صدر الدين الشيرازي وشبهة القول بالجسمية (الحلقة الثالثة)
صدر الدين الشيرازي وشبهة القول بالجسمية (الحلقة الثالثة)
الشيخ مازن المطوري
عودٌ على بدء
بعد أن اتضح لدينا في ضوء ما تقدم قاعدة بسيط الحقيقة, وأن كمال الموجودات موجود عند الحق تعالى بنحو الوجوب والضرورة, يتضح لنا مراد الصدر الشيرازي من تعبيره بالجسم الإلهي. فالرجل لا يريد القول بالجسمية للواجب تعالى, بل يُجَلُّ عن ذلك. كيف وقد تقدم منا نقل نصوصه وكلماته في نفي الجسمية عنه تعالى, وهل يشك في ذلك ذو مسكة وحصافة! وإنما يريد القول: إن كمال الجسم عنده تعالى, فهو المفيض للكمال, والمفيض للكمال واجد له بالضرورة حسبما تقدم من بيان.
إذن فمراد الملا صدرا من التعبير بالجسم الإلهي هو كمال الجسم وليس حد الجسم كما يوهمه التعبير.
إن المطلب الذي ذكره الصدر الشيرازي في شرح الأصول من الكافي مختصراً, هو نفس المطلب الذي فصّله في الأسفار في قاعدة بسيط الحقيقة كل الأشياء. ولكن عبارته رحمه الله لم تكن موفقة في ايصال مراده تماماً.
وهذا من مشاكل الفلاسفة إذ عندهم ضيق خناق في العبارات, و لكن من يتتبع أقوال صدر المتألهين في الموارد المختلفة من نفس شرح أصول الكافي, يتضح له أن مقصود الرجل ما تقدم منا بيانه آنفاً, بمعنى أن الكمال راجع إلى الله وليس الجسم, الرتبة الوجودية لهذا الجسم الذي هو معلول, راجعة إلى العلة التي أوجدت المعلول وكمالاته. فهي كمالات إلهية سمّاها صدر المتألهين جسم إلهي, فمراده كمال الجسم وليس حدّ الجسم.
دفع الايرادات
وإذا كان هذا واقع المسألة, فمن العجيب ألا يتفطن أمثال السيد الخوئي رحمه الله لهذا المطلب, ويؤاخذ الرجل بجريرة التعبير وينسبه إلى القول بالجسمية(1). فالشيرازي قد ذكر المطلب صراحة في الأسفار, ولكنه هناك منع من اطلاق تسمية الماهيات على الواجب تعالى, حيث قال: (وليعلم: أن هذه المهيات الممكنة [الجسمية والجوهرية والعرضية] ليس لشيء منها وجود مطلق, بل لكل منها وجود مقيد)(2). ومراده من المطلق والمقيد اصطلاح العرفاء، لا الاصطلاح المشهور بين الفلاسفة والمناطقة.
وأوضح الحيكم المتألّه الملا هادي السبزواري في حاشيته على الأسفار المسألة بشكل جَلي فقال: (وقصده من التوضيح: الإعتذار ممّا عسى أن يقال: إنه إذا كان الوجود البسيط جامعاً لكل وجود فلم لا يصدق عليه ماهيته؟ فليجز أن يقال: إنه إنسان أو فلك أو ملك أو غيرها, بأن الماهية هي المحدودة بالحد الجامع المانع, وهذان الجمع والمنع يشيران إلى اعتبار قيد فيها فقط لضيقها وضيق وجودها, فإذا اضيف إلى الوجود ماهيته وجود آخر لم يصدق تلك الماهية عليه)(3).
نعم عبارة شرح أصول الكافي فيها شيء من الخلل وليست كما في الأسفار, ولكن ذلك لا يمكن أن يُتّخَذ مسوغاً للقول أن الملا صدرا قائل بالجسمية, إن هذا إلا إفك مبين, بل غاية ما يمكن حينئذ قوله إن العبارة غير تامة.
