصناف الأطعمة والأشربة يجد فيها ما لذ وطاب. فهو لا ينصرف عنها إلاّ وقد انتفع منها بقليل أو كثير, والقليل منه كثير في جنب الدنيوي من المآدب فكيف بالكثير منه. وهكذا مما لا يحصى أثره في بناء شخصية الفرد المسلم والمجتمع سواء بسواء.

 

سادسا: الآثار الوضعية لخصائص الكتاب ودوره في الهداية (البعد الوظيفي):

 

قد تقدم الكلام في بيان خصائص الكتاب التي وردت في سياق الآيات موضوعة البحث, وسنبين أهمية ودور هذه الخصائص وفاعلية آثارها في حياة الفرد والجماعة, وبناء كيان مجتمع قادر على تجاوز أزماته النفسية والاجتماعية التي يواجهها في معترك الحياة بعزم وثبات, كما واجهها الأولون حين أصبحوا أمة تعلم البشرية معنى الإنسانية والكرامة بفضل الكتاب الذي أخرجها من دياجير الجهل وطوامير الضلال, بما أنزله على قلب النبي محمد (ص) واله وسلم, وهو يتلو عليهم: (إنّ هذا القران يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا)(1).

والذي يفيده السياق في هذه الآية من معنى الهداية هو تلخيص بنحو النتيجة المترتبة للآثار التي تنشأ عن تلقي هذه المعاني التي تفيدها هذه الخصائص وذلك بالترسم على سمتها واقتفاء مداليلها بالقول والعمل, لكي تكون للهداية المرجوة أثرها الفاعل في سلوك الفرد والجماعة. والهداية لغة: هي دلالة بلطف. ثمرتها الإيصال إلى المطلوب.

والهداية بحسب العلاقة بين طرفي المعادلة تتمثل في أربعة أوجه كما يذكرها الراغب في معجمه نوردها مع تحفظنا على هذا التقسيم؛ فهناك الهداية التي يفيضها الله على مخلوقاته كل بحسب احتماله واستعداده : (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)(2). فهذه الهداية الفطرية هي

سنخ هداية تناسب كل مخلوق والطبيعة التي هو عليها من جماد وحيوان وإنسان. وهنالك الهداية التي جعلها الله للناس بدعائهم إياه, وجعل الدعاء ذاته هداية على ألسنة الأنبياء, وإنزال القران ونحو ذلك.(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات….. الآية)(3).

  • الاسراء/9
  • طـه/50
  • الأنبياء/73

 ومن أقسام الهداية أيضا هو التوفيق الذي يختص به من اهتدى بسبب أعمالهم الصالحة التي منشؤها إيمانهم والتي ترسخ فيهم ملكة الإيمان بدوام العمل الصالح فيكون سببا إلى هدايتهم إلى استحقاق المثوبة وجزيل النعمة في الآخرة.

(إنّ الذين امنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم)(1). وإما الهداية الأخيرة فهي الهداية في الآخرة إلى الجنة المعني بقوله تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم)(2). وأما تحفظنا على هذا التقسيم الذي ذكره الراغب في مفرداته التي نقلناها بتصرف وإيجاز فهو أنّ الآية التي استدل بها على القسم الثاني إنما تتحدث عن جعل من الله يختص بمن اصطفاهم أئمة يهدون بأمره لا بهداية غيره. وإنما غيرهم يهتدون بهم كما هو مفاد كل من الآيتين من سورة الأنعام (الذين امنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)(3) (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)(5). وهذه هي مشكلة المنهج التجزيئي الذي لا ينظر إلى الصورة في إطارها الشامل. ولا خلاف في أنّ الهداية الفطرية (التكوينية) التي ذكرها في أول كلامه هي مرتكز مهم في بلورة الاستعداد لقبول الهداية التشريعية في تفاصيلها التي جاء بها الوحي لكون الدين هو (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)(7). وأما في بعدها التشريعي فهي تمر بمرحلتين: إراءة الطريق والوصول إلى الطريق. فالأول هو وظيفة النبي من خلال تبليغه وإرشاده الناس إلى ما يتوجب عليهم فعله, وأما الثاني فمنوط بدور المعصوم(ع) باعتباره عدل الكتاب لا ينفك عنه. لذلك فانّ دوره هو السير بهم في مضمار الهداية إلى شوطه الأخير دون زيغ وانحراف. فكم من الذين صاحبوا النبي (ص) واله وسلم وعايشوه وسمعوا منه ورأوه رأي العين, ولكنهم في نهاية المطاف تاهت بهم السبل وتنكبوا عن الطريق فعاد إيمانهم وبالا عليهم ولم تتحقق لهم الهداية التي شرطها الله في كتابه وعلى لسان رسوله بلزوم سمت أهل بيته منعا من الضلال.

