في ظلال الآيات (38)
في ظلال الآيات (38)
{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون:8).
مطلع هذه الآية يعرض لحادثة وقعت في زمن النبي ’، وذيلها، يؤكد حقيقة أن العزة لله تعالى أولا وبالذات، وللرسول والمؤمنين بالتّبع.
ففي الآية مبحثان:
الأول: حول سبب النزول
الثاني: أضواء على النص
وسنعرض لهما على التوالي:
المبحث الأول: حول سبب النزول
قال صاحب الأمثل: بعد غزوة بني المصطلق ازدحم الناس على الماء، ووردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه، فازدحم هو وسنان الجهني حليف بني عوف من الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين.
فغضب عبد الله بن أبي سلول (رأس المنافقين) وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث السن فقال: أو قد فعلوها؟ قد كاثرونا في بلادنا، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم، والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم.
فسمع ذلك زيد فمشى به إلى النبي ’ وذلك عند فراغ رسول الله من غزوه، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال رسول الله ’: كيف إذا تحدث الناس: إن محمدا قتل أصحابه؟ ولكن أئذن بالرحيل.
فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه، فلقيه أسيد بن حضير فسلم عليه وقال: يا رسول الله، لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها؟
فقال ’: أو ما بلغك ما قال عبد الله بن أبي؟
قال: وماذا قال؟
قال ’: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
قال أسيد: فأنت والله تخرجه إن شئت، فإنك العزيز وهو الذليل.
ثم قال: يا رسول الله، ارفق به فوالله لقد من الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته مُلكاً.
وسمع عبد الله بن أبي أن زيدا أعلم النبي قوله، فمشى إلى رسول الله ’ فحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، وكان عبد الله في قومه شريفا، فقالوا: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أخطأ.
وأنزل الله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (المنافقون:1)، تصديقاً لزيد، فلما نزلت أخذ رسول الله بإذن زيد وقال: هذا الذي أوفى الله باذنه، وبلغ ابن عبد الله بن سلول ما كان من أمر أبيه، فأتى النبي فقال: يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار.
فقال النبي ’: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا، فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثاً عاتبه قومه وعنّفوه..[1]
المبحث الثاني: أضواء على النص
وفيه عدة ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: إن هذه الآية عرضت مقولة رأس المنافقين، ولكن الملفت أنها جاءت بلفظ الجمع، حيث قال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا..}، وقد جاءت هذه الآية في سياق سورة (المنافقون) حيث يقول تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (المنافقون:1)، وهذا ينم عن أن المقولة وإن كانت لشخص بعينه ولكنها تعبر عن ظاهرة وجو في المدينة، لأن عبد الله هذا ـ صاحب المقولة ـ لم يكن لوحده في المدينة، بل معه جماعة آخرين يشكلون جبهة في مقابل المؤمنين، كما صرح بذلك الكتاب العزيز، حيث يقول تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (سورة التوبة:101).
ويمكننا التوسع في تقسيم النفاق الى عدة أقسام:
النفاق الفردي: بأن ينافق الفرد لمصالح شخصية.
النفاق الإجتماعي: حيث يكون النفاق عبار عن تيار اجتماعي.
النفاق الدولي: كما هو الحال في دول الإستكبار العالمي حيث يمارسون سياسة الكيل بمكيالين، مثلاً هم يريدون الديمقراطية إذا صعد من خلالها العلمانيون ولا يريدونها إذا صعد من خلالها الإسلاميون.. لأن مصالحهم لا تتوائم مع الإسلام.. وهم يقبلون بأن تمتلك إسرائيل سلاح نووي، ولا يقبلون أن تمتلكه دولة إسلامية..
ومن ذلك يتبين أن أهل النفاق وإن أظهروا الإسلام إلا أن مقاييسهم غير مقاييس وموازين الإسلام، فهم ذوو لسانين ووجهين كما سيمر علينا، فحيث يرى الإسلام لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى.. هم يقولون بحسب الآية: إن أهل يثرب الأصليين هم الأعزة، وهم أفضل من غيرهم ممن وفد عليها من خارجها فهو موسوم بالذل يعنون بذلك رسول الله ’ والعياذ بالله.