فكأن الراحل السيد الخوئي رحمه الله نظر لتعبير الجسم الإلهي مجرداً عن سياق قاعدة بسيط الحقيقة, ومجرداً عن حمل الحقيقة والرقيقة, فظنّه حدَّ الجسم, الذي هو أبعاد ثلاثة وما فيه من ضعف وعجز ولوازم باطلة. والحال أن صدر المتألهين ليس في هذا الوارد, بل يصرّح بعدم إرادة ذلك حيث قال في تمام عبارته: (فليجز أن يكون في الوجود جسم إلهي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير المسمى بالأسماء الإلهية المنعوت بالنعوت الربانية, على أن الواجب تعالى لا يجوز أن يكون له في ذاته فقد شيء من الأشياء الوجودية, وليس في ذاته الأحدية جهة ينافي جهة وجوب الوجود, وليس فيه سلب إلا سلب الأعدام والنقائص)(4). فصدر الدين الشيرازي يصرّح بما تقدم بيانه, خصوصاً عند ملاحظة ذيل كلامه في سياق قاعدة بسيط الحقيقة, وحمل الحقيقة والرقيقة.
وهذا يعني أن الجسم الإلهي في حقيقته ليس قسماً من أقسام الجسم حتى تأتي اللوازم الباطلة كما تصورها السيد الخوئي رحمه الله, وإنما هو اصطلاح وتعبير من الملا صدرا لما استفاده من قاعدة بسيط الحقيقة وكون الكمال ثابتاً للمفيض تعالى بالضرورة والوجوب.
وأغرب ممّا ذكره السيد الخوئي ما جاء في كتابات بعض الذين طالعوا مؤلفات الملا صدرا ولم يدرسوها درس تعمّق. حيث جاء في إحدى المقالات: إن ما يستفاد من كلام الصدر الشيرازي في شرح الأصول من الكافي وحدةُ وجودٍ جسمية يدخل ضمنها مبدأ الوجود الأول, ومن ثم يكون الشيرازي منفرداً دون سواه من الفلاسفة المسلمين في اضفاء الطابع الجسمي صراحة على الوجود كله بما فيه المبدأ الأول.
ثم حاول صاحب المقال الاقتراب بهذه الفكرة من فلسفة الرواقيين القائلين أن العالم جسم واحد, وأن الجوهر الإلهي روحٌ عقلي ليس له صورة ثابتة, حيث يمكنه التشكّل بأي شكل يريد, ثم تقدم صاحب المقال خطوة للادعاء بأن قانون السنخية الذي يقول به الفلاسفة يتضمن في حد ذاته الإقرار بوحدة الوجود الجسمية, من دون حاجة في أن نستند في هذه الفكرة الى مصدر خاص من مصادر تأريخ الفكر الفلسفي(5).
وأمام هذه الدعاوى لنا مجموعة ملاحظات:
أولاً: إن صدر المتألهين قد صرّح في أول كلامه في شرح حديث الإمام الصادق عليه السلام, أن الله تعالى لا يمكن أن يكون جسماً ولا شيئاً آخر من مخلوقاته. وحينئذ لا معنى لافتراض وحدة وجود جسمية ولا غيرها.
ثانياً: قد تقدم منا ذكر نص للملا صدرا من الأسفار يصرّح فيه أن الجسم ماهية موجودة مقيدة وليست موجوداً مطلقاً, ومن ثم فبسيط الحقيقة المبدأ الأول لا يمكن أن يكون جسماً: (وليعلم أن هذه المسميات الممكنة ليس لشيء منها وجود مطلق, بل لكل منها وجود مقيد). وتقدم منا كذلك ذكر توضيح أحد الأعلام المحشين على الأسفار لهذه العبارة وبيان المقصود.