 

 أما الاجتزاء بالعمل وفق قول القائل: (حسبنا كتاب الله). فذلك الذي جعل الأمة أوازعا, وأباح لها أن تشرق وتغرب في العمل بكتاب الله كما شاء لها أن تعمل. فقد أراهم النبي الطريق لكنهم لم يصلوا إلى الهدف وان كانوا بحسب ما كانوا يظنون أنهم قد وصلوا. ولعمري لو كان الأمر كما كانوا يعتقدون فما الذي أوجب على نبيه (ص) واله وسلم أن يأمرهم بوجوب التمسك بكتاب الله شرط اقترانه بالثقل الأصغر منعا من الضلال ما لم يكن الغرض منه الإيصال إلى الطريق؟..

 

 

 

 

  • يونس/9
  • محمد/5
  • الأنعام/82
  • الأنعام/90
  • الروم/30

 

وعودا على بدء, نقول؛ أما المراد من اسم الموصول (التي) فإنّه فيه أقوال ذكرها الطبرسي في تفسيره مجمع البيان وهي(1):

  • أن المراد من (التي) الديانة والملة والطريقة التي هي أشد استقامة.
  • وقيل معناه يرشده إلى الكلمة التي هي أعدل الكلمات وأصوبها وهي كلمة التوحيد.
  • وقيل نقلا عن (الزجاج) يهدي إلى الحال التي هي أعدل الحالات وهي التوحيد والإيمان به وبرسله والعمل بطاعته.

أما كون القران يهدي الناس للتي هي أقوم فذلك (لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه دنياهم وآخرتهم قيما على إصلاح حالهم في معاشهم, ومعادهم, وليس إلا لكونه موافقا لما تقتضيه الفطرة الإنسانية والخلقة التي سواها الله سبحانه عليها وجهزه بحسبها بما يهديه إلى غايته التي اربدت له وسعادته التي هيئت لأجله)(2). وبالنسبة لآلية تحقق الهداية فهي منوطة بالإنسان الذي يحمل جهازا قيميا يستطيع من خلاله توجيه أدوات الاستشعار إلى ما يعرض عليه ليرى مدى موافقتها لروح الفطرة السليمة التي أودعها الله فيه عبر لغة التحاور والبحث عن الأجوبة بطريقة تفاعلية متبادلة. (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)(3). ومن خصائص هدايته إلى ما هو أقوم كونه يشتمل بين دفتيه من المعارف الإلهية على آخر ما تتحمله البيئة الإنسانية, فهو بالقياس إلى ما سبقه من الشرائع مهيمن عليها. أما بالقياس إلى الأديان الوضعية الأخرى فالأمر أوضح, فهذه التشريعات الوضعية إن كانت نافعة من جهة فهي ضارة من جهة أخرى لانتفاء صفة الكمال فيها, كونها تمثل جهدا بشريا وتجارب لا تخلو من الخلل والنقص. أما الإسلام بحسب ما تنطق الآيات فهو يقوم على حياة الناس بجميع ما يهمهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة من غير أن يفوته نقص أو يتدارك عليه شيء. فالآيات القرآنية كما تطرح مضامينها عبر منظومة من المبادئ والكليات المعرفية فإنها كذلك تعرض التفاصيل عندما يكون ذلك ضروريا بنحو لا مجال للعقل البشري أن يجتهد فيه, وتقدم الإجابة في هذه الجزئية أو تلك مما يدخل في دائرة الحلال والحرام أو المعاملة وآداب السلوك ونحو ذلك. ونجد أنّ هذه المضامين ترتبط دائما إما بالوعد والوعيد وبالتذكير والتحذير أو بالحث وغير ذلك من أجل بناء الإنسان من الداخل عبر تشكيل رؤية سليمة لديه تجاه الواقع الذي ينتمي إليه, وتعزيز مقوماته الروحية بحيث تتنامى عنده درجات الوعي والبصيرة النافذة فلا تلتبس عليه الأمور فيقع في الشبهات وهو لا يدري.

