في ظلال الآيات (25)
في ظلال الآيات (25)
{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} (الأحزاب:13).
الآية الكريمة تعرض لصورة من صور التخاذل في المجتمع المعاصر للنبي ’ اذا جد الجد وحمي الوطيس… وعادة في الظروف الاعتيادية يقف الناس صفا واحدا، ولكن في الظروف الصعبة والمعقدة يتمايزون الى ثلاث فرق مؤمنين ثابتين وواقفين على التل ومنافقين…
وقد (ينقسمون إلى صفوف مختلفة في مثل هذه الموارد المضطربة الصعبة، وهنا أيضا انقسم المسلمون إلى فئات مختلفة: فمنهم المؤمنون الحقيقيون، وفئة خواص المؤمنين، وجماعة ضعاف الإيمان، وفرقة المنافقين، وجمع المنافقين العنودين المتعصبين، وبعضهم كان يفكر في بيته وحياته والفرار، وجماعة كانوا يسعون إلى صرف الآخرين عن الجهاد، والبعض الآخر كان يسعى إلى تحكيم أواصر الود مع المنافقين)[1].. ومن ذلك نفهم أن المواقف الصعبة تبلي السرائر وتفضح النوايا، وتميط اللثام عن الوجوه…
وبالرجوع للآية فالكلام فيها يقع في ثلاثة مباحث:
الأول: سبب النزول.
الثاني: حول ظاهرة النفاق وردود افعال المنافقين من الأحداث في المدينة.
الثالث: كلام حول المدينة ومعنى يثرب.
وسنعرض لها على التوالي:
المبحث الأول: سبب النزول
هذه الآية الكريمة تتحدث عن واقعة حصلت في حرب الأحزاب فقد جاء في تأريخ هذه الحرب أنه خلال حفر الخندق، وبينما كان المسلمون مشغولين بحفر من الخندق ، اصطدموا بقطعة حجر كبيرة صلدة لم يؤثر فيها أي معول، فأخبروا النبي ’ بذلك، فأتى بنفسه إلى الخندق ووقف إلى جنب الصخرة، وأخذ المعول، فضرب الحجر أول ضربة قوية فانصدع قسم منه وسطع منه برق، فكبر النبي ’ وكبر المسلمون.. ثم ضرب الحجر ضربة أخرى فتهشم قسم آخر وظهر منها برق، فكبر النبي ’ وكبر المسلمون، وأخيرا ضرب النبي ضربته الثالثة، فتحطم الباقي من الحجر وسطع برق، فكبر النبي ’ ورفع المسلمون أصواتهم بالتكبير، فسأل سلمان النبي ’ عن سر ذلك التكبير، فقال ’ (أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الأولى، وأخبرني جبرئيل أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثانية القصور الحمر من أرض الشام والروم، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها، فأبشروا) فاستبشر المسلمون.
فنظر المنافقون إلى بعضهم وقالوا: ألا تعجبون؟ يعدكم الباطل ويخبركم أنه ينظر من يثرب إلى الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم، وأنتم لا تستطيعون أن تبرزوا؟ فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} (الأحزاب:9–13)([2]).
وهذه الآيات تكشف بشكل واضح وجلي ما كانت تنطوي عليه نفوس بعض الصحابة، وانهم كانوا على وجل واضطراب.. الأمر الذي ينبيك عن أن نفوسهم غير مطمئنة بوعد الله تعالى، فقد فصلت الآيات المزبورة شأنهم فوصفتهم بالمنافقين، وقسمتهم الى ثلاث فئات:
(1) الذين في قلوبهم مرض المكذبون بوعد الله تعالى، كما قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}.
(2) وفئة أخرى من هؤلاء المنافقين أخذوا يثبطون المسلمين وينشرون الرعب: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}.
(3) والفئة الثالثة يعتذرون ويفرون، {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}.
وهي في الحقيقة أعذار بائسة كما صرح القرآن الكريم بذلك حيث يقول تعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة:93-94).
