في ظلال الآيات (24)

198

في ظلال الآيات (24)

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} البقرة: 185.

تنطوي هذه الآية على موضوعين رئيسيين:

الأول: أهمية شهر رمضان.

الثاني: أهمية القرآن.

وسنعرض لهما بعد هذه المقدمة البسيطة:

جاءت هذ الآية الكريمة بعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (البقرة:183)، فبعد أن فرض الله تعالى الصوم بهذا النص، جاء قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ}، وكأنها تريد أن تحدد الفترة الزمنية التي يجب فيها الصوم… ونعود الآن الى المبحثين:

المبحث الأول: أهمية شهر رمضان.

قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.

مادة (ش.هـ .ر) تأتي بمعنى الظهور، كما يقال: زيد شهر سيفه، أي أظهر سيفه، وهاهنا ملاحظتان:

الأولى: أنه لم يرد ذكر لفظ (رمضان) في القرآن إلا مرة واحدة في هذه الآية.

الثانية: إن الشهر الوحيد الذي ورد إسمه صراحة في القرآن الكريم هو شهر رمضان، نعم ذكرت الأشهر الحرم جملة في بعض الآيات، وكذلك ذكرت أشهر الحج لارتباطها ببعض الأحكام، لكن اسماؤها لم ترد مطلقاً.

الوجه في تسمة الشهر:  

ذكر المفسرون ثلاثة وجوه في تسمية هذا الشهر بـ (رمضان):

الوجه الأول: أن تسمية الشهر مأخوذة من شدة الحر، قال ابن منظور: (شَهر رمضانَ مأْخوذ من رَمِضَ الصائم يَرْمَضُ إِذا حَرّ جوْفُه من شدّة العطش)[1]، ولهذا تسمى الأرض الحارة بـ (الرمضاء)، وقال ابن دريد: (لما نقلوا أَسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأَزمنة التي هي فيها فوافَقَ رمضانُ أَيامَ رَمَضِ الحرّ وشدّته فسمّي به)[2].

الوجه الثاني: روى زياد بن ميمون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنما سمي شعبان؛ لأنه يشعب فيه خير كثير لرمضان، وشهر رمضان: سمي بذلك، لأنه يرمض الذنوب)[3]، أي يحرقها.

الوجه الثالث: إن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، وقد جاء في الخبر عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: (لا تقولوا: هذا رمضان ولا ذهب رمضان ولا جاء رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله عز وجل لا يجيئ ولا يذهب، وإنما يجيئ ويذهب الزائل، ولكن قولوا: شهر رمضان، فإن الشهر مضاف إلى الاسم، والاسم اسم الله عز ذكره، وهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن جعله مثلا وعيدا)[4]، (وكان مجاهد يكره أَن يُجْمَعَ رمضانُ[5]، ويقول: بلغني أَنه اسم من أَسماء اللَّه عزّ وجلّ)[6]، وفي الخطبة المروية عن النبي | في استقبال شهر رمضان: (أيها الناس! إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة…)[7].

شهر رمضان محطة لقوية الروح:

روح الإنسان كبدنه قد تقوى وقد تضعف، وتصح وتمرض، فإذا ضعف بدنه مثلا يقال له مارس التمارين الرياضية الكذائية، أو خذ الطعام الكذائي، او الدواء الكذائي، وكذلك الروح، تضعف وتمرض بالإنغماس بالشهوات حتى لو كانت مباحة، وأما الذنوب فهي من أخطر الأمراض، ومن هنا جعل الله تبارك وتعالى للإنسان محطات عبادية لتقوية روحه، ورجوعها الى الاستقامة بعد الاعوجاج، منها:

محطات يومية: كالصلوات اليومية، والنوافل الراتبة.

محطات إسبوعية: كصلاة الجمعة.

محطات شهرية: كصلاة أول الشهر، وأدعية أيام الشهر.

محطات سنوية: كصوم شهر رمضان، وسائر المناسبات التي لا تعود في السنة إلا مرة.   

وللصوم بطبيعة الحال أهداف وثمرات جليلة ومتعدد، نؤجل الحديث عنها إلى آية الصوم.

أهمية شهر رمضان:

تتجسد أهمية الشهر الفضيل بعدة أمور منها:

(1) إنه شهر اختصه الله بقبول الطاعات والعبادات فيه، كما ورد في خطبة النبي | _التي تقدمت الإشارة إليها_ : (شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة، وقلوب طاهرة، أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه)[8].

(2) وهو الشهر الذي اختصه الله بالصوم، والإنسان بالصوم تتصاعد روحه وتسمو نفسه ويرق قلبه، فقد جاء في بعض الروايات: (يا أحمد هل تدري بأي وقت يتقرب العبد إلي؟ قال: لا يا رب.

قال: إذا كان جائعا أو ساجدا)[9].

