في ظلال الآيات (13)

298

في ظلال الآيات (13)

{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} (سورة الأحزاب 39).

البحث في الآية الكريمة فيه ثلاثة نقاط:

النقطة الأولى: في من هم المبلغون لرسالات الله.

النقطة الثانية: في طرق إيصال الرسالة وتبليغها.

النقطة الثالثة: فيما يجب أن يتوفر عليه المبلغ من الصفات التي تؤهله لحمل الرسالة وتبليغها.

وسنعرض لذلك تباعا بعون الله بعد هذه المقدمة…

المقدمة:

رسالات الله مقدسة؛ لأن هدفها كرامة الإنسان وتربيته وأنسنته، وإطلاق روحه من الأرض إلى السماء، وبعبارة أخرى إخراجه من وحل الحيوانية، إلى الآفاق الربانية… 

ومن هنا فإن العمل على تبليغ رسالات الله يعد عملا مقدساً، يستحق التعب والعناء والتضحية؛ لأن فيه رضا الله تعالى، والأجر المترتب عليه عظيم، هذا بغض النظر من النتائج التعبوية المترتبة عليه من هداية الناس ولأخذ بأيديهم الى الصلاح.. وقد جاء في الحديث عن أبي عبد الله × قال: قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): بعثني رسول الله ’ إلى اليمن وقال لي: يا علي! لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه، وأيم الله لإن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه يا علي([1]).

وينبغي الإلتفات الى أن الحق والباطل كانا ولا يزالان يتصارعان، في الساحة، وهما ككفتي ميزان، إن علا هذا انخفض ذاك، وعليه فإن من الغلط الإنحسار وإخلاء الساحة لأهل الباطل؛ لأن سيطرتهم على الأمور يعني تفشي الظلم والفساد، وامتهان كرامة الإنسان… ولهذا كان الأنبياء والمرسلون، في طول تاريخ البشرية حاضرون وبقوة، كما سيتبين ذلك فيما يأتي من البحث…

نعود الى الحديث عن الآية:   

النقطة الأولى: في من هم المبلغون لرسالات الله.

ويمكن القول أنهم خمسة أصناف:

(1) الملائكة الذين يحملون الرسالة من السماء الى الأرض، وبعبارة أخرى من الباري تعالى الى الأنبياء.

(2) الأنبياء والمرسلون، الذين يوصلون الرسالة، الى البشرية بعد تلقيها من مصدرها.

(3) الأوصياء، الذين يكملون ما بدأه الأنبياء، فما من نبي إلا وأعقبه وصي أو عدة من الأوصياء، يواصلون الشوط بتبليغ الدعوة.. فعن النبي ’: (لكل نبي وصي ووارث، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب)([2]).

(4) العلماء، الذين يحملون الرسالة بعد الأوصياء، ويواصلون بذل الجهد لإدامة العمل الرسالي، وحماية الرسالة، وسد الثغور، فقد جاء في الخبر عن أبي الحسن موسى بن جعفر ×: الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَهَاءَ حُصُونُ الْإِسْلَامِ كَحِصْنِ سُورِ الْمَدِينَةِ لَهَا[3].

(5) المكلفون عموماً، فكل فرد من موقعه يمكن أن يكون مبلغا لرسالات الله، إذا حمل قيم الرسالة وأوصلها الى ما يمكن إيصالها لهم، كالزوج بالنسبة للزوجة، والوالد للأولاد، والأستاذ للطلاب، وهكذا كل من موقعه، كما نسمع في الحديث عن النبي ’: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)[4].

والكلام في الأصناف الثلاثة الأولى –الملائكة الأنبياء الأوصياء- يكاد يكون محسوم من حيث أداء الرسالة وتبليغها على أحسن وجه، ذلك ضرورة أنهم معصومون يؤدون تكليفهم من دون تقصير.

ولكن الكلام في الصنفين الأخيرين –العلماء والمكلفون- من حيث الأداء والتقصير، ذلك أنهم غير معصومين، ولهذا نجد أن القرآن الكريم يتحدث عن العلماء بطريقتين، تارة بطريقة المدح والتعظيم، وتارة بطريقة الذم والتحقير…

ومن هنا جاء التركيز على الصفات التي ينبغي أن يتوفروا عليها لتبليغ الرسالة، وسيأتي مزيد بيان في النقطة الثالثة.

