في ظلال آية (11)

264

في ظلال آية (11)

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) يوسف: 38.

هذه الآية الشريفة، جزء من حوار يوسف مع السجينين، عندما سألاه عن إمكانية تعبيره للرؤيا، في القصة التي أورد القرآن الكثير من تفاصيلها في سورة يوسف…

والقصة تتضمن الكثير من العبر والدلالات والنكات التي يطول المقام بذكرها، ولسنا هنا في مقام استعراض ذلك، وإنما نريد الإقتصار على الغوص في معاني هذا المقطع من السورة..

وقبل الدخول في تفاصيل الآية نلفت النظر الى هذه النكتة:

قال تعالى: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ ۚ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41().

 ومن ملاحظة هذا النص الذي وردت الآية ـ محل البحث ـ في سياقه يلفت النظر أن السجينين سألاه عن تعبير الرؤيا، في حين أن الصديق (عليه السلام) ترك السؤال، وابتدأ بالحديث عن أهمية الدين، وعظمة التوحيد، ووضاعة الشرك، وتفاهة آلهتهم التي قل عنها أنها ليست إلا أسماء… ثم بعد هذه المقدمة أجابهم على سؤالهم، حيث قال: (أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا.. الخ).

وفي ذلك درس عظيم نتعلمه من ذلك القديس، هو أنه بالرغم من المحن التي يمر بها، من الغربة وفراق الأحبة والظلم والسجن، إلا أنه لم ينس رسالته، وكان يستغل كل فرصة لتبليغ دعوته…

وهكذا هو حال العظماء وذوي الأهداف الكبرى، فمثلا نسمع في سيرة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) انه لما اشتد عليه الضغط من قريش وخرج للطائف، واستقبله أهلها بالصد والعدوان، فجلس يستريح، تقول الرواية:

   فلما رآه ابنا ربيعة، عتبة وشيبة، وما لقي، دعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له عداس، فقالا له‏‏:‏‏ خذ قطفا من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه‏‏.‏‏

ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له‏‏:‏‏ كل، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، قال ‏:‏‏ باسم الله، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال‏‏:‏‏ والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس، وما دينك‏‏؟‏‏ قال‏‏:‏‏ نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:‏‏ من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؛ فقال له عداس‏:‏‏ وما يدريك ما يونس بن متى‏؟‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏‏:‏‏ ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه‏‏.‏‏

فقال ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه‏:‏‏ أما غلامك فقد أفسده عليك‏‏.‏‏ فلما جاءهما عداس، قالا له‏‏:‏‏ ويلك يا عداس‏‏!‏‏ ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟‏‏ قال‏‏:‏‏ يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي؛ قالا له‏‏:‏‏ ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه‏‏.. انتهى.‏‏

نعود الى الآية وفيها نقاط:

النقطة الأولى: قوله تعالى: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ).

الملة: الدين، والمراد به دين التوحيد، الذي هو رسالة الأنبياء جميعاً، وإنما ذكر ابراهيم وأبنائه؛ لأنهم أقرب الناس إليه باعتباره جده.  

وهذا يؤكد أمرين:

الأمر الأول: أن مصدر دين التوحيد واحد في طول تاريخ النبوات، وهو الله تبارك وتعالى، ومن هنا نلاحظ أن الخطوط العامة في العقيدة وفي الشريعة تماد تكون واحدة… نعم تجد هناك اختلافات في الكثير من التفاصيل، فمثلا يوجد في الشريعة الختمة خمس صلوات في اليوم والليلة، وليس بالضرورة أن يوجد ذلك في الشرائع المتقدمة.

الأمر الثاني: أن النبوة خط واحد يكمل بعضه بعضا، ومثل البشرية كمثل التلاميذ الذين يتدرجون في المعرفة على يد الأساتذة.. وهذا يؤكد أن الدين في جوهره واحد كما تقدم.

النقطة الثانية: قوله تعالى: (مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)، قال السيد عبد الله شبر في تفسيره: (ما جاز لنا)، يعني أن نستبدل التوحيد بالشرك، فهو يؤكد مرة أخرى، على ملازمة هذا الخط ـ خط النبوة ـ لهذا النهج ـ نهج التوحيدـ.