والقران الكريم باعتباره كتاب هداية لكل البشر, نجده يعالج مسألة التلقي للمفاهيم القرآنية من قبل المكلف سواء كان مسلما أو غير مسلم وفق مستويات متعددة تتناسب والقدرات العقلية والنفسية للمتلقي مها تباينت اتجاهاته العقدية, لأنّ لغة القران لا تعقيد أو غموض فيها كما هي عبارات الفلاسفة والمتكلمين أو الوعاظ الذين يسرفون في استخدام لغة إنشائية تجعل المتلقي يدور في فضاء ألفاظ لا يدري كيف الخروج من دوامتها, ناهيك عن الاستطراد والإطناب استظهارا للمقدرة اللغوية وإيحاء للمتلقي أنه قطب الرحى وعليه مدار العلوم..

 

  • الطبرسي. مجمع البيان. ج6. ص201
  • الميزان. ج13. ص27
  • القيامة/14-15

 

 بل على العكس من ذلك نجد القران الكريم في مواقف الوعظ والإرشاد يعرض لك الغاية والهدف بكلمات موجزة قصيرة تنفذ إلى القلب بيسر وسهولة لا تمل من قراءتها مهما طال بك الزمن. والقرآن الكريم تارة يقدم المثل للإيحاء بأهمية الموضوع من جهة التزام المتلقي وتحمله للمسؤولية من عدمه.

 وتارة يقرن الأحكام الشرعية بالترغيب حينا وبالترهيب أخرى حيثما يكون ذلك ضروريا. وأخرى يبسط لك حقائق من أخبار الماضين وما جرى لهم أو عليهم تنبيها الى أن ذلك جار في كل أمة تسرف في إخلالها بموازين التعايش الإنساني والسير على جادة الاستقامة, وإلا ستكون مستهدفة بما تستحقه من العقاب فردا كان أو جماعة. وهو يقرن ذلك بأسلوب التوكيد أو القسم أو التكرار أو الترجي حينا, وحينا يتبنى عرض الأمثال تنبيها على المقاصد وغير ذلك من أساليب البيان. والقرآن الكريم حافل بشواهد لا تحصى كأمثلة على ما ذكرنا. ولذلك فإن أسلوب القران في مجمله يمتاز بخاصة الوضوح واليسر والإيجاز في أداء وظيفته التبليغية والإرشادية من حيث الآثار الوضعية التي تترتب على موقف الفرد والجماعة تجاه هذه الخطابات القرآنية ومدى الاحتكام إليها والعمل على وفقها تجسيدا لمقام العبودية في بعدها الشرعي وليس في بعدها التكويني فقط. وهذا ليس مقام التفصيل في بيان هذه المستويات وعرضها. ولكننا سنذكر بعضا من  هذه الشواهد, وهي قوله تعالى:

  • (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون)(1). لاحظ أسلوب الترجي لبيان أهمية تحقيق النصر من خلال لزوم الثبات المقترن بذكر الله لما له من أثر معنوي في شحذ الهمم. فالآية هنا توجه الفرد المؤمن إلى ما له أثر موضوعي في الواقع الميداني تجاه العدو.
  • (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون)(2).

