في ظلال الآيات (2)
في ظلال الآيات (2)
الشيخ عبد الرزاق النداوي
{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} (عبس:24-26).
في هذه الآيات الكريمة من سورة عبس ثلاثة مباحث:
الأول: في معنى النظر.
الثاني: وجه المشاكلة والمماثلة بين خلق الإنسان وخلق النبات.
الثالث: معنى النظر في الطعام.
المبحث الأول: ينقسم النظر الى قسمين، مادي ومعنوي.
أما المادي فنقصد به الحسي، أي نظر العين، فالعين عندما تنظر الى ما حولها تدرك وتبصر الأشياء الحسية المرئية من البشر والشجر والحجر ووو…
وأما النظر المعنوي فالمراد به الفكر، فأنت عندما تدرك أن 1+1=2، فإن هذا نظر في الفكر؛ لأن هذه العملية الحسابية، وكل المعلومات انما تكون مخزونة في الذهن وليست في الخارج، ولهذا عرف الشيخ المظفر (النظر) في كتابه المنطق: بأنه: (حركة العقل بين المغلوم والمجهول)[1].
وبعبارة أخرى: إن للإنسان بصر وبصيرة، أما البصر فلإدراك الحسيات، وأما البصيرة فلإدراك المعنويات.
والنظر المقصود في الآية محل البحث ينصب على القسم الثاني أي على النظر المعنوي، أو قل على البصيرة، ولا تخفى أهمية هذه الجنبة في الإنسان، حيث أنه بلا نظر وبلا بصيرة يكون حاله كحال الأعمى الذي يمشي بلا دليل، فمن المحتمل في أية لحظة أن يصطدم بأي عائق.. ولا يمكن أن يكون سيره سوي كالمبصر.
ولهذا السبب جاءت الآيات والروايات تترى في الحث على طلب العلم؛ لأن العلم أحد أهم الوسائل التي تمنح الإنسان الوعي والبصيرة.. في حين أن الجهل هو أحد مقومات التيه والإنقياد لكل من هب ودب..
يروى أن أحدهم دخل الى مقبرة الصحابي الجليل حجر بن عدي، فوجد شخصاً يجلس على قبره ويبكي، فسأله علام تبكي؟
قال: ابكي على مولانا حجر بن عدي.
قال: وما به؟
قال: قتله مولانا معاوية ابن أبي سفيان.
قال: ولم قتله؟
قال: لأنه لم يبرء من مولانا علي بن أبي طالب.
فجلس ذلك السائل الى جنبه وأخذ يبكي، فسأله وأنت علام تبكي؟
قال: أبكي عليك يا مولانا.. انتهى.
لاحظ، حقا إن هذا المستوى من الضحالة والجهل مبكي.. إن الجهل يجعل المرء يضع الإمام أمير المؤمنين × وهو راية الهدى، ومعاوية في ميزان واحد، وبهذا وأمثاله استطاع معاوية مواجهة الإمام أمير المؤمنين… وسيأتي مزيد بيان في الحديث عن المبحث الثالث.
المبحث الثاني: جاءت هذه الآيات للتدليل على عظمة الرب من حيث الخلق والإبداع في الخلق.. والإشارة الى المماثلة والمشاكلة بين خلق الإنسان والنبات، وذلك إن الآيات السابقة على هذه الآيات تتحدث عن خلق الإنسان وبعدها جاءت مباشرة هذه الآيات.. ولنلاحظ السياق، قال تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (عبس:17-23) ثم جاء بعدها مباشرة قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} (عبس:24-27).
ووجه المشاكلة والمماثلة بين خلق الإنسان والنبات، أن الفلّاح لا يدري ما الذي يحصل من تفاعلات في التربة، وغاية ما يفعله أنه يحرث الأرض ثم يلقي الحب ويجري عليه الماء.. وباقي الأمر وهو الأهم كله على الله تعالى، فالزارع الحقيقي هو الله وليس الإنسان، يكفي أن نلتفت أن الفلاح ليس بإمكانه أن يزرع أي نبات في أي وقت؛ لأن النبات بحاجة الى أجواء مناسبة لكي ينضج، فمثلا الرز إنما يزرع في الصيف؛ لأنه بحاجة لأجواء حارة وهذه الأجواء بيد الله تعالى، وكذا الحنطة فإنه محصول شتوي؛ ولهذه الحقيقة تشير بعض الآيات الكريمة حيث تقول: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (الواقعة:63-64).
