في ظلال الآيات(4)
في ظلال الآيات(4)
الشيخ عبد الرزاق النداوي
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران:37).
المرأة الوحيدة الذي ذكر اسمها في القرآن، فبالرغم من أن القرآن ذكر وأشار الى الكثير من النساء، إلا أنه لم يسم واحدة منهن سوى مريم ×… وقد ورد ذكرها في مجموعة غير قليلة من الآيات وفي (34) مورد، تارة مستقلة، وتارة كأم لعيسى، كقوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} (الزخرف:57)، وسميت باسمها سورة كاملة، وسُردت الكثير من تفاصيل قصتها…
وهي المرأة المعنية بالحديث المروي عن النبي ’: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم)[1].
وفي الآية ـ محل البحث ـ عدة مطالب:
المطلب الأول: قصة الحمل والنذر.
إنَّ أمها (حنّة) كانت قد نذرتها لخدمة المعبد، فقد روي أنّ حنّة كانت عجوزا، فبينا هي في ظلّ شجرة إذ رأت طائرا يطعم فرخه، فحنّت إلى الولد وتمنّته، فقالت: اللَّهمّ إنّ لك عليّ نذرا إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدس، فيكون من خدمه، فحملت بمريم وهلك عمران[2].
وكان هذا النذر مشروعا في عهدهم للغلمان، فلعلَّها بنت الأمر على تقدير كون ما ستحمل به ولداً، أو أنها طلبت ذكراً.
وروي عن الصادق عليه السّلام: (أنّ اللَّه عزّ وجلّ أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ولدا مباركا يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن اللَّه، فحملت حنّة، فقالت: { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } (آل عمران:35) ، أي معتقاً لخدمته، لا يَد لي عليه، ولا أستخدمه، ولا أشغله بشيء، أو مخلصا للعبادة.
{فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} بما أقول {الْعَلِيمُ} بما أنوي، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} وكانت ترجو أن يكون غلاما، خجلت واستحيت منكّسة الرأس {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} وقال اللَّه تعالى في جوابها: {وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} أي: بالشيء الَّذي وضعته، وهو استئناف من اللَّه تعالى، تعظيما لموضوعها، وتجهيلا لها بشأنها، أي: ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر تسلية.
{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} بيان لقوله: {وَاللهُ أَعْلَمُ} أي: وليس الذكر الَّذي طلبت كالأنثى الَّتي وهبت، واللام فيهما للعهد[3].
ثم انها سمتها مريم، وقد قيل: أن معناه في لغتهم العابدة والخادمة.
المطلب الثاني: قبول النذر والكفالة.
قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}، فرضي بها في النذر مكان الذكر؛ لأنه أعلم بحالها وما سيئول إليه أمرها، ولم تكن أمها تصدق إمكان قبول الأنثى خادمة في بيت الله، لذلك كانت تتمنى أن تلد مولودا ذكرا، إذ لم يسبق أن اختيرت أنثى لهذا العمل، ولكن الآية تقول إن الله قد قبل قيام هذه الأنثى الطاهرة بهذه الخدمة الروحية والمعنوية، لأول مرة.
أما كيف علمت بأن الله تقبلها، ففي ذلك أقوال:
قيل: إن دليل قبوله تعالى لهذه الخدمة أنها لم تكن ترى العادة الشهرية أثناء خدمتها في بيت المقدس لكي لا تضطر إلى ترك الخدمة.
وقيل: إن حضور طعامها من الجنة إلى محرابها دليل على قبولها.
وقيل: قد يكون قبول النذر وقبول مريم قد أبلغ للأم عن طريق الإلهام، والإيحاء، كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} (القصص:7).
ويمكن القول أنها أبلغت بالقبول عن طريق النبي زكريا × الذي هو نبي تلك الفترة.
ويروى: (أنّ حنّة لمّا ولدتها لفّتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار، وقالت: خذوا هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنّها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال زكريّا: أنا أحقّ بها؛ لأنّ خالتها كانت عندي، فأبوا إلَّا القرعة، وكانوا سبعة وعشرين، فانطلقوا إلى نهر فالقوا فيه أقلامهم، فطفا قلم زكريّا ورسبت أقلامهم ، فتكفّلها)[4].
{وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها، أي: جعل نشوئها نشوءً حسناً، وربّاها تربية حسنة، وأصلح أمرها في جميع حالاتها؛ لأن الذي نهض بمهمة تربيتها زكريا، كما قالت الآية: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}، وفي كلمة (أنبتها) إشارة إلى تكامل مريم أخلاقيا وروحيا، كما أنه يتضمن نكتة لطيفة هي أن عمل الله تعالى هو (الإنبات) والإنماء، أي كما أن بذور النباتات تنطوي على استعدادات كامنة تظهر وتنمو عندما يتعهدها المزارع، كذلك توجد في الإنسان كل أنواع الاستعدادات السامية الإنسانية التي تنمو وتتكامل بسرعة إن خضعت لمنهج المربين الإلهيين ولمزارعي بستان الإنسانية الكبير، ويتحقق الإنبات بمعناه الحقيقي، كما قال الشاعر:
هي الأخلاق تنبت كالنبات *** إذ سقيت بماء المكرمات
و (الكفالة) ضم شئ إلى آخر، لذلك يطلق على من يلتزم رعاية شؤون أحد الأطفال اسم (الكافل) أو (الكفيل)، أي أنه يضم الطفل إليه.
المطلب الثالث: في معنى المحراب.