 تأمل ذيل الآية في بيانها لمقام من جاهدوا بأموالهم وأنفسهم من المؤمنين. وهو مقام الفلاح ونيل الخيرات سواء من الذكر الحميد في الدنيا أو نعيم الآخرة. فالآية تحمل في طيّاتها من دلالة الحث والترغيب ما لا يخفى.

  • (ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم)(3).

وفي ألآية قسم مضمر محذوف تقديره: (والله لتسئلنّ). وهذا اللون من السياق تنبيه يحمل في طياته تحذيرا والتفاتا الى أنّ على الإنسان أن يعالج سلوكه بعقلانيةو وأن يعيد حساباته بين الحين والآخر, كلما غشيته أمواج الغفلة, وغرق في لجة الدنيا وبحرها الطامي..

  • (ذلك ومن يعظّم شعائر الله فإنّها من تقوى القلوب)(4).

 

  • الانفال45
  • التوبة/88
  • التكاثر/8
  • الحج/32

 

 

 وهنا نجد أنّ سياق الآية التي جاءت خبرا لبيان الملازمة بين التقوى وتعظيم الشعائر, وأن الآثار الخارجية للتقوى تتمظهر في السلوك الخارجي للفرد على نحو العلة والمعلول. فحيثما وجدت التقوى وجدت أثارها الموضوعية.

  • (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إنّ بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا…… )(2).

 في الآية خطاب ورد بصيغة الإنشاء بنحوين؛ فالشطر الأول من الآية جاء النهي بصيغة فعل الأمر, أما الشطر الثاني فقد ورد النهي بدخول أداة النهي على الفعل المضارع (تجسسوا/ يغتب). ولسنا في مورد التحليل لسياق الآية من الناحية البلاغية, بل الإشارة الخاطفة إلى تنوع أسلوب القران وثرائه في بيان دوره الوظيفي في تربية الفرد والجماعة بعيدا عن التعقيد اللفظي والدوران في حلقة مفرغة من التعابير الإنشائية التي هي قوالب لفظية خالية من روح الوجدان وحرارة الأداء الذي يمس شغاف القلوب وينفذ إلى أعماقها في يسر وسهولة. وغير ذلك مما يمكن تلمّسه من شواهد قرآنية لا تحصى..

  • (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبيننّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون)(3).

حيث تؤكد الآية من خلال المثل عبثية التصرف وانتفاء الحكمة والغرض من هذا العمل. فالمرأة التي كانت تفعل ذلك شكلت صورة استعارية لما يترتب عليه نقض اليمين من مفاسد يراد منها التجاوز على حقوق الغير, وهو ما يؤدي إلى تفكك عرى التواشج بين أفراد المجتمع وانتقاض العلاقات الإنسانية وبالتالي ستتلاشى كل مقومات المجتمع وتطغى الأنانية والمصالح الضيقة, وتتفاخر كل جهة على أخرى بأنها أولى وأفضل من غيرها.. والمرأة هي ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة وكانت تسمى حمقاء قريش, اذ كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثم تأمرهن بنقض ما غزلن وهكذا.. ومحصل المعنى (أنكم كمثلها إذ تتخذون أيمانكم دخلا بينكم فتؤكدونها وتعقدونها ثم تخونون وتخدعون بنقضها ونكثها والله ينهاكم عنه)(4).

  من هنا نجد أن اقتران الكتاب في مفتتح الآيات بصفة المبين وبالذكر وبأنه هدى للمتقين وغير ذلك مما أجملناه سابقا يشكل منطلقا للولوج إلى فضاءات النصوص ذات العلاقة بهذه الآيات باعتبار أنها تعد مفاتيح ومدخلا إلى تفسير أشمل وأكثر واقعية لفهم دور القران من خلال خصائصه التي توزعت بنحو قل أن تخلو سورة منها.

