منطق التعامل مع الشر قراءة في منهج الامام الكاظم عليه السلام

561

منطق التعامل مع الشر

قراءة في منهج الامام الكاظم عليه السلام

الشيخ ليث الكربلائي

لا احد يُنكر ظاهرة الشر في هذا العالم المادي المتزاحم، حتى الفيلسوف عندما يحدثنا عن عدمية الشر لا يعني ان ما نواجهه يوميا ليس شرورا وانما يعني انها في نفسها اعدام اضافية.

لذا من المهم ان ننظر في مدى سعة وضيق خياراتنا في مواجهة هذه الظاهرة ومن خلال الاستقراء يمكن ملاحظة ثلاثة مناهج:

1- التشاؤم واليأس: الى درجة اعتبار الحياة شر خالص يجب ان تنتهي في أقرب فرصة والغريب ان تتغلغل هذه الفكرة – ولو بدرجة مخففة – حتى في بعض الفلسفات الوجودية كما هي الحال مع سارتر ولكن يبقى فيلسوف التشاؤم بلا منازع هو شوبنهاور الذي يرى ان الحل الوحيد لهذا الشر هو اللجوء الى الوحدة والعزلة يقول في احد نصوصه : ” لو كنت ملكاً لكان أول أمر أصدره إلى رعاياي: دعوني وحيداً! ” ولذا يعتبر المرأة اساسا للشر في هذا العالم اذ لو لا سحرها للرجال لما استمرت الحياة . والفلسفة التشاؤمية هذه يمكنك القول انها الطريق الاقصر لنهاية الحياة

2- الانتقام : أي مواجهة الشر بإحداث شر اخر اوسع دائرة منه لأجل التخفيف عن نفوسنا ! ولعل ابرز من تبنى هذا المنهج نيتشه فقد طغى على اغلب كتبه سيما ( هكذا تحدث زرادشت ) منطق البقاء للأقوى فالأقوياء يجب ان يمارسوا قوتهم لان هذا حقهم الطبيعي ولا مكان للضعفاء في هذا العالم يقول في احد نصوصه ” إذا ما نزلت بك مَظْلَمة فقابلها بمثلها، وأضف إليها خمس مظالم صغيرة.. لئن ينتقم الإنسان فهذا أقرب للخير” ويقول ايضا : ” فلتحل اللعنة على من لا يتقبّلون فلسفتي.. أما من يقدرونها حق قدرها، فقد كُتب عليهم ان يكونوا سادة العالم! “ويرى ان قلب المرأة هو مكمن الشرور بسبب ضعفها لذا ينصح الرجل ان لا ينسى السوط عندما يذهب الى امرأة ويقال ان هتلر كان من محبي فلسفة نيتشه والمضحك ان نيتشه نفسه كان نحيل الجسد مليء بالأسقام والامراض ! وهذا المنطق يمكنك وصفه ببساطه انه الطريق الاقصر لخراب العالم .

3- التوظيف والتفاؤل : أي توظيف الشر الذي لا مفر منه بجعله سُلَّما لمصلحة أهم وهدف ارقى من خلال صب النظر على الجانب المضيء دائما مع عدم تجاهل الجانب المظلم وهذا هو منطق الاديان في مواجهة الشر منذ فجر التاريخ ” الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ” من هنا يتضح قول زينب “ع” (ما رأيت الا جميلا) و (اللهم تقبل منا هذا القربان) فهي لا تريد نفي صفة الشر عما وقع بهم وانما تريد توظيفه بجعله سُلَّما الى هدف سامٍ وبهذا المنطق تعامل الامام الكاظم عليه السلام مع جميع التحديات والشرور التي واجهها فهَلُمَّ ننظر كيف وظفها عليه السلام في حدود ما نقل لنا التاريخ :

أ‌- كان في المدينة رجل من آل فلان يؤذي الامام ويشتم اجداده فاقترح بعض مريدي الامام تصفيته لكن الامام نهرهم وزجرهم عن ذلك وفي يوم ركب “ع” دابته الى مزرعة ذلك الرجل وبعد كلام وملاطفة احادية الجانب دارت بينهما اهداه الامام “ع” ثمن زرعه دون مقابل فما كان من الرجل الا ان قبَّل رأس الامام وصار يقرأ “الله اعلم حيث يضع رسالته ” وانقلب من محبي الامام ،فلاحظْ انه كان بإمكان الامام ع ان يعمل هنا بمنطق الانتقام ولكنه اعرض الى منطق التوظيف فجعل الشر سلما الى نهاية جيدة اذ سبوق الشر جعل فعل الامام اشد وقعا في نفس الرجل وهذا ضرب من ضروب توظيف الشر.

ب‌- عندما كان الامام “ع” في حبس السندي بعث لهارون رسالة فيها : ” لن ينقضي عني يوم من البلاء الا انقضى عنك معه يوم من الرخاء حتى نفضي جميعا الى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون ” فهنا نلاحظ ان الامام لم ينف كون ما نزل به شرا وبلاءً غير انه جعل البلاء المحدود سُلَّما الى الفوز الابدي وهذا ضرب آخر من ضروب توظيف الشر.

ت‌- وكان من دعائه “ع” في السجن : ” اللهم اني كنت اسألك ان تفرغني لعبادتك اللهم وقد فعلت فلك الحمد ” فالسجن شر لا ريب في ذلك لكن انظر كيف وظفه الامام “ع” للخير

وهكذا غيرها العشرات من مصاديق توظيف الشر التي رواها لنا التاريخ في سيرة سيد بغداد “ع” اذ كان اكثر الناس عناء ومحنة اترك تتبعها لك اختصارا وفي كل مرة ستجد توظيفا يختلف عن سابقه الا ان الجامع المشترك بينها هو توظيف الشر وجعله سلما للخير .

وختاما ينبغي ملاحظة ان هذه المناهج الثلاثة لا تتعارض مع وجوب مواجهة ودفع الشر مهما امكن ذلك انما الكلام عن مرحلة ما بعد وقوع الشر ان لم يمكن دفعه فهل ينتهي بنا المطاف الى التشاؤم او ان نغرق في بئر الانتقام ام ان هناك طريقا ثالثا يجمع لنا ما فيه صالحنا وعدم ضياع حقوقنا فالتوظيف لا يعني ضياع الحق بل يسير في عرض استرجاعه .