في ظلال الآيات (15)
في ظلال الآيات (15)
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} (البقرة:187).
الآية الشريفة من آيات فقه الصوم، وهي ناسخة لحكمين من أحكامه في بدء تشريعه.. وفيها مباحث:
المبحث الأول: معنى النسخ.
النسخ في اللغة الإلغاء، والإستبدال، وقد يأتي بمعنى النقل أي الإستنساخ، وفي الإصطلاح: رفع حكم سابق بحكم لا حق، بحيث لا يمكن اجتماعهما، قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة:106).
وكما يجري النسخ فيما بين الأحكام داخل دائرة الدين الواحد، يجري في دائرة مجموع الأديان، ولهذا فإن الدين اللاحق، يعتبر ناسخا للدين السابق، وبما أن الدين الإسلامي هو خاتمة الأديان، فيعتبر ناسخا لجميع الأديان السابقة، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ} آل عمران: 19، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} آل عمران: 85.
المبحث الثاني: في بيان الحكمان المنسوخان.
كان الصوم في بدء تشريعه يتضمن حكمين بالإضافة الى الأحكام المعروفة:
الحكم الأول: هو المنع من مباشرة النساء مطقاً سواءً في الليل أم النهار، فلا يجوز للرجل أن يقارب أهله طوال الشهر الكريم…
الحكم الثاني: المنع من الطعام بعد صلاة العشائين والنوم، يعني لو أن الصائم صلى ثم أفطر وبعد الإفطار نام فلا يجوز له أن يتناول الطعام إذا استيقظ حتى لو كان استيقاظه قبل الفجر، وبعبارة أخرى إن صومه يبدأ من نومه، نعم لو بقي مستيقظاً يجوز له الأكل والشرب.
المبحث الثالث: في معنى قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}.
اللباس هو الثوب الذي يلبسه الإنسان، والغاية منه أمور ثلاثة:
(1) ستر العورة.
(2) الوقاية من البرد والحر.
(3) الزينة.
فوصف الزوج سواء كان رجل أو إمرأة بهذا الوصف لعله يراد منه هذه المعاني، فالزوج يمثل سترا لزوجه، ووقاية، كما نسمع في الخبر عن النبي ’ أنه قال لزيد بن أَرقم: (يَا زيد تزوج تَزْدَدْ عفة إِلَى عفتك)([1])، فالزوج يمنح زوجه العفة، وهذا يمثل وقاية وجُنة للزوج من الإنحراف… كما أن الزوج يمكن أن يكون زينة، وموضع فخر واعتزاز، ولهذا نسمع أن رسول الله ’ كان كثيرا ما يمجد خديجة في حياتها وبعد مماتها، ويعتز بها، وكذلك الإمام أمير المؤمنين × كانت يفتخر بأن الله اختصه ببضعة الرسول، ففي الخبر أن معاوية كتب رسالة للإمام أمير المؤمنين يفتخر على الإمام بأنه كاتب الوحي، وأنه خال المؤمنين، فغضب الإمام × وقال: أيفاخرني معاوية، ودعى كاتبه وقال له: يا غلام أكتب:
محمد النبي أخي وصنوي * وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يضحي ويمسي * يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي * منوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها * فأيكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الاسلام طرا * على ما كان من فهمي وعلمي
فأوجب لي ولايته عليكم * رسول الله يوم غدير خم
فويل ثم ويل ثم ويل * لمن يلقى الإله غدا بظلمي
وفيها اشارة واضحة للفخر بكون فاطمة ÷ زوجا له.
وفي هذا المجال أيضا نسمع الإمام الحسن المجتبى × يفتخر بأمهاته، حيث ورد عنه في خطبة امام معاوية: (أنا ابن فاطمة سيدة النساء، أنا ابن قليلات العيوب، نقيات الجيوب…)([2]).
المبحث الرابع: حول سبب نزول الآية.
في الحقيقة ان لهذه الآية أكثر من سبب:
أحد هذه الأسباب أن بعض الصحابة لم يطيقوا اجتناب زوجاتهم طوال الشهر، فكانوا يواقعوهن سراً بالرغم من المنع.
والسبب الآخر المباشر، ما ذكر في الميزان والدر المنثور، هو أن أحد الصحابة، اسمه مطعم بن جبير، وكان رجلا كبيرا، دخل ذات يوم وهو متعب من الصوم والعمل، فقال لزوجته أعدي الطعام بينما أصلي، فذهبت الزوجة لتعد الطعام، ولكن الذي حصل أنها تأخرت فلما حضرت وجدت زوجها قد نام، وهذا يفرض عليه أن يواصل الصوم ولا يحق له الطعام كما بيننا في الكلام المزبور، فشكا ذلك لرسول الله ’، فنزلت الآية…
المبحث الخامس: أضواء على النص.
قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}.
الحل: نقيض العقد، فكأنما الحرام عبارة عن قيد، والحل، هو فتح ذلك القيد، فالآية تشير الى تحليل الرفث بعد تحريمه.
الرفث: كناية مؤدبة عن مقاربة ومباشرة الزوجة، وقد قلنا فيما تقدم أن مقاربة الزوجة كانت محرمة طوال الشهر، فعن ابن عباس رضي الله عنه: ان ما ذكر الله عز وجل في القرآن من المباشرة والرفث والغشيان فإنما عنى به الجماع، لكن الله تعالى حيى كريم يكنى بما شاء([3]).
وقد استفاد الفقهاء من هذه الآية استحباب مواقعة الزوجة في الليلة الأولى من شهر رمضان، بالرغم من كراهة المواقعة في الليلة الأولى في سائر الشهور…
قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} تقدم بيانه.
قوله تعالى: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}، أي أن الله كان يعلم أنكم لا تقدرون على ذلك ولا تصبرون عن زوجاتكم، وتواقعوهن سرا، فلما انكشف لكم عدم قدرتكم على تطبيق هذا الحكم أذن الله لكم بذلك وجعله حل ونسخ الحرمة.
قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} لما علم منكم الندم، وأنكم كنتم تشتكون ذلك لرسول الله ’.
قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}، الآن نسخ ذلك الحكم فيجوز لكم مباشرتهن،
قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ}، أي ابتغوا طلب الولد ـ كما قال الطباطبائي ـ ومعناه أن الغاية الرئيسية من إيجاد وخلق الشهوة في الإنسان هي استمرار النوع وإن لم يلتفت له الإنسان، كما أنه ربما لا يلتفت إلى أن شهوة الطعام لاستمرار الحياة، وإنما يلتفت الإنسان حال الأكل الى سد الجوع، وإلى اللذة، وإنما تحصل الغاية بالحكمة الإلهية…
بقي هنا شيء: إننا قلنا أن من اسباب نزول هذه الآية هو أن الصوم يبدأ من لحظة النوم في أي ساعة كانت، وقد جاء نسخ هذا الحكم في ذيل هذه الآية، حيث يقول تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة:187).