 

وبلحاظ ما تقدم فانّ كل آية من آياته بحسب معطياتها بالقياس إلى ما هو وضعي يحقق الغرض بالنحو الذي هو أقوم غاية وهدفا, فكيف إذا اخذ بمجموع ما فيه مما يسع شؤون الحياة ماديّها ومعنويها؟.

 

  • الحجرات/32
  • النحل/92
  • الميزان. ج12. ص173

 

 

ولا يفوتنا وقد انتهى بنا المطاف إلى خاتمة البحث أن نذكر أنّ إرادة السماء قد تدرّجت في تربية الإنسان بما يتناسب ويتماهى مع قدراته وإمكاناته وخبراته التي اكتسبها عبر التجارب التي دفع الكثير من حياته ثمنا لكي يفيء إلى ظل ظليل من عبق الرسالة بعد أن عركته المحن والخطوب فصارت روحه أرضا خصبة ومهيأة لخاتمة الرسالات التي مثلت غاية التكامل والتطور فيما أنزل من شرائع على بني البشر. لأنّ الإنسان منذ أن وجد على هذه الأرض لم تتكامل عنده أدوات الوعي دفعة واحدة, تماما كما نجد ذلك عند الطفل الذي

يؤخذ بيده شيئا فشيئا حتى يصلب عوده ويكون قادرا على أن يستقل بنفسه في قيامه وقعوده وغير ذلك, مع فارق أن إرادة السماء تظل ترافق الإنسان في مسيرته نحو التكامل وتعمل على توجيهه كلما دعته دواعي النفس إلى الميل عن جادة الصواب. وما ذلك إلا لأنّ النفس البشرية أبدا تواقة إلى النزوع إلى ما يرضيها قبل كل شيء. وهو بالنسبة لها أولوية لا تقبل المساومة. وهي إذا خلّيت وشأنها فإنها بكينونتها التي هي عليها تستجيب لدواعي الفساد, وهو ما لا يكاد يسلم منه فرد لو أرخى العنان لنفسه كي تسوقه حيث تشاء, من هنا تتبين القيمة العملية لإرادة السماء في دوام التوجيه والإرشاد للإنسان إلى أن يضبط إيقاع سلوكه بما يحفظ له قيمته الأخلاقية ككيان يميزه عن باقي الموجودات.

لذلك فإن تكاملها ليس كتكامل البدن, بل هي في حراك دائم بين إرادة الخير والشر ما لم يزعها كما قلنا وازع ينهاها عن السوء من جانب ويشد من عزيمتها وينحو بها صوب الخير من جانب آخر. (يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)(1). هذا

الكدح الدؤوب الذي يبدأ من أول صرخة يطلقها حين يفتح عينيه على الحياة بعد أن كان يرقد في ظلمات ثلاث أشهرا تسعة, ليواجه مصيره وقدره وهو يخط  سفر حياته بما يتصرم من سنين عمره مما يكسبه من خير أو شر. وهو إذ يفعل ذلك فانه يحث الخطى إلى اللقاء الأبدي ليختم دورته في الحياة الدنيا ويحصد ميراثه من عمله..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  • الإنشقاق/6

 

 

الخاتمة:

يمكن إجمال النتائج التي توخينا الوصول إليها في النقاط التالية:

