في ظلال الآيات (20)

370

في ظلال الآيات (20)

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} هود: 88.

ومضة: ما بعث الله نبيا إلا وهو مصلح فضلا عن أنه صالح، والفرق واضح بينهما، وإن كنا سنمر عليه خلال البحث، وفي الآية فيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: لمحة عن شعيب وقومه.

المبحث الثاني: في الحوار الذي أداره مع قومه وفيه استعراض لصفات المصلحين.

المبحث الثالث: التوفيق والتوكل والإنابة.

وسنعرض لها على التوالي.

المبحث الأول: شعيب نبي شريف بعثه الله الى قومه وهم في قرية على طريق الشام من جهة الجزيرة تدعى مَدين[1]، وهو ثالث الرسل من العرب الذين ذكرت أسماءهم في القرآن، وهم هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام، وكان معاصرا لموسى وهو أبو زوجته؛ لأن موسى بعد أن قتل الفرعوني فرّ إلى قرية شعيب فوجد ابنتي شعيب اللتين قص القرآن قصتهما، ثم إن شعيب زوجه إحداهما مقابل خدمته ثماني حجج…  

وقد كانت بعثته لتحقيق هدفين: رئيسي وفرعي، أما الرئيسي فهو الدعوة الى التوحيد، وهو الهدف الذي بعث من أجله جميع الأنبياء، قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (هود:84).

وأما الهدف الفرعي؛ فهو أن هذه الأمة كانت مصابة بمرض أخلاقي وهو التطفيف بالمكيال والميزان، كما قال تعالى:  في ذيل الآية السابقة: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (هود:84-85).

وواضح أن المكيال والميزان هي مقاييس البيع، المكيال يباع به ما يكال، والميزان يباع به ما يوزن… فكان جواب قومه ما حكاه الله تعالى في الكتاب العزيز: {يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (هود:87)، فأجابهم بالآية محل البحث…

محل الشاهد: إن شعيب (دعاهم إلى ما أُمر به ووعظهم بالإنذار والتبشير، وذكرهم ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط.

وبالغ عليه السلام في الإحتجاج عليهم وعظتهم فلم يزدهم إلا طغيانا وكفرا وفسوقا، ولم يؤمنوا به إلا عدة قليلة منهم، فأخذوا في إيذائهم والسخرية بهم وتهديدهم عن اتباع شعيب ×، وكانوا يقعدون بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن به ويبغونها عوجا، وأخذوا يرمونه × بأنه مسحور وأنه كاذب، وأخافوه بالرجم، وهددوه والذين آمنوا به بالإخراج من قريتهم أو ليعودن في ملتهم، ولم يزالوا به حتى أيأسوه من إيمانهم فتركهم وأنفسهم، ودعا الله بالفتح قال: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} (الأَعراف:89)، فأرسل الله إليهم عذاب يوم الظلة[2]، وقد كانوا يستهزؤن به أن أسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين وأخذتهم الصيحة والرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، ونجى شعيبا ومن معه من المؤمنين، {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} (الأَعراف:93))[3].

المبحث الثاني: في الحوار الذي أداره شعيب مع قومه ـ في الآية محل البحث ـ ذكر ثلاثة أمور ينبغي أن يتوفر عليها المصلح:

الأمر الأول: وضوح الرؤية من حيث المنطلقات والأهداف، وهذا ما عبر عنه بقوله: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}، والبينة[4] هي التي تكشف لك حقيقة ما تريده وما أنت فيه، فعندما يقول على بينة من ربي، يعني أني أحمل لكم رسالة السماء، فمنطلقي من السماء، وهدفي إرساء دعائم الحق والعدل في الأرض[5]… فهذه الأرض لا بد لها أن تلبس ثوب السماء، وإلا سوف تمتلئ ظلما وجورا.

فهو هنا يسألهم {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}، بعد أن ردوا دعوته بقولهم:  {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} (هود:91)، (فمحصل قولهم إهانة شعيب، و أنهم لا يعبؤون به ولا بما قال، وإنما يراعون في ترك التعرض له جانب رهطه)[6] وعشيرته.

الأمر الثاني: إن المصلح يجب أن يكون عالماً، محيطا مستحفظا على الرسالة التي بعث لتبليغها؛ لأن الجاهل إذا تصدى للإصلاح سوف يتخبط، وسوف يورد أتباعه المهالك.. وقد فسر الرزق الحسن في قوله تعالى: {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} بالعلم، وقيل: هو النبوة والعلم[7].