النقطة الثالثة: (ذَٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ) وفي هذا المقطع يؤكد أن دين التوحيد فضل ونعمة من اعظم النعم، بل هي أعظم نعمة على الإطلاق، فالواجب المحافظة عليها، والتمسك بها، وشكر المنعم الذي ارسلها وانزلها…

النقطة الرابعة: (وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)، ولكن الناس على العكس من شكر النعمة والإستفادة منها، يكفرون بها ويعادونها، فمثلهم كمثل عطشان يقدم له شخص ماء عذبا، فيتركه ويشرب الماء الأجاج المالح، وفي هذا المعنى وردت الرواية عن الباقر (عليه السلام): يمصون الثماد[1] ويدعون النهر العظيم، قيل له: وما النهر العظيم؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وآله والعلم الذي أعطاه الله، إن الله عز وجل جمع لمحمد صلى الله عليه وآله سنن النبيين من آدم وهلم جرا إلى محمد صلى الله عليه وآله قيل له: وما تلك السنن؟ قال: علم النبيين بأسره، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله صير ذلك كله عند أمير المؤمنين عليه السلام[2].

أقول: ويمكن أن نستفيد من هذا النص أن آباء الأنبياء لا يمكن أن يكونوا إلا موحدين ومن حملة الدين، ويؤيده قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) آل عمران: 33ـ34.

نعم هناك كلام حول والد ابراهيم (عليه السلام)، واستدل بعض بكونه مشركاً ببعض الآيات الشريفة من قبيل قوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا. إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا. يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا. يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا. قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) مريم: 41ـ46.

ولكن يرد عليه، أن هناك أدلة تشير الى أن المقصود في الآية عمه وليس أباه، منها:

(1) إن القرآن يسمي العم أبا، كما في قوله تعالى: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة: 133.

فهنا يعقوب سمى اسماعيل أبا، في حين أنه عمه.

(2) إن القرآن نص على اسم المخاطب حيث يقول تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً ۖ إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) الأنعام: 74.

فلو كان (آزر) والده الصلبي لما كان هناك حاجة الى التنصيص على اسمه، وإنما نص عليه بالإسم لهذه النكتة، وهي تمييزه عن والده، قال السيد عبد الله شبر: هو عمه والعم يدعى أبا، وأبوه تارخ إجماعا.

(3) إن ابراهيم استغفر لأبيه ـ الذي هو عمه ـ كما قال تعالى: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) مريم: 47، ثم في آية أخرى بين تعالى سبب الإستغفار: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) التوبة: 144، وانتهى الأمر بالبراءة بين ابراهيم وآزر، وان هذ في الحقيقة في بداية الدعوة.

ثم نسمع ابراهيم في أواخر حياته يدعو بهذا الدعاء الذي حكاه عنه القرآن: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) ابراهيم: 39ـ41.

ومن مجموع هذه النقاط يتبين ما قلناه -بكل وضوح- من أن (آزر) هو عم إبراهيم وليس أباه، وأن والد النبي مشمول بهذا الدعاء الأخير المزبور في الآية فأبو إبراهيم من قمم الإيمان وليس مشركى.. 

  وهذا الحكم ينسحب أيضا على آباء الأوصياء المعصومين (عليهم السلام)، كأبي طالب، ويؤيده ما نسمع في زيارة سيد الشهداء: (أَشْهَدُ أَنَّكَ كُنْتَ نُوراً فِي الأَصْلاَبِ الشَّامِخَةِ، وَالأَرْحَامِ الْمُطَهَّرَةِ، لَم ْتُنَجِّسْكَ الْجَاهِلِيَّةُ بِأَنْجَاسِهَا، وَلَمْ تُلْبِسْكَ مِنْ مُدْلَهِمَّات ِثِيَابِهَا).

 

 

 

 

 

[1] الثماد: الماء القليل.

[2] الكافي، ج1ص222.