  • إنّ هناك صلة وشيجة بنحو خاص بين الأسماء الحسنى في مفتتح الآيات موضوعة البحث وبين اقتران الكتاب بالنزول من جهة وخصائصه التي أوردناها في مطاوي البحث.
  • يمكن أن تمثل هذه الخصائص إجمالا مفاتيح للولوج إلى فضاءات النصوص ذات الصلة بخصائص القران في مجمل السور التي تشتمل آياتها على ذكر طرف منها. أي أن العلاقة بينها هي علاقة إجمال وتفصيل.
  • لظاهرة الثنائية في ورود الأسماء الحسنى في ذيل الآيات دور تفسيري لمضمون الآية ,ورفع الالتباس والغموض الذي قد يشوب فهم المراد من الاسم إذا ورد مفردا. لأن من الأسماء ما فيها جنبة جسمانية يصح صدورها عن غيره من مخلوقاته. فكان لهذا الاقتران أثره في نفي هذا الشوب وأنّ هذا الوصف ليس من سنخ ما هو جسماني, كما قد يتوهم كاسم العزيز الذي تكرر ست مرات مقترنا باسم الحميد والحكيم والعليم, واقتران الحكيم بالخبير, والحي بالقيوم. فصفة الغالبية القاهرة في اسم العزيز اقترنت باسم الحكيم والعليم لبيان أنّ هذه الغالبية ليست من سنخ ما يفعله الجبارون والطغاة والفراعنة. بل هي عزة مقرونة بالعلم والحكمة ولا تنفكان عنها.
  • كما نلمح ظاهرة التكرار لبعض الأسماء التي تقترن بالنزول وتفصيل الكتاب, واتصاف اسم الذات بها. فاسم الذات تكرر ست مرات, والعزيز تكرر ست مرات. والحكيم خمس مرات, وهذا يقود إلى نتيجة مهمة مفادها أن الذات التي لها الحياة الثابتة القيمة على تدبير الوجود والقيام بشؤونه – هي ذات متصفة بالعزة القاهرة التي لا يعجزها شيء ولا يغلب على أمرها غالب وحكيمة في فعلها وتدبيرها– عالمة خبيرة بما تفعل وغنية عن غيرها تستحق الحمد بما تسبغه من نعم وتفيضه من خير على العباد. فهي رب العالمين ورحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. فتكرار هذه الأسماء الثلاثة تؤشر كونها محورا لعملية إنزال الكتاب, وأنه وحي من الله لما تمثله من تعبير عن الإرادة الغالبة من جانب وحكمة الفعل أيضا. وكما هو معلوم فانّ التكرار من أساليب البيان التي تفيد التأكيد وتقرير المعنى في ذهن المتلقي. فاقتران اسم العزيز الذي هو من أسماء الذات, والحكيم الذي هو من الأسماء النفسية التي لها إضافة في معناها الخارج كأنها بمنزلة الإطار الجامع لبقية الصفات الواردة في ذيل الآيات التي جاءت في مفتتح السور المبدوءة بالمكونات الحرفية (المقطعة).
  • وبينا كذلك العلاقة بين الأسماء الحسنى من حيث الآثار التي تحاذي كل اسم سعة وضيقا. هذه العلاقة الهرمية التي تؤثر الأسماء من خلالها في بعضها البعض على نحو الحاكمية حتى تنتهي إلى اسم الذات الأكبر, والذي يتصف بها جميعا ولا يتصف أي منها به. فإليه منتهى كل أثر وخضوع كل أمر.

 

 

 

