حقيقة التقليد

477

حقيقة التقليد

سمحة آية الشيخ قاسم الطائي

حقيقة تقليد الفقيه هو رجوع غير المتخصص في علم الفقه من الناس إلى المتخصص منهم المسمّى بالفقيه، فهو على حدّ رجوع الناس إلى أهل الخبرة في سائر الأمور التي تحتاج إلى الخبرة كالطبيب والمهندس والبنّاء والميكانيكي، فالإنسان إذا مرض يرجع إلى الطبيب، وإن احتمل سقوط البناء رجع إلى البنّاء، وإن عطلت سيّارته رجع إلى الميكانيكي، وهكذا .

 – أدلّة جواز التقليد

أدلّة جواز التقليد خمسة:

 سيرة العقلاء وإقرار الأئمة (عليهم السلام)

الدليل الأوّل: جريان سيرة العقلاء من عامّة الناس على الرجوع إلى المتخصص من غير ردع من المعصوم (عليه السلام) طيلة القرون الثلاثة الأولى، فيكون في ذلك إمضاء منهم لهذه السيرة، وقد ذكر في الأصول أنّ الأحكام الشرعيّة على قسمين تأسيسية وإمضائيّة، فجواز التقليد حكم إمضائي، وقد أوضحت ذلك مزيد إيضاح في البحث التفصيليّ.

 فقدان أيّ بديل محتمل للرجوع إلى أهل الخبرة

الدليل الثاني: فقدان أيّ بديل محتمل عن الرجوع إلى أهل الخبرة في الفقه.

ذلك أن الوقوف على الأحكام الشرعيّة بكلّ تفاصيلها وحدودها أمر تخصصيّ يحتاج إلى خبرة وممارسة، وبدليل أنك لو عرضت الأسئلة الفقهيّة للناس على الواحد منهم لم يستطع أن يحدّد الحكم الشرعيّ، وبدليل أنك لو رجعت إلى مستند إثبات الأحكام الشرعيّة في كتب الفقه لوجدت أنّ فهمه واستيعابه والبتّ بصحته من عدمها يحتاج إلى الخبرة.

إذاً حاجة فهم الحكم الشرعيّ إلى الخبرة أمر واضح.

وعليه: يقع السؤال عن وجود البديل من رجوع الناس إلى الفقهاء، والجواب أنه لا بديل، فإنّ البديل أحد ثلاثة:

 1. أن يتخصص جميع الناس في الفقه قبل البلوغ حتى يكونوا فقهاء منذ البلوغ، ولا شك في أنّ هذا لا يجب شرعاً، وهو ليس متاحاً، بل يؤدي إلى تعطّل الحياة.

 2. أن يحتاط الناس في كلّ مسألة احتياطاً تامّاً لكلّ حكم محتمل. وهذا أيضاً لا شك في أنه لا يجب: لأن احتمال وجود الحكم الشرعيّ بالوجوب أو التحريم يرد في كلّ شيء عدا الضروريات من الدين، والاحتياط في ذلك كلّه أمر حرجيّ كما هو واضح.

3. ان يرجعوا إلى المعصوم (عليه السلام) أو من يمثله، وهذا أمر متعذّر في هذا الزمان، لأننا نعيش في عصر الغيبة الكبرى، وليس للإمام (عليه السلام) وكيل ووصيّ ونائب فيها، وهو أمر بديهيّ لدى الشيعة الإمامية، بل ليس معنى الغيبة الكبرة إلا انقطاع النيابة والوصاية.

 

 إذاً لا بديل شرعيّ عن الرجوع إلى أهل الخبرة في الفقه.

استفاضة الأدلّة على أمر الشيعة بالإفتاء والاستفتاء

الدليل الثالث: أنّ الأدلّة مستفيضة بل متواترة على أمر الأئمة فقهاء أصحابهم بالإفتاء وإرجاعهم شيعتهم إلى هؤلاء الفقهاء إذا اشتبه عليهم الحكم الشرعيّ.

 ذلك أنّ أصحاب الأئمة (عليهم السلام) على قسمين: فقهاء متخصصون، وآخرون من عامّة الناس كما ذكر علماء الرجال كالكشّيّ والنجاشيّ والشيخ الطوسيّ، ودلّت الشواهد على الأئمة (عليهم السلام) كانوا يعلّمون جمعاَ من أصحابهم ليكونوا فقهاء، وذلك بتعليمهم القواعد الكلّيّة كما جاء: ((علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع)).

وقد ذكرت جملة من الشواهد على ذلك في البحث التفصيليّ.

ثمّ إنّ عامّة الناس في زمان الأئمة (عليهم السلام) لم يكونوا مستغنين عن الفقهاء، إذ لم يكن يتأتى لكلّ واحد من الناس في الأقطار المختلفة أن يسأل الأئمة (عليهم السلام) لا سيّما في ما كانت بعيدةً عن مواطنهم (عليهم السلام) وخاصّةً مع تضييق الحكّام عليهم.