والمهم أن الفلاح عندما يضع البذرة في الأرض ويجري عليها الماء، فإنها تنفلق بتجاهين، نحو الأسفل وتنغرز في الأرض ليتكون الجذر، ونحو الأعلى لتتكون النبتة والثمرة…
وفي خلق الإنسان كذلك لا يعلم الرجل ما الذي يحصل في الرحم، غاية الأمر أنه يلقي مائه في ذروة اللذة وينصرف، ويأتي هنا دور القدرة الإلهية في رعاية النطفة، ونقلها من طور الى طور، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون:12-14).
ومن اللطائف هنا أن الرجل بعد أن يلقي ماءه وينصرف فإن النطفة تلتصق ـ بعد عمليات معقدة ـ بجدار الرحم وتنفلق أيضا انفلاقين: احدهما باتجاه جدار الرحم ليتكون منه الحبل السري الذي يغذي الجنين وكأمه الجذر في التربة، والآخر باتجاه دخل الرحم يتكون منه الجنين.
ولهذه الحقيقة أيضا تشير الآية الكريمة في سورة الواقعة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} (الواقعة:58-59).
ولأجل هذه المماثلة والمشاكلة بين الخلقين، وصفت جملة من الآيات الكريمة خلق الإنسان بالحرث والإنبات منها:
قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (البقرة:223).
وقال تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} (آل عمران:37).
المبحث الثالث: معنى النظر في الطعام.
في هذا المقطع من الآية رأيين في معنى الطعام:
الأول: المعنى الظاهري، وهو أن الآية تشير الى التفكر في خلق النبات كما في الآيات اللاحقة: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} (عبس:24-32).
أي انظر وتفكر أيها الإنسان الى هذا التنوع في خلق النبات، وأسأل نفسك كيف تتم كل تلك التفاعلات في التربة وكيف تتنتقل الخصائص في النبات من البذرة الى النبتة ثم الثمرة… وهذا يأتي في سياق قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } (فصلت:53).
الثاني: معنى باطني، فعن زيد الشحام عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}، قال: قلت: ما طعامه؟ قال ×: (علمه الذي يأخذه، عمن يأخذه)[2].
وهذا معنى كنائي لطيف، يعني أيها الإنسان كما أنك تنتقي خير الطعام ـ الذي هو غذاء البدن ـ وتنقيه وتصنعه، لتأكله، عليك أن تهتم أيضا بالعلم ـ الذي هو غذاء الروح والعقل ـ ولا تأخذه إلا من عين صافية ومنبع نقي؛ فإنك كما تهلك لو تناولت الطعام الملوث والمسموم، كذلك العلم فإنه أفتك من السموم فيما لو تناولته من طرق منحرفة… وكما أن في الطعام ما يحل تناوله وما يحرم، كذلك في العلم.. ومن هنا نسمع أن الفقهاء بفتون بحرمة اقتناء كتب الضلال إلا لأجل الرد عليها ومناقشتها.. فمن اقناها وهو في مظنة الوقوع في الشبهة وعدم القدرة على مواجهتها فإنه يحرم عليه اقتناؤها، أو مطالعتها..
لاحظ إن الإمام يركز على من يؤخذ منه العلم، فيقول: (عمن يأخذه)، أي الطريق، ونحن نعلم أن الطرق بعد رسول الله ’ تعددت حتى أصبح المسلمون شيعاً ممزقين، وكل يدعي وصلاً بليلى، حتى أصبح الإسلام اليوم يُقدَّم بصورة ممسوخة.. إسلام لا يعرف الرحمة وليس له آليات يتواصل بها مع الآخر إلا التفخيخ والفجير، وقتل الأطفال والنساء والمدنيين في الأسواق، وذبح الناس على ما يعتقدون.. الذبح وحمل الرؤوس الذي أسس له الأمويون… يوم حملوا رأس سيد الشهداء وهم يكبرون، كأنهم يقولون نحن حماة الإسلام… قال الشاعر:
جاؤوا برأسك يابن بنت محمد متـرملا بدمـائه ترميـــــــــــلا
ويكبـــــــرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك الصـــلوات والتهليلا