ثالثاً: بشأن ايجاد أصل لدعوى وحدة الوجود الجسمية في الفلسفة الرواقية, فإن هذا غريب جداً. ذلك أن فكرة الفلسفة الرواقية القائلة بأن العالم جسم واحد, مبنية على رؤيتهم الكونية وفلسفتهم الوجودية, وهي نظرة قائلة بأنه لا يوجد غير الجسم, إذ كل ما في العالم وفق هذه الفلسفة أجسام ذات كثافة مختلفة, ومن ثم ناسب ذلك القول بأن العالم جسم واحد, لأن كون العالم جسماً واحداً إنما يتناسب مع النظرة المادية للعالم. قال الباحث الثبت يوسف كرم:
(إن الرواقيين ماديون, فقد كانوا كالأبيقوريين يعتقدون أن كل موجود فهو جسمي, حتى العقل وفعله. وإن تحدثوا عن (لا جسميات) أو (معقولات) أرادوا بها أفعال الأجسام ومنها أفكار العقل.. لكنهم خالفوا الأبيقوريين في تصوير المادة, فلم يقفوا عند أجزاء لا تتجزأ هي الجواهر الفردة, بل ذهبوا الى أن المادة متجزئة بالفعل الى غير نهاية..)(6).
وأما الفلسفة الإسلامية ومنها فلسفة الملا صدرا فهي تقف على النقيض من ذلك, وترفض النظرة المادية, بل تعتقد بوجود عالم الغيب والمجردات التامة, وتعتقد بالخالق المدبر الذي ليس كمثله شيء, وهو تام التجرد ذاتاً وفعلاً بنحو غير متصور, ولا يتصور فيه أي شائبة نقص أو تغيّر. وحينئذ لا معنى لفكرة وحدة الوجود الجسمية في هذه الفلسفة.
رابعاً: أما دعوى كون فكرة السنخية متضمنة للقول بوحدة الوجود الجسمية, فهي أغرب مما تقدم! إذ غاية ما يراد قوله بهذه الفكرة أن هناك مناسبة بين السبب الخاص والمسبّب, أوجبت تلك المناسبة والخصوصية صدور ذلك المسبب عن هذا السبب خاصة دون غيره, ولم يلتزم أحد من القائلين بالسنخية بما تصوره صاحب المقال, من وجود مسانخة جسمية بين المبدأ الأول ومخلوقاته, بل ولم يتصوروه. وقد كان الأجدر بالكاتب المحترم أن يراجع كلمات الفلاسفة المسلمين وخصوصاً مدرسة الحكمة المتعالية لمعرفة كيفية صدور العالم عن الحق تعالى.
إن هذا الكلام يدل فيما يدل على عدم توفر صاحبه على فهم أبسط المسائل في الفلسفة الإسلامية, وأن مجرد المعرفة ببعض قواعد العلوم واللغة العربية لا تكفي لاتخاذ مطالعة كتب الفلسفة مسوغاً في فهم أفكارها الدقيقة ونقدها. إذ ما لم تكن هناك دراسة وحضوراً عند أستاذ متمرّس لا يمكن للإنسان أن يعتمد فهمه الخاص لنسبة فكرة معينة أو استيضاح مسألة في هذه الفلسفة المكتوبة بلغة طلاسمية مرموزة, وخصوصاً فلسفة صدر المتألهين التي جعلت محققاً معروفاً في الحوزات العلمية وهو الحكيم المتأله والأصولي الكبير الشيخ محمد حسين الاصفهاني الكمپاني يقول بشأنها: (لو أعلم أحداً يفهم أسرار كتاب الأسفار لشددت الرحال إليه للتلمذة عليه, وإن كان في أقصى الديار), كما نقل عنه تلميذه الشيخ المظفر, ويعقّب عليه قائلاً: وكأن أستاذنا قدس الله نفسه الزكية يريد أن يفتخر أنه وحده بلغ درجة فهم أسراره, أو أنه بلغ درجة من المعرفة أدرك فيها عجزه عن اكتناه مقاصده العالية(7).