وعليه: ارجع الأئمة (عليهم السلام) شيعتهم إلى أصحابهم في الفتيا، وذكر النجاشيّ: أنّ أبا جعفر(عليه السلام) قال لأبان بن تغلب: ((اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإني أحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك)).

وجاء أيضاً عن معاذ بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال له: (( بلغني أنك في الجامع فتفتي الناس؟ )) قلت: نعم ..

وفيه أنه (عليه السلام) شجّعه على فعل ذلك.

 وقال النجاشيّ عن يونس بن عبد الرحمن: كان وجهاً في أصحابنا، متقدّماً عظيم المنزلة.. وكان الرضا يشير إليه في العلم والفتيا.

وروى النجاشيّ عن الفضل بن شاذان قال: حدّثني عبد العزيز بن الهندي وكان خير قمّيّ رأيته، وكان وكيل الرضا (عليه السلام) وخاصّته، فقال: إنّي سألته فقلت: إنّي لا أقدر على لقائك في كلّ وقت، فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال: ((خذ عن يونس بن عبد الرحمن)).

 

تواتر الأدلّة عنهم (عليهم السلام)

 في وضع ضوابط الإفتاء والاستفتاء

الدليل الرابع: أنّ الأدلّة متواترة في تحديد الأئمة (عليهم السلام) حدود عمليّة الإفتاء والاستفتاء وقواعدها الصحيحة من غير إنكار هذه العمليّة، وفي ذلك دلالة ضمنيّة واضحة على الإقرار بها.

ومن الأصول التي ذكروها ضرورة كون الإفتاء عن علم وحجّة، وعدم مشروعيّة الإفتاء على أساس القياس ونحوه، وضرورة كون الفتوى موافقةً مع العدالة، والترغيب عن الفتيا عند خشية مضاعفاته، والتخيير عند اختلاف الفتاوى.

 

 جريان سيرة فقهاء الشيعة منذ زمان الأئمة (عليهم السلام)

 الدليل الخامس: جريان سيرة فقهاء الشيعة منذ زمان الأئمة (عليهم السلام) على الإفتاء للناس وجريان سيرة عامّة الناس على استفتاء الفقهاء . ولو كان غير مرضيّ عند الأئمة (عليهم السلام) لم تستقر السيرة على ذلك.

 قال السيّد المرتضى: (لا خلاف بين الأمة قديماً وحديثاً في وجوب رجوع العامي إلى المفتي).

وقال الشيخ الطوسيّ: ( إنّي وجدت عامّة الطائفة من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى زماننا هذا يرجعون إلى علمائها ويستفتونهم في الأحكام والعبادات، ويفتونهم العلماء فيها، ويسوّغون لهم العمل بما يفتونهم به، وما سمعنا به ..وقد كان منهم الخلق العظيم عاصروا الأئمة (عليهم السلام) ، ولم يُحكَ عن واحد من الأئمة النكير على أحد من هؤلاء ولا إيجاب القول بخلافه، بل كانوا يصوّبونهم في ذلك، فمن خالفه في ذلك كان مخالفاً لما هو المعلوم خلافه).

إلى غير ذلك من كلمات علمائنا في بيان هذه السيرة.

وهنا شواهد كثيرة من خلال ملاحظة كتب الحديث على فتاوى فقهاء أصحابنا في زمان الأئمة (عليهم السلام).

وكانت سيرة الشيعة المعاصرين للغيبة الصغرى ثمّ الغيبة الكبرى ـ من علماء ومتعلّمين ـ على الإفتاء والاستفتاء، فأجابوا عن المسائل وكتبوا الرسائل العمليّة أو الكتب الحديثيّة المشتملة على ترجيحات اجتهاديّة وفقرات من الفتاوى.

ومن المعاصرين للغيبة الصغرى مؤلّف الكافي والشيخ علي بن بابويه والد الصدوق صاحب رسالة الشرائع، وهي رسالة فتوائيّة .

وأرسل الشيخ النائب الحسين بن روح كتاب (التكليف) للشلمغانيّ ـ وهو رسالة عمليّة ـ إلى فقهاء قم، فقالوا: إنّ كلّ ما فيه مرويّ عدا موضعين، كما رواه الشيخ الطوسيّ في الغيبة.

ومن المعاصرين للغيبة الكبرى في أوّلها منذ (سنة 329 هـ) الشيخ الصدوق وله رسائل عمليّة عدّة كالفقيه والمقنع والهداية، ثمّ تلميذه المفيد ورسالته العمليّة كتاب المقنعة وله أجوبة مسائل، ثمّ تلامذة المفيد كالمرتضى والشيخ الطوسيّ ثمّ من بعدهم.. حتى المحقّق والعلاّمة .