(3) كما إنه الشهر الذي جعل الله فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ولا يخفى عظمة هذه الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، فهي رأس السنة، لورود أعمال السنة الماضية وعرضها على صاحب العصر ×، وتقدير الأرزاق للسنة الآتية، حيث يقدر فيها ما يكون في السنة من خير أو شر أو مضرة أو منفعة أو رزق أو أجل، ولذلك سميت ليلة القدر.. وليس هذا محل بسط الحديث فيها.

(3) وهو الشهر الذي أنزل الله فيه الكتاب العزيز، الأمر الذي أشارت له الآية محل البحث، حيث قالت: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، ويسمى في بعض الروايات ربيع القرآن، ففي الخبر أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان)[10].

بل إن الكتب السماوية برمتها أنزلت في هذا الشهر العظيم كما في خبر حفص بن غياث، قال سألت أبا عبد الله × عن قول الله عزّ وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، وإنما انزل في عشرين سنة بين أوله وآخره؟ فقال أبو عبد الله ×: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثم نزل في طول عشرين سنة، ثم قال: قال النبي ×: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان، وانزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وانزل الزبور لثمان عشر خلون من شهر رمضان، وانزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان[11].

المبحث الثاني: أهمية القرآن:

وبعد أن بينت الآية الفترة الزمنية التي يجب فيها الصوم، وأكدت على إحدى مميزات هذا الشهر الشريف، والتي بسببها نال هذا التعظيم، وهي كونه الظرف الذي أنزل فيه القرآن… انتقلت الى الحديث عن أهمية القرآن، فوصفته بثلاث صفات، حيث قالت: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، فوصفته بأنه:

ـ هدى للناس.

ـ بينات من الهدى.

ـ وأنه فرقان.

وسنبين هذه الصفات على التوالي:

أما قوله تعالى: {هُدًى لِلنَّاسِ}، الهدى ضد الضلال، ولكل منهما مراتب، قال الطباطبائي: (قوله تعالى: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، الناس، وهم الطبقة الدانية من الانسان الذين سطح فهمهم المتوسط أنزل السطوح، يكثر إطلاق هذه الكلمة في حقهم كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم:30)، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنْكبوت:43)، وهؤلاء أهل التقليد لا يسعهم تمييز الأمور المعنوية بالبينة والبرهان، ولا فرق الحق من الباطل بالحجة إلا بمبين يبين لهم وهاد يهديهم، والقرآن هدى لهم ونعم الهدى، وأما الخاصة المستكملون في ناحيتي العلم والعمل، المستعدون للاقتباس من أنوار الهداية الإلهية والركون إلى فرقان الحق فالقرآن بينات وشواهد من الهدى والفرقان في حقهم، فهو يهديهم إليه ويميز لهم الحق ويبين لهم كيف يميز، قال تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (المائدة:16).

ومن هنا يظهر وجه التقابل بين الهدى والبينات من الهدى، وهو التقابل بين العام والخاص، فالهدى لبعض والبينات من الهدى لبعض آخر)[12].

وبعبارة أخرى: القرآن هدى للناس عامة، وهدى وبينات لقوم يؤمنون خاصة.

وأما وصف القرآن بأنه فرقان، فالفرقان يعني الذي يفرق ويميز بين الحق والباطل، ومن هنا يتبين أن:

 ـ كل زمان ينتصر فيه الحق على الباطل هو فرقان.. كما قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأَنْفال:41).

ـ وكل مكان تقام فيه دولة الحق هو فرقان.. ولهذا نقول في الدعاء لدولة المهدي ×: (تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله).

ـ وكل إمام يحكم بالحق فهو فرقان، ولهذا ورد عن النبي ’ قوله للإمام أمير المؤمنين: (أنت أوّل من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصدّيق الأكبر، وأنت الفاروق الأعظم تفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكفرة)[13].

ـ وكل حركة إصلاحية هي فرقان، لأنها تفرق الجماعة الى فرقتين، فرقة مع الحق وفرقة مع الباطل، فقريش الذين كانوا يجتمعون في فناء البيت فرقتهم حركة النبي الى محسن وظالم لنفسه، وكذا نهضة الإمام الحسين × فرقت أهل الكوفة الى مناصر للنهضة ومعادٍ.



[1] لسان العرب، ج7ص162.

[2] المصدر والصفحة نفسيهما.

[3] مجمع البيان للطبرسي، ج5ص51.

[4] الكافي للكليني، ج4ص70.

[5] بمعنى أنه يكره أن يقول رمضانات.

[6] لسان العرب، ج7ص162.

[7] وسائل الشيعة للحر العاملي: ج10ص313.

[8] وسائل الشيعة للحر العاملي، ج10ص313.

[9] الجواهر السنية للحر العاملي، ص192

[10] ثواب الأعمال للشيخ الصدوق، ص130.

[11] الكافي للكليني، ج2ص629.

[12] الميزان للطباطبائي، ج2ص24.

[13] مناقب علي بن أبي طالب ابن مردويه، ص65.