فإذا كان شأن أساتذة الفلسفة مثل هذا الكلام, فكيف بمن لم يدرس الفلسفة عند أهلها, واكتفى بالمطالعة!
ونحن لا نقول هذا الكلام من منطلق احتكار المعرفة أو تعالياً, وإنما نتحدث عن واقع حال, ولأجل أن يكون كلامنا موضوعياً نذكر بعض الشواهد على ذلك:
1- قال محب الدين الخطيب الشخصية المعروفة في تقديمه لكتاب منطق المشرقيين تأليف الشيخ الرئيس: (إن مذهب ابن سينا في الفلسفة.. وتكاد تكون هذه الفلسفة لاهوتية, مثال ذلك أنه يقول في تأييد رأيه بضرورة كون العالم حادثاً: أن الموجودات كلها – ما سِوى الله- ممكنة الوجود بالطبع, وتكون واجبة الوجود بفعل المبدع الأوّل. وبتعبير آخر: إن ممكن الوجود قد يكون واجب الوجود)(8).
ويقصد الخطيب من كلمة لاهوتية أن فلسفة ابن سينا لا يصدّقها العقل, ودليلُه على ذلك أن ابن سينا يرى ضرورة حدوث العالم لأن ممكن الوجود قد يكون واجب الوجود, والعقل لا يصدق أن ممكن الوجود قد يكون واجب الوجود, بل يراه تناقضاً ولا يعرف صلة هذا الأمر بحدوث العالم. فهذا الرجل مع أنّه عربي مصري فاضل, ولكنه لم يتوفّق بالمطالعة وحدها لمعرفة مراد ابن سينا من عبارته الواضحة, وفي هذه المسألة التي هي من بديهيات الفلسفة الإسلاميّة ويعرفها حتّى المبتدئ من طلاب الفلسفة, فوقع في خبط.
2- الدكتور محمد اقبال اللاهوري الشخصية الفذة المفكر, لم يسلم كذلك من الوقوع في هذا الخطأ, أعني التعرف على الفلسفة الإسلامية اعتماداً على القراءة الشخصية. ففي كتابه المعروف (احياء الفكر الديني في الإسلام) وتحدياً في فصل (البرهان الفلسفي على ظهور التجربة الدينية), انتقد بعض البراهين الفلسفية على اثبات وجود الله تعالى, نظير البرهان المعروف ببرهان الوجود والإمكان والذي يعبّر عنه بـ(البرهان الكوني), وكذا برهان النظم والاتقان والذي يعبر عنه بـ(برهان العلة الغائية). ولكن من خلال التأمل في طرح اقبال لهذه المسألة – وكما يشهد المختصون- يتضح أن الرجل لا يمتلك تصوراً صحيحاً عن هذه الأبحاث, خصوصاً المفهوم الإسلامي لها, حيث لم يملك أي اطلاع عليه(9).
3- الدكتور محمد عابد الجابري المفكر المغاربي المعروف, صاحب الكتابات الشهيرة في نقد العقل العربي, حيث زعم في كتاب نحن والتراث أنه لابد من تصنيف ابن سينا على الفريق الباطني المعتقد بالكشف والشهود, ولا يصح جعله في طبقة المؤمنين بالاستدلال العقلي(10).
والحال أن المطلعين على تاريخ المدارس الفلسفية يعرفون أن ابن سينا مشائي المسلك, أي من المؤمنين أن طريق المعرفة الأساس هو العقل والبرهان العقلي المحض, وهو وإن قال بإمكان نيل المعارف من خلال الشهود كما في النمط التاسع من الإشارات والتنبيهات, إلا أنه مع ذلك بقي معتقداً أن السبيل الوحيد لإيصال هذه المعارف للآخرين هو البرهان العقلي. فخلط الدكتور الجابري الراحل بين المقامين.
