التنوع التعبيري في القرآن الكريم وأثره في إبراز المعاني (الحلقة الاولى)
التنوع التعبيري في القرآن الكريم وأثره في إبراز المعاني (الحلقة الاولى)
الشيخ علي العبادي
بسم الله الرحمن الرحيم
أدعية نبي الله إبراهيم الخليل (عليه السلام ) أنموذجا ”
مما لاشك فيه إن المتكلم إذا كان حكيما” وكان قاصدا” من وراء كلامه إيصال رسالة ما فانه لابد له من اعتماد أسلوب من شأنه إبراز تلك الرسالة بشكلها الأوفى. وعلى هذا تتنوع تعابيره تبعا” لتنوع أهدافه وغاياته.
وبعبارة أخرى:
إن طريقة التعبير الصادرة عن الحكيم القاصد تنبئ عن قصدية في إيصال معنى معين.
ولم يكن القرآن الكريم بمنأى عن هذا المبدأ العام، فقد حاكى البشر في طريقة التعاطي مع اللغة وتعبيراتها .ولعل هذا أحد أسرار إعجازه . مما أدى إلى اهتمام السلف الصالح من المعنيين بدراسة وتحليل القرآن الكريم . فوجدوه وقد تناول جميع الموضوعات بأسلوب بليغ ورائع لاتصل إليه أقلام الكتاب والأدباء مهما جل شأنهم وعلت مكانتهم.
ولعل هذا ما جعل المولى تبارك وتعالى يتحدى العرب وقد كانوا أهل لغة أنيقة كتبوا فيها المعلقات التي لازالت محل اهتمام الباحثين في لغة الضاد. والذين كانوا يتباهون بما ينظمون فيما بينهم. ومع ذلك تحداهم المولى تبارك وتعالى في أفضل صنعة يتقنونها بقوله عز وجل :
{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }الإسراء88.
ولأنه تعالى عالم بعدم إمكان ذلك تحداهم بعشر سور فقط بقوله عز وجل.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }هود13.
بل بسورة واحدة:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }يونس38.
وأخيرا” بحديث واحد فقط.
{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ }الطور34.
لذا تصدى هؤلاء الأعلام في دراسات تحليلية وبلاغية للنصوص الشريفة في القرآن الكريم، فألفوا مطولات عديدة وكتبا” كثيرة في إعجازه وأسرار بلاغته من بيان وكناية ومجاز وغير ذلك من العلوم والموضوعات التي لازالت تبحث من المهتمين بفنون القرآن الكريم. وما ذلك إلا لعلو شأنه ورفعته وأناقة لغته ،وبلاغة آياته ، وقوة تعابيره. كيف لا، وهذا نهج البلاغة رائعة مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي ( ينحدر منه السيل ولا يرقى إليه الطير) والذي احتارت به العقول يوصف بأنه فوق كلام المخلوق ….ودون كلام الخالق.
فقد اختارعز وجل أدق التعابير لتستوفي المعاني المقصودة. وقد جرى هذا الأمر في جميع ما حكاه القرآن الكريم ، سواء كان الكلام صادرا” منه تعالى مباشرة” أو على نحو كونه حاكيا” عن لسان الخلق من أنبياء وبشر وحيوانات وجمادات. فاختار سبحانه وتعالى للتعبير عما جال في خواطرهم ومكنون ذواتهم أدق العبارات وأوفاها لتكون كاشفة عن تلك المعاني المرادة.
وفي ضوء هذا فان المتتبع لأدعية نبي الله إبراهيم الخليل (عليه السلام ) الواردة في القرآن الكريم والتي تمثل أنموذجا” ومثالا” من تلك الحكايات القرآنية عن لسان الأنبياء (عليهم السلام ) يجدها تمتاز بعدد كبير من السمات التعبيرية والملامح الأسلوبية التي من شأنها أن تكون كاشفة عن معان قد يستظهر المتلقي إن خليل الله (عليه السلام ) كان قاصدا” من إبرازها معنا” معينا” دون غيره.
ويمكننا في هذا البحث المتواضع أن نلحظ عدة سمات تعبيرية في أدعيته المباركة (عليه السلام ) . وسنكتفي بذكر واحدة على أن نعود في مناسبات أخر إن شاء الله تعالى لبيان المزيد منها.
الأولى:
اختياره (عليه السلام ) ألفاظا” ذات دلالة موحية، أو ذات دلالة تعبيرية عالية.
