في ظلال الآيات (21)
في ظلال الآيات (21)
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} الشعراء: 224-227.
جاء هذا النص المبارك ردا على الذين أنكروا وحيانية القرآن وزعموا أنه كلام محمد ’، وأنه شاعر، وليس بنبي، كما ذكر ذلك صريحا في بعض الآيات الأخرى، قال تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} (الأنبياء:5).
وهاهنا ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: إن الآيات الحاضرة لم تنفي الشعر عن النبي ’ بشكل مباشر، بل وصفت الشعراء بثلاثة صفات ذميمة، و بما أن صفات النبي ’ بالضد من تلك الصفات فقد ثبت أنه ليس بشاعر.
الصفة الأولى: في قوله تعالى: {والشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}، الغاوون أي الضالون، وإنما يتبعونهم لأن الشعراء لا ينطلقون ـ في شعرهم ـ من أرض الواقع، بل من عالم الخيال، فهم ما بين الخمر والغزل والأطلال والعيس والنساء الحسان، يبتكرون الصور التي يجد الغاوون بغيتهم فيها، ذلك أن الغاوون يهربون من الواقع ويستغرقون في الوهم والخيال.
وعلى الضد من ذلك فإن الأنبياء هم رجال الواقع.. هم من قلبوا الموازين وأحدثوا الثورات الكبرى في تاريخ البشرية، لذلك لا يتبعهم الغاوون، بل يتبعهم المؤمنون الصادقون المخلصون.
الصفة الثانية: في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}، وقد جاءت هذه الصفة بلفظ الإستفهام، أي ألا تنظر وتلاحظ أن الشعراء رجال متقلبون لا هدف لهم وواقعون تحت تأثير المال والعاطفة والمصلحة الشخصية، فلا قيم ولا موازين لهم؛ لذلك تجدهم يكبرون الصغير يصغرون الكبير، ويبعدون القريب ويقربون البعيد، ويقدسون المدنس ويدنسون المقدس، ويعملقون القزم ويقزمون العملاق، ويمدحونك يوما ويذمونك في آخر، فإن رضوا عن شخص مدحوه وإن غضبوا على شخص هجوه من دون مقاييس، وإنما يميلون مع ريح المصلحة وجلب المال…
والواقع أنك تجدهم دأبهم مدح الملوك والسلاطين حتى لو كانوا من أئمة الظلم والجور.. طمعا بالهبات والهدايا والعطايا، فمن ذلك قول أبي العتاهية في هارون:
يا بني العباس فيكم ملك *** شعب الإحسان منه تفترق
إنما هارون خير كله *** مات كل الشر مذ يوم خلق
ويقف منصور النمري أمام هارون فيقول:
إن المكارم والمعروف أودية … أحلك الله منها حيث تجتمع
إذا رفعت امرأً فالله رافعه … ومن وضعت من الأقوام متضع
من لم يكن بأمين الله معتصما … فليس بالصلوات الخمس ينتفع
الصفة الثالثة: في قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}، وهذه من الصفات التي يمقتها الله تعالى حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف:2-3).
وكونهم يقولون ما لا يفعلون له صورتان:
الصورة الأولى: أنهم يأمرون بفعل الخير ولكنهم لا يفعلونه، كما وصف اليهود بذلك حيث يقول تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (البقرة:44).
الصورة الثانية: أنهم ينهون الناس عن المنكر ولكنهم يرتكبونه ويفعلونه ولا ينتهون، ولهذا نسمع العبد الصالح شعيب يقول: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (هود:88).
فإننا نجد الأنبياء رجال الأفعال، فما أمروا الناس بشيء إلا وسبقوهم للعمل به وما نهو الناس عن شيء إلا وكانوا تاركين له، كما أننا لم نجد نبياً وعد قومه بشيء ولم يف به، أو تحداهم ثم نكص، بل دائما أفعالهم تطابق أقوالهم.. كما أنهم ثابتون على عقائدهم ومبادئهم، ولذلك تجدهم قد ضحوا بالكثير من أجل تلك المبادئ والعقائد، ومنهم سيدهم وخاتمهم الذي هو محل البحث في الآية..
