في ظلال آية(5)

211

في ظلال آية(5)

الشيخ عبد الرزاق النداوي

 {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (إِبراهيم:5).

الرسول وما يقوم به من وظيفة آية من آيات الله وحجة على الخلق، وفي هذه الآية اشارة الى هذه الوظيفة وأنها آية للصابرين الشاكرين.

وقد ذكرت هذه الآية وظيفتين لموسى.

الأولى: إخراج بني اسرائيل من الظلمات الى النور.

الثانية: التذكير بأيام الله.

وسنبين ذلك تفصيلا، ثم نوجه عنان البحث للقسم الثاني من الآية وهو كون هذه الوظيفة آية، أو آيات.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}.

موسى نبي شريف عظيم القدر، وهو واحد من أولي العزم وهم خمسة أشرف الأنبياء والمرسلين[1].. بعثه الله في بني اسرائيل وإن كانت رسالته عالمية.. وفي هذا المقطع من الآية يكلفه الله تعالى بإخراج قومه من الظلمات الى النور، وها هنا نقطتان:

الأولى: إن التعبير بقوله: {أَخْرِجْ قَوْمَكَ} ليس فيه دلالة على أن دعوة موسى محصورة ببني اسرائيل، ولا يقدح بكون رسالته عالمية، لأن غير قومه مسكوت عنهم، أو كما يقال: إثبات شيء لا ينفي ما عداه، أو قل: دعوة قومه الخطوة الأولى، ثم الأبعد فالأبعد،  وهذا مثل قوله تعالى مخاطبا الخاتم ’: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214)، بالرغم من أن رسالة النبي ’ عالمية.. ولكن التدريج بالتبليغ أفضل، وينبغي البدء بالأقرب فالأقرب لكي يكونوا سنداً له في الدعوة، هذا من جهة ومن جهة أخرى إن الكثيرين من أفراد البيت الهاشمي كانوا على الحنيفية الإبراهيمية، والرسالة الخاتمة هي الإمتداد الطبيعي لدعوة ابراهيم.

الثانية: {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}.

 فما هي الظلمات؟ وما هو النور؟

ورد هذا اللفظ {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} في سبع آيات مباركات هي:

{اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (البقرة:257).

{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة:15-16).

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إِبراهيم:1).

4ـ (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)، الأحزاب: 43.

{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (الأحزاب:43).  

{قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا} (الطَّلَاق:10-11).

7ـ الآية محل الشاهد.

وأنت تلاحظ من مجموع هذه النصوص أن المقصود بالنور هو الدين هو الإيمان هو الإرتباط بالله تعالى، والدين يحث على كل المعاني والقيم الخيرة، والفضائل، من الحق والعدل والخير؛ لأنه دعوة الله الذي لا يريد لهذا الإنسان إلا الخير.. وعلى الضد من ذلك فإن جميع الدعوات التي تقف بوجه الدين إنما تدعو للرذائل المتمثلة بالباطل والظلم والشر… وهذا تجده واضحا في الآية الأولى.. وتجد له صدى في آيات اخرى مثل قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأَنعام:122)، وهذه الآية الشريفة صريحة في أن من لم يكن له نور من الله فهو بمثابة الميت، وبعبارة أخرى: من ليس له دين فهو بمنزلة الميت، فالدين هو الذي يعطي الحياة، والحياة هنا بمعنى الوعي الذي هو أهم العناصر التي ركز جميع الأنبياء على بثه في المجتمعات، فالدين يعني الوعي والبصيرة.    

 

قوله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}.

من حيث المبدأ لا يوجد فضل لمكان على مكان ولا لزمان على زمان، ولكن قد تحدث في زمان أو في مكان حادثة تسبغ عليه شيئاً من الشرف والرفعة، فمثلاً إنما تشرفت المدينة المنورة؛ لأنها مهجر ومدفن رسول الله ’، وهكذا تقدست كربلاء لأنها تضمنت جسد الحسين ×، وتشرفت النجف لأنها مرقد أمير المؤمنين ×، ولهذا نقول في الزيارة: (طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم).

وكذا الزمان فإن ليلة القدر شرفت وعظمت؛ لأنها الظرف الذي نزل فيه القرآن، وليلة النصف من شعبان تشرفت بمولد خاتم الأوصياء #، والسابع والعشرين من رجب أخذ عظمته من كونه اليوم الذي بعث فيه رسول الله ’.

ومن ذلك كله نفهم أن أيام الله أيام مرتبطة بحوادث إلهية وقد أخذت شرفها من تلك الحوادث؛ لأنها أضيفت الى الله.. وما يضاف الى الله قطعا يكون شريفاً؛ لأنه يأخذ شرفه من المضاف، كما نقول:

ـ رسول الله.

ـ كتاب الله.

ـ بيت الله.

ـ ولي الله.

ـ ثار الله.

فهذه معاني كلها جليلة، وعليه فإن اضافة الأيام الى الله يدلنا على أنها أيام جليلة، وقد ذكر المفسرون أن أيام الله تشمل:

ـ أيام النعمة.

ـ أيام النقمة.

ـ الأيام التي تجري فيها سنن الله.

ـ الأيام التي تشد الإنسان الى الله، كأيام الحج، وشهر رمضان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، (البقرة: 183ـ184).

وفي الآية محل البحث بما أن المخاطب موسى فالتذكير لقومه بأيام الله التي ظهرت فيها قدرته ونعمه على بني اسرائيل.. كيوم إرائتهم المعاجز من عصا موسى، ويوم نجاتهم من فرعون وإغراقه، وما شاكل…    

هذا وقد وردت رواية عن الإمام الباقر ’ في تفسير أيام الله، سنأتي على ذكرها بعد قليل.  

قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.

وفي هذا المقطع من الآية الشريفة يتبين أن تلك الآيات الباهرات التي تظهر في أيام الله لا يستفيد منها ولا يتعظ بها إلا المؤمن (الصبور عند البلاء) و (الشكور عند النعماء)، ولذلك قال: {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، ومنه يتبين قيمة الصبر الذي هو بالنسبة للإيمان بمنزلة الرأس من الجسد كما في الرواية عن أمير المؤمنين[2]، ولا يفوتنك المغزى من التعبير بـ(صَبَّارٍ شَكُورٍ)، فلم تعبر الآية بـ(صابر شاكر)، والفرق بينهما واضح، حيث أن تعبير الآية بصيغة: (فعّال وفعول) وهي صيغ مبالغة معناه: كثي الصبر كثير الشكر، ذلك أن الفرد في هذه الحياة سوف يتعرض للكثير من البلاءات والإختبارات، وهو مع ذلك منغمس في آلاء الله ونعمه، والأول يقابله ـ البلاء ـ بالمزيد من الصبر، والثاني ـ النعمة ـ يقابله بالمزيد من الحمد والشكر…

روايات ذات صلة:

مثني الحناط، قال: سمعت أبا عبد الله ع يقول: (أيام الله ثلاثة: يوم يقوم القائم، ويوم الكَرَّة، ويوم القيامة)[3].

ويمكن القول بأن ما ذكر في الرواية من باب المصداق لا من باب الحصر، أو من باب الجري والإنطباق بحسب تعبير الطباطبائي + كما لا يخفى، وكما بينناه في ما تقدم، فتأمل.  



[1] هم نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

[2] نهج البلاغة، ج4ص18.

[3] تفسير البرهان للبحراني، ج3ص286.