تأثير الزمان والمكان في آراء كبار الفقهاء / آية الله مكارم الشيرازي

221

الواقع أنّ تأثير وتدخّل عنصر الزمان والمكان في صدور الأحكام لم يكن صريحاً في كلمات العلماء القدماء، وكان في الغالب على شكل بيان المصاديق والموضوعات المتعلّقة بهذا البحث؛

ولكن ما يستفاد من خلال التحقيق في أقوال ومباني هؤلاء الفقهاء هو أنّهم كانوا متّفقين بشكل إجماليّ على فهمهم والتفاتهم لتأثير الزمان والمكان في الأحكام،

حيث نرى أنّ بعض الأكابر كالعلّامة الحلّي‌ [1] والمحقّق الثاني‌ [2] في مسائل فقهية من قبيل بيع الأعيان النجسة، ضمن الفتوى بحرمة بيع الدم، فإنّهم يستدلّون على أنّ الملاك في جواز وعدم جواز بيع الدم والأعيان النجسة بشكل عام هو انتفاع الناس منها وأنّ ذلك يتغيّر بلحاظ الأزمنة والأمكنة المختلفة.

يقول الشهيد الأوّل في‌ «القواعد» ضمن التصريح بتغيّرات وتأثيرات الزمان والمكان:

«يجوز تغيير الأحكام بتغيّر العادات، كما في النقود المتعاورة والأوزان المتداولة ونفقات الزّوجات والأقارب فإنّها تتبع عادة ذلك الزّمان الّذي وقعت فيه» [3]

. وليس خفيّاً أنّه في نظر الشهيد الأوّل وفقهاء الإمامية بشكل عام، فإنّ تغيير العادات والرسوم والتقاليد، يوجب تغيير الموضوعات، وتبعاً لتغيير الموضوعات تتغيّر الأحكام أيضاً، كما أنّ المرحوم كاشف الغطاء اعترف بهذه الحقيقة وقال: «لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان»

ويقول أيضاً:

«قد عرفت أن من أُصول مذهب الإمامية، عدم تغيير الأحكام إلّا بتغيير الموضوعات، إمّا بالزّمان والمكان أو الأشخاص، فلا يتغيّر الحكم ودين اللَّه واحد في الجميع، لا تجد لسنّة اللَّه تبديلًا» [4].

ويقول المحقّق الأردبيلي بصراحة أشدّ وهو من الفقهاء السابقين في هذا المجال:

«ولا يمكن القول بكلّيّة شي‌ء، بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيّات والأحوال والأزمان والأمكنة والأشخاص، وهو ظاهر، وباستخراج هذه الاختلافات والانطباق على الجزئيّات المأخوذة من الشرع الشريف إمتاز أهل العلم والفقهاء» [5].

إنّ أهمّية الالتفات لمقولة الزمان والمكان تتبيّن بشكل جليّ إذا علمنا بأنّ فقيهاً معروفاً هو صاحب كتاب‌ «جواهر الكلام» ينتقد بشكل قاطع في بحث المكيل والموزون، هذا التوهّم في أنّ العرف الخاصّ في عصر معيّن (مثل عصر النبيّ صلى الله عليه و آله) قد لوحظ في النصّ الشرعيّ ويقول:

«ودعوى الإجماع هنا على كون المدار على زمان النبيّ صلى الله عليه و آله على الوجه الّذي عرفته، غريبة، فإنّي لم أجد ذلك في كلام أحد من الأساطين فضلًا عن أن يكون إجماعاً» [6].

أي أنّ ادّعاء الإجماع على أنّ الملاك في المكيل والموزون هو ما كان في زمان النبيّ صلى الله عليه و آله دعوى عجيبة وغريبة كما ذكر هذا المحقّق.