  • إنّ اختصاص أسماء بعينها في ذيل الآيات في مفتتح السور من بين باقي الأسماء الحسنى يدل على خصوصية آثارها التي تحاذيها في طبيعة هذا الكتاب ومبدأ نزوله, لما هو معلوم أن ورود الأسماء في ذيل الآيات تؤدي وظيفتها التفسيرية بما يتناسب ومضمون الآية. فكان لهذه الأسماء تحديدا وظيفتها التفسيرية بالنحو الذي تندرج تحته الآثار التي تحاذي الأسماء الأخرى التي اقترنت بذكر الكتاب أو القران في ما ورد فيها من آيات بهذا الخصوص.
  • هناك ترابط وثيق بين السور التي تصدرت بالحروف المقطعة (المكونات الحرفية) عموما من حيث المضامين. فهي بهذا اللحاظ مؤشرات توجه النظر إلى هذا الترابط.
  • أشرنا كذلك إلى أمثلة تطبيقية لعلاقة هذه المكونات الحرفية إلى آيات بخصوصها في كل من هذه السور تخضع لبعد رياضي كما في المثال الذي قدمناه تطبيقا على قول الإمام علي (ع) بأنه صاحب الطواسين.
  • إنّ الأنسب بهذه الحروف أن تسمى بالمكونات الحرفية بدلا من المقطعة, لأنها لم تكن مركبة في أصل وجودها كي تقطع, بل هي رموز وإشارات لكل منها نبر خاص بها يعرف بالنطق أو بالكتابة. ولكنها يؤلف بينها لقصد ما لتدل على معنى ما يراد. فهي مكونات ذات تركيب خاص بها في كل سورة لحكمة لم نزل نجهلها. وما قيل فيها من تفسيرات ليست سوى محاولات من مجتهديها من المفسرين والباحثين, واختيار بعضها على بعض في أحسن الأحوال ترجيح بلا مرجح.
  • وألمحنا كذلك إلى أنّ هذه المكونات الحرفية يمكن أن تكون- مع التحفظ- مفاتيح يستدل بها على بيان جملة من العلوم والمعارف القرآنية التي ليست موردا للتشريع بنحو تكون احد مصادر المعرفة لدى المعصوم, وارتباط هذه المعرفة بدوره النيابي كمرجعية مسددة بإرادة إلهية. ولعل ما ذكره الإمام علي (ع) من وصفه للقران بأن (فيه علم ما يأتي, والحديث عن الماضي, ودواء دائكم. ونظم ما بينكم)(1) إشارة إلى ذلك, وأنّ هذا العلم منوط بالأمور المستقبلية التي ترتبط بحياة المجتمع بصورة أو أخرى والله أعلم…

 

 

 

 

 

 

  • نهج البلاغة. خ158.ص223

المصادر

 

  • القران الكريم
  • جعفر السبحاني. الأقسام في القران الكريم. انترنت. 1420
  • الحائري القزويني. محمد كاظم. شرح النهج. arabblogs.co
  • الطبطبائي. تفسير الميزان. منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. ط1. بيروت. 1977
  • الطبرسي. مجمع البيان. المجمع العالمي لأهل البيت.
  • الطبرسي. الاحتجاج. تعليقات وملاحظات السيد محمد باقر الخرسان. اعداد مركز الأبحاث العراقية.
  • الطوسي. أبو جعفر محمد بن الحسن. التبيان في تفسير القران. تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي. موقع الجامعة الإسلامية.
  • الكليني. أصول الكافي. ج1. منشورات دار الفجر. بيروت. لبنان. 2007
  • كمال الحيدري. الاسم الأعظم حقيقته ومظاهره. مؤسسة الجواد (ع) للفكر والثقافة. com /ar/
  • محمد باقر الصدر. مقدمات في التفسير الموضوعي. دار التوجيه الإسلامي. بيروت. كويت.
  • محمد تقي المدرسي. في رحاب القران. ط1. دار محبي الحسين. 1421هـ
  • مجموعة من المؤلفين. المعجم الوسيط. مجمع اللغة العربية. ط3. القاهرة. 1998
  • محمد رضا الجلالي الحسيني. كلمة دفاع عن القران الكريم. ط. قم. ايران. 1419هـ
  • محمد علي التسخيري. حول القران. المجمع العالي للتقريب. طهران. ايران. 2011
  • المطهري. التعرف على القران. المكتبة الشاملة. الإصدار الثاني.
  • محمد الغروي. الاسم الأعظم (معارف البسملة والحمدلة). ط1. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات. بيروت. لبنان. 1982
  • السبزواري. محمد بن محمد. جامع الأخبار. تح. علاء آل جعفر.
  • الصدوق. التوحيد. تح. هاشم الحسيني الطهراني. طهران. 1387هـ
  • د. صبحي الصالح. نهج البلاغة. ط1. بيروت. 1967
  • الراغب الاصفهاني. معجم الفاظ القران.. دار الكاتب العربي. تح. نديم مرعشلي. مطبعة التقدم العربي. 1972
  • الشيخ فارس الحسون. نهج البلاغة. اعداد مركز الأبحاث العقائدية.

 

                                                                          الجمعة 9/1/2015

                                                                                17 ربيع الأول/1437

                                                                                     أربيل- العراق