في ظلال الآيات (36)
في ظلال الآيات (36)
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} طه: 24-28.
خمس آيات من سورة طه تدور رحاها حول محور الرسالة وأدائها.. والرسالة السماوية فيها أربعة أطراف:
ـ المرسل
ـ الرسول
ـ الرسالة
ـ المرسل إليه
والآيات محل البحث، يتمحور الحديث فيها حول الرسول.. فلا نريد بسط الكلام في كل هذه الأطرف إلا بمقدار ما يحتاجه البحث..
ويمكن تقسيم البحث الى قسمين:
الأول: حول الأمر الإلهي بأداء الرسالة.
الثاني: الطاعة والإنقياد من جهة الرسول (موسى ×).
وسنعرض لهما على التوالي:
البحث الأول: الأمر الإلهي، قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}.
ورد الأمر الإلهي لموسى × بعدة صيغ يحسن أن نقف على بعضها للإلمام بالفكرة.
* {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى..} وهو الأمر الصادر في الآيات محل البحث، من سورة طه.
* {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} (النازعات: 17-19).
* {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:43-44).
* {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} (الفرقان:35-36).
وغير ذلك من الخطابات، ولكنا سنكتفي بهذا القدر لنسجل بعض الملاحظات:
الملاحظة الأولى: إن الخطاب تارة يأتي بلفظ {اذْهَبْ} وتارة يأتي بلفظ {اذْهَبَا}، وهذا يدل على أن هناك شريك لموسى في أداء رسالته، وإن كان الدور الرئيسي لموسى والثانوي للشريك الذي هو هارون.. ويدل عليه قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه:29-32).
الملاحظة الثانية: قد وصف فرعون في أكثر من موضع بأنه طاغية، والطغيان هو تجاوز الحد، قال ابن منظور: (وكلُّ شيءٍ جاوز القَدْرَ فقد طَغَى كما طَغَى الماءُ على قومِ نوحٍ، وكما طَغَتِ الصيحةُ على ثمودَ)[1]، يشير بذلك الى قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (الحاقة:11)، وقوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} (الحاقة:5)، فمن تجاوز الحد في كفره واستعلائه يسمى طاغية، والطغيان عادة يأتي بسببين:
الأول: كثرة المال؛ لأن الإنسان غالباً إذا كثر ماله استعلى على أقرانه وطغى، كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (العلق:6-7).
الثاني: المنصب، الذي هو مورد بحثنا في آيات فرعون، حيث أن الحصول على المنصب يلازمه عادة الحصول على عدة امتيازات، منها المال والشهرة وإشباع الرغبات، فلذلك أغلب الذين يمسكون المناصب يتحولون الى طغاة، وذلك بتجاوز الحد في الحصول على الإمتيازات والمحافظة عليها، فيريقون لأجل ذلك الدماء، ويزهقون الأنفس، ويعيثون في الأرض فسادا..
الملاحظة الثالثة: طرح الرسالة والدعوة إليها بطريقة محببة، ويتجلى هذا في أكثر من نص، منها قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} (النازعات:17-18)، فالطرح هنا بصيغة السؤال لا بطريقة الفرض.
ومنها قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه:43-44)، لاحظ الأمر من الله تعالى باستخدام القول اللين في إيصال الرسالة، بالرغم من أن الآخر وصل الى مرحلة الطغيان وتجاوز الحد في الإستعلاء.. وفي هذا درس لكل من يتصدى لحمل الرسالة أن يكون لينا في الطرح ويبتعد عن الفضاضة، لأن اللين واللطف يشكل عامل جذب للنفوس والقلوب المنغلقة، في حين الغلظة والفضاضة حالة منفرة، كما قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران:159).
البحث الثاني: الطاعة والإنقياد من جهة الرسول (موسى ×).
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي}، وهاهنا نقطتان:
النقطة الأولى: إن الجواب جاء سريعاً ومباشراً، بطلب العون والمدد، ولم تتخلله حروف التسويف، فلم يقل مثلاً: سأذهب، أو نعم سوف أذهب، وإنما قال مباشرة: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي}، وهذا يدل على تمام الانقياد والطاعة للأمر الإلهي.
النقطة الثانية: في بيان مفردات الطلب الموسوي، حيث طلب ثلاثة أمور:
الأمر الأول: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}، يعني امنحني سعة الصدر فالشرح يقابله الضيق، كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (الأَنعام:125).. وبما أن أداء الرسالة فيه الكثير من التعب والعنت، فلذلك يحتاج من يكلف بأدائها الى سعة الصدر ليتحمل المصاعب والمتاعب، ولا يستسلم ويترك أداء الواجب.. ومن هنا نسمع أن الله تعال يخاطب النبي الخاتم ’ بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح:1)، وما ذال إلا لأنه واجه الكثير من الصدّ والعنت من كبراء قريش.