وأساساً فإنّ هذا الفقيه الكبير يرى في موارد كثيرة أنّ الظروف الزمانية والمكانية فيما يتّصل بالأحكام واختلافها ناشى‌ء من الاختلاف في العادات والتقاليد بين المجتمعات والثقافات البشرية، ولذلك فإنّ ملاحظة الزمان والمكان في البحث الفقهيّ غير قابلة للاجتناب، وعلى سبيل المثال، يقول في مسألة «الحداد» وهو عبارة عن ترك الزينة ولبس ثياب الحزن وهو محلّ‌ خلاف كبير بين الفقهاء، يقول:

«و لا يخفى عليك أنّه تطويل بلا طائل، ضرورة كون المدار على ما عرفت، وهو مختلفٌ باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، ولا ضابطة للزينة والتزيّن وما يتزيّن به إلّاالعرف والعادة الّتي يندرج فيها الهيئات وغيرها» [7].

وقد اتّخذت مقولة الزمان والمكان مكانة خاصّة بين فقهاء المعاصرين، وتدريجياً امتدّ البحث في عنصر الزمان والمكان من خلال اهتمام الفقهاء المعاصرين بهذه الحقيقة، إلى بحوث علمية مختلفة، إنّ ما يشغل بال المتأخّرين وخاصّة المعاصرين، هو أنّهم يهتمّون- إلى جانب ذكر المصاديق والموضوعات المتّصل بالزمان والمكان- بتعريف علميّ وفنّي في بيان تفاصيل عنصر الزمان والمكان، والمصداق البارز لهؤلاء الفقهاء هو الإمام الخميني قدس سره الذي عمل على استخراج نظرية «ولاية الفقيه» في إدارة الحكومة الإسلامية من خلال تلفيق عنصر الزمان والمكان في عملية الاجتهاد واظهارها إلى المجتمع الإسلامي،

يقول الإمام الخميني قدس سره في بيان ضرورة الاهتمام والالتفات لعنصر الزمان والمكان في عملية الاستنباط:

«إنّ الزمان والمكان يمثّلان عنصرين مهمّين في عملية الاجتهاد، فالمسألة التي كان لها حكم معيّن في الزمان القديم فيما يتعلّق بالعلاقات الحاكمة في الأمور السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يمكن أن تملك حكماً جديداً في هذا العصر، بمعنى أنّه مع معرفة دقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فإنّ ذلك الموضوع الأول يتبدّل إلى موضوع جديد وإن كان بحسب الظاهر لا يختلف عن الموضوع القديم، وبالتالي فإنّه يتطلّب حكماً جديداً أيضاً» [8].

ومن جملة النظريات الأخرى المهمّة للعلماء المعاصرين، نظرية العلّامة محمّد حسين الطباطبائي والاستاذ الشهيد مرتضى المطهّري حيث يعتقدان بأنّ قوانين الإسلام تنقسم إلى قسمين: ثابتة ومتغيّرة، والقوانين المتغيرة ناظرة للمتغيّرات في الموضوع من جهة اختلاف الزمان والمكان‌ [9].

المرحوم آية اللَّه البروجردي ضمن التصريح بأهمّية دور الزمان والمكان في صدور الحكم يقول:

«بما أنّ الفقه الشيعي وبسبب خلافة وحكومة العامة منذ صدر الإسلام، فإنّه ناظر لآراء وأحكام أهل السنّة، وعليه ينبغي البحث في الروايات، وزمان، ومكان صدورها والراوي والسائل، والمحيط والبيئة وغير ذلك من الظروف والشروط، وبشكل عامّ يجب الأخذ بنظر الاعتبار عند الفتوى «جهة صدور الروايات» وبما أنّ هذه المسألة ترتبط بفهم الزمان والمكان، فإنّه لا يمكن الغفلة في أيّ مسألة عن الزمان والمكان وتأثيراتهما» [10].

الواقع أنّ السيّد البروجردي في كلامه هذا ناظر للقرائن الحالية والمقالية المتوفّرة في زمان ومكان صدور الرواية.

على أيّة حال، فيمكن القول من خلال استنتاج كلّي من أقوال علماء السلف والمعاصرين من الإمامية، أنّ الجميع متّفقون على تأثير الزمان والمكان في الفتاوى والأحكام، وفي نظر فقهاء أهل البيت عليهم السلام فإنّ مقولة الزمان والمكان وتأثيرهما في استنباط الحكم، يعتبر أمراً مقبولًا ومسلّماً.