النقطة الثانية: صفات المنافقيين
ولخطورة هذه الظاهرة فقد خصها الله تبارك وتعالى بسورة كاملة هي سورة المنافقين سرد فيها مواصفاتهم ليحذر منهم ومن مخططاتهم[2]، منها:
(1) الكذب، كما قال تعالى: {وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (المنافقون:1).
(2) التغلف بالدين زيفاً: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} (المنافقون:2).. فهم متسربلون بالخشوع، يعطوك من طرف اللسان حلاوة، {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} (المنافقون:4)، فظاهرهم بديع وباطنهم شنيع.
(3) ومع كونهم لهم أشكال جذابة وكلمات ناعمة، إلا أنّ باطنهم خائر جاف كالخشب، {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} (المنافقون:4).
(4) {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } (المنافقون:4)، يعني أن قلوبهم مملوءة بالرعب، فما تنتقد حالة معينة في المجتمع إلا ويحسبون أنهم هم المقصودون، وما ذاك إلا لأنهم خونة واقعهم غير ظاهرهم.
(5) ومن صفاتهم التكبر والاستعلاء، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} (المنافقون:5).
(6) ويحاولون إضعاف جبهة المؤمنين من خلال ممارسة الضغط الإقتصادي، {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ } (المنافقون:7)، يعني إن نتيجة الضغط على الصحابة الفقراء وعدم الإنفاق عليهم يؤدي إلى أنهم يتفرقون وينفضون عن رسول الله ’.
(7) يخالفون أوامر الله تعالى صراحة، كما قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة:67).
(8) يعتذرون بأعذار واهية للهروب من المسؤولية، وعدم استعدادهم للتضحية: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} (الأحزاب:12-13).
(9) يوالون العدو، كما قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (النساء:138-139).
(10) لا تؤثر بهم المواعظ والعبر، {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} (المنافقون:4)، فعن أبي جعفر × في قوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}، يقول: (لا يسمعون ولا يعقلون)([3]).
النقطة الثالثة: بحث في معنى العزة
العزة ضد الذلة، و(العزيز) اسم من أساء الله تعالى، هو الذي فيه صفتان ثابتتان، لا يخاف من أحد ولا يرجو أحد، وهي بهذا المعنى لا تثبت إلا لله تعالى، ولذا يقول تعالى:
{الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (النساء:139).
{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (يونس:65).
ثم بعد ذلك كل عزة زائلة وزائفة، سواء كامن من مال أو سلطان أو جاه، إلا أن تكون متفرعة عن الله تعالى، وقد جاء التعبير في الآية الحاضرة لتأكيد هذا المعنى، حيث يقول تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
فالأنبياء والأوصياء والأولياء والمؤمنين عزتهم حقيقية؛ لأنها متفرعة عن عزة الله تعالى، وجاء في دعاء الامام الحسين × يوم عرفة: (يا مَنْ خَصَّ نَفْسَهُ بِالسُّمُوِّ وَالرِّفْعَةِ فَأَوْلِياؤُهُ بِعِزِّهِ يَعْتَزُّونَ يا مَنْ جَعَلَتْ لَهُ المُلُوكُ نَيْرَ المَذَلَّةِ عَلى أَعْناقِهِمْ فَهُمْ مِنْ سَطَواتِهِ خائِفُونَ)([4]).
فالمؤمن عزيز ولا ينبغي له أن يذل نفسه، كما ورد عن أبي عبد الله × قال: (إن الله عز وجل فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يكون ذليلا، أما تسمع قول الله عز وجل يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، فالمؤمن يكون عزيزا ولا يكون ذليلا، ثم قال: إن المؤمن أعز من الجبل، إن الجبل يستقل منه بالمعاول والمؤمن لا يستقل من دينه شيء)([5]) .
وعن أبي جعفر × قال: إن الله عز وجل أعطى المؤمن ثلاث خصال العزة في الدنيا، والفلح في الآخرة، والمهابة في صدور الظالمين، ثم قرأ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}. وقرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (المؤمنون:1-11)([6]).
وفي كربلاء العزة نسمع الحسين × يقول: (إلا وان الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين السلة والذلة وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وحجور طهرت، ونفوس أبية وأنوف حمية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)([7])، فكان الثمن باهضاً، ولكن المثمّن، سمو الموقف وعزة دين الله تبارك وتعالى، بعد أن كاد بني أمية أن يمحقوه.