الأمر الثاني: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}، اليسر ضد العسر، ومعناه تسهيل المهمة التي أنيطت به، وهي تبليغ الرسالة؛ لأن طبيعة هكذا مهمة أنها تكتنفها الصعوبات والعقبات والضغوطات، وهذه الآية تتكامل مع سابقتها، بكون تلك ناظرة الى العامل الذاتي حيث طلب سعة الصدر وهذه ناظرة العامل الموضوعي، حيث طلب تذليل العقبات.
الأمر الثالث: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي}، قال الطبرسي: (أي: وأطلق عن لساني العقدة التي فيه حتى يفقهوا كلامي، وكان في لسان موسى عليه السلام رتّة لا يفصح معها بالحروف شبه التمتمة، وقيل: إن سبب تلك العقدة في لسانه جمرة طرحها في فيه، وذلك لما أراد فرعون قتله عندما كان طفلا؛ لأنه أخذ بلحية فرعون ونتفها، وهو طفل، فقالت آسية بنت مزاحم: لا تفعل فإنه صبي لا يعقل، وعلامة جهله أنه لا يميز بين الدرة والجمرة، فأمر فرعون حتى أحضر الدرة والجمرة بين يديه، فأراد موسى أن يأخذ الدرة، فصرف جبرائيل يده إلى الجمرة، فأخذها ووضعها في فيه فاحترق لسانه)[2].
فجاء الجواب من الله تبارك وتعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} (طه:36)…
ومن مجموع ذلك نفهم أن المبلغ يحتاج الى ثلاثة أمور:
(1) سعة صدر وقدرة على تحمل المسؤولية.
(2) توفيق من الله بتذليل العقبات والصعوبات.
(3) لسان لديه القدرة على بيان الرسالة وأهدافها، ليتمكن من إقناع المتلقي.
وتتجلى أهمية الأمر الثالث ـ القدرة على البيان ـ في أن الآلية الرئيسية في تبليغ الدعوة هي الكلام، ولهذا لم يبعث الله تعالى نبياً أخرسا، بل نستطيع القول أن الأنبياء كلهم خطباء، بناءً على تعريف الخطابة بأنها (فن مشافهة الجمهور لأجل اقناعه)([3])، وفي الخبر عن الإمام زين العابدين × (أنه سئل عن الكلام والسكوت أيهما أفضل؟ فقال ×: لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت، قيل: وكيف ذاك يا بن رسول الله؟ فقال: لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت، إنما بعثهم بالكلام، ولا استحقت الجنة بالسكوت، ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت، ولا وقيت النار بالسكوت، ولا تجنب سخط الله بالسكوت، إنما ذلك كله بالكلام، ما كنت لأعدل القمر بالشمس)([4]).
ولأهمية هذا الموضوع نجد أن رسول الله ’ عندما وصل المدينة وبنى المسجد، صنع فيه محرابا ومنبرا، فكان يتواصل مع المسلمين من خلال منبر الجمعة، بالإضافة الى أننا نقرأ في سيرته ’ أنه كلما حدثت مشكلة أو ظاهرة في المجتمع تجده ’ على المنبر يعالجها، وهكذا نجد أن أمير المؤمنين × كان خطيبا، ويكفينا كشاهد صدق على هذه الدعوى نهج البلاغة الموجود بين أيدينا، وأهل البيت كلهم خطباء، رجالا ونساء، كما نسمع في الروايات أن الزهراء × خطبت أمام الخليفة في المسجد وأمام نساء المهاجرين والأنصار في بيتها عندما زرنها في مرضها الذي توفيت فيه، وخطبت العقيلة زينب × في الكوفة والشام…
روايات ذات صلة:
عن ابن عباس عن أبي ذر: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني، أنا جندب بن جنادة البدري أبو ذر الغفاري، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله بهاتين وإلا فصمتا، ورأيته بهاتين وإلا فعميتا، يقول: علي قائد البررة وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله، أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله يوما من الأيام الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئا، وكان علي × في الصلاة راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان متختما فيها، فأقبل السائل فأخذ الخاتم من خنصره وذلك بمرأى من النبي ’ وهو يصلي، فلما فرغ النبي ’ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إن أخي موسى سألك فقال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (سورة طه:25-32)، فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا} (القصص:35)، اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري.
قال أبو ذر: فما استتم رسول الله صلى الله عليه وآله كلامه حتى نزل جبرئيل من عند الله عز وجل فقال: يا محمد اقرأ، فأنزل الله عليه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة:55).