النقطة الثانية: في طرق إيصال الرسالة وتبليغها.

وفي هذا المجال يمكننا أن نتصور ثلاثة طرق لإيصال الرسالة:

(1) القولي.

(2) الفعلي.

(3) التضحوي.

ويؤيد هذا التقسيم ما جاء في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت:33).

{أَحْسَنُ قَوْلًاً} يشير الى القولي، {وَعَمِلَ صَالِحًا} يشير الى العملي، {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الذين سلموا لأوامر الله تسليما كاملا، كالميت بين يدي الغاسل كما يعبرون، بحيث اذا اقتضت الرسالة بذل النفس أو المال أو الولد فعلوا دون تردد.

التبليغ القولي: لا ريب في أن اللسان من أدوات التبليغ المهمة، فإن المبلغ لا يستطيع أن يوصل أية رسالة من دون القدرة على الكلام، بل إن القدرة وحدها غير كافية من دون القدرة على فن الإقناع، بل ولابد من سلامة مخارج الحروف، الذي قد يعده الخصم عيبا، كما نسمع في ما حكى الله عن فرعون: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} (الزخرف:51-52).

 ولهذا نسمع موسى × عندما بعثه الله تعالى لفرعون {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه:25-32)، وقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} (القصص:34).

ومن هنا نجد أن جميع الأنبياء والمرسلين مارسوا الدور التبليغي عن طريق اللسان، والكثير من بياناتهم ما تزال موجودة ومحفوظة والكثير منها سجلها القرآني الكريم، والسنة النبوية…

وفي السنة المطهرة جاءت الروايات لتنوه بهذا العمل المقدس منها ما عن علي بن الحسين × أنه سئل عن الكلام والسكوت أيهما أفضل فقال ×: (لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت)، قيل: كيف ذلك يا بن رسول الله ’؟ قال ×: (لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا توقيت النار بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام…)([5]).

وما رواه الشيخ في الغيبة، بطريق صحيح عن ابن أبي عمير، عن جميل بن أبي درّاج، عن زرارة، عن جعفر بن محمد × أنه قال: (حقيق على الله أن يدخل الضّلال الجنة).

فقال زرارة: كيف ذلك جعلت فداك؟

قال: (يموت الناطق ولا ينطق الصامت، فيموت المرء بينهما فيدخله الله الجنة)([6]).

قال الشهيد الصدر في موسوعته: (والشرح الأولي لهذه الرواية: أن المراد من الضُّلال ــ بالتشديد ــ المنحرفين من المسلمين، وإدخالهم الجنة إنما يكون بسبب قلة المسؤولية حتى تكاد تنعدم، فيعدم العقاب بالمرّة، وذلك في ظرف معقد خال من التبليغ الإسلامي عند موت الناطق بالحق وصمت الموجود)([7]).

التبليغ الفعلي: وهذا النوع من التبليغ ينبغي أن يكون مقدما على التبليغ القولي، إذ لا معنى أن يدعو المبلغ الناس الى شيء وهو لا يفعله، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف:2-3).

واكثر من ذلك فقد وصف القرآن الكريم العالم الذي يحمل العلم ولا يعمل به بصفتين وضيعتين:

الأولى: الحمار، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة:5).

الثانية: الكلب، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأَعراف:175-176).

ولأهمية هذا النوع من التبليغ جاءت الروايات لتؤكد وتشدد عليه، ففي الخبر عن أبي عبد الله ×: (كونوا لنا دعاة صامتين)، وليس معنى هذا أن لا تدعوا الى الله باللسان، بل المراد أن الدعوة بالفعل اكثر  وقعا وأبلغ أثرا، ولهذا عندما نقرأ الرواية كاملة نجد ان الإمام × يبين أن الدعوة بصمت بمعنى العمل، لا بمعنى السكوت عن التبليغ، فالرواية تقول: أن الإمام أبي عبد الله الصادق × أوصى بعض شيعته فقال لهم: (أوصيكم بتقوى الله، والعمل بطاعته، واجتناب معاصيه، وأداء الأمانة لمن ائتمنكم، وحسن الصحابة لمن صحبتموه، وأن تكونوا لنا دعاة صامتين.