المحراب المكان المخصوص بالعبادة من المسجد والبيت، قال الراغب: (ومحراب المسجد قيل: سمى بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل: سمى بذلك لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريبا أي سليبا من أشغال الدنيا، ومن توزع الخاطر، وقيل: الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس، ثم اتخذت المساجد فسمى صدره به، وقيل بل المحراب أصله في المسجد، وهو اسم خص به صدر المجلس، فسمى صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد، وكأن هذا أصح، قال عز وجل {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} (سبأ:13)[5].
ومنه نفهم أن الإنسان في حرب دائمة لا هوادة فيها مع الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، ذلك أن العبادة وخصوصا الصلاة، ملازمة للإنسان طوال حياته منذ البلوغ وحتى اللحظة الأخيرة من حياته، ولا تسقط في أية حال من الأحوال.
المطلب الرابع والأخير: كلام في معنى كرامات الأولياء.
{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} قيل: إنّه بنى لها زكريّا محرابا في المسجد، أي : الغرفة الَّتي بنيت لها يصعد إليها بسلَّم كباب الكعبة، وقيل: أشرف مواضعه ومقدّمها، كأنّها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس.
وروي أنّه كان لا يدخل عليها غيره، وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب، فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.
{قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} من أين هذا الرزق الآتي في غير أوانه، والأبواب مغلقة عليك؟ وهو دليل على جواز الكرامة للأولياء، {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ} فلا تستبعده، قيل تكلَّمت صغيرة كعيسى، ولم ترضع ثديا قطَّ، وكان رزقها ينزل عليها من الجنّة، {إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} بغير تقدير، لكثرته، أو بغير استحقاق، تفضّلا منه بغير محاسبة ومجازاة على عمل.
وهو يحتمل أن يكون من كلامها، وأن يكون من كلام اللَّه تعالى[6].
كلام في معنى الرزق:
الرزق، تارة يؤخذ بمعناه العام، كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (هود:6)، وهذا البحث له مجال آخر، وتارة يراد به الرزق الخاص، كما في الأية محل البحث، ونعني به الكرامات، ويمكن أن يدخل فيه المعاجز الخاصة بالأنبياء، وهذا لااشكال ولا جدال فيه، حيث ثبت بالأدلة القطعية ظهور المعاجز على يد الأنبياء، ولكن وقع الكلام في كرامات الأولياء ما دون الأنبياء، كمريم مثلا.. وقد استفاد العلماء من الآية الحاضرة على صحة ذلك وجعلوها دليلا عليه.
قال الرازي: (احتج أصحابنا على صحة القول بكرامة الأولياء بهذه الآية، ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن زكرياء كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم: أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله…)[7].
وقد رووا في ذلك الكثير من الروايات عن الصحابة وغيرهم.. والغالب منها فيه شائبة الوضع والغلو.. وكثير منها للتغطية على كرامات أهل البيت..
ومن ذلك:
قال الرازي في تفسيره: وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال: اسكني بإذن الله، فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك.
وقال: وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خرقة: يا نار اسكني بإذن الله، فألقوها في النار فانطفأت في الحال[8].
ومن العجيب أنهم يقبلون تلك المرويات لمن هم أقل شأنا من أهل البيت، وعندما يصل الدور لرواية فيها كرامة لآل محمد ’ تسمع صيحات وصرخات أن هذا غلو…
روايات ذات صلة:
عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن فاطمة ÷ ضمنت لعلى عليه السلام عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت، وضمن لها علي عليه السلام ما كان خلف الباب من نقل الحطب وأن يجئ بالطعام، فقال لها يوما: يا فاطمة هل عندك شيء؟
قالت: لا والذي عظم حقك ما كان عندنا منذ ثلاثة أيام شيء نقريك به.
قال: أفلا أخبرتني؟
قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله نهاني أن أسألك شيئا، فقال: لا تسألي ابن عمك شيئاً، إن جاءك بشيء عفو وإلا فلا تسأليه.
قال: فخرج الإمام عليه السلام فلقي رجلا فاستقرض منه دينارا، ثم أقبل به وقد أمسى فلقي مقداد بن الأسود، فقال للمقداد: ما أخرجك في هذه الساعة؟ قال: الجوع والذي عظم حقك يا أمير المؤمنين.
قال: قلت لأبي جعفر: ورسول الله صلى الله عليه وآله حي؟ قال: ورسول الله صلى الله عليه وآله حي.
قال: فهو أخرجني وقد استقرضت دينارا وسأوثرك به ، فدفعه إليه فاقبل فوجد رسول الله ’ جالسا وفاطمة تصلى وبينهما شيء مغطى، فلما فرغت أحضرت ذلك الشيء فإذا جفنة من خبز ولحم.
قال: يا فاطمة انى لك هذا؟
قالت: (هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب).
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا أحدثك بمثلك ومثلها؟
قال: بلى.
قال: مثل زكريا إذا دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقا، (قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب)، فأكلوا منها شهرا، وهي الجفنة التي يأكل منها القائم عليه السلام، وهي عندنا[9].
[1] مجمع البيان للطبرسي، ج1ص65.
[2] زبدة التفاسير فتح الله الكاشاني، ج1ص478.
[3] زبدة التفاسير فتح الله الكاشاني، ج1ص478.
[4] المصدر السابق ج1 ص479
[5] الفردات في غريب القرآن، ص112.
[6] زبدة التفاسير، الملا فتح الله الكاشاني، ج1 ص479.
[7] تفسير الفخر الرازي، ج8ص32.
[8] تفسير الفخر الرازي، ج21ص81.
[9] تفسير العياشي، ج1ص172.