وبنفي هذه الصفات الثلاثة عنه ’ ينتفي عنه الشعر..
المطلب الثاني: في سبب النزول وبيان الإستثناء.
جاء في الدر المنثور عن ابن عباس قال: تهاجى رجلان على عهد رسول الله ’ أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه، وهم السفهاء، فأنزل الله {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ…} الآيات[1]، ثم جاء بعض الشعراء المسلمين منهم عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت، وهم يبكون، فقالوا: يا رسول الله لقد أنزل الله هذه الآية وهو يعلم انّا شعراء، أهلكنا؟ فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتلاها عليهم[2]…
ويبدو من بعض الروايات أن هذه الآيات نزلت جملة واحدة إلا أنهم سمعوا صدرها دون عجزها، فلما شكوا ذلك لرسول الله تلاها عليهم كاملة.
ويدلنا هذا الإستثناء على أن هناك الكثير من الشعراء الهادفين في شعرهم، والمخلصين في مقولتهم، والمدافعين عن عقيدتهم، ولهذا نسمع في بعض الروايات أن رسول الله ’ زاد على استثنائهم أنه حثهم على قول الشعر في مواجهة المشركين والكافرين، فقد أخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى وابن مردويه عن كعب بن مالك أنه قال للنبي ’: إن الله قد أنزل في الشعراء ما أنزل فكيف ترى فيه؟ فقال: إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما بوجههم مثل نضج النبل[3]، وفي حديث آخر: والذي نفس محمد بيده فكأنما تنضحونهم بالنبل[4]، وقال لبعض الشعراء ـ بحسب الرواية ـ: أهجهم فإن جبرئيل معك[5].
وقد ذكر هاهنا أربع صفات للشعراء الممدوحين، والخارجين عن دائرة الذم، وهي:
الصفة الأولى: الإيمان، فقد قالت الآية: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}.
الصفة الثانية: العمل الصالح، حيث يقول تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، والقرآن دائما يقرن الإيمان بالعمل الصالح؛ لأن العمل الصالح من أركان الإيمان، كما قيل إن الإيمان: اقرار باللسان واعتقاد بالجنان[6] وعمل بالأركان.. فلا يمكن اعتبار المرء مؤمنا مالم يكن عاملاً، والنصوص في ذلك كثيرة منها:
قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (العصر:2–3).
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (مريم:96).
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البينة:7).
وهكذا فقد ورد هذا القرن في ما يقرب من ستين موردا في القرآن الكريم.
الصفة الثالثة: ذكر الله، حيث يقول الله تعالى: {وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا}، ولا ريب أن معنى الذكر هنا هو الإرتباط بالله تعالى، بحيث يكون نصب عيني الإنسان فلا يتعدى حدود ما أنزل الله في كل قول وفعل وحركة وسكنة، بحيث يكون الله حاضرا في تفاصيل حركة الإنسان.
الصفة الرابعة: رد العدوان، وعدم الإبتداء به، كما قال تعالى: {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}، وكما قال تعالى في آية أخرى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} البقرة: 194،
المطلب الثالث: في قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
تهديد لمن ظلموا أنفسهم، بمعنى: أي منصرف ينصرفون إليه؛ لأن منصرفهم إلى النار، نعوذ بالله منها، وقيل: أراد الذين ظلموا أنفسهم بقول الشعر الباطل من هجو النبي والمؤمنين، ومن يكذب في شعره[7] .
ويمكن أن يراد به المشركون الذين كذّبوا النبي ’ بزعمهم أنه شاعر، والسياق يؤيده.. قال الطباطبائي: وقوله: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}، المنقلب اسم مكان أو مصدر ميمي، والمعنى: وسيعلم الذين ظلموا – وهم المشركون على ما يعطيه السياق – إلى أي مرجع ومنصرف يرجعون وينصرفون، وهو النار أو ينقلبون أي انقلاب، وفيه تهديد للمشركين ورجوع مختتم السورة إلى مفتتحها، وقد وقع في أولها قوله: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} الشعراء: 6[8] .
وقال الطبرسي: قرأ الصادق ×: وسيعلم الذين ظلموا آل محمد ’ حقهم، ويشبه أن تكون قراءة على سبيل التأويل[9] .