فعلى الرغم من أن الله سبحانه وتعالى لم يخص أسما” واحدا” من أسمائه بالدعاء لقوله تعالى:
{ وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا }الأعراف180.
وقوله جل وعلا:
{ قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } الإسراء110.
إلا إننا نجد النبي إبراهيم (عليه السلام ) يختار الاسم الكريم ( رب ) الذي يعد من أمهات الأسماء المقدسة. والذي ينطوي على جمع منها. كالمالك والمدبر وغيرها.
يقول السيد العارف آية الله العظمى عبد الأعلى السبزواري طيب الله ثراه في مواهبه :
( ……….ولأجل ما تقدم من أنه أم الأسماء وكونه مظهرا” لجملة من أسمائه المقدسة لم يرد في القرآن من دعائه إلا مبدوء” باسم الرب ) (1).
فورود هذا الاسم المبارك في دعائه مشعرا” بعلية الإجابة لما يحمله من خصائص من شأنها أن تدر عطف المولى تعالى على عبده، وتسهل له بلوغ قصده.
ولطيف ما ذكره الآلوسي في روح المعاني حيث قال:
( الداعي لايطلب إلا ما يظنه صالحا” لحاله، وتربية لنفسه. فناسب أن يدعوه بهذا الاسم. ونداء المربي في الشاهد بوصف التربية أقرب لدر ثدي الإجابة، وأقوى لتحريك عرق الرحمة ) (2).
وأدعية نبي الله إبراهيم الخليل (عليه السلام ) التي جاءت مفتحة بلفظ ( الرب ) كثيرة منها :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } البقرة126.
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } إبراهيم35.
{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء } إبراهيم40.
{ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } الشعراء83.
دفع إشكال :
قد يرد إشكال وتساؤل في ذهن القارئ الكريم مفاده:
إن السمات الدلالية الواردة في أدعية الخليل (عليه السلام ) إنما تقتضي كونه هو الذي نطق بها حتى تصح نسبتها إليه. وهذا يقتضي أن يكون لسانه عربي. ونحن نعلم بالضرورة أن لسانه ليس عربيا” فيكون – والحال هذه – أن كل ما ذكره القرآن الكريم من شأنه (عليه السلام ) هو حكاية عنه ليس إلا. وليست ألفاظه . وبذلك يسقط هذا البحث من رأس.
وللجواب عن هذا الإشكال من عدة وجوه:
الأول:
إن كل ما ذكرناه هو تصديق لكلام الله تبارك وتعالى كونه هو الذي قال :
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } البقرة126.
الثاني:
إن ما حكاه القرآن الكريم من مقولات للنبي الخليل (عليه السلام ) وأدعيته المباركة لم تكن على سبيل الترجمة الحرفية المعروفة عندنا في الوقت الحاضر والتي قد تصيب قصد المنشئ من جهة وقد تخطئه من جهة أخرى . أو قد لاتعبر عنه تعبيرا” مطابقا” مطابقة” تامة” . بل هي حكاية كاشفة عن مكنون ما جال في خاطر النبي الخليل (عليه السلام ) فعبر عنه المولى تعالى لفظا”. فهي حكاية لا عن اللفظ بل تعبير عن الحقيقة التامة. وهذا لعمري أكثر صدقا” من نسبة القول إليه صلوات الله وسلامه عليه.
الثالث:
لعل في حكاية القرآن الكريم عن لسان الجمادات دليل على ذلك ، كما في قوله تبارك وتعالى:
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } فصلت11. فالقرآن الكريم هنا ليس في مقام الحكاية عن اللسان بل عن الواقع التام كما هو واضح وجلي بالضرورة.
وفي ضوء هذا فان ما تحدثنا عنه فيما سبق وما سنتحدث عنه إن شاء الله تعالى في بحوث لاحقة من الجوانب الدلالية فان معانيها خاطرة قي نفس النبي إبراهيم الخليل (عليه السلام ) بغض النظر عن اللفظ المستعمل للتعبير عن ذلك. أي سواء كان اللفظ صادرا” منه حرفيا” أو كان بنحو الحكاية عن الواقع التام.
والله تعالى هو العالم بحقيقة الأمور وواقعها.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله الأمين وجميع الأنبياء والمرسلين والهداة الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى قيام يوم الدين.
______________________
( 1 ) مواهب الرحمن للسيد غبد الأعلى السبزواري: 1 \ 31.
( 2 ) روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني لشهان الدين الآلوسي :10 \ 180