وأمّا علماء أهل السنّة، فإنّهم نظروا إلى‌ تأثير الزمان والمكان في استنباط الأحكام من زواية

يقول العلّامة القرافي: «أوّلًا: إمكان تبديل المصلحة التي هي مقتضى الوجوب أو الاستحباب إلى مفسدة وتقتضي الحرمة، مقبول. وثانياً: إنّه يدّعي- على سبيل القاعدة الكلّية الشرعية- أنّ في كلّ مورد تتبدّل المصلحة إلى المفسدة، فإنّ الحكم أيضاً يتبدّل من الجواز إلى المنع» [11]. ومن الواضح أنّ العامل على تبديل المصلحة إلى مفسدة قد يكون أحياناً عنصر الزمان والمكان.

كما أنّ الشاطبي يقول في كتابه: «فإنّا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد، والأحكام العاديّة تدور معه حيثما دار، فترى الشي‌ء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز» [12].

ويقول الدكتور وهبه الزُحيلي في المقدّمة لكلام الشاطبي: «وهذا الأمر الذي أشار إلى الشاطبي هو أنّه من الممكن مع وجود التغيّر في الظروف الاجتماعية، أنّ تتغيّر الوجوه وجهات المصالح الدينية، وبالتالي يتغيّر الحكم الإلهيّ» [13].

ويقول محمّد مصطفى الزّرقاء:

«قد اتّفقت كلمة فقهاء المذاهب على أنّ الأحكام الّتي تتبدّل مع الزمان وأخلاق الناس، هي الأحكام الاجتهادية من قياسيّة ومصلحية، أي الّتي قرّرها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة- وهي المقصودة من القاعدة المقرّرة (تغيّر الأحكام بتغيّر الزمان)- أمّا الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة والناهية، كحرمة المحرّمات المطلقة وكوجوب التراضي في العقود والتزام الإنسان بعقده، وضمان الضرر الّذي يلحقه بغيره، وسريان إقراره على نفسه دون غيره، ووجوب منع الأذى وقمع الأجرام وسدّ الذرائع إلى الفساد وحماية الحقوق المكتسبة ومسؤوليّة كلّ مكلّف من عمله وتقصيره وعدم مؤاخذة بري‌ء بذنب غيره، إلى غير ذلك من الأحكام والمبادى‌ء الشرعية الثابتة الّتي جاءت الشريعة لتأسيسها … فهذه لا تتبدّل بتبدّل الأزمان، بل هي الأُصول الّتي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها قد تتبدّل باختلاف الأزمنة المحدثة» [14].

 

الهوامش

[1]. المختصر النافع، كتاب التجارة، ص 16.

[2]. جامع المقاصد، ج 4، ص 12.

[3]. القواعد والفوائد، ج 1، ص 151.

[4]. تحرير المجلّة، ج 1، ص 34.

[5]. مجمع الفائدة والبرهان، ج 3، ص 436.

[6]. جواهرالكلام، ج 22، ص 427.

[7]. جواهرالكلام، ج 32، ص 280.

[8]. صحيفة النور للإمام الخميني، ج 21، ص 98 (بالفارسيّة).

[9]. تفسير الميزان، ج 4، ص 120 و 121 بحث حول المرجعية والعلماء؛ الإسلام ومقتضيات الزمان، ج 1، ص 232 (بالفارسيّة).

[10]. كيهان انديشه، ش 29 (مقاله جامعيّت علمى و عملى) (بالفارسية).

[11]. الفروق، ج 1، ص 183.

[12]. الموافقات، ج 2، ص 306.

[13]. اصول الفقه الإسلامي، ج 2، ص 116.

[14]. المدخل الفقهي العام، ج 2، ص 924 و 925.

 

کتاب : موسوعة الفقه الاسلامي المقارن المؤلف : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر    الجزء : 1  صفحة : 253