ونختم الكلام في هذه الشواهد بنصّ للملا صدرا يخص فلسفته ومؤلفاته ذكره في المبدأ والمعاد, جاء فيه: (ثم ليعلم إخواني المؤمنين ورفاقي المجاهدين إني قد حرمت على نفسي مناولة هذا الكتاب إلا لمن جبّلت سريريته من غير تكلّف على الانصاف, وتجنب بحسب الفطرة من غير مشقة عن الجور والاعتساف, من خُلّصِ الإخوان وصفوة الأحباء والخلان, بشرط أن لا يبذل مقاصده للطبائع العنودة العسوفة, ولا يبوح بمطالبه للمدارك الوهمانية المؤوفة, ويقدّسها عن الجلود الميتة التي كفرت بأنعم الله, ولا يستودعها إلا للأنفس الحيّة, كما قرره وأوصى به الحكماء الكبار, أولي الأيدي والأبصار. فإن هذه المباحث ونظائرها غامضة دقيقة المسلك, لا يقف على حقيقتها إلا واحد بعد واحد من أكابر العرفاء, ولا يهتدي الى كنهها إلا وارد من أماجد الحكماء..)(11).
تسجيل مؤاخذة على الملا صدرا
حيث قد اتضح لنا مراد الملا صدرا وعقيدته وفق البيان المتقدم, وهي عقيدة مبثوثة في سائر مؤلفاته سيّما الأسفار, وهو مطلب تام وصحيح, ولكن لنا مؤاخذة على الملا صدرا, وهي لا ترتبط بالمطلب وحقانيته, فقد اتضح أنه تام. وإنما ترتبط في اطلاق تسمية الجسم على الواجب تعالى, فإن الجسمية في المقام وإن اتضح لنا أنها اصطلاح خاص من صدر المتألهين للإشارة لمطلب صحيح تقدم بيانه, إلا أننا نمنع من هذه التسمية والتوصيف في حقه تعالى, وذلك أن النص الشرعي قد منع من اطلاق هذا التوصيف عليه تعالى, وهو التزام تعبدي صرف, فقد يكون نظر النص الى ما قد يتبادر من هذه التوصيفات, وقد يكون ناظراً لشيء آخر خفي علينا.
وهذه المؤاخذة لا تقدح في عقيدة الملا صدرا, بل هي مؤاخذة على التعبير فحسب. ولذا نجد أن الفيض الكاشاني قال في الوافي عند التعليق على نسبة التجسيم لهشام بن الحكم وهشام بن سالم:
(كل ما نسب الى الهشامين في التشبيه والتجسيم فظني أنه إنما نشأ من سوء الفهم لكلامهما, وإلا فهما أجل قدراً من ذلك. وأما قول الإمام عليه السلام: قاتله الله. فإنما ذلك لتكلمهما بمثل ذلك عند من لا يفهم, وكان لهما ولأمثالهما موالي أئمتنا مرموزات كمرموزات الحكماء الأوائل وتجوزات كتجوزاتهم ولا تصل إليها أفهام الجماهير, ولذا نسبوهم الى التصوير والتجسيم)(12).
وكأن الفيض رحمه الله – ومن باب إياك أعني واسمعي يا جارة- يريد الإعتذار لوالد زوجه, وأنه لا ينبغي أن يؤخذ بظاهر كلامه, وينسب للتجسيم, فهو أجل وأرفع شأناً من أن يقول بذلك..
والخلاصة أننا التزاماً بالنص الشرعي نمنع من اطلاق توصيف الجسمية وما شاكل على الحق تعالى, حتى وإن كان المراد والمضمون تاماً صحيحاً, فهو التزام تعبدي محض, وصحة المطلب وحقانيته لا تسوغ لنا مخالفة النهي الوارد عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم عن هذه التوصيفات. ويمكن ملاحظة الروايات الناهية عن ذلك في الجزء الأول من أصول الكافي في أبواب مختلفة, مثل باب النهي عن الجسم والصورة.