فقالوا: يا بن رسول الله وكيف ندعو إليكم ونحن صامتون؟

قال: تعملون ما امرناكم به من العمل بطاعة الله، وتتناهون عما نهيناكم منه من ارتكاب محارم الله..)([8]).

 التبليغ التضحوي: وهو من أقسام التبليغ الفعلي، ولكن لأهميته جعلناه قسما برأسه، فقد يعجز الإنسان أحيانا من أن يوصل رسالته باللسان أو الفعل، فيضطر الى إيصالها بالدم، أي بالتضحية في سبيل الله، وهو أعلى درجاة التبليغ، كما فعل الإمام أبي عبد الله الحسين يوم عاشوراء.

النقطة الثالثة: صفات المبلغين وهي أربع.

(1) أن تكون النية خالصة لله تعالى وبقصد نشر الهداية والصلاح، وهذا مما لا ينبغي المناقشة فيه.

(2) أن يكون عارفا عالما بالرسالة وأهدافها، فالجاهل بالرسالة ومنطلقاتها وأهدافها لا يمكنه القدرة على إيصالها للغير، بل انه سوف يبقى يتخبط.

(3) الخشية من الله، وذلك بأن يكون أمينا على أداء الرسالة على الوجه الصحيح، وهذا واضح في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ}، ولا ضير في أن العلماء العارفين بالله اكثر خشية من سواهم، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر:28).

(4) وعدم الخشية من غير الله {وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}، وذلك بأن لا يرجو  أحدا طمعا، ولا يخاف منه؛ لأن ذلك يودي به الى الإنحراف بالرسالة… 

وهذا ما يمكن أن نصطلح عليه بالشجاعة التي ينبغي أن يتوفر عليها الداعية والمبلغ، وقد فصلنا القول بهذه النقطة في كتابنا: (شرط الشجاعة في مرجع التقليد).  

وهذان الشرطان الأخيران مترابطان فإن الخشية من الله وعدم الخشية من غيره يفضيان الى الإستقامة في أداء الرسالة، والشرط الأخير ـ عدم الخشية من غير الله ـ تكمن اهميته في أن الداعية غالبا ما يكون في مواجهة الطغاة والظلمة، فإذا كان الداعية مرتبطا بالله ارتباطا حقيقيا، وكان الله حاضرا في حركته فإنه لا يعبأ بأية مضاعفات، لأنها بعين الله، ولذا ذيلت الآية الكلام بقوله تعالى: {وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}.     

وفي هذا المجال يروى أن غياث بن ابراهيم النخعي وهو من الفقهاء، دخل على الخليفة المهدي العباسي فرآى بين يديه جماعة يتسابقون بالحمام، فسأل الخليفة ابراهيم: هل هذا الفعل حلال؟

قال: نعم فقد ورد عن رسول الله ’: لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح.

فأعطاه الخليف هبة، ولما خرج، قال الخليفة: إنما قال ذلك ليرضينا، فالوارد عن رسول الله ’: لاسبق إلا في نصل أو خف أو حافر.

فلو كان هذا الرجل ـ ابن غياث ـ مرتبطا ارتباطا حقيقيا بالله تعالى لما زور الحديث عن النبي ’ إرضاء للخليفة.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1])) الكافي ج5ص28.

[2])) بحار الأنوار، ج38ص147.

[3] الكافي للكليني، ج1ص38.

[4]

([5]) المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ط الثانية 1403هـ، مؤسسة الوفاء، ج68 ص274.

([6]) الطوسي، محمد بن الحسن، الغيبة، ط الأولى 1411هـ، مطبعة بهمن، تحقيق: عباد الله الطهراني والشيخ علي احمد ناصح.ص460.

([7]) الصدر، محمد، موسوعة المهدي ـ الغيبة الكبرى، ط ـ 1412هـ، دار التعارف ـ بيروت، ج2ص386.

[8])) جامع احاديث الشيعة، ج1ص383.