روايات ذات صلة:
علي بن إبراهيم في (تفسيره) عند قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} قال: قال أبو عبد الله ×: نزلت في الذين غيروا دين الله (وتركوا ما) أمر الله، ولكن هل رأيتم شاعرا قط تبعه أحد، إنما عنى بهم: الذين وضعوا دينا بآرائهم فتبعهم الناس على ذلك – إلى أن قال : – {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وهم أمير المؤمنين × وولده ^[10].
أقول: ومازال رسول الله يحث الشعراء على قولهم الشعر الحق وإثباتهم لوقائع الإسلام وهجائهم العدو، وكان يوسمهم بأوسمة الفخر على قولهم الشعر، فمن ذلك أن حسان بن ثابت إستأذن رسول الله يوم الغدير بأن يقول شعرا في الواقعة، فأذن له النبي ’ فقال:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالرسول مناديا
فقال : فمن مولاكم ونبيكم ؟ فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا:
إلهك مولانا وأنت نبينا * ولم تلق منا في الولاية عاصيا
فقال له: قم يا علي! فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أتباع صدق مواليا
هناك دعا اللهم! وال وليه * وكن للذي عادا عليا معاديا
فقال له النبي ’: لا تزال يا حسان مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك[11].
ومن ذلك ما ورد عن محمد بن أبي عمير، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: من قال فينا بيت شعر بنى الله تعالى له بيتا في الجنة[12].
وقريب منه ما روي عن الحسن بن الجهم قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: ما قال فينا مؤمن شعرا يمدحنا به إلا بنى الله له مدينة في الجنة أوسع من الدنيا سبع مرات يزوره فيها كل ملك مقرب وكل نبي مرسل[13].
ومن اللطائف أن رسول الله ’ كان يستمع لمن يقول الحق من الشعراء، وقد يصحح لهم، كما في بردة كعب بن زهير، عندما قال:
إن الرسول لسيف يستضاء به * وصارم من سيوف الهند مسلول
قال له ’ بل قل:
إن الرسول لسيف يستضاء به * مهند من سيوف الله مسلول[14]
واكثر من ذلك كان الرسول والأئمة ’ يتمثلون بالشعر، ومن ذلك ماروي عن البراء بن عازب حيث قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله ينقل من تراب الخندق حتى وارى التراب جلد بطنه، وهو يرتجز بكلمة عبد الله بن رواحة:
لأهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا * وثبت الأقدام إن لاقينا
إن أولاء قد بغوا علينا * وإن أرادوا فتنة أبينا[15]
كما روي عن الإمام الحسين × أنه تمثل بأبيات فروة بن مسيك المرادي في بعض خطبه أمام الأعداء وهي:
فإن نهزم فهزامون قدما *** وإن نهزم فغير مهزمينا
وما أن طبنا جبن ولكن *** منايانا ودولة آخرينا
فلو خلد الملوك إذا خلدنا *** ولو بقي الكرام إذا بقينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا *** سيلقى الشامتون بما لقينا[16]
وأنشد سلام الله عليه مساء اليوم العاشر:
يا دهر أف لك من خليل * كم لك بالإشراق والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل * والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل * وكل حي سالك سبيلي[17]
[1] الدر المنثور للسيوطي، ج5ص99.
[2] م ن، ج5ص99.
[3] م ن، ج5ص99.
[4] الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج11ص492.
[5] م ن، ج11ص492.
[6] المقصود بالجنان ـ بكسر الجيم ـ يعني القلب، لأن العقيدة صفة مرتبطة بالقلب.
[7] التبيان للطوسي، ج8ص71.
[8] الميزان للطباطبائي، ج15ص332.
[9] تفسير جوامع الجامع للطبرسي، ج2ص697.
[10] وسائل الشيعة، ج27ص132.
[11] الغدير للأميني، ج2ص34.
[12] وسائل الشيعة للحر العاملي، ج14ص597.
[13] المصدر السابق والصفحة.
[14] الغدير للأميني، ج2ص6.
[15] المصدر السابق والصفحة.
[16] الإحتجاج للطبرسي، ج2ص25.
[17] الإرشاد للمفيد ج2ص92.