وختاماً نقول: إن كان إشكال السيد الخوئي على الملا صدرا من جهة استعمال اصطلاح الجسمية المنهي عنه شرعاً مع الالتفات الى كون الملا صدرا لا يقول بالجسمية, فنحن نوافق على ذلك, ومع هذه الملاحظة. وإما إن كان من جهة ما تصوره وفهمه من أن الملا صدرا قائل بالجسمية, فقد اتضح كما تقدم عدم تمامية ذلك.
والذي يبدو أن حيثية إشكال السيد الخوئي هي الثانية دون الأولى, بقرينة اعتباره أن الملا صدرا قائل بالجسمية الملازمة للأبعاد الثلاثة. ولكن كما اتضح لنا عدم تمامية هذا الاستنتاج, فالملا صدرا لا يقول بالجسمية, وإنّما عبر عن الكمال بالجسم الإلهي, وإلا لو كان يريد الجسمية كما تصورها البعض فهذا يعني وقوع التنافي في كلام الملا صدرا، لأنه تارة يقول إن الله ليس جوهراً ولا عرضاً, والمفروض هنا يقول هو جسم, ومن الواضح أن الجسم جوهر, يعني أن الله جسم وليس جسماً! فهذا كاشف عن كون مراد الرجل ليس كما جاء في بعض الكتابات, وإنما أراد من الجسم الإلهي الكمال, غايته عبّر عن الكمال بالجسم, وإن كنا نؤاخذه على هذه التسمية, إذ أن الاصطلاحات وإن كانت لا مشاحّة فيها, ولكن رُبَّ اصطلاح ليس بصلاح, لما عرفت من كلام الفيض الكاشاني, ولما عرفت من الالتزام بالنهي الشرعي تعبّداً.
الهوامش:
(1) موسوعة الإمام الخوئي, التنقيح في شرح العروة الوثقى, السيد أبو القاسم الخوئي 3: 72, بقلم: الشيخ علي الغروي, مؤسسة الخوئي الإسلامية, الطبعة الرابعة 1430هـ.
(2) الحكمة المتعالية 6: 100.
(3) الحكمة المتعالية 6: 100, الحاشية, تعليقة رقم: (1).
(4) شرح أصول الكافي 3: 207.
(5) هل كان صدر المتألهين مجسماً, مقال, يحيى محمد.
(6) تاريخ الفلسفة اليونانية, يوسف كرم: 251, راجعته ونقحته: د. هلا رشيد أمّون, دار القلم.
(7) أحلام اليقظة.. مع الفيلسوف صدر المتألهين, الشيخ محمد رضا المظفر: 68, تحقيق وتعليق: د. محمد جواد الطريحي, منشورات جمعية منتدى النشر- النجف, الطبعة الأولى 1430هـ.
(8) منطق المشرقيّين, ابن سينا: يد, تصحيح ونشر المكتبة السلفية لمؤسّسيها محب الدين الخطيب وعبد الفتاح القندب, مطبعة المربد 1910م. وتكررت هذه المسألة في الطبعة الحديثة لمنطق المشرقيين التي اضطلع بها بيت الورّاق, حيث أبقوا على نفس هذا الفهم المغلوط ولم يوضحوا المسألة كما ينبغي. منطق المشرقيين, دراسة وتقديم المستشرق البارون كارادوفو: 52, بيت الورّاق, الطبعة الأولى 2010م.
(9) أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 2: 549, والكلام للشهيد المطهري.
(10) نحن والتراث.. قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي, محمد عابد الجابري: 87, المركز الثقافي العربي- المغرب, الطبعة الخامسة 1986م.
(11) المبدأ والمعاد: 102.
(12) الوافي, محمد محسن الفيض الكاشاني 1: 392, تحقيق: ضياء الدين الاصفهاني, منشورات مكتبة أمير المؤمنين عليه السلام- أصفهان, الطبعة الأولى 1406هـ.