الأمر الثالث: أن يكون متفاعلاً مع الرسالة، ومنفعلا بتعاليمها، وبعبارة أخرى أن يجسد تعاليمها ويطبقها على نفسه قبل غيره، وهو ما عبر عنه في الآية محل البحث: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}، أي لا أريد أن آمركم بشي وأنا أعمل بخلافه..؛ لأن هذا عبر عنه القرآن بالحمار، كما في سورة الجمعة، حيث يقول تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (الجمعة:5)، أي أن من يحمل العلم ولا يعمل به كمثل حمار يحمل مجموعة من الكتب على ظهره، فإنه لا يستفيد منها شيء، بل لا يناله منها إلا التعب… كما قيل:

                      لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ *** عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ

ثم يقول ×: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أريد إصلاحكم قدر استطاعتي، ومقدار جهدي، فما عليَّ سوى بذل الجهد، وأما النتائج فبيد الله تعالى وسنعود لهذه النقطة في المقطع التالي من الآية، وهنا ينتهي بنا الحديث الى الفرق بين الصالح والمصلح، فالصالح يريد خلاص ونجاة نفسه، والمصلح يريد خلاص الآخرين.. يريد إحقاق الحق وإزهاق الباطل.. ولهذا تجد أن الصالح لا يصطدم بالآخرين فهو محبوب على كل حال من قبل الكثيرين، أما المصلح فإنه يصطدم بالفاسدين والمنحرفين والفاسقين… وهذا يؤدي به إلى أن يكون ممقوتا ومكروها من قبل الكثير من القطاعات التي تصطدم مصالحهم بدعوته ورسالته، وقد يؤدي به الأمر إلى القتل أو التهديد به، كما وقع ذلك بالفعل لهذا النبي ×، حيث يقول تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} (هود:91-93).

المبحث الثالث: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.

إن أحد أهم العلل الموجبة للنجاح في أي عمل هو التوفيق الإلهي، فقد يبذل الإنسان الكثير من الجد والجهد، ولكنه لا يحصل إلا على قليل من النتائج، وقد يبذل المرء القليل من العمل والجهد، ولكنه يحصد ويحصل على الكثير من النتائج، لأن  النتائج مرتبطة بتوفيق الله، كما قال الآخر:

على المرء أن يسعى بمقدار جهده *** وليس عليه أن يكون موفقاً

ويبدو أن التوفيق الإلهي مرتبط ارتباطا وثيقا بالنية، فمن كانت نيته خالصة لله تعالى، بارك الله عمله وجعل فيه الخير الكثير، والنتائج العظيمة والغير متوقعة…

وفي هذا المجال تحضر القصة اللطيفة المنقولة عن السيد الشهيد الصدر الأول (قدس سره)، حين كتب كتابه (فلسفتنا)، حيث ذهب الى جماعة العلماء وعرض عليهم أن يصدره بإسم الجماعة، فرفض البعض منهم، إلا بعد تغيير بعض المطالب، فطبعه باسمه، ثم إن الكتاب نال شُهرة عظيمة، فكان رضوان الله عليه يتهم نفسه ويقول: لا أدري لو أني كنت أعلم أن هذا الكتاب يحظى بهذه المكانة في المكتبة الإسلامية فهل أرضى بأن أطبعه باسم جماعة العلماء..؟        

ومن موجبات التوفيق الإلهي مشاورة العاقل المؤمن، ففي الحديث عن النبي ’: (مشاورة العاقل الناصح رشد ويمن وتوفيق من الله، فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإياك والخلاف فإن في ذلك العطب)[8].

ثم إن (التوفيق والتوكل والإنابة) مواضيع كبيرة يحتاج كل واحد منها الى بحث مستقل، وقد اجتمعت كلها في هذا المقطع من الآية، والترابط واضح، فإن الإنابة هي التوبة، وهي الخطوة الأولى نحو الله تعالى، ثم بعد ذلك التوكل عليه، فهاتان مقدمتان ينتجان التوفيق، ولكن الآية قدمت النتيجة على المقدمة، حيث قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.

وهذا المقطع من الآية ذيّل به الإمام الحسين × وصيته حين خرج ثائراً، حيث يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنيفة: إن الحسين عليه السلام يشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وإني لم اخرج أشر أولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا أخي إليك وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب)[9].

والتعبير عن هدفه × بالإصلاح مع تذييل الوصية بهذا المقطع من النص يدلنا على أنه × أراد تمام معنى الآية، إلا أنه ذكره مختصرا، فتأمل…



[1] وقيل إسمها (الأيكة)، قال تعالى: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ ص38. وقيل إن الأيكة: واحدة الأيك، و هو الشجر الملتف الكثير.

[2] يوم الظُلَّة: هو اليوم الذي أنزل اللهُ فيه العذابَ على قوم النبي شعيب (عليه السَّلام)، حيث بعث الله سحابة العذاب التي أظلتهم ثم أحرقتهم و أبادتهم جميعاً حيث انهه أصابهم حر وهم في بيوتهم فخرجوا يلتمسون الروح من قبل السحابة التي بعث الله فيها العذاب فلما غشيتم اخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.. انظر: تفسير القمي، ج2ص125.

[3] الميزان للطباطبائي، ج10ص378.

[4] لا يخفى أن البينة في الفقه تعني شاهدين عادلين يشهدان على وقوع أمر ما، ويساعدان القاضي على الوصول الى الحقيقة والحكم بالعدل.

[5] قال الطباطبائي: (المراد بكونه على بينة من ربه كونه على آية بينة وهى آية النبوة والمعجزة الدالة على صدق النبي في دعوى النبوة) انظر الميزان، ج10ص367.

[6] الميزان للطباطبائي، ج10ص375.

[7] م ن، ج3ص138.

[8] وسائل الشيعة، ج12ص42.

[9] لواعج الأشجان للسيد محسن الأمين، ص30.