النقطة الثانية: حول ظاهرة النفاق وردود افعال المنافقين من الأحداث في المدينة.
يرى بعض الباحثين أن ظاهرة النفاق برزت في المدينة، وذلك أن المنافق يسعى خلف مصالحه الشخصية، وحيث أن المسلمين في مكة لم تكن لديهم مغانم، بل كانوا يتعرضون للضغط والبلاء من طرف كبراء قريش.. فلم تبرز هذه الظاهرة، ويؤيد ذلك ان آيات الكتاب العزيز لم تعالج هذه الظاهرة في آيات القسم المكي… في حين أن بعض الباحثين يرى عكس ذلك وأن هذه الظاهرة بدأت من العهد المكي ولكنها برزت في العهد المدني، حيث يرى هؤلاء الباحثين أن بعض الصحابة كانوا يعرفون بأن هذه الدعوة سيصعد نجمها، وستضرب بجرانها في ربوع الجزيرة وما يليها، فتحملوا ما تحملوا من اجل الوصول الى غايات مستقبلية، ويؤيد ذلك ماقلناه من أن العرب كانوا ينتظرون مبعث رجل في الجزيرة، وأن دعوته مآلها الى النصر والظفر، وإنما لم يتطرق له القرآن في العهد المكي لأن الظاهرة لم تكن قد برزت بشكل جلي إلا في العهد المدني…
هذا، وقد ذكر القرآن في قسمه المدني الكثير من المساجلات التي حصلت بين المنافقين والمؤمنين، وخير شاهد على ذلك ما جاء في سورتي التوبة والمنافقين..
والنفاق كلمة مأخوذة من النفق، وهو جحر تحت الأرض يتخذه بعض الحيوانات ويصنع له طريقين، فإذا داهمه العدو من احدهما هرب من الآخر… وقد استعير هذا المعنى من قبل الشارع المقدس لذي الوجهين واللسانين، كما ورد عن أبي عبد الله × أنه قال: من لقي المسلمين بوجهين ولسانين جاء يوم القيامة وله لسانان من نار[3]… وهو معنى قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة:14-15).
هذا، وقد تعرض القرآن الكريم في الكثير من الآيات الشريفة الى الكثير من صفات المنافقين، والخوض في ذلك يطول به المقام، ولكن نقتصر هنا على الآية محل البحث حيث ذكر ثلاث صفات.
(1) تثبيط العزائم والإرجاف بالمؤمنين، وإثارة الرعب في مجتمع المدينة، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}، يعني يريدون أن يقولوا: إن قريشاً وحلفائها من مشركي الجزيرة جاؤوا لاستئصالكم وقطع دابركم ولا يبقوا على أحد فيها فلا مقام ولا راحة لكم بها.. بل الأفضل لكم أن تهربوا منها… فلا طاقة لكم على المواجهة.
(2) الفرار بأعذار واهية، وعدم القدرة على المواجهة والتضحية؛ لأنهم غير مؤمنين بالرسالة ولا بأهدافها, {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}، فقد عُرف عنهم التخاذل والفرار من مواجهة العدو، ذلك أنهم يبحثون عن الغنم ولا شغل لهم بالغرم؛ لأن نفوسهم لا تسمح بالتضحية من أجل قضية لا يؤمنون بها، وإنما هم يؤمنون بمصالحهم الشخصية فقط.
(3) كما أنهم >كاذبون< في زعمهم {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} حيث كذبهم الله تعالى بقوله: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ}، والكذب دأب المنافقين، كما نسمع في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (المنافقون:1).
النقطة الثالثة: كلام حول المدينة ومعنى يثرب.
يثرب هو الإسم القديم لمدينة رسول الله ’ قبل الهجرة، ولها أسماء كثيرة غيره، أوصلها بعض المؤرخين الى المائة، والعرب يكثرون الأسماء لكل ما هو عظيم القدر، ولهذا كثرت أسماء السيف والأسد عندهم..
وجملة من تلك الأسماء وردت في النصوص الشرعية، منها على سبيل المثال:
(1) >يثرب< ولم يرد ألا مرّة واحدة في القرآن في الآية محل البحث، وهو اسمها القديم.
(2) >المدينة< سميت به بعد قدوم النبي ’، وقد ذكر في القرآن في أربعة موارد منها: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} (التوبة:120).
(3) >طيبة<، فقد جاء في صحيح مسلم أن النبي ’ طعن بمخصرته في المنبر، وقال: هذه طيبة هذه طيبة هذه طيبة، يعنى المدينة([4]).
(4) >دار الهجرة< ورد في صحيح البخاري في حديث عن النبي ’([5]).
(5) >مأزِر الإيمان< فعن النبي ’: (إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها)، ويأزر بكسر الزاي أي ينضم ويجتمع بعضه إلى بعض([6]).
وتقع المدينة شمال مكة وجنوب الشام، ولذلك فهي تقع في طريق القوافل، وتعتبر محطة مهمة لأهل مكة الذين يقصدون الشام، في رحلة الصيف، وأهل الشام الذين يقصدون مكة…
سبب التسمية بيثرب: هناك رأيان في سبب التسمية:
الأول: أنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى يثرب ابن قاينة بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوض بن إرم بن سام بن نوح…، ويبدو لي أنه أول من نزلها فسميت باسمه.
الثاني: مأخوذ من المعنى اللغوي، والثرب هو اللوم والتعيير، ومنه ما حكاه القرآن على لسان يوسف بعد أن التقى بإخوته وعرفهم بنفسه، حيث يقول تعالى: {قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف:91–92).
فكان من يسكن بها يلام؛ لأنها كانت بلدة فقيرة وطاردة غير جاذبة، وهذا الوجه ـ الثاني ـ هو الأقرب، ولهذا كره النبي ’ هذا الإسم وكان يكره الأسماء الغير طيبة ويحب الحسنة.. ولهذا غير الكثير من أسماء الرجال والنساء والمناطق، ومن جملهتا سمى يثرب بطيبة، ولكن اسم المدينة المنورة طغى واصبح علما لها..
ثم إنها نالت من الشرف والقداسة بقدومه ’ ما اصبحت حرم رسول الله وثاني الحرمين الشريفين… ففي الكافي عن أبي عبد الله ×: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: مكة حرم الله، والمدينة حرم رسول الله ’، والكوفة حرمي، لا يريدها جبار بحادثة إلا قصمه الله[7].
وزادت شرفاً بعد ذلك باتخاذها سكناً من قبل النبي ’ حتى بعد فتح مكة، ثم ضمت جسده الشريف بعد موته، كما ضمت أجساد أربعة من المعصومين ^ وعشرات بل مئات من الصحابة والتابعين في مقبرة بقيع الغرقد… وفي جملة من الروايات كما أن لمكة حرم فإن لها حرم بريد في بريد، يحرم صيده ولا يعضد شجره…[8]، وهي وطن أهل البيت، ومسقط رؤوسهم ومأنس نفوسهم، ودار سكناهم.. ولكنّ كان الطغاة زعزعوهم عنها وأخرجوهم منها في أكثر من مناسبة، ومنها:
خروج أمير المؤمنين × لملاحقة الناكثين.
خروج الحسين، ورفضه بيعة يزيد.
إخراج الإمام الكاظم وزجه في السجن بالبصرة ثم بغداد…
إخراج الإمام الرضا الى طوس…
إخراج الإمام الجواد وفرض الإقامة الجبرية عليه ببغداد..
إخراج العسكريين وإشخاصهم الى سامراء..
واكبر كارثة وقعت على هذه المدينة المقدسة أن جيش الطاغية يزيد بقيادة مسلم بن عقبة استباحها ثلاثة أيام في وقعة الحرة المعروفة، حتى قيل أنه ولد في عام الحرة ألف غلام لا